محمد حيان السمان
الحوار المتمدن-العدد: 4035 - 2013 / 3 / 18 - 20:32
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
مطلعَ السنة الجارية, وقبل أسابيع قليلة من اكتمال عامين على انطلاق الثورة السورية, زار صحافيان من - CNN- :( إيفان واتسون – رجا رازق ) ما يسمى ( مجلس المحاكم الموحد ) في مدينة حلب – شمالي سوريا-. و المجلس المذكور عبارة عن هيئة قضائية مؤقتة, أقامتها الثورة, تتولى النظر في الجرائم والخلافات التي تقع في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب. ويتضح من التقرير الذي أنجزه المراسلان, وهو في غاية الأهمية والذكاء, أن سجناً للمجلس أنشئ من قبل الثوار, يضم أفراداً من الجيش السوريّ الحر متهمين بارتكاب جرائم حرب. كما يضم السجن جنوداً نظاميين اعتقلوا خلال المعارك الشرسة التي جرت في حلب منذ تموز الماضي.
دخل المراسلان إلى هذا السجن الذي يقع في الطابق السفلي من البناء, ونقلا مشاهداتهما الدالة البليغة, والتقيا عدداً من السجناء والسجينات هناك. ما يلفت النظر هنا – من بين أشياء عديدة جديرة بالتأمل - هذا المشهد الذي نقله التقرير:
" كان أفراد من المقاتلين المتمردين يقبعون في زنزانة واحدة مع الجنود المعتقلين من الجيش النظاميّ. إن الرجال الذين كانوا قبل وقت قصير, يسعون جاهدين إلى قتل بعضهم بعضاً في ساحة المعركة, يعيشون الآن معاً, حيث ينامون متجاورين على الأرض, ويتقاسمون وجبات الطعام نفسها ".
مثل هذه الومضات الإنسانية في ليل سوريا الطويل, ليست قليلة في واقع الأمر, لكنها غابت أو غيبت في سياق أريد له – منذ البداية – أن لاينتهي من دون أن يحيل سوريا إلى أنقاض, وأهلها إلى شعوب وقبائل لا تتعايش بل تتذابح, و لاتتعرف من قبل بعضها البعض إلا بوصفها شيطاناً رجيماً ينبغي سحقه حتى الامّحاء.
لماذا يحدث كل هذا في سوريا...؟ من أجل أي هدف وفي سبيل أي رسالة..؟!
يمكن الحديث – طويلاً- عن النظام الاستبدادي الفاشي الذي يحكم سوريا منذ عقود, وعن الحرية التي آن أوان الحصول عليها. عن مستقبل سوريا الديمقراطي ودولتها المأمولة, المدنية الحديثة العادلة المستقلة عن سلطة الأنظمة والحكومات التي تجيء وتذهب في تداول سلميّ للسلطة, يكفله دستور جامع, وتنظمه انتخابات حرة.
في المقابل, يمكن الحديث – طويلاً أيضاً- عن مؤامرة كونية ضد سوريا, وضد أهميتها الجيوسياسية و الحضارية والثقافية. عن – جماعات مسلحة- جاءت من كل فج عميق من أجل تحويل مطالب الشعب المحقة العادلة – على ما يعترف غير مسؤول وإعلامي في النظام-, إلى حرب مقدسة لاتبقي و لاتذر, تعيد البلاد والعباد إلى ظلام العصور الوسيطة.
لكن وبغض النظر عن نسبة الحقيقة التي يتضمنها كل خطاب, ونسبة الدعاية المقصودة لتبرير التوحش القائم, فإن السؤال الذي يرجّ يقينيات التبرير ومفاعيله المريحة هو التالي :
هل يمارس كل طرف – على الأرض – ما يكفل مواجهة المخاطر والقضاء على الشرور التي يشير إليها كسبب للانخراط في هذا السياق البربري المدمر ..؟! هل تفضي الطريق المتبعة من قبل كل طرف إلى تحقيق الهدف الذي يتطلع إليه ويعلنه هو نفسه...ليتجاوز مأزقه ومخاوفه وآلامه المطروحة..؟!
بكلام آخر: هل تؤمّن نزعة العنف والكراهية, وانتشار السلاح وحامليه في سياق فوضى تتطامن يوماً بعد يوم, وتستبطن إيديولوجيا متطرفة تتسع وتتجذر باستمرار...هل يؤمن كل هذا عبوراً يفضي إلى الدولة الحديثة وتحقيق المبادئ الديمقراطية في الحياة السياسية – الثقافية, وعلى رأسها مبدأ التعددية وتداول السلطة...وهو ما أرادته الثورة السورية أساساً؟!
في المقابل...هل يمثل هذا التدمير الهمجي المستمرّ للمدن والمناطق, وهذا السحق الفاشي للإنسان السوري, ذبحاً وقصفاً وإعدامات ميدانية...هذا الاستخدام الأهوج غير المسؤول لمؤسسات الدولة ( الجيش وقوى الأمن ), في سبيل أشخاص ومصالح خاصة...هل يمثل كل ذلك وغيره الأسلوب المناسب للرد على (المؤامرة الكونية) ضد سوريا ودورها المركزي في تنظيم وتوزيع عوامل القوة والسيطرة الإقليمية..؟!
مع حلول الذكرى الثانية لانطلاقة الثورة, ألم يحن بعد وقت طرح الأسئلة الجذرية..؟!
من ذا الذي يملك الحق بتدمير سوريا ماضياً و حاضراً ومستقبلاً, تحت أي ذريعة كانت ومن أجل أي هدف مطروح, صادقاً كان, أو تلطياً ونفاقاً..؟! أي نتيجة يمكن تحقيقها مما يجري منذ سنتين تعادل الثمن المدفوع حتى الآن, والذي يمكن استكمال دفعه في الأسابيع والأشهر القادمة إن استمرت هذه الحرب القذرة..؟!...
* * *
من الواضح أن الغرب ( أوروبا والولايات المتحدة) يتخذ موقف المنتظر المبتهج بما يحدث, أو كما عبرت – الإيكونومست- : انتظار أن يأتي الحريق على نفسه..!. وهذه حقيقة يعرفها أي مواطن سوري. مما يعني أن الاستمرار في هذه الطريق المدمرة ليست, من بعض وجوهها, سوى تقديم خدمة كبيرة للأعداء التاريخيين لسوريا, وإدخال المزيد من السعادة إلى قلوبهم, بينما ينتظرون الفرصة المناسبة للانقضاض على الجسد الممزق المنهك المستسلم.
إن سياق هذه الأحداث المستمرة منذ سنتين في سوريا, وكذلك الفاعلين فيه من النخب السياسية والثقافية السورية, كل ذلك لايحمل الخير لسوريا, وغير مؤهل على الإطلاق لبناء مستقبل أفضل. النظام والمعارضة بشقيها السياسي والعسكري, لا يفعلان شيئاً منذ سنتين, سوى تدمير البلد, بكل ماتعنيه الكلمة من معنى, والسير به أبعد فأبعد عكس الأحلام التي انطلقت الثورة لتحقيقها. هذه حرب شرسة تجري بين المنازل وفي الساحات والحدائق. بل إنها دخلت مخادع الأطفال ومدارسهم. دمرت البني التحتية الصناعية والتربوية والسياحية...دمرت الإنسان السوري نفسه ...فعن أي مستقبل يتحدثون...وعن أي ثورة..؟!.
لقد أشرتُ منذ أشهر إلى أن ما يحدث في سوريا يتجه بخطى حثيثة نحو التحول إلى رافعة لحرب طائفية تشتعل في المنطقة, ولن يخرج منها طرف رابحاً على الإطلاق. من الواضح لكل من يريد أن يرى أن تخمير العنف والنزعات الطائفية على خلفية التطرف والاقتتال الشرس في سوريا, من خلال التغذية المستمرة لما يحصل وتطويل عمر الأزمة؛ كل ذلك لاهدف أخيرَ له سوى تهيئة المجال السوري السياسي والاجتماعي والأمني ليكون خزان انطلاق الحرب الطائفية باتجاهين أساسيين – كمرحلة أولى- : لبنان والعراق. في لبنان يُهَيأ الشيخ الأسير والجماعات السلفية في طرابلس لاستقبال المدّ المشحون بالكراهية والعنف. وفي العراق يوجد تنظيم – دولة العراق الإسلامية - التي قتلت منذ أيام عشرات الجنود السوريين داخل الأراضي العراقية. بالطبع من سوريا ستنطلق – جبهة النصرة- وحوافها من الكتائب المستهامة بهذا النمط من الفكر والممارسة, بعد أن تكون الحرب الأهلية الطائفية قد انطلقت في سوريا نفسها واتخذت كامل أبعادها وملامحها وقدراتها الذاتية على تشغيل الحرب العامة الشاملة في المنطقة .
لقد لاحظت – نيويورك تايمز – في تعليقها على قتل الجنود السوريين في العراق, الذي تزامن مع فتوى الشيخ – أحمد حسون – حول ضرورة انضمام الشباب السوري إلى الجيش النظامي ومباشرة الجهاد ضد المتآمرين على سوريا؛ أن " الصراع السوري أدخل المنطقة في صراع بين السنة وأتباع المذهب الشيعي في الشرق الأوسط ". إن الصحيفة تشخص الهدفَ الأساسي لتخمير الأزمة السورية, وتطويل أمدها, وهو إشعال حرب طائفية بالفعل, تحت شعارات الربيع العربي حول الحرية والديمقراطية والتغيير. نيويورك تايمز من خلال صيغة الخبر وتقديمه تحيل إلى رغبة دفينة, وتفلت عبر كلامها نوايا وتمثيلات الغرب إزاء المحنة السورية.
* * *
يمكنني أن أوضح المفارقة المدمرة التي تعيشها سوريا منذ سنتين من خلال مايلي:
يقوم الدكتور – كمال اللبواني – من منفاه الاختياري في السويد ( وأوروبا عامة) بالحديث المستمر عن ضرورة التغيير بالدم. بينما يرتب السيد – فراس طلاس – لقاءات متكررة مع ضباط من السي آي أي, على الحدود التركية ( غازي عنتاب), بأمل إقناعهم ليقنعوا حكومتهم, بإرسال السلاح إلى المقاتلين في حلب والشمال السوري خاصة, وإلى عموم المناطق الملتهبة عامة.
على الجانب المقابل لدينا الشيخ المفتي – أحمد بدر الدين حسون - الذي أفتى قبل أيام بأن الجهاد ضد كل من يستهدف سوريا هو – فرض عين -.
بين هؤلاء وهؤلاء تعلن جبهة النصرة في مدينة - الرقة – التي تم ( تحريرها من النظام ومن سكانها أيضاً !!) تكفير القائلين بالدولة المدنية الديمقراطية, وينبري الشيخ – عمر بكري فستق- الطرابلسي المقيم بلندن, لتكفير كل من المفتي – حسّون – و – حزب الله-... وهكذا تتسع دائرة الجحيم وتنقض على المركز الذي بدأ ثورة شعبية من أجل المواطنة والحرية والدولة الديمقراطية...
لقد اتسع نطاق المؤيدين للعنف من كل الأطراف والفئات. إن مثقفين سوريين كانوا ذات يوم في صفوف دعاة التنوير والعلمانية والعقلانية...واكتووا بنار الاستبداد والقمع, لا عمل لهم منذ أشهر سوى تحسين السلاح وتقديس الحل العسكري وتبجيل أعيان الحرب أشخاصاً ومجموعات وفصائل.
السوريون هم من يدفع ثمن هذا الجنون. وسوريا, العنقاء التي حلمت بانبعاث من تحت الرماد يوماً, آخذة بالاختناق البطيء تحت رمادها الأسود المتطامن.
على السوريين, مع دخول الثورة سنتها الثالثة, أن يسعوا جميعاً لرفض ما يحدث, ورفض الفاعلين في هذا السياق الهمجي القذر, من كل الأطراف وتحت أي شعار. كلما اتسع نطاق الرفض للعنف والتدمير تحت أي شعار, رفضاً جذرياً مبدئياً ونهائياً, كلما أمكن بعث الأمل بقيامة سوريا من جديد...انبعاثها حقاً من تحت رمادها.
إن مشهد السجناء في حلب, الذي افتتحت به هذه الإفاضة , وهم يتقاسمون الخبز والمصيبة المشتركة, تقدم لنا دلالة كاشفة حول المسافة بين دعاة العنف والمروجين السفلة له, وبين المواطنين المضللين الذين اختزلتهم الأحداث إلى مجرد وقود رخيص في معركة عبثية مدمرة لكل شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب من سوريا.
#محمد_حيان_السمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟