محمد حيان السمان
الحوار المتمدن-العدد: 3896 - 2012 / 10 / 30 - 15:19
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
يتجوّل مراسل قناة الجزيرة القطرية – على عجل- داخلَ كتيبة الصواريخ السورية الواقعة في منطقة ( الطعّانة) على الطريق بين الباب وحلب, بعد الاستيلاء عليها من قبل مقاتلي ( جبهة النصرة ) التي ما فتئت – منذ أشهر – تقاتل قوات الأسد تحت مظلة الجيش الحرّ في سوريا. وقد أعلنت الجبهة أنها قتلت وأسرت عدداً من جنود الكتيبة, بينما تظهر في الشريط المصور آثارُ التدمير واضحة في المكان, وجثث جنود سوريين تنتشر بدءاً من المدخل الرئيسيّ.
يلفت هذا المراسل الحصيفُ النظرَ إلى أن " صواريخ ورادارات وسيارات تحترق – في الموقع- , أو في طريقها إلى التفجير والتخريب ", من دون أن يحيل فعلَ التدمير والتحريق والتخريب إلى فاعل محدد. لكنه ينوه في نهاية التقرير إلى أن " جبهة النصرة التي استولت على هذه الكتيبة تستعد للانسحاب بعد قليل بسبب توقع القصف الجوي للجيش النظامي على هذه المواقع". ولا ينسى المراسل أن ينقل حسراتِ المقاتلين على " تدمير عتاد جيشهم الذي تم تمويله من مال الشعب السوري " !!.
لقد رفض المقاتلون – كما أشار المراسل- الكشفَ عن وجوههم أمام الكاميرا أو التحدث إليها, من دون توضيح السبب الذي دفع المقاتلين إلى هذا التكتم على شخوصهم, والتزام الصمت حيال الحدث, مع أنّ مقاتلي المعارضة السورية يتحدثون إلى الإعلام في مناسبات أقل شأناً, وأكثر فقراً في عناصر المشهد الاستعراضي . وخلاصة الواقعة – كما يسردها التقرير نصاً وصورة - أن كتيبة صواريخ تابعة للجيش السوري قد تم الاستيلاء عليها من قبل جهة معروفة الاسم مجهولة الأعيان, وأنه قد تم تدميرها من قبل فاعل مغيّب في المسافة التي تتركها اللغة المواربة والسرد المخاتل ودخان الخرائب السورية. إن المراسل الذي كان يتجول بين الجثث وألسنة النار المشتعلة, لا يرسم حدوداً فاصلة بين ما دمره مقاتلو جبهة النصرة, وبين ما توشك الطائرات النظامية على قصفه. المراسل لا يقول لنا ما الذي تركه المقاتلون للطائرات كي تقصفه في ذلك المكان الكئيب.
هذا مثال واحد من بين أمثلة عديدة تطالعنا بها وكالات الأخبار والفضائيات يومياً منذ أشهر, عن حمى التدمير والتخريب المنتشرة في عموم سوريا, والتي يتنازع البراءة منها ويتبادل توجيه الاتهام بها كل من النظام والمعارضة المسلحة التي استولت على واحدة من أروع ثورات الربيع العربي السلمية المدنية, وأحالتها, بالتآزر والتساند مع النظام البربري المتوحش, إلى واحدة من أكثر أحداث التاريخ السوري المعاصر دموية ودماراً.
لدينا مثال آخر طازج عن تنازع البراءة وإطلاق الاتهام بين النظام والمعارضة المسلحة, ويتعلق بالجامع الأموي الكبير في حلب, الذي لحقت به أضرار جسيمة جراء الاشتباكات العنيفة بين الطرفين في محيطه وداخله في منتصف تشرين الأول الجاري. إن تاريخ النظام السوري مع المساجد معروف جيداً. وفي حماه خلال أحداث شباط 1982 الدامية نسفت قوات الوحدات الخاصة بالديناميت عشرات المساجد في المدينة بحجة صدور نداءات تحريض على الثورة من مآذنها. ومن بين المساجد المدمرة بحماه الجامع الكبير الواقع في ( حي المدينة ) القريب من القلعة الأثرية, وهو واحد من المواقع التعبدية النادرة في العالم, حيث احتضن, شأنه في ذلك شأن رصيفيه في دمشق وحلب, شعائرَ التقرب والخضوع للآلهة الوثنية, قبل أن يتحول إلى كنيس فكنيسة ثم مسجد. لقد شاهدتُ بنفسي خلال تجوالي في آذار 1982 بين أنقاض المدينة المنكوبة, الدمارَ الذي لحق بالجامع الكبير بحماه. حتى أن الجدار الشرقي للجامع المبني من حجارة هائلة الحجم تعود للمعبد الوثني, كان قد انزاح عن مكانه بضعة أمتار بفعل الانفجار القوي, وبقي متكئاً على جدار مقابل له في الرواق الشرقي من الجامع.
الآن يتبادل النظام والمعارضة الاتهامات حول المسؤولية عن الأضرار الفادحة التي لحقت بالجامع الكبير بحلب. لكن من المؤكد أن الطرفين ساهما في الجريمة بشكل مباشر وقوي, وذلك بقبولهما تحويل الجامع والأسواق الأثرية والأماكن المحيطة بهما في حلب القديمة إلى ساحة حرب. نحن نعرف النظام وتاريخه مع المساجد – وقد عرضتُ للتو مقطعاً من هذا التاريخ المشين والبربري -, لكن عنصر المفاجأة في الأمر هو تلك اللامبالاة الواضحة التي أبداها مقاتلون متدينون بقوة, حيال الجامع الكبير, وعدم أخذهم بعين الاعتبار المخاطر التي تتهدده في ظروف مواجهة مسلحة مع النظام تتطلب تمركزهم داخله أو في محيطه. وسواء اتخذ المقاتلون من الجامع ملاذاً وتمركزوا داخله, أو أن قوات النظام هي التي تمركزت فيه ثم انسحبت منه تحت وطأة هجمات المقاتلين؛ فإن قدْراً مناسباً من الشعور بالمسؤولية والحرص لدى المعارضة المسلحة, كان كفيلاً بدفعها بعيداً عن هذا الصرح الجليل, مسافة تحول حتماً دون إصابته بأية أضرار. خاصة إذا علمنا أن الاستيلاء على الجامع لا أهمية له على الإطلاق بالمقياس العسكري وفي سياق المعركة المحتدمة بحلب, والتي هي الأخرى تبدو بدون أفق أو جدوى.
* * *
تحدثتُ أعلاه عن صرح تاريخي ذي رمزية حضارية ودينية وفنية كبيرة. لكن الأمر يتعلق أيضاً بما هو أهم من كل ذلك: الإنسان نفسه, والمسؤولية الأخلاقية والقانونية عن حياة المدنيين الآمنين في تجمعاتهم الحضرية من مدن ومناطق وقرى على امتداد سوريا.
أعلن مقاتلو الجيش الحر خلال الأسبوع الأول من أكتوبر الحالي عن بدء معركة تحرير معرة النعمان من كتائب الأسد. وفي يومي 8 و 9 أكتوبر وقعت معارك عنيفة داخل المدينة , استخدم فيها النظام المروحيات وطائرات الميغ والمدفعية. واستخدم المقاتلون أيضاً أنواعاً مختلفة من الأسلحة في المعركة, وظهر في شريط فيديو أنهم قد استولوا على عدد من الدبابات واستخدموها في قصف حواجز قوات الأسد ومقارها في المدينة التاريخية. وقد نجح الجيش الحر في السيطرة على المدينة وإعلانها منطقة محررة. إن تقريراً لإعلاميي إدلب بعنوان ( معركة تحرير معرة النعمان كاملة) نشر على موقع youtube يظهر عشرات المقاتلين يتجولون في شوارع المدينة وأسواقها وبين بيوتها, ويواجهون قوات النظام المتمركزة داخلها, وصولاً إلى المركز الثقافي الذي كان مقراً لقوات النظام ومعتقلاً لعدد كبير من الأسرى الذين ألقي القبض عليهم منذ أشهر على خلفية أحداث الثورة. لقد جرت معركة عنيفة للسيطرة على هذا المقر, مما أسفر عن مقتل عدد كبير من الأسرى قبل انسحاب قوات النظام, في واحدة من أبشع المجازر التي وقعت خلال هذه الأحداث. وتبادل النظام والمقاتلين الاتهامات أيضاً حول منفذي الإعدامات الجبانة.ً يقول المقاتلون أن شبيحة النظام أعدموا الأسرى قبل أن يفروا من المكان, وهو أمر أرجحه بقوة نظراً للنزوع الإجرامي المعهود لدى هؤلاء. بينما يقول النظام إن المعتقلين قتلوا بسبب قصف المجموعات المسلحة المقر خلال الهجوم عليه. وفي كل الأحوال فقد دفعت المدينة ثمناً باهظاً جداً, حيث تعرضت لقصف عشوائي عنيف غيّر معالم المدينة وجعل سماءها بين الدخان والتراب, على حد تعبير مراسل الجزيرة في المدينة. لقد شمل الدمار أغلب شوارع ومباني المعرة. وفي عمارة واحدة تم قصفها وتسويتها بالأرض – على ما يذكر المراسل- قتل 19 مواطناً مدنياً. واليوم الثلاثاء 30 أكتوبر جرى قصف وحشي بمختلف أنواع الأسلحة للمدينة نتج عنه سقوط عشرات المدنيين بينهم أطفال. وما تزال الأوضاع هناك مرشحة لمزيد من العنف والقتل والتدمير.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: ألم يكن ممكناً تجنيب المدينة ذلك العنف الأهوج المدمر, وتلك الدماء الغزيرة التي سُفكت في شوارعها وعلى أدراج أبنيتها..؟! نعلم جيداً ما يفعله النظام بمدينة تطؤها أقدام مقاتلين متمردين, فيتجولون في شوارعها وأحيائها, ويهاجمون قوات النظام انطلاقاً منها, وينشرون ذلك على الملأ عبر يوتيوب. فلماذا تعامل المقاتلون مع الأمر بخفة واضحة في حركاتهم داخل المدينة والطريقة التي قرروا فيها تحريرها من النظام؟!
يجري الحديث هنا عن أهمية استراتيجية لمعرة النعمان تكمن في " أنها تقع على الطريق السريعة بين دمشق وحلب, وبالتالي فإن السيطرة عليها تعني قطع الإمدادات عن جيش النظام في حلب وقسم كبير من إدلب والمناطق الشمالية ". لكن أمام هذا العرض المغري لا بد من ملاحظة أمرين:
1- أن الطريق الدولية بين دمشق وحلب لا تمر من مدينة معرة النعمان نفسها, وإنما من أطرافها الشرقية, وبالتالي فإن قطع طريق الإمدادات لا يشترط بالضرورة توريط المدينة بادعاء تحريرها وتحويل ساحاتها وشوارعها وأحيائها الداخلية إلى ميدان معارك شرسة ومكلفة جداً للمدينة وأهلها. إن قطع طريق الإمدادات للجيش النظامي ممكن في أي نقطة على الطريق الدولية الممتدة من دمشق إلى حلب, تكون خارج التجمعات الحضرية ( شمال المعرة على سبيل المثال ) حيث بإمكان قوات المعارضة توجيه ضربات خاطفة للأرتال المتجهة نحو الشمال,ثم الانسحاب باتجاه مواقع مجهولة من دون توريط المدن المنتشرة بمحاذاة الطريق.
2- ما الذي تعنيه – في نهاية الأمر – كلمة ( سيطرة ) أو كلمة ( تحرير ), في غياب القدرة على حماية المدينة والمدنيين من قصف الطيران والمدفعية بالصواريخ والقذائف المدمرة.. وفي غياب القدرة على الاحتفاظ بالمناطق المحررة من دون الاضطرار إلى الانسحاب التكتيكي وإخلاء المكان لمصير فظيع..؟!. لقد بات معروفاً أن السيطرة على الأرض من قبل المعارضة, هي سيطرة مؤقتة وهشة. وبوجود تفاوت كبير بالقدرات العسكرية بين الطرفين, مع عدم القدرة على تأمين حماية جوية, فإن السيطرة غدت مرادفاً دلالياً لتدمير المكان وتهجير قاطنيه, بعد وقوع خسائر بشرية مؤلمة جداً, ومجازر مروعة بحق المدنيين ( حمص – داريا ).
تحاول المعارضة ( المسلحة ) جاهدة منح هذه العمليات الارتجالية طابع النصر المؤزر الحاسم على النظام. وهي تتحدث عن هذه الوقائع بلغة تستخف بالحقيقة والعقل, وتتعامى عن سياق بات معروفاً في مقدماته ونتائجه المروعة. لقد اتصل الناشط الإعلامي نور الدين العبدو بصحيفة الحياة " ليؤكد من إدلب اكتمال عملية تحرير( ؟؟!! ) معرة النعمان بعدما سيطر( ؟؟!! ) الجيش الحر على 9 حواجز للجيش النظامي.." . ما معنى التحرير والسيطرة هنا..؟! أود أن أفهم المعنى العسكري والسياسي لهاتين المفردتين في قاموس الجيش الحر. هل تمت السيطرة على حمص وداريا..؟ هل تم تحرير هاتين المدينتين المنكوبتين..؟! .
* * *
لماذا يحدث كل هذا الدمار الهائل في سوريا..؟! ألا توجدُ خطط بديلة لدى المعارضة المسلحة, تكفل تحقيق مكاسب أفضل للثورة أو مكافئة لما يتحقق الآن – إن كان ثمة مكاسب حقيقية هنا – ولكن بكلفة بشرية واقتصادية أقل..؟! . هذا أمر يستدعي الوقوف عنده حقاً : لماذا على الشعب السوري أن يدفع هذا الثمن الهائل وعلى حساب أسس وجوده حاضراً ومستقبلاً, من أجل حلم بالحرية والكرامة بات الآن مشكوكاً بتحققه كاملاً في جميع الظروف والمآلات المحتملة للثورة, بعد التحولات الخطيرة الحاصلة في أشكال و وسائل وأهداف الحراك الشعبي..؟!!. لا يسع المرء أن يفهم كيف يمكن للسوريين أن يستفيدوا من هذا السياق المدمّر, والذي ما فتئ منذ أشهر يهدم أسس ارتكازهم الوطني والاقتصادي والحضاري جميعاً..؟!. لا أعرف إن كان مقاتلو المعارضة قد جعلوا – عن سابق قصد وتصميم – من التطابق بين تحركاتهم وبين حركة الدمار المتنقل في سوريا, لعبة مريعة ترسم مستقبلَ سوريا لأجيال !!.
لقد صرّح النظام بكل صفاقة و وحشية, عبر قتلته المنتشرين في طول البلاد وعرضها, عن استعداده لحرق البلد وتدميره تماماً في حال فشِلَ بالاحتفاظ بالسلطة. حسناً...أمام مثل هذا الشعار : الأسد أو نحرق البلد , أليس من المفترض أن تنشأ في منظور الثورة واستراتيجيتها خيارات وخطط وقواعد للمواجهة تضع بعين الاعتبار إنقاذ البلد من هذا التصور الهمجي العدمي المريع, وتفويت كل فرصة أمام النظام ليمضي بما يخطط له حتى النهاية؟!. أخشى أن المقاتلين بخططهم وتحركاتهم يتناغمون مع شعار تدمير البلد وإحراقه أيضاً, أكثر مما يفعلون مع أهداف الثورة الأساسية.
لطالما اعتقدتُ – وما أزال – أن اللحظة التي تخلت فيها الثورة السورية عن خيار السلمية, ووقعت في فخ العسكرة واللجوء إلى العنف والارتهان لمصالح الخارج ونواياه؛ هي لحظة كارثية هدّامة. و لا أجد فيما يحدث الآن من تدمير وسفك للدم في سوريا إلا مآلاً طبيعياً وحتمياً لتلك اللحظة الرديئة بكل المقاييس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوري.
#محمد_حيان_السمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟