أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمود محمد ياسين - التحليل السياسى: سقطة كيشوت وأحلام روبرت أوين















المزيد.....

التحليل السياسى: سقطة كيشوت وأحلام روبرت أوين


محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)


الحوار المتمدن-العدد: 4030 - 2013 / 3 / 13 - 19:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


عنما تأتى مادة التحليل السياسى كرد فعل مشحون بالانفعالات العاطفية الوجدانية تصبح الديماجوجية والسطحية سيدة الموقف. ولكن من الخطأ نقد النظرة الساذجة فى الكتابة السياسية بدعوى عدم ارتكازها على أى فكر. الطبيعة لا تحتمل الفراغ. فلا يوجد انسان في العالم لا يحمل فكراً مرتكزاً على مستوى ما من التفلسف يُكتسب من التفاعل مع مكونات المجتمع والوسائط العاملة فيه من تربوية وتعليمية واجتماعية وغيرها. فالفكر السائد حالياً فى مجتمعنا السودانى يعج بشتى اشكال الخرافة والغيبيات وأوهام التنجيم وغيرها من الاتجاهات الفلسفية المثالية الأخرى وهى الإناء الحاوى لذلك الفكر بمفاهيمه القديمة والبالية الذى ترتشف منه كثير من الكتابات السياسية المعروضة هذه الايام ورقياً وإلكترونياً؛ وهكذا فهى ليست خالية من الالتزام الفلسفي ولو بشكل لاواعي. والقاسم المشترك لهذا الفكر الذى يؤطر للنقد السياسى هو تقديم العوامل الثقافية على المادية مما يجعل تحليل الأحداث تخبطاً ومادة انطباعية، تقف عند ظواهر الاشياء، تغلب عليها الخفة وبالتالى لا تعكس جوهر الواقع وحركته وغير فاعلة على خلق رأي عام حول االمسائل ذات الاهتمام.

والتجسيد للمقاربات الانطباعية التى تبنى على افتراضات واحتمالات وهمية لا علاقة لها بالواقع نجده فى فصول قصة دون كيشوت دى لامانش الذى خرج لإحياء الفروسية من اجل الدفاع عن الضعفاء وتقويم الاخطاء واسعاد حبيبته (المفترضة) دولسين الجميلة، فجمع أسلحة قديمة، ملقاة فى إحدى الزوايا علاها الصدأ، وبعد تنظيفها وتقويمها على قدر الإمكان أخذها وراح يحارب بها طواحين الهواء. وكيشوت ليس لصاً يسرق الناس ولا جباناً يهاب الجبابرة المستبدين، ولكن سقطته (حتى وان كان يتصرف بلا وعى) هى انه صار لا يرى الاشياء على حقيقتها بعد أن أفسد عقله إدمان قراءة روايات الفروسية. وعلى أى حال فان الحمق عَلَّم دون كيشوت أن يكون حكيماً، فقد اكتشف وهو يوشك ان يفارق الحياة انه كان يعيش حماقة كبرى سببتها إضاعة أوقات فراغه الطويلة فى قراءات سخيفة.

والعمى عن رؤية جوهر الاشياء يبدو جليا فى اهمال ربط الاحداث بالطبيعة الحقيقية للسلطة الحاكمة فى السودان وبالتالى التناول الكسول المستسهل لهذا الامر فى ما نقرأه لبعض الاقلام. وكمثال، دعوة الرئيس عمر البشيرلأخذ زمام المبادرة لاعلان تشكيل حكومة انتقالية تنتشل الوطن من أزماته. والافتراض فى هذه الدعوة هو أن النظام الحالى ليس محصلة واقع اجتماعى/ اقتصادى محدد ظلت الحكومات السودانية تتناسل من ثنايا مكوناته الواحدة تلو الاخرى منذ ان تشكلت أول حكومة وطنية فى عام 1954 تعبيراً عن الارادة السياسية للقوى الاجتماعية المتنفذة. فلم يكن قيام تلك الحكومات وتوجهاتها السياسية اجراءات فردية طارئة. كما ان الحكومات التي تعاقبت علي حكم السودان ليست جزراً معزوله عن بعضها البعض، بل حلقات فى سلسلة متصلة ببعضها البعض جوهرها السهر على تكريس نظام اقتصادى يسيطر على قممه رأس المال الاجنبى وحماية مصالح طبقة كمبرادورية معادية للشعب تطورت من شكل سيادة الاحزاب الطائفية الى الشكل الحالى المتمثل فى الاسلام السياسى؛ وهى تطورات كمية استدعاها ترتيب البيت من حين لآخر ونتيجة للتحولات فى توازنات العلاقات الأقليمية والدولية.

النظرة الغيرآبهة بحقائق الواقع تنزع للاستخفاف بالمؤامرات الخارجية والاستعاضة عنها واستبدالها بحديث الأوهام عن دفع المجتمع الدولي لكى يكون ايجابياً تجاه قضايا البلاد، كما تفتح الباب واسعاً لبعض الاغرار السذج، الذين يكتبون ما يسمونه نقداً سياسياً وهو مجرد هذيان لا أكثر، يذيعون فيه من غير تبصر ان التحدث عن الهيمنه الاجنبية يندرج تحت "نظرية المؤامرة". ونكتفى هنا بأن نذكر ان سيطرة الاستعمار الحديث على السودان عقب نهاية الاستعمارالمباشر فى منتصف القرن السابق تطورت اسلوباً وغاية وصارت قبضتها أكثر إحكاما تزامناً مع نقل النظام الرأسمالي لأزمته الحالية المستفحلة للبلدان الفقيرة، فالقرارات التى تدخل فى صميم سيادة البلاد باتت فى يد مجلس الأمن الذى يخضع لما تمليه مشيئة الدول الاستعمارية الكبرى.

الجنرال عمر البشير أسير هذا النظام لا يملك فكاكاَ منه؛ و المسؤولية عن تدمير الحركة النقابية، وتحرير الاسعار الذى فاقم معدلات الفقر وتشريد المزراعين بمشاريع الدولة المَبيعة لراس المال الاجنبى والخصخصة وتردى الخدمات الأساسية من تعليمية وصحية وغيرها بالاضافة للعنف والاساءات التى وجهها نظام "الانقاذ" لشعوب السودان يتحملها الجنرال " The buck stops with him".

و تخيُّل الرجل الخارق (المُجِير) الذى يدير ظهره للمصالح الاقتصادية وللسيادة السياسية التى تحميها ليس فقط مسالة فى غاية السذاجة، بل ان مجرد التفكير فيها يمكن أن يكون هدفه أى شيئ (ذاتى) الا الرغبة للمساهمة فى حل أزمة البلاد السياسية. فمَنْ طلب المُحال لايحظى بشئ. وفكرة التغيير المبنى على تقديرات ذاتية هى استعادة لفكرة قديمة، والتاريخ يعيد نفسه اما ملهاة أو مأساة! فالاشتراكى المثالى روبرت اوين كتب لملكة انجلترا فكتوريا فى منتصف القرن التاسع عشر يعرض عليها افكاره الاصلاحية وتصوراته الطوبائية للمجتمع الاشتركى طامحاً فى نَيْل تأييدها! واذا كانت قصة روبرت اوين العظيم قد جعلت الناس الذين أتوا من بعده يقابلونها بمجرد الابتسام لادراكهم ان محدودية افكاره الخيالية تعزى لمستوى الرأسمالية التى لم تتطور تطوراً كاملاً فى عهده وبالتالى لم تكن معالم الاشياء وطبيعة الصراع واضحة، فليس هناك ما يُضحِك عندما تُكرر مثل هذه الافكار فى هذا الزمان الذى اتضحت فيه معالم الصراعات؛ كما يجب عدم الاستهتار بخطورتها لأنها لا تخدم شيئاً غير استدامة التسلط، واول من يستقبلها بالرقص على نغمة أوتارها هم دعاة الاسلام السياسى.

وكمثال آخر، نجد من جعلتهم كراهية "الانقاذ" غير قادرين على إدراك الاسباب الحقيقية خلف التردى والتخلف التى تعيشه البلاد. فهؤلاء يدعون الى تجميد أى انتماء سياسى أو برنامج يرسم الخطط التى تخاطب القضايا الاساسية التى تقع فى دائرة إهتمام الشعب، فبالنسبة لهم فان الاولوية التى لا تعلو عليها أولوية هى اسقاط حكم "الانقاذ"! وعيب هذا الاتجاه يكمن فى اهماله تعيين عناصر وطبيعة المرحلة التى يمر بها السودان واسقاطه من حساباته دور الشعب وقدراته على التغيير.
التغيير لا يتم بدون تحديد القوى الاجتماعية الفاعلة فى عملية التغيير والتى تستطيع النهوض به تحقيقاً لأقصى غاياته. والتغيير فى السودان، كدولة زراعية فقيرة، يحدده مآل صراع متواصل خلال العقود الستة الماضية بين معسكرين من القوى الاجتماعية. فمن جانب هناك القوى الاجتماعية (السائدة سياسياً) المتمثلة فى طبقة راسمالية تجارية، هى ما اشرت لها فى جزء آخر من المقال ب"الكمبرادور"، تابعة تعتمد اقتصاديا على رؤس الاموال الاجنبية، وليس لديها الرغبة فى مناهضة التبعية للدول الكبرى؛ وهى قد تكون أحياناً متذبذبة تجاه هذه المسألة على حسب مسار مصالحها. وهذه القوى بعد ان انقشع ظلام الاستعمار المباشر جعلت الشعب يرى نجوم القائلة! وفى الجانب الآخر يوجد الملايين من أبناء الشعب الذين يمثلهم العمال، والمزراعيين بمختلف تقسيماتهم، وأُجراء الارياف الذين يعانون من الفقر المدقع والحرمان. ويمثل سكان الارياف من فقراء ومتوسطى المزارعين والعمال الزراعيين اغلبية الطبقات الشعبية التى فرضت عليها علاقات الانتاج المتخلفة السائدة وضعاً معيشياً سيئاً. ومن الطبقات والفئات الاخرى التى تتناقض مصالحها مع الطبقة االمتسيدة وتعانى من هيمنة الاخيرة على الاقتصاد يوجد صغار الملاك والتجار المحليين الغير مرتبطين برؤوس الاموال الاجنبية ومجموعات المهنيين والحرفيين. وتحالف هذه القوى الشعبية هو الذى يستطيع الاضطلاع بمهمة التغيير. فالتغيير بالنسبة للقوى الشعبية "مسألة حياة أو موت" بعد ان اوقعتها الانقاذ فى هاوية الفقر والعيش على اطراف المدن ومعسكرات اللجوء فى أطراف البلاد.
وهكذا يجب الانتقال من حالة التسمر خلف شعار اسقاط النظام والتركيز على النشاط السياسي الداحض للايديولوجيات التى تعمد الى إخفاء الطابع السياسي (الطبقى) للصراع فى المجتمع، والمُساهم فى تنوير الطبقات الشعبية ارتقاءً بوعيها مما يجعلها تدرك طبيعة الانساق الاقتصادية والاجتماعية التى تتسبب فى حرمانها وشقائها.
والمسألة الاخرى التى تتعلق بموضوع الدعوة لتأجيل أى صراع ما لم يكن إسقاط الانقاذ هدفه هى الوقوع فى غلطة اهمال السؤال الأساسى وهو التحالف مع مَنْ وضد مَنْ؟ السودان يزخر بفئات اجتماعية متعددة خارج السلطة السياسية مصالحها لا تنسجم مع تطلعات القوى المتطلعة للديمقراطية السياسية والاجتماعية ومنها من يعمل لحساب جهات أجنبية منافسة، والدعوة المشار اليها تفتح الباب واسعاً لهذه الفئات لتجيير أى تغيير على صعيد السلطة لاعادة انتاج النظام المعادى للشعب. ولنا فى تجربة انتفاضتى أكتوبر 1964 وابريل 1985 عبرة. وأنظروا الى الذين يصفون الأحزاب اليسارية والديمقراطية الصغيرة المتحالفة معهم ب " الطرور" وهو " نبات نيلى صنو الفلين" فى تعليق يفتقد للذوق. هؤلاء الذين يطلقون الاوصاف المسئية الناس هم الذين غابت شمس افكارهم. وما تعمد بعضهم لبس ثوب الحداثة وإدعاء المعرفة الا لكسب الناس بعد أن افل نجم افكارهم القديمة، وحالهم يعيد للذاكرة الوصف الذى اطلقه فيلسوف القرن التاسع عشر على الارستقراطيين الاوربيين (مع الفارق الكبير فى ظروف الحالتين) الذين لجأوا لكل الحيل لحشد الشعب من أجل استعادة السلطة بعد أن فقدوها للراسمالية، قائلاً ان اؤلئك الارستقراطيين أبدعوا فى الهجاء والوعيد و” لكن عندما أداروا قفاهم ورأى الناس شارات النسب الإقطاعية القديمة مطبوعة عليه انفضوا عنهم مطلقين قهقهات منكرة مستخفة“.



#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)       Mahmoud_Yassin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سبعة وخمسون عاماً مضت على انتفاضة جودة 20 فبراير 1956
- ميثاق الفجر الجديد ليس انتقالاً للامام
- التمويل الغربى والانتقال من المؤسسات التنموية الى منظمات الم ...
- السودان: فى مسألة البديل
- البراغماتية ومن يمتلك اتفاقيات أديس أببا
- حول فكرة الاضراب السياسى العام
- قضية الارض فى اتفاقية نيفاشا
- نوبة السودان وعلاقات الارض
- حول علاقات الارض (1 – 2) -التكالب الراهن على حيازة اراضى الد ...
- ثورة 1924 - بداية الثورة الوطنية الديمقراطية الحديثة فى السو ...
- الدولة وادعاء- الماركة المُسجِّلة-.....الدستور ومراوحة الاوه ...
- الدولة وادعاء -الماركة المُسجِّلة-.....الدستور ومراوحة الاوه ...
- لمحات من تاريخ انفصال الدولة السياسية عن المجتمع المدنى
- قصة مشروع الزاندى بجنوب السودان
- قصة مشروع الزاندى
- ما بين فرانكلين روزفلت وباراك أوباما
- في الأزمة المالية الأمريكية
- حول إنهيار جولة الدوحة للتجارة العالمية
- ثورة نيبال والوصول لقمة السارغاماتا
- الإنتاج الصغير ورأس مال المساهمة: بالاشارة لوضع السودان


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمود محمد ياسين - التحليل السياسى: سقطة كيشوت وأحلام روبرت أوين