أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 11 - الشاعر والعطش















المزيد.....

خرائب الوعي .. 11 - الشاعر والعطش


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 4021 - 2013 / 3 / 4 - 12:41
المحور: الادب والفن
    


وبقى للحظات واقفا، ينظر في أنحاء الحجرة، ثم وضع الصندوق الثقيل الذي يحمله على كتفه على السرير وجلس بجانبه ثم اتكأ على الحائط وأغمض عينيه. بقي للحظات طويلة في هذا الوضع، وقبل أن يغلبه النعاس هب واقفا واتجه إلى النافذة المطلة على الشارع. الصورة ذاتها. يتبعهاإعادة
توقف المهرج فجأة عن النواح، وأخذ كرسيا وجلس في مواجهة الجمهور القليل المبعثر في أنحاء مختلفة من المقهى، حيث تتفجر شرايين الجدران مللا وكآبة، تتشقق المرايا، تتصاعد ابخرة وغازات ملونة، تتقيح جروح الأرض، تتقشر السماء، تتساقط قطعا قطعا، وينمو العدم في أحشاء اللا شيء، وينزرع الصمت كائنا خرافيا، ينمو وينمو حتى يحتل الكون باسره. ويتناهى إلى سمعه صوت غريب خافت، ينفتح القبر قليلا، فيظهر شق من النور، وتبدو السماء فوق رأسه خطا شديد الزرقة والصفاء، وينساب نهر بارد في خلايا جسده، والصوت الخافت يبدو كأنه آت من أعماق الأرض، ثم يستوي ليل داكن على قبره، ويظهر القمر، فضي اللون يشع وسط الأسود المطلق، يبعث خيوطا دقيقة تتأرجح في الليل، وتتساقط في اذنه ألحان قديمة، يغنيها الأطفال في مواسم المطر. ويتردد في صدره صدى صرخات بشرية تلاحقه حينما كان طفلا جائعا يذرع الشوارع بحثا عن حزمة ضوء أزرق. فكر مرارا أن يأخذ كرسيا ويجلس في مواجهة الجمهور القليل المبعثر في أنحاء مختلفة من المقهى ويحكي لهم أسطورة الإلهة الوحيدة التي نجت من المجزرة التي على إثرها انقرضت كل بقية الآلهة، كبيرها وصغيرها بعد أن أكلت بعضها البعض. وفكر أحيانا أن يحكي لهم أسطورة ضياعه في شوارع مدينة فقدت وجهها ولم يتعرف عليها. حيث تغيرت الأشياء والناس وانتقلت الشوارع من مكانها. أم أنه هو الذي فقد وجهه، تهرأ جسده، وفقد طفولته بجوار بئر مردوم بالرمال، وحزمة الضوء تزداد إبتعادا، وصوت المغني يتردد في هذا الليل الهمجي الصفاء .. الحلم .. ربما .. ضحكة طفل اختنقت في حلق العالم، والأيام وباء يعذب البشر، والأرض تفقد بشرتها الخشنة، وتتداخل الأشياء، وتعود قمرا فضيا يشع ويبعث خيوطا دقيقة تتأرجح في الليل. ويواصل المغني بصوت اكثر رقة .. عيناك بحر هاجرت امواجه إلى جزر نائية، في قلب الصحراء .. أتمنى أن اغرق في عينيك .. ان ادفن عظامي المنهكة في تراب جسدك. أن أكون مطرا يغسل جراحك، وشمسا ملتهبة تتغلغل في عروقك.. أتمنى أن أموت محترقا بنارك. أتمنى أن أغيب في ثنايا وجودك، وألا أستيقظ. وأستيقظ .. ويستيقظ على أصوات مرعبة تزداد حدة، ويفتح عينه، فيتراءى له هذا العالم المجهول، أشياء تبدو كأنها خرجت توا من الجحيم ذاته، أشياء تعوم في الفضاء حول رأسه، تقترب، تغرز أسلاكا حديدية دقيقة في جلده، ويرى البشر، يحومون حوله كالأشباح ويلتصقون به كالنمل. رماديون كريهوا الرائحة، يصدرون أصواتا حيوانية حادة. ويتحركون كالقرود، يصرخون، يتصارعون، يتماسكون ويسقطون على الأرض وينهضون ويواصلون عراكهم ليلا ونهارا وعلى مدى العصور، يضحكون ويبكون، يأكلون ويشربون، يغنون ويتحابون. بشر حقيقيون هذه المرة. يتحدثون عن المال، والسيارة والثلاجة والغسالة والسجادة والتلفون والتلفزيون والكمبيوتر. يتحدثون عن البيت والملابس وحفلات الزواج. ويحس بنفسه كقرد غريب جاء من قبيلة أخرى. ولا يفهم لماذا كل هذه الزحمة ؟ كل هذا الضجيج، لماذا كل هؤلاء البشر في مكان واحد، والدنيا واسعة، بل لايوجد أوسع من الدنيا، فلماذا يتلاصقون ويزدحمون في هذه الزاوية بالذات من المربع الأرضي. ويعاود المهرج نواحه، أيها النهر الرمادي المتجمد، لو أستطيع أن أقول كل الكلمات المستحيلة، لو تكف اللغة أن تكون منطقية، لو استطيع ان اقول اليوم الآن كل الكلمات دفعة واحدة: غدا، الشمس،اليوم القمر، التراب الغبار النرجس النرجس الأزرق الحركة الحديد النار المطر الرصاص الفكرة الضباب الشجرة الكرسي النافذة الحجر والنهر الطريق الشوكة ألق العيون ورهافة الشفاه. والاغنية لو تستطيع ان تفتح لي أبواب الجحيم، لو تندفع، وتزيح من على ظهري جثة الجنرال الميت، والمتأمل عينيه في مرآة المسجونين. لو استطيع أن أكون سجينا، او مريضا، أو نبيا، أو ميتا في قبر مهجور يحط عليه طائر نوراني يسبح في الفضاء الصامت وحيدا. النجمة المرهقة ترتعد، ينبعث منها وهج بارد يغسل وجوه المنهكين الباحثين عن منبع الوجود. الحجر المرمي يئن، ويقول له بحرف واحد: خرف. فمنبع الوجود أوراق ملونة، الدينار والفرنك الدولار والين واليورو والمارك والبيزيتا والدراخما والباوند والريال والجنيه، وعشرات التسميات الأخرى. كلها فتحات يجري نحوها البشر، وينتظرون في طابور لانهاية له طوال حياتهم. الحجرا لمرمي يئن، ويغني أغنية قديمة سمعها من قطرة مطر في الهايد بارك، أو بوبور، اوفي ساحة الكابيتول وربما في ميدان التحرير أو الساحة الحمراء أو الخضراء . بعد الأغنية يرمي قطعة نقد صغيرة في القبعة التي تدور حول الواقفين والجالسين، وينفتح القبر ثانية، وتفوح رائحة الاحتفالات الدينية، أصوات أعراس، وسحب وضباب وألوان تنتشر في الفضاء، تتجمع وتصيرغابة كثيفة يجري وسطها نهر ضيع طفولته. وتطير في الفضاء ورقة صغيرة، رسالة كتبها منذ أزمان، ونسي لمن أراد أن يرسلها، نسي اسم الرفيق الذي كان ينتظرهذه الورقة التي طارت في الفضاء البارد. قال له في السطور الأولى قصة غيابه، وكيف وصل إلى هذا المكان، حكي له تفاصيل رحلته، الطريق الممل والباصات والقطارات والطائرات والبواخر والحدود وشرطة الجمارك والجوازات وتأشيرات الدخول والخروج . أكتب إليك- قال له- أكتب إليك من هذا المكان الموحل، أكتب إليك أغنية ترابية الإيقاع، رمادية الطعم- أو بالعكس- على رائحة حزني، رائحة شواء اللحم البشري المتعفن. أكتب إليك لتعرف أخباري، ولتعرف عنوان مقبرتي التي أعيش فيها في هذه الفترة. المقبرة جيدة، والناس هنا طيبون، ولايسألونك عن الأوراق، ولا يعرفون معنى الجوازات او الإقامة أو الهوية. كل شيء يسير ببطء، بعفوية حقيقية. والكل سعيد بحياته، والبسمة لا تفارق الشفاه. حتى شاعر المطر تبدو السعادة في عينيه، يبتسم في بزته النحاسية المغطاة بالغبار والأوحال. الإنسان هنا يحيا حياته كإنسان، كإنسان حقيقي لم يفقد بدائيته. غير ان هذا الإنسان ذاته لم يفهم ما الذي حدث، حين انفتحت السماء فوق رأسه، وانصب الجحيم في عينيه، لم يفهم ان الإنسان الآخر في المدن الأخرى، المدن الخالية من الغبار والتراب والاوحال، المدن المصقولة المضيئة المليئة بالعربات والروائح الثمينة، هذا الانسان المختلف المتحضرالمتمدن الغني المتخم والمثقف، هو الذي يبعث له عبر السماء بحممه الملتهبة هدية، وعلامة لقبول الحوار. لم يكن حاضرا في تلك اللحظة. كالعادة دائما، إما قبل أو بعد فوات الأوان على بعد خطوات. أتخيل الآن ذلك الخواء المطلق، والفراغ اللانهائي. صحراء كئيبة تمتد بعيدا أمام البصر. ليس ثمة نبتة واحدة خضراء أو صفراء أو سوداء. ليس ثمة علامات أو إشارات تحدد الإتجاه. الصحراء تقطر عدما، ومللا، وأحاسيس كريهة، تشبه رائحة العرق البشري والقذارة. غير انها بشرية، إنسانية. ليس هناك أمل إذا في الإنتظار، الإنتظار على رصيف الصحراء، من ، ماذا؟ .. قطار قد يبرز من أعماق الأرض ويحملنا معه بعيدا إلى تلك الجزر الخالية من البشر. أو جمل ضائع يضيعنا معه في مفاوز أخرى، مليئة بالحلم، والآفاق المشبعة برائحة الغروب. الوقت مازال مبكرا، واليوم طويل، والحلم مثل كاس النبيذ الأول، نأخذه كل يوم ان بو بلو تو.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خرائب الوعي .. 10 - المرأة التي أكلها النمل
- خرائب الوعي .. 9 - لا يحب الله والله لا يحبه
- خرائب الوعي .. 8 - الطابق الثاني
- خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم
- خرائب الوعي .. 6 - الصندوق
- خرائب العقل .. 5- الحاشية
- خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع
- خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
- خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
- خرائب الوعي 1- البداية
- ليبيا .. الثورة القادمة
- محطة الكلمات المتصلة
- الفضيحة
- حوار مع الله .. الحلقة السابعة
- لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
- لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
- لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
- لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
- لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
- لقاء مع الله .. الحلقة الثانية


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 11 - الشاعر والعطش