أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عمّار العربي الزمزمي - هل رحل حقاّ عمّار منصور المثقّف الحّر الذي لم تقتل السياسة فيه الأدب*















المزيد.....


هل رحل حقاّ عمّار منصور المثقّف الحّر الذي لم تقتل السياسة فيه الأدب*


عمّار العربي الزمزمي

الحوار المتمدن-العدد: 4020 - 2013 / 3 / 3 - 01:14
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


هل رحل حقاّ عمّار منصور
المثقّف الحّر الذي لم تقتل السياسة فيه الأدب*
عمّار العربي الزمزمي**
أجدني في هذه المناسبة مدفوعا إلى استحضار ما قاله أحمد شوقي في رثاء حافظ إبراهيم:
قد كنتُ أؤثر أن تقولَ رثائي يا مُنصف الموتى من الأحياءِ
لكن سبقتَ و كلُّ طولِ سلامةٍ قدَر و كلُّ منيّةٍ بقضــــــــــــاءِ
الحقّ نادى فاستحيْتَ و لم تزلْ بالحقّ تحفل عند كلِّ نـــــــــداءِ
فقد حزّ في نفسي أن يسبقني عمّار إلى العالم الآخر كما حزّ في نفس شوقي أن يسبقه حافظ إبراهيم لأنّه كان يؤثر أن يكون المرثي لا الرّاثي مع فارق كبير هو أنّني لست شاعرا فأرثي عمّار!.
و هبني كنتُ كذلك فهل يملك الإنسان أن يرثي ذاته؟! فأنا و عمّار منصور لم نكن اثنين و إنّما كنّا واحدا. لا أجد شيئا يختزل علاقتنا خيرا من قول أبي منصور الحلاّج في سياق آخر:
فإذا أبصرتني أبصرته و إذا أبصرته أبصرتنا
و الذين يعرفوننا يتحدّثون دائما عن العمّاريْن. كان عمّار صديق العمر رغم كثرة صداقاتي.
و أنا لا أستطيع أن أتحدّث عنه حديث النّاقد الأدبي لأنّي لست ناقدا أيضا. لذلك اسمحوا لي بأن أتحدّث عنه حديث صديق أعرفه عن قرب في مختلف مراحل حياته علّ ذلك يساعد الآخرين على تسليط بعض الضّوء على شعره و أدبه اللّذين لحقهما ما لحقه من تهميش في حياته.
عرفته منذ شبابنا الباكر حين كنّا تلاميذ بالمعهد الثانوي بقابس و تحديدا منذ خريف 1963. ما عدتُ أذكر كيف تعارفنا لكنّي أعرف لماذا تصادقنا. كان ابن المنصورة -إحدى قرى قبلّي- من أندادي. فهو مولود في 1950 أي قبلي بسنة واحدة أو أقلّ. و قد وجدت فيه بساطة أهل الرّيف و طيبتهم و شموخ نخل نفزاوة و صبر أهل الجنوب و إباءهم و أنفتهم كما وجدت فيه الشغف بالقراءة و النّهم إلى المعرفة. صفات لازمته حتّى رحل.
من الصّعب أن نفصل في شخصيّة عمّار منصور بين الشاعر الأديب المثقّف من ناحية و المناضل السياسي الثائر من ناحية أخرى لكنّي واثق بأنّه لم يكن من الذين جاؤوا إلى السياسة عن طريق الولاء للأشخاص أو الانبهار بالشعارات و إنّما كان مدخله إليها الفكر و الثقافة. كان المثقّف صاحب الرؤية الفكريّة قبل أن يكون النّاشط صاحب الموقف السياسي. و قد مرّ في حياته بمحطّات مختلفة لم تُسلمه إحداها إلى الأخرى دون مخاض عسير و تمزّق عنيف. كان قدره المعاناة فكلّ التحوّلات التي عاشها كانت
عبارة عن تجارب وجوديّة بالمعنى العميق للكلمة.

*كلمة اُلقيت في أربعينيّة الفقيد بدار الثقافة ابن رشيق بتاريخ 28 افريل 2012 .
**صديق الفقيد.
بدأ حياته مثاليّا مغرقا في المثاليّة تتعايش داخله رومنسيّة أدباء المهجر مثل جبران خليل جبران و ميخائيل نعيمة مع التصوّف العربي القديم مجسّدا في ابن الفارض و الحلاّج و ابن عربي. لكنّ الجرعات التي تلقّاها من فلاسفة عصر الأنوار و من التّراث العربيّ النيّر في مختلف العصور - و خصوصا الشعراء الفرسان و الصّعاليك و الجاحظ و المتنبّي و المعرّي و طه حسين و المازني و العقّاد و مارون عبّود- حقنَتْه ضدّ تهويمات المجاذيب و الدّراويش و جعلته منذ البداية من المستنيرين الذين يرون في الحريّة و الكرامة و العدالة قيما أساسيّة في حياة الإنسان.
كان عمّار أياّم التّلمذة محاطا بمجموعة من الأصدقاء المهووسين بالأدب منْهم على سبيل الذّكر علاوة عليّ إبراهيم بن مراد و محمد معالي و أحمد حاذق العرف و المنصف الجمني. كنّا نحلم ببعث جمعيّة أدبيّة على غرار الرّابطة القلميّة التي كوّنها أدباء المهجر.
كان الذين درسوا مع عمّار في فصل واحد يعدّونه شاعر القسم بلا منازع. وقد وجدت على صورة تذكاريّة جماعيّة مركّبة تعود إلى سنة 1967 أربعة أبيات بعنوان "كلمة الجميع":
قد وحدّتنا عُرَى الإيلاف و النّسبِ و جمّعتنا دروسُ العلم و الأدبِ
لكلّنا غاية يرجو تحقّقهـــــــــــــــا و الله مرشدنا للحـــقّ و الأربِ
يا إخوة عزّ عنّي أن أفارقهــــــــم و في الفؤاد قروح البين في لهبِ
جاء الفراق و لكن هل مفارقــــــة للرّوح إن تاقت الأجسام للهـــربِ.
و كان من نتاج تلك الأيّام قصائد غزليّة رقيقة تحمل أصداء موروثنا العربي القديم الذي تشبّع به و تبشّر بميلاد شاعر مبدع. و قد نشر بعضنا بالصّفحة الأدبيّة التي كانت جريدة الصّباح تخصّصها كلّ يوم أحد للأدباء الناشئين. و ممّا علق بذاكرتي من شعر تلك المرحلة:
سنلتقي سنلتقـــــي غدا وراء الأفقِ
قد التقينا و افترقنا مثلما لم نلتــقِ
وقد ظهرت لدى عمّار منصور منذ تلك الفترة بوادر النقد السّاخر اللاّذع. فقد حاكى رسالة التّربيع و التّدوير للجاحظ برسالة عبث فيها بأحد زملاء الدّراسة اتّخذه نموذجا للمتزمّت.
و كان في تلك المرحلة عروبيّا في مجال السياسة، انتصر لعبد النّاصر ضدّ بورقيبة. و قد بكى حين أوقفونا في طوابير بساحة المعهد نستمع إلى تسجيل صوتي للخطاب الشّهير الذي ألقاه بورقيبة في أريحا عام 1965 حول قضيّة فلسطين قبل أن يُنزلونا في مظاهرة تأييد له و تنديد بعبد النّاصر.
و كان زلزال 67 صدمة موقظة فتحت عينيه على بندقيّة الفدائي التي أنقذت شرف الأمّة في ليل الهزيمة فبدأت كوفيّة عرفات الفدائي تزاحم قبّعة عبد النّاصر الضابط الحرّ.و كوّنّا في تلك الظروف جمعيّة أطلقنا عليها اسم "الإخوان العرب".
و في مجال الشّعر علا صوت نزار القبّاني- و قد بدأ يعرّي أسباب الهزيمة في هوامشه على دفتر النّكسة- على الأصوات الرّومنسيّة الشّاكية الباكية.
و انتقلنا معا في خريف 1969 إلى تونس العاصمة للدّراسة بشعبة الآداب العربيّة بكليّة الآداب و العلوم الإنسانية 9 أفريل. و تزامن هذا الانتقال مع إزاحة أحمد بن صالح و تقديمه كبش فداء و التخلّي عن الاقتصاد المسيّر و العودة إلى اللّيبراليّة المفرطة فعاش عمّار منصور مثل كثير من أبناء جيلنا صدمة الرّيفي الذي قذف به في عالم ليس له.
وفي تلك الظروف أخذت الجامعة التونسيّة تستعيد عافيتها و قدرتها على التحرّك السياسي بعد أن تلقّت ضربة موجعة جرّاء محاكمات 68 الكبرى التي صدرت بمقتضاها على مناضلين من مختلف التيارات الفكريّة أحكام بالسّجن ثقيلة بلغت ستّة عشر عاما بالنسبة لنور الدين خضر و خمسة عشر عاما بالنسبة لجلبار نقّاش بعد أن تمّ الحكم على محمّد بن جنّات بعشرين سنة أشغالا شاقّة عام 67 لتزعّمه التحرّكات الشعبيّة المناهضة للصهيونيّة و الامبرياليّة.
و قد تلقّينا التّعميد في المظاهرات الطلابيّة العارمة التي قوبلت بها زيارة روجرس وزير خارجيّة أمريكا الأسبق إلى تونس في فيفري70. و قد نشرت جريدة العامل التونسي في أحد أعدادها صورة لإحداها تعرّفت فيها على نفسي و على عمّار منصور و عبد الكريم الزمزامي في الصفّ الأوّل.
وجدنا ببيت صغير واقع بنهج توزر بباب الخضراء مكتبة ثريّة على ملك عبد الكريم الزمزاري وعبد الكريم قابوس. و الأهمّ من ذلك وجدنا عند صاحبي البيت و لعا بالثقافة بمختلف فروعها بما في ذلك السينما.
أقبلنا على قراءة الأدبيّات الاشتراكيّة بنهم يوم كانت الاشتراكيّة تمثل أملا بالنّسبة لسائر شعوب العالم. و أضفنا إلى قائمة الشّعراء و الكتّاب العرب القدامى و المحدثين أسماء جديدة مثل عبد الوهّاب البيّاتي و بدر شاكر السيّاب و محمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياّد و عبدالمعطي حجازي و صلاح عبد الصبور و أحمد عفيفي مطر و أمل دنقل و غيرهم كثير. وانفتحنا على شعراء عالميين مثل أراغون و إلوار و مايا كوفسكي و بابلو نيرودا و غيرهم.
و تلبّس عشق الشّعر بالحلم بالمدينة الفاضلة. و كانت مقاهي شوارع تونس الخلفيّة من الفضاءات التي جمعتنا بشعراء شبّان في مقّدمتهم جماعة القيروان(المنصف الوهايبي و محمد الغزّي و البشير القهواجي) قبل أن يصبحوا من أصحاب الشعر الكوني ذي النغمات الصوفيّة.
و كان من نتاج تلك الفترة القصائد المشتركة بين عمّار منصور و المنصف الوهايبي التي نشرت على صفحات مجلّة الفكر سنة 1971. لم ينضمّ الشاعران إلى جماعة "في غير العمودي و الحرّ" التي كان المختار الزنّاد و أحمد الحاذق العرف و الطّاهر الهمّامي- على الأقلّ في مرحلة أولى- من أبرز المدافعين عنها. وخلافا لهذا التيّار الشعري –الذي جسّد أصحابه رفضهم للموجود أساسا بالبحث عن قيم جماليّة جديدة تقطع في الآن نفسه مع عمود الشّعر ومع ما أرسته مدرسة الشعر الحرّ من قيم بديلة- ورث عمار منصور و المنصف الوهايبي الوفاء للوزن المستند إلى التفعيلة و تصوّرا للشعر قائما على اعتباره رؤية مستقبليّة.
و جاءت إحدى قصائدهما حاملة لبيان شعري يحدّد للشاعر وظيفة جديدة تقطع مع وظائفه التقليديّة و تتماشى مع طبيعة العصر:
الشّعرُ كان في البدايهْ
و في عصورِ الانحطاطْ
ملكيّةً فرديّهْ
يقوله في حضرة التّمثالِ شاعرُ البلاطْ
الشّعر كان لغةَ المسجونِ للسّجَانْ
و كان من حضارةِ الأوثانْ
لكنّه في زمن القنبلة الذريّهْ
يصبح من وسائلِ الإرهابِ و الحريّهْ
و ذهب الشاعران إلى أنّ أصل البليّة تعطيل الفكر الذي يقود إلى أشدّ المفارقات:
حياتكم أفيونْ.
و فكركم عاطلْ.
فحكّموا المجنونّ.
و حاكموا العاقلْ.
اتّخذ الخطاب الشعري نبرة احتجاجيّة في مسعاه إلى تعرية الواقع السياسي و الاجتماعي و أصبح التفاوت الصّارخ بين الفئات البؤرة التي تتركّز عليها عدسة الشاعريْن:
سيّارة طويلهْ
كالشارعِ الطويلْ
تبتلع الطريقْ
تقطع في اللحظة ألفَ ميلْ
تعثّرتْ خطاكْ
وأنت يا أخي تسيرُها هناكْ
و قد تشجّ رأسك السيارهْ
و تدفعُ الخسارهْ.
و قد عُدَّ هذا التفاوت نفسه القادح لبوادر وعي جنيني بضرورة الثورة على الواقع:
أسيرُ في الظلامْ
فقيرةٌ موائدي
غنيّةُ مزابلُ الملوكْ


تسرّبتْ إلى أعماق أنفيّ الشكوكْ*
و قد وضع القدر في طريقنا الهامشي الطرودي و محمد بن جناّت الخارجين لتوّهما من برج الرّمي محاطين بهالة من التقدير جديرة بمن دفع ثمن مواجهة العسف. فكانت الغواية و بداية المغامرة السياسيّة التي ستقودنا على خطاهما إلى أقبية وزارة الدّاخليّة و محلاّتها السريّة ثمّ إلى زنازين الحبس الجديد بتونس و معتقل برج الرّمي ببنزرت.
انتمى عمار منصور إلى تجمّع الدّراسات و العمل الاشتراكي التونسي المنظمة السريّة التي عرفت أوّلا ببرسبكتيف ثمّ بالعامل التونسي و قد جعله ذلك ينصرف بصفة كليّة إلى العمل التنظيمي. كان يثير الجدل حيثما حلّ و كان مجادلا قويّ الحجّة و داعية لا يفتر ممّا جعله يرتبط بشبكة من العلاقات مع عدد لا يحصى من الأشخاص خصوصا في الوسط الطلابي. بعضهم غادرنا اليوم مثل المختار اللّغماني الشاعر الذي انطفأ مبكّرا و مصطفي الزمزاري و منهم من هو موجود معنا اليوم مثل الصادق بن مهنّى.
و في خضمّ الفعل أطبقت على عمار كغيره الإيديولوجيا بضيق أفقها فطردت من سمائه ربّة الشعر سنوات طغت خلالها الحركيّة المفرطة و طرحت تساؤلات لم تكن مطروحة من قبل:
لمن نكتب؟ ماذا نكتب؟ بأي لغة نكتب؟ و صمت عمار منصور كما صمت المنصف الوهايبي و آخرون ممّن كانوا ضحايا المنظور التنظيمي الضيّق.
و ما كان عمّار في الحقيقة راضيا تماما –شأنه كشأني و شأن أصدقاء آخرين منهم محمّد التومي و الطيّب بن رجب- عمّا آلت إليه أوضاع التنظيم من حركيّة مفرطة و ضيق أفق ثقافي و ضحالة فكريّة فكنّا في خلواتنا نترجم رفضنا لما كنّا نراه إلى نوادر و مواقف ساخرة من الذّات ومن الآخرين.
و بلغت الحركة مداها كالصخرة المتدحرجة من قمّة جبل ووجدنا أنفسنا خلف الأسوار قبل أن نملك لما حصل ردّا. و في تلك الظروف التي هي أبعد ما تكون عن الشاعريّة عاودت ربّة الشعر الظهور. و أطلّ عمار منصور على تجربتنا النضاليّة بعين جديدة و راجعها قبل الآخرين مراجعة جذريّة قوامها ردّ الاعتبار للفكر و الثقافة فبدا للكثيرين من أصحاب الهرطقة و المروق.
و كانت قصائده و مقطوعاته المهرّبة في أوراق لفافات التّبغ الصغيرة من ثمار تلك المرحلة. لم يكن يؤلمه الوقوع في السّجن بقدر ما كان يؤلمه عدم التناسب بين التضحيات الكبيرة المبذولة و النتائج الهزيلة المحقّقة. لقد أشقاه وعيه الحادّ بأنّه مازال كثوريّ طفلا يحبو:
لم تزلْ طفلا غريرْ
تحسب الجمرةَ حلوى
و ترى الحصباءَ درّهْ.


* اخذت هذه المقاطع من نصا بعنوان "قصائد جماعية: اقسّم جسمي في جسوم كثيرة"، السنة 16، العدد 6، مارس 1971 ص ص 40-44.
أصيب عمار منصور بخيبة أمل كالّتي أصابتْ يوما محمود درويش الذي قال:
إنّا صنعنا جنّةً
كانت نهايتها صناديق القمامهْ
فقد رأى كلّ شيء يتهاوى من حوله:
أجمل الأشياء يعروها الذّبولْ
أبسط الآمال يبدو مستحيلْ
فلِمَ الإنسان لا يشفي الغليلْ؟
سؤال قديم متجدّد لم يجب عنه من قبل لا أبو نواس و لا المتنبّي و لا المعرّي و لا ابن زيدون و لا أحد من الشعراء الذين كان عمّار يحبّهم.
و إلى محنة المناضل الذي أحرق كلّ القوارب دون أن يغادر مرفأ الانطلاق تنضاف محنة الإنسان العاشق الذي تخلّت عنه- في أحلك الظروف- المرأة التي ظنّها رفيقة دربه في رحلته إلى المدينة الفاضلة. فينسدّ في وجهه الأفق و تضيق به البلاد بما رحبت:
لم تكن أرضكِ صلبهْ
تحت أقدامي الغبيّهْ
و على فسحة أرجائكِ ما لاقيتُ شبرا من محبّهْ
فاشلٌ قبل البدايهْ
كلّ من يعطيكِ قلبهْ
أفلستْ طلّ الطقوسْ
أفلست كلّ فنون الشعوذهْ
و بدا أفْقكَ يا حبّي عبوسْ
كلّ آمالك خيبهْ
كلّ أشواقكَ غربهْ.
و قد قادته استقلاليته الفكريّة و عمقه الثقافي إلى اختيار الاستقلاليّة التنظيميّة لمّا أصبح تجمّع الدّراسات و العمل الاشتراكي التونسي يسمّى بعد دخولنا السجن منظمة العامل التونسي. فقد آثر غربة المتوحّد و خطر العزل من الملّة على الاصطفاف الغبيّ وراء الآخرين.
لم يكن هذا التوحّد يرعبه بل كان يؤلمه أن لا يكون ما ضحى من أجله بالجلال الذي كان يتصوره:
بعدما تفنى بقايا الآلههْ
سوف تبقى مفردا في الواجههْ
لحياةٍ تافههْ.

كلّ شيء أصبح بحاجة إلى مراجعة و إعادة نظر حتى مفاهيم كانت تعدّ من الثوابت مثل التضحية و الفداء:
أصلكَ الطاعة و الذلّ و أبواب السجون المغلقهْ
انت يا حبّي الحزينْ
دائما متّهم بالزندقهْ.
غير أنّ إيمان عمار منصور بالمستقبل لم يهتزّ. فقد استنفر كلّ ما يملك من ميل إلى عقلنة الأشياء و الابتعاد عن التّهويم و نزوع إلى الشدّة على النفس:
ولماذا الانتحارْ
حينما لم تطلع الشّمس كما تهوى
وطال الانتظارْ؟
أيّ حبّ بعثته الكلماتْ؟
كنتُ في أقصى جزيرهْ
ناشدا فيها مفاتح الكمالْ
و الحكايات الصغيرهْ
و العداوات الحقيرهْ
أفسدتْ طعم حياتي بالجزيرهْ
قطرةٌ فًوق الرمالْ
لحَسَتْها و مضتْ ريحٌ سمومْ
سحُب الصيّف إذا أعزتْ تراها كم تدومْ
مدنُ الفكر كثيرهْ
وأنا اخترت جزيرهْ
آه من سجني العقيمْ!
يحطّم عمار منصور الشرنقة التي سجن داخلها ذاته و يستعيد روح التمرّد و الانتصار لكنّه انتصار مشوب بروح مأساوية إذ يقترن فيه اللقاء بالاحتراق و الانتحار:
بيننا يا أخت روحي
وضعوا ألف جدارْ
سوف لن يحملني ريحٌ إليك أو بساطٌ من حريرْ
آه من زيف الشعارْ!
أنا لا تحملني إلا جراحي
و طريقي من حريقي
ويقيني أنني ألقاك قبل الانتحارْ
أملي فيك اغترابٌ و رحيلْ
طعم حبّ مستحيلْ
قاطعا نحوكِ جيل إثر جيلْ
بعد أو باتي و أشواق طريقي
في طريقي
ذكريات الزمن الأتي دليلْ*
غادر عمّار برج الرّومي قبلي إلى سجن أكبر حيث خاض تجربة العمل الصحفي بجريدة الصبّاح بالتّوازي مع التّدريس بالتعليم الثانوي. و في مجال الكتابة الإبداعيّة إنضاف إلى الشعر لون آخر هو شيء وسط بين الخاطرة و المقامة يتميّز بالمرح و الدّعابة و السخرية. و قد نشرت هذه الّنصوص على صفحات الصبّاح و الطريق الجديد و جرائد أخرى آخرها المغرب.
إنّ هذا الإرث الأدبي الذي لم يمهل الموت عمار ليجمعه بحاجة إلى من يجمعه اليوم و يحقّقه و ينشره حتى لا يصيبه التّلف و ليس هذا بالعمل الهيّن.
لقد فرّقت بيني و بين عمار الحياة قبل أن يفرّق بيننا الموت و لم نفترق حقا. عدت أنا إلى مسقط راسي الحامّة و ظللت مسكونا ببداوتي و استقرّ هو بالحاضرة لكنّه ظلّ الريفي الذي قذف به في المدينة. كنت أغيب عنه مدّة قد تقصر و قد تطول و أقابله من جديد فيلقاني بتلقائيّة و حميميّة كما لو كنّا نستأنف حديثا قطعناه منذ حين فقط. لا يسألني عمّا أصبحت عليه و لا أساله عمّا صار إليه. و قد لا نتكلّم أصلا لكنّ صمتنا يكون أبلغ من كلّ كلام.
ماذا أقول و قد رحل عمار ؟ أ أقول مثلما قال المتنبّي في رثاء خولة أخت سيف الدولة الحمداني: "غدرت يا موت" أم أقول: خنت يا عمار فاستعجلت الرحيل منفردا دون أن تودّع الأحباب و لم أعهدك من قبل غدّارا و لا خؤونا؟!
لكم كنت أودّ أن أقول لك في لحظة الوداع ما قاله الشاعر العربي القديم بإحساسه الفاجع بالفناء:
تمتعّْ من شميم عُرَارٍ نَجْد فما بعد العشيّة من عُرَار
و لعلّك كنت ستجيبني بما انغلقت عليه قصيدة البياتي "مذاكرات رجل مسلول" من تفاؤل بمستقبل الإنسان: 4 امل
إني لأؤمن رغم موتي في المســــــاءْ
صَدْيان في صمت المصحّ بلا صديقْ
وبلا يد تحنو عليّ و لا رحيـــــــــــقْ

*هذه المقاطع مأخوذة من قصيدة بعنوان "ذكريات الزمن الأتي" نشرها الطيب بن رجب في مجلة التقدم، العدد 3 سبتمبر-أكتوبر 1984 ص ص 36-38.
إني لأؤمن أيّها الموت العنيـــــــــــــــــــــــــــــــــدْ
بالفكر يعمر أرضنا الذهبيّة الخضراء بالفكر الجديدْ.
أمّا و قد رحلت فبلّغ السّلام نورالدّين خضر و أحمد بن عثمان و فتحي المسدّي و محمد بن جنّات الذين عرفوا ما عرفت من زنازين و كلّ المناضلين في سبيل الحريّة الذين رحلوا قبلك حاملين إلى القبور أحلامهم و آمالهم و خيباتهم و انكساراتهم و لم يشهدوا مثلك تباشير فجر الحرية التي مازالت تجهد أن تكون .
أتَذْكر يا عمّار ما قلته ببرج الرومي في رثاء جدّتك التي بلّغتها السّلام في إحدى رسائلك فقيل لك بأنّها توفّيت ؟
أذكّرك بما قلت لعلّك نسيته في قبرك الموحش البارد:
بلغتك السلام لم يصــــــــلْ
فلتبلغي السلام كل الشهداء
ولتبلغي السلام كل الشرفاء
ولتبلغي السلام عمّي أحمدا.
و عمّ أحمد شيخ قروي من أبناء الجهات الداخليّة المحرومة أغمي عليه فحمل إلى الطبيب الذي قال له بعد أن فحصه: «أنت لا تشكو من المرض بل من سوء التغذية. كُلْ إذن فدواؤك في الطعام». و كأنّ الطعام في متناول الجميع! و بعد أيام أسلم عم أحمد الروح.
لست أدري أ أنا محقّ في تذكيرك بمشاغل الأحياء و أنت في عالم الأبديّة الصّامت الذي لا صراع فيه. لقد اتّخذ رثاؤك لجدتك طابع ثورة كلاميّة تذكّر بما جاء في رثاء المتنبي لجدّته. لقد توعّد أبو الطيب أعداءه الذين حالوا دون لقائه بجدته و صببت أنت جام غضبك على الذين تعتبرهم المسؤولين الحقيقين عن موت عمّ أحمد جوعا و جدّتك حرقا بالنّار التي كانت تتدفّأ عليها اتّقاء لبرد الشتاء
("و يزحفُ الشّتاءْ
و تزحفين نحو النَارْ")
و تنبّأتَ بالثورة القادمة
("آتية لا ريب فيها الساعهْ")
و حلمت بإقامة العدل و انتصاف المظلومين و المحرومين
لقد عشت يا عمار حتى جاءت الساعة و لو بعد طول انتظار لكنّك رحلت قبل أن ترى العدالة تقوم. فما أكثر أمثال جدّتك و عم أحمد ببلادنا! و ما أطول طريق التحرّر و ما أشدّ تعرّجها! و ما أكثر أدعياء الثورة و مقاوليها ممّن يركبون كلّ موجة و يلبسون كلّ لبوس!
فعسى أن نضع -إن أسعف العمر و عشنا بعدك- لبنه أخرى على هذه الطريق!





الحامّة في 18 مارس 2012 *




















*ظللت أيّاما أحاول الكتابة فلا يطاوعني القلم و شاءت الأقدار أن يحصل ذلك في يوم ذكرى إطلاق سراحي من المعتقل ذات أحد من مارس 1979 .



#عمّار_العربي_الزمزمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اغتيال المناضل شكري بلعيد الأبعاد و الدلالات و خطأ الحسابات
- الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة في تونس بين الطموحات و مق ...
- ما الذي يحدث في تونس؟ اضطرابات مفتعلة أم بوادر ثورة ثانية أم ...
- اعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية :المخاض العسير وخطر ال ...
- احتضان تونس لاشغال المنتدى الاجتماعي العالمي : الابعاد و الر ...


المزيد.....




- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عمّار العربي الزمزمي - هل رحل حقاّ عمّار منصور المثقّف الحّر الذي لم تقتل السياسة فيه الأدب*