أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - عمّار العربي الزمزمي - اعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية :المخاض العسير وخطر الاجهاض.















المزيد.....



اعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية :المخاض العسير وخطر الاجهاض.


عمّار العربي الزمزمي

الحوار المتمدن-العدد: 3885 - 2012 / 10 / 19 - 19:46
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


لقد أفرزت انتخابات المجلس التأسيسي وضعا سياسيّا يتميّز بهيمنة حركة النهضة بالأساس و حليفيها المؤتمر من أجل الجمهوريّة و التكتّل من أجل العمل و الحرّيات بدرجة أقلّ على الفضاء السياسي و تقلّص دور المعارضة التي يمنعها ضعفها و تشتّتها و عدم هيكلتها من الاضطلاع بدور سلطة مضادّة قويّة فاعلة تحول دون انتكاس الثّورة و انحرافها عن مسارها الصّحيح.
و منذ أن باحت صناديق الاقتراع بأسرارها و السّاحة السياسيّة الخاضعة لتجاذبات داخليّة و خارجيّة تشهد حراكا يعكس مساعي أحزاب و مجموعات و تيّارات سياسية مختلفة إلى إعادة التّموضع. و لا يمكن فهم هذه المساعي الرامية إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية إلا بالعودة إلى الوراء و النظر في الوضع الذي كانت عليه قبل الثورة و المسارات التي اتّبعتها لاحقا.

النّفق المسدود قبل الثورة

كانت الحياة السياسيّة قبل الثورة مشلولة. فقد دخلت تدريجيّا إلى نفق مسدود جرّاء هيمنة دوائر السلّطة الحاكمة على المجال السياسي الذي انحسر إلى ابعد الحدود بفعل عاملين:
الأوّل: انتفاء صفة الحزب السياسي عن "التجمّع الدّستوري الدّيمقراطي" الذي سرعان ما فقد كلّ حياة داخليّة يحتاجها تجمّع حقيقي من المفروض أن تتعايش داخله قوى مختلفة يجب التوفيّق بينها. فأصبح الحزب أسير دائرة ضيّقة من دوائر السلطة أشبه ما تكون بعصابة مافيا بدل أن تكون السلّطة بيد حزب حاكم يوجّهها.


* ناشط سياسي مستقل.

الثاني: تشكيل معارضة على المقاس حدّدت السلطة الأحزاب التي تمثّل توجّهاتها و ربّما اختارت الأشخاص الفاعلين فيها بشكل جعل المواطنين أمام ثلاثة خيارات كلّها مرّة: إمّا الانتماء إلى حزب لا يتماشى تماما و توجهاتهم و لا يستجيب لطموحاتهم و إمّا الانضمام إلى حزب محظور ينشط في السريّة و إمّا البقاء مستقلّين بدون أيّ انتماء تنظيمي.
وقد استطاعت السّلطة تدجين أغلب الأحزاب المعترف بها فتحوّلت - بدرجات متفاوتة- إلى أحزاب موالاة يرسم البوليس السياسي حدود حركتها و مجال نشاطها. قلّة منها فقط استعصت على التّدجين. فعاشت تحت حصار خانق. أمّا الأحزاب المحظورة فتعرّضت عناصرها النشيطة إلى الملاحقة و المصادرة ممّا أفضى إلى اجتثاث بعضها من الساحة السياسيّة الدّاخليّة.
و كانت النّتيجة بقاء أغلب المتسيّسين خارج صفوف الأحزاب المتواجدة على السّاحة سواء المعترف بها التي تنشط في العلنيّة أو المحظورة التي تنشط في السريّة فانصرف كثير منهم إلى النّشاط في منظمات المجتمع المدني و هيئاته كالرّابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان و المنظمة التّونسية لمناهضة التعذيب و المجلس الوطني للحريات على سبيل المثال. و كان الاتحاد العام التونسي للشّغل و خصوصا هياكله القاعديّة(النقابات الأساسيّة) و الوسطى (الاتحادات المحليّة و الجهويّة ) أهمّ الأطر التي احتضنت هؤلاء الناشطين السياسيين المستقلّين إلى جانب العناصر التي لها انتماء حزبي طبعا.
و قد انخدع الملاحظون غير العارفين بحقيقة الوضع التونسي "بواحة أمن بن علي". ذلك أنّ "السلم الاجتماعي" و "الاستقرار" اللذين أفضيا إلى "الرّخاء" الموهوم تمّ التوصّل إليهما بإقامة واجهة برّاقة من الديمقراطيّة الخادعة تخفي وراءها آلة جهنّميّة تسحق الأفراد و المجموعات. و طالما وقع الحديث عن قدرة النموذج التونسي على احتواء التطرّف بشقّيه الإسلامي و اليساري علاوة على بعض المجموعات القوميّة "غير المنضبطة" و الانخراط في مسار حداثي.
و قد انساقت أغلب الأحزاب المعترف بها إلى هذا السيناريو الذي يقصي "المتطرفين" فاستظلّت بمظلّة نظام بن علي رغم أنّه ضيّق عليها الخناق حتى كتم أنفاسها و كاد يلغيها تماما.



الثورة أو الانفجار الهائل
في غياب قوى سياسيّة مهيكلة لها تقاليد عمل عريقة و أمام انسداد الأفق السياسي بشكل تامّ حصلت الثورة في شكل انفجار هائل ليس له قيادة مركزيّة بالرّغم من الدّور الأساسي الذي اضطلع به النّاشطون السياسيون المستقلّون و المنتمون إلى أحزاب سريّة راديكاليّة المتواجدون في الأطر النقابيّة و هيئات المجتمع المدني. و أفضى الانفجار إلى حصول مواجهة عنيفة بين عموم أبناء الشعب و فئاته و في مقدّمتهم الشباب من جهة و قوات الأمن التي كانت - بحكم العقيدة التي قامت عليها- في خدمة أقلية من المنتفعين من جهة أخرى.
و قد أظهر الحزب الحاكم بمختلف هياكله و تشكيلاته عجزا عن مواجهة الأحداث فضلا عن التحكّم فيها. فانهار و أصيب بالشلل التام رغم محاولات بعض عناصره القيام بتحركات في الخفاء هنا و هناك. كما أظهرت الأحزاب المعترف بها قصر نظر بلغ أحيانا حدّ العمى السياسي. فبعضها ظلّ حتّى آخر لحظة يراهن على قدرة السّلطة على قمع التحرّكات الشعبيّة التي اعتبرها نوعا من الفوضى و أدانها. و بعضها الآخر تمسّك بعد هروب بن علي بحكومتيْ الغنّوشي الأولى و الثانية و وقف في وجه القوى الدّاعية إلى مواصلة التحرّكات لتحقيق أهداف الثورة التي منها تصفيه النظام السابق و إزاحة رموزه من موقع المسؤولية و القرار.

الانفجار التنظيمي و حدود نتائجه

عرفت السّاحة السياسيّة تكوّن عدد هائل من الأحزاب التي توالدت كالفطر. و هذا طبيعي في بلد كان المواطنون فيه محرومين من حقّ التنظّم. غير أنّ هذا الانفجار التنظيمي لم بغيّر المشهد السياسي لأنّ هذه الأحزاب الجديدة لم تستطع استقطاب الكثير من المستقلين. فأغلبها لا يتعدّى نشاطها حدود جهة بعينها و خصوصا العاصمة و قد لا يتعدّى حدود العناصر المؤسسة لها. لذلك كاد نشاطها ينحصر -في أفضل الحالات- في التصريحات على صفحات الجرائد و أمواج الأثير و شاشات الفضائيات.
حركة النّهضة التي كانت محظورة و قياداتها تعيش في المنافي هي الحزب الوحيد الذي استطاع أن يستعيد مواقعه التي تخلّى عنها في ظلّ المنع و الملاحقة و أن يعيد بسرعة هيكلة

نفسه و أن يحقّق انتشارا غير مسبوق و جد ترجمته في فتح مقرّات في كلّ ركن من تراب البلاد.
و في غياب قاطرة سياسيّة حقيقيّة تقود المرحلة الانتقاليّة بكيفيّة تجعلها تحقّق أهداف الثورة تكوّنت بعد سقوط حكومة الغنّوشي حكومة الباجي قائد السبسي الذي بدا للبعض منقذا و للبعض الآخر رجل سياسة لا يمثّل الثورة و لا يلبّي طموحاتهم لكن يمكن قبوله لوجود شبه توافق عليه. و قد مثّل وجوده على رأس الحكومة مفارقتيْن:
الأولى أنّ حكومة منبثقة عن "ثورة شباب" يرأسها شيخ طاعن في السنّ يضاف إلى رئيس جمهوريّة مؤقت هو أيضا من الشيوخ!
الثانية أنّ من لم يشارك في الثورة توكل إليه مهمّة تحقيق أهدافها!
و لعلّ هذا الخلل ناتج عن الظروف و الملابسات التي أحاطت ببعث "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الإصلاح السياسي و الانتقال الدّيمقراطي". فأوّل انتكاسة أصابت الثورة و أحدثت منعرجا خطيرا في مسيرتها تمثّلت في الكيفية التي تأسّست بها هذه الهيئة سواء في ما يتعلق بالتركيبة أو بالصلاحيات.
كان من المفروض أن تكون إطارا يوحّد القوى الفاعلة التي لها مصلحة في الذهاب بعيدا في تصفية بقايا النظام السابق و أن تضمّ علاوة على ممثلين عن مختلف الحساسيات السياسية ممثلين حقيقيين عن الجهات و أن يكون لها صبغة تقريريّة لا استشاريّة فحسب.غير أنّها ضّمت قوى و عناصر غير متجانسة لها أهداف مختلفة بعضها لم يكن له أي دور في الثورة و بعضها الآخر كان-ربما- من الذين اعترضوا على مواصلة التحرّكات الشعبيّة لتحقيق أهدافها كالاعتراض مثلا على اعتصاميْ القصبة الأول و الثاني اللذين أطاحا بحكومة الغنوشي.
و في ظل هذا الوضع بدأت الشعارات الحزبية تظهر و الانقسامات تطفو على السطح و حصلت تجاذبات و صراعات داخل الهيئة و خارجها ممّا جعل المسار الانتقالي يتعثّر فلم يُسجّل تقدم يذكر في تحقيق المطالب التالية :
- محاسبة القتلى و الفاسدين.
- ردّ الاعتبار للضحايا و المظلومين و تعويضهم.
- تطهير الأجهزة الأمنية و إعادة صياغتها وفق عقيدة جديدة.
- تطهير الإدارة و المؤسسات من العناصر الفاسدة.

- تطهير الإعلام و تحريره.
- تحقيق استقلال القضاء و تطهيره من العناصر الفاسدة.
لعّل أهمّ إنجاز تحقّق هو بعث هيئة عليا مستقلة للانتخابات التي تمّ الاتفاق على موعدها بعد أخذ و رد طويلين (23 اكتوبر2011 ).

انتخابات المجلس التأسيسي و الحقائق التي كشفتها

وضعت الانتخابات عددا هائلا من الأحزاب في سباق غير متكافئ. فأغلبها تكوّن حديثا و بالتالي تعوزه الطاقات البشرية و الموارد المالية. و نظرا لضيق الوقت - و ربما لقصر النظر و الخطإ في الحسابات بالنسبة للبعض- لم يحصل تنسيق و عمل جبهوي فدخل أغلب الأحزاب السباق منفردا معوّلا على قواه الذاتية المحدودة.
و كانت النتيجة استئثار حزب حركة النهضة بـ 40 % من مقاعد المجلس التأسيسي و حصول المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات على حوالي 20 % منها. و إذا استثنينا قوائم "العريضة الشعبية" - التي كثر الجدل حول أسباب نجاح بعضها و الواقفين وراءها- فان بقية القائمات المستقلة و الأحزاب حقّقت نتائج هزيلة عموما.
و القراءة المتأنية لنتائج الانتخابات توقفنا على النتائج التالية:
أولا: حركة النهضة هي الحزب الوحيد الذي حصل على أغلبية الأصوات في اغلب الدوائر الانتخابية.
ثانيا: بقية الأحزاب –و القائمات المستقلة- وصلت المجلس التأسيسي في الغالب بواسطة أفضل البقايا.
ثالثا: المال السياسي الذي كثر عنه الحديث لم يكن دائما محدّدا في النجاح فبعض الأحزاب التي أنفقت المال بسخاء لم تحقّق بالضرورة نتائج إيجابية ممّا يدّل على أنّه لا يكفي وحده لتحقيق الفوز في الانتخابات.
رابعا: الإقبال غير المعهود للتونسيين على صناديق الاقتراع لا يجب أن يخفي إنّ نسبة المقترعين لم تتجاوز 45 % من الذين يحق لهم الاقتراع.
خامسا: حوالي نصف المقترعين ضاعت أصواتهم إذ لم يفلحوا في إيصال ممثلين عنهم إلى المجلس التأسيسي مما يدل على وجود خلل في النظام الانتخابي.

سادسا: الأحزاب الثلاثة الحاصلة على حوالي ثلثي مقاعد المجلس التأسيسي حصلت على اقل من مليوني صوت.
شرعيّة الصناديق و إشكاليات الواقع:
اعتقد كثيرون بأنّ الانتخابات ستضع حدّا للمشاكل التي تعيشها البلاد لأنّ الفائزين فيها -بحكم شرعية صناديق الاقتراع- سيتمكنون من فرض سلطة القانون و إدارة شؤون البلاد بسهولة. لكنّ الأحداث أظهرت العكس. فقد كثرت الإضرابات و الوقفات الاحتجاجيّة و الاعتصامات التي كثيرا ما تحوّلت إلى مصادمات عنيفة بين المواطنين و قوات الأمن و يعود تفاقم الصعوبات التي واجهتها الحكومة المؤقتة الى عوامل في مقدّمتها قصورها عن التسيير و عجزها عن إدارة المرحلة الانتقالية بشكل منفرد. فالثالوث المكوّن لها لم يشكّل حكومة تصريف أعمال تضم تكنوقراطيين أو حكومة وحدة وطنية تضم أهم الأطياف السياسية و إنّما اختار تكوين حكومة ذات ألوان سياسية تضمّ ثلاثة أطراف فقط و من أبرز نقاط ضعفها أنّها لم تقم على أساس برنامج سياسي واضح و إنّما قامت على المحاصصة الحزبية و لعلّ ذلك ما جعل عدد أعضائها كبيرا و الوقت الذي استغرقه تشكيلها طويلا.
وقد شعرت المعارضة منذ البداية بأنها مهمّشة في صلب المجلس التأسيسي و أنّ "الحلّ و العقد" بيد نواب الثالوث الذين يضعونهم في النهاية أمام الأمر المقضي. و بدأ أعضاء الحكومة و أحزاب الثالوث يتحدثون عن مؤامرة لإسقاط الحكومة حينا و عن تعطيل عملها و عمل المجلس حينا آخر و اعتبروا كل نقد لهم انحرافا عن أهداف الثورة كما لو كانوا هم الممثلين الحقيقين لها دون سواهم.
أقلّ ما يقال في أداء "الترويكا"(الثالوث) -سواء في مجال العمل الحكومي أو في إطار المجلس التأسيسي- أنّه كان هزيلا.فقد كان من المفروض - في هذه المرحلة الانتقالية الثانية - أن يتركّز العمل بدرجة أولى على كتابة الدستور الجديد دون إغفال مهام أخرى منها :
أوّلا: إعطاء دفع للمسار الانتقالي بكيفية تهيّئ الظروف الملائمة لإجراء انتخابات تشريعية و رئاسية تنبثق عنها سلط دائمة و هذا يقتضي بعث لجنة عليا مستقلة للانتخابات و صياغة قانون انتخابي و تحقيق استقلال القضاء و تحرير الإعلام و تطوير منظومته و إعادة صياغة المنظومة الأمنية وفق عقيدة جديدة و إصلاح الإدارة و وضع أسس متينة للعدالة الانتقالية و ذلك ببعث لجنة مستقلة يخضع عملها إلى تشريعات واضحة.


ثانيا: إقرار إجراءات عاجلة تلبّي الحاجيات الملحّة للفئات و الجهات المحرومة حتى تشعر بأنّ أوضاعها آخذة في التحسّن و لا تصاب بالإحباط الذي لا يمكن التكهّن بما قد ينجرّ عنه من نتائج.
ثالثا: تحقيق الأمن و الاستقرار بشكل يجعل المواطنين مطمئنين على أرواحهم و ممتلكاتهم.
لكن لا شيء من هذه المهامّ تحقّق بل زادت الأوضاع سوءا فارتفع عدد العاطلين عن العمل و زادت نسبة التضخّم و انكمش الاستثمار و تدهورت الخدمات و ارتفعت الأسعار بشكل جنوني و كثرت الاعتداءات و استفحلت ظاهرة العنف. والأخطر من ذلك أنّ مهلة السنة التي حدّدها المرسوم الدّاعي لانتخابات المجلس التأسيسي و أكّدها البيان الذي وقّع عليه أحد عشر حزبا من ضمنها النهضة و التكّتل كأجل أقصى للفراغ من كتابة الدستور و تنظيم الانتخابات تنتهي في 23 أكتوبر الحالي. و مع اقتراب الموعد احتدّت الصراعات و كثرت التجاذبات فالائتلاف الحاكم ليس في عجلة من أمره و لا يرى في تجاوز هذا الأجل إشكالا لأنّ المجلس التأسيسي سيّد نفسه حسب رأيه أمّا في صفوف المعارضة فمن قائل بأنّ الشرعية الانتخابية تنتهي في هذا التاريخ ممّا يستوجب إحلال شرعية توافقية محلّها حتى لا يحصل فراغ إلى قائل بأنّ الشرعية الانتخابية التي أضرّ بها الأداء الهزيل يجب أن ترمّم بشرعية توافقية لكن كيف و على أي أساس؟
إنّ ما قاد إلى هذا المأزق هو تفرّد الائتلاف الحاكم بالقرار في فترة تحتاج إلى توافق واسع. و تتحمّل حركة النهضة القسط الأوفر من المسؤولية بوصفها الطرف المهيمن داخل الائتلاف الحاكم. و يمكن رصد بعض تجليات هذه النزعة الهيمنيّة من خلال ما يلي:
أولا: تصرفت النهضة التي انتخبها أقل من 20 % من الذين يحقّ لهم الانتخاب كحزب يمثل السواد الأعظم من الشعب التونسي. فبدل أن تعمل على صياغة دستور توافقي يجد فيه الغالبية العظمى أنفسهم سعت لتكريس مواقفها الحزبية الضيقة فطرحت مجدّدا مسالة التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع بعد أن كانت تخلّت عن ذلك في برنامجها السياسي و حملتها الانتخابية. و لم تتراجع إلاّ بعد أن حصلت بلبلة كادت تعصف بوحدة البلاد الهشة و في ما يتعلق بالنظام السياسي الذي سيقع إقراره أظهرت حركة النهضة تمسّكا غريبا بالنظام البرلماني رغم رفض بقية الأطراف له بدون استثناء و هددت باللّجوء إلى استفتاء الشعب في المسألة مادام المعارضون لها لا يمثلون الثلثين المطلوبين لتمرير أيّ مقترح آخر. و حاولت حركة النهضة تمرير مفهوم التكامل بين الرجل و المرأة للالتفاف

على مفهوم المساواة بين الجنسين و لم تتراجع إلا بعد أن واجهتها قوى المجتمع المدني و خصوصا النساء بردّ فعل قوي . كما حاولت حركة النهضة - باسم الخصوصية - ضرب مقولة الطابع الكوني لحقوق الإنسان و علويّة المواثيق الدولية التي تنص عليها.
ثانيا: أقدمت الحكومة المؤقتة التي تهيمن عليها النهضة على إقالة عدد كبير من المسؤولين الإداريين - كالولاة و المعتمدين و مديري المؤسسات و رؤساء المصالح - و تعويضهم بعناصر نهضوية ضاربة بذلك عرض الحائط بمطلب شعبي يتمثل في تحقيق حياد الإدارة و اعتماد مبدأ الكفاءة دون سواه في تعيين المسؤولين و مبرهنة عن رغبة واضحة في السيطرة على مفاصل الدولة. و لم تغضب النهضة بسلوكها هذا المعارضة فحسب و إنما أغضبت أيضا شريكيها في السلطة و كثيرا ما رفض العاملون بالمؤسسات و المواطنون هذه التعيينات و أجبروا السلطة على التراجع و من أمثلة ذلك والي سيدي بوزيد.
ثالثا: تعاملت وزارة الداخلية التي يوجد على رأسها نهضوي مع المخالفين باعتماد سياسة المكيالين. فقد تغاضت عن ممارسات من يسمونهم "السلفيين" إلى درجة تركهم يعطلون الدروس بكلية الآداب بمنوية لفترة طويلة و يدنسون الراية الوطنية و يعتدون بالعنف على الفنانين في اليوم العالمي للمسرح و يمنعون بالقوة المثقفين و الناشطين من إلقاء المحاضرات و إقامة الندوات(من أبرز الأمثلة على ذلك إفساد التظاهرة التي أقيمت ببنزرت في يوم القدس بمشاركة عميد الأسرى اللبنانيين المحرّر سمير القنطار) و قد طال العنف حتى أحد مؤسسي حركة النهضة وهو الشيخ عبد الفتاح مورو. و بالمقابل تصدّت وزارة الداخلية و أجهزتها الأمنية بالعنف الشديد للذين أرادوا الاحتفال بعيد الشهداء في شارع بورقيبة و للجرحى و عائلات الشهداء الذين جاءوا إلى وزارة حقوق الإنسان للتعبير عن تدهور أوضاعهم جرّاء الإبطاء في حلّ مشاكلهم العالقة. وبالعنف نفسه تمت مواجهة المعطّلين عن العمل من حملة الشهادات و المشاركين في المسيرة التي قام بها أبناء سيدي بوزيد من منطقتهم إلى العاصمة للمطالبة بالتنمية قبل أن يصبح قمع التحركات الشعبية خبزا يوميا (نذكر على سبيل المثال ما حصل بسيدي حسين من ملاحة رادس و الحنشة و طينة بصفاقس و حي العمران بمنزل بوزيان و قلالة بجربة).
و هذه الازدواجية في التعامل مع مختلف الأطراف حسب قربها و بعدها من حركة النهضة و السلطة عموما مؤشر على توظيف الأمن في خدمة أغراض حزبية بدل أن يكون أمنا جمهوريا بعيدا عن التجاذبات الحزبية. والجميع يعرف اليوم ما قاد إليه هذا السلوك السياسي

حين تعرّضت السفارة الأمريكية بتونس إلى الاقتحام فالارتباك و عدم تحديد موقف واضح ممن يسمون "السلفيين" هو الذي جعل الأمن عاجزا عن احتواء الموقف.
رابعا: بغضّ النظر عن مدى شرعيّة التحرّكات التي تمّت مواجهتها بالقوة أو عدم شرعيتها فإنّ العنف تحوّل إلى قمع بلغ درجات قصوى تذكّر بما كان يحصل قبل الثورة.
خامسا: تواترت حالات التعذيب أثناء الإيقاف و الاستنطاق و سجّلت حالات وفاة مما جعل المنظمات الحقوقية تطلق صيحات فزع و تشكّك في أن يكون ما حصل حالات معزولة و سلوكات فردية.
سادسا: ظهرت مجموعات نعتها البعض بالمليشيات تصول و تجول دون رادع تعتدي على المتظاهرين حتى من أعضاء المجلس التأسيسي و إطارات الأحزاب السياسية الممثلة داخله. و من أبرز غزواتها غزواتها الهجوم على مظاهرة 9 أفريل و على العاملين بالإذاعة و التلفزة الوطنية في عقر دارهم بعد اعتصام دام شهرين شكلّ ضغطا رهيبا على الإعلاميين بدعوى الاحتجاج على ما يسمونه "إعلام العار".
سابعا: عمدت وزارة الداخلية إلى إعفاء ضباط أمن دون أن تقدم لهم مبررات واضحة أو أن تحيلهم على العدالة.
ثامنا: سعت وزارة العدل التي على رأسها نهضوي إلى إحكام قبضتها على القضاء و الحيلولة دون التقدم خطوة على طريق استقلاليته فقد عطلت بعث مجلس مؤقت للقضاء و أعادت إلى الحياة المجلس الأعلى للقضاء المقبور و أوكلت إليه على حدّ قولها مهمّة النظر في حركة القضاة و توخّت إعفاء العشرات دون تقديم مبررات واضحة أو إتاحة الفرصة للمعنيين بالأمر لتظلّم حقيقي أو محاكماتهم و تركت القائمة "السوداء" مفتوحتا حتى تكون سيف مسلطا على القضاة الذين لا ينصاعون لأوامرها.
تاسعا:صمّمت الحكومة على وضع يدها على وسائل الإعلام العمومي و تركيع الإعلاميين العاملين بها فقد رفضت تفعيل المرسومين 115 و116 في انتظار تنقيحهما أو تعويضهما بتشريعات جديدة و دفعت أعضاء اللجنة العليا لإصلاح الإعلام إلى تقديم استقالاتهم بعد أن أدركوا أنّها غير مستعدة لأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار كما عمدت الحكومة إلى تعيين مسؤولين غير مرغوب فيهم من العاملين معهم على رأس مؤسسات إعلامية عمومية و من أبرز الأمثلة على ذلك ما حصل بالتلفزة الوطنية و بجريدة الصباح التي تجنّد صحافيوها و عمالها للدفاع عنها و عن حرية الإعلام عامة فتضامن معهم بقية الإعلاميين في تونس

و خارجها و أصبحت قضيّتهم قضيّة رأي عام. وتوّج الحراك بشنّ كافة وسائل الإعلام التونسية لإضراب عام يوم 17 أكتوبر كان له صدى كبير عربيا و دوليا. و حتى المؤسسات الخاصة لم تسلم من الضغوط بحجب الإشهار العمومي عنها و حرمانها من حقها الطبيعي فيه.
الحراك الحزبي: الرّهانات و العوائق:
تختلف رهانات الائتلاف الحاكم عن رهانات المعارضة. فالنهضة و حليفاها يراهنون على بقاء الائتلاف الحكومي متماسكا بشكل يحقّق الاستقرار حتى يتسنّى لهم استثمار أدائهم في السلطة المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية لمزيد التمكّن و الانتشار و كسب الأنصار استعداد للموعد الانتخابي القادم. أمّا أحزاب المعارضة فتراهن على استثمار أخطاء السلطة و ضعف أدائها لتقدّم نفسها كبديل ممكن لها. و هي تعمل على تحقيق أشكال توحّد مختلفة قد تفضي إلى قيام أقطاب قادرة على تشكيل قوة مضادة للائتلاف الحاكم. غير أن هذه الرهانات محفوفة بالمحاذير و المنزلقات.
في صلب الائتلاف الحاكم:
إنّ الائتلاف ليس من الصلابة و التماسك بحيث يستطيع الصمود في وجه كلّ الأزمات فالنهضة تختلف عن شريكيها من حيث المنطلقات السياسية و المرجعيات فهي حركة ذات مرجعية دينية في حين أن المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات محسوبان على الحركات ذات المرجعية العلمانية و في غياب برنامج سياسي مشترك سرعان ما حصلت خلافات بين حركة النهضة و شريكيها كادت تعصف بهذا التحالف غير الطبيعي في رأي الكثرين و أبرز أزمة مرّ بها الائتلاف نتجت عن تسليم الحكومة للمسؤول الليبي السابق البغدادي المحمودي للسلطة الليبية الجديدة دون إعلام رئيس الجمهورية فقد آثار ذلك جدلا طويلا حول صلاحيات كل طرف. و قد انعكست هذه الخلافات على شريكي النهضة اللذين عرفا بدورهما صراعات داخلية أفضت إلى حصول استقالات و انشقاقات شملت حتى أعضاء بالمجلس التأسيسي و يرى هؤلاء بأن هذين الحزبين تحوّلا إلى حزبي موالاة و تذيّلا للنهضة. و قد يبقى هؤلاء مستقلين و قد يلتحقون بأحزاب وسطية بعيدة عن النهضة.
شمل الحراك أيضا النهضة رغم عدم حصول انشقاقات معلنة. فقد انضم جزء من قواعدها إلى حزب التحرير و المجموعات التي تسمى "سلفية" و هؤلاء يؤاخذون النهضة

على ما يعتبرونه تخلّيا عن مرجعيتها الإسلامية و تحوّلها إلى حركة علمانية لائيكية حسب رأيهم. و لا يبعد عن هؤلاء كثيرا جزء من الإطارات الوسطى و حتى العليا الذين مازالوا يأملون في جعل الحركة تتمسك بثوابتها. و يقول بعض قياديي النهضة بأنهم خسروا فعلا جزءا من قاعدتهم التقليدية لكنهم كسبوا بالمقابل أنصارا جددا أكثر من الذين خسروهم. و ربما يكون هؤلاء من الذين اعتادوا الانتماء إلى حزب السلطة أيّا كان توجهه و اختياراته و هؤلاء لا يعوّل عليهم في الأزمات. و لئن مثلّ أنصار حزب التحرير و سائر المجموعات التي تعدّ "سلفية" لحد الآن قوّة احتياط في الانتخابات فلا أحد يستطيع التكهّن بالاتجاه الذي ستتطور فيه العلاقة بين الطرفين مستقبلا خصوصا بعد اقتحام السفارة الأمريكية و ما كان له من تداعيات في الداخل و الخارج. فأمريكا بدأت تضغط على النهضة التي تعتبرها معتدلة حتى تتعامل بحزم مع من تعتبرهم متشددين أو متطرفين. و بالفعل قام وزير الداخلية بإيقاف المئات منهم و وعد بالحزم في التعامل معهم غير أن أخبارا تروج بأن كثيرا منهم أطلق سراحهم. كما جاءت تصريحات رئيس حركة النهضة مختلفة إلى حدّ التضارب بحسب الإطار و المناسبة. و قد أصبح من الصعب تصديق خطاب النهضة بعد الاستماع إلى ما تضمّنه شريط الفيديو الأخير من كلام توجّه به راشد الغنوشي منذ أشهر إلى مجموعة من "السلفيين". لقد أكّد صحة اتهام خصوم النهضة لها بازدواجية الخطاب. لم يعد من الممكن الحديث عن جناح يؤمن بالدولة المدنية و الديمقراطية و آخر مازال متشبثا بالدولة الدينية. كل ما في الأمر أن اللذين ينعتون بالمتشددين يعلنون مواقفهم في حين أن اللذين ينعتون بالمعتدلين يخفون نواياهم الحقيقية و يتّبعون سياسة المراحل في تنفيذ مخططاتهم الرامية إلى إقامة الدولة الدينية. و بناءا على هذا يصبح تعاملهم مع "السلفيين" قائما على تقاسم الأدوار! و إذا كانت حركة النهضة تضم ديمقراطيين حقيقيين فما عليهم إلا أن يعبروا عن وجودهم بإدانة مواقف رئيس حركتهم و التمايز معها.
في صلب المعارضة:
- "العريضة الشعبيّة": بعض عناصرها أعلنوا انسلاخهم عنها و البقيّة يخضعون لتجاذبات لا أحد يستطيع التكهّن بمآلها.
- الأحزاب التي تعتبر نفسها "وسطيّة":
• الحزب الجمهوري: يبدو أنّ الأحزاب التي سعت إلى الانصهار في صلب هذا الحزب الجديد -وخصوصا التجمع الديمقراطي التقدمي- تعيش أزمة عميقة وصلت حدّ الانسلاخ

و الانشقاق بالنسبة للبعض الذين ينكرون على إخوة الماضي تخليهم عن النهج النضالي و تقاربهم مع شخصيات و قوى جسورها ممدودة مع رموز من العهد السابق و من الصعب أن يكوّن هذا الحزب قطبا مهما إذا لم يرتبط بقوى و أحزاب أخرى. و يجب أن ننتظر ما سوف تسفر عنه الاتصالات الجارية بينه من جهة و بين المسار الديمقراطي الاجتماعي و نداء تونس من جهة أخرى.
• الأحزاب المنبثقة عن التجمع الدستوري بشكل أو بآخر:
تعيش هذه الأحزاب سواء كانت مرجعيتها الدستورية معلنة أم لا مشاكل منها ما يتعلق بالزعامة و منها ما يتجاوزها إلى الموقف من الإرث القديم المشترك و مدى الاستعداد للقطع معه.
و أهم مبادرة ظهرت لحد الآن على الساحة مبادرة الباجي قائد السبسي التي أفضت إلى تكوين حزب نداء تونس الذي سرعان ما تحوّل إلى قطب سياسي يخشاه الائتلاف الحاكم و أطراف في المعارضة على حدّ سواء متهمين إيّاه بالسعي إلى بعث التجمع في ثوب جديد. و لا إن بدأ هذا الحزب يشق طريقه بسرعة فإنه يواجه إشكاليات عديدة منها :
- صعوبة التوفيق بين أطراف متباعدة إلى حدّ التنافر. فبعض الرموز الدستورية و التجمعية (مثل كمال مرجان و محمد جغام) لم تلتحق بصفوفه. و كثير من اللذين لا يجدون أنفسهم في بقية الأحزاب يؤاخذون السبسي و أمثاله على عدم تقديمهم لنقدهم الذاتي و تمايزهم مع ما تسلّط على الشعب التونسي من استبداد لا في عهد بن علي فحسب و إنما حتى في عهد بورقيبة أيضا.
- تعرّض تحرّكات قادته و إطارته للمضايقات خصوصا في الجهات حيث تمّ منعهم من عقد اجتماعات عامة و الاعتداء على بعضهم بالعنف و أخطر حادث حصل لحدّ الآن هو قتل منسقه بتطاوين يوم18/10/2012 على يد ميليشيا إرهابية نصّبت نفسها حامية للثورة أثناء مظاهرة تطالب بما تسميه تطهير الإدارة من رموز الفساد.
- صعوبة التكهن بنتائج القانون الذي يزمع الائتلاف الحاكم تمريره و القاضي بحرمان من تحمّل مسؤولية في صلب التجمع الدستوري من المشاركة في الحياة السياسية.
و تبقى قدرة نداء تونس على الانتشار مرهونة بمدى قدرته على عقد تحالفات مع قوى أخرى مثل الجمهوري و المسار.


- الأحزاب القومية:
مازالت محاولات التوحيد التي حصلت(كالتي شهدتها حركة الشعب أو تلك التي أسفرت عن قيام "الجبهة الوطنية التقدمية ") لم تفض بعد إلى تكوّن قطب قومي قوي فاعل. و مما يعوق ذلك -علاوة على الصراع على الزعامة الذي هو من القواسم المشتركة بين مختلف الأحزاب و التوجهات- تمسك كل مجموعة بمرجعياتها الفكرية التقليدية فبعض القوميين مازالوا متمسكين بالناصرية و بعضهم مازالوا متمسكين بالبعث و بعضهم الآخر مازالوا ربما متمسكين باللجان الثورية الليبيّة و لم يتخلص الجميع من النزعة الفئوية التي تجعلهم -كمجموعات اليسار - أشبه ما يكونون بالملل و النحل في حين أن المطلوب هو القيام بنقد جذري لتجارب النظم القوميّة في السلطة و اتخاذ موقف نظري واضح من النظم السياسية الشمولية التي تتدثّر بعباءة الوطنية و مناهضة الصهيونية و الامبريالية لتغلق الباب في وجه الاستحقاقات الديمقراطية.
و لئن التحقت مجموعات قليلة من القوميين بالجبهة الشعبية فان البقية مازالت لم تحدد موقفا واضحا من التحالفات مع الأقطاب القائمة على الساحة و هذا ما يجعل وزنها غير كبير.
- اليسار:
• المسار الديمقراطي الاجتماعي: مازالت حركة التجديد التي انبثقت عن الحزب الشيوعي التونسي تبحث عن ذاتها. فبعد القطب الديمقراطي الحداثي الذي حقق نتائج هزيلة في انتخابات المجلس التأسيسي هاهي تسعى إلى توسيع قاعدتها بالتوحدّ مع بعض المستقلين و حزب العمل الذي هو حديث عهد بالتكوين. و هي تؤمّل من وراء ذلك استقطاب جزء من القاعدة العمالية لأنّ مؤسسي حزب العمل إطارات نقابية لكن قبل أن يحصل امتداد جغرافي حقيقي لهذا المولود الجديد خضع حزب العمل إلى تجاذبات كشف عنها مؤتمره الأخير فقد اعترض شق منه على الدخول في المسار و يقال بأنه على استعداد للتقارب مع الائتلاف الحاكم و خصوصا حركة النهضة. و التقارب حاصل بين المسار و الجمهوري وهما يتناقشان مع آفاق تونس من جهة و مع الجبهة الشعبية من جهة أخرى.




• أقصى اليسار القابل بقواعد اللعبة الديمقراطية :
توجد مجموعات يسروية –خصوصا في الأوساط الطلابية- تضع كل الأحزاب اليسارية المتواجدة على الساحة في كيس واحد وتعتبرها تحريفية و إصلاحية و لا مجال للحديث عن هذه المجموعات هنا بل سيقع الاقتصار على التنظيمات التي لها وجود علني قانوني و تنخرط في الحياة السياسية .
- التيار الوطني الديمقراطي: لئن نجحت حركة الوطنيين الديمقراطيين و حزب العمل الوطني الديمقراطي بالتوّحد و تكوين حزب جديد فإن "حمّى" التوحّد مازالت لم تبلغ كل "الأشقاء الوطنيين" فضلا عن فصائل أخرى من أقصى اليسار.
- حزب العمال: لئن تخلى عن مرجعيته الشيوعية المعلنة فلا حديث لديه عن انصهار مع فصائل يسارية أخرى و إنما هاجسه الأساسي هو بناء جبهة تتجاوز حدود اليسار و هذا ما تم له بقيام الجبهة الشعبية.
و عدم انصهار اليسار بمختلف فصائله في حزب واحد-يسمح بالجدل الفكري و تباين المواقف – يجعل انخراطه في عمل جبهوي حقيقي في إطار أوسع مهمة بالغة الصعوبة و التعقيد فضلا عن أن أزمة اليسار ليست فقط أزمة تشرذم و إنمّا هو بحاجة كالتيار القومي إلى إعادة النظر في علاقته بمرجعياته و اتخاذ مواقف واضحة من التجارب العالمية في بناء الاشتراكية و خصوصا في ما يتعلق بالديمقراطية و حقوق الإنسان إضاقة إلى تجاوز النخبويّة و التصالح الحقيقي مع الهوية.
-الجبهة الشعبية : شهد يوم 07/10/2012 ميلاد تكتل سياسي جديد ضمّ أحزابا يسارية و وسطية و أخرى قومية سبق أن كوّن أغلبها جبهة 14 جانفي التي ولدت شبهة ميتة بعيد الثورة. الجديد هذه المرة أن الجبهة الشعبية فتحت أبوابها على مصراعيها للمستقلين على اختلاف مشاربهم و قنّنت تواجدهم في هياكلها الوطنية و الجهوية و المحلية و القطاعية من خلال القبول بتنسيقية خاصة بهم ممثلة فيها. و قد طرحت الجبهة على نفسها مهمة كسر الاستقطاب الثنائي الناشئ بين حركة النهضة و نداء تونس، و قادتها يتحدثون عن جبهة قادرة على حكم البلاد عل أساس برنامج يتضمن حدا أدنى يمكن أن تلتف حوله الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب التونسي و يصعب حاليا التكهن بمدى قدرة هذا المولود الجديد منفردا على انجاز مهام طموحة كهذه.


و لئن بدا الاجتماع الجماهيري الحاشد الذي تم خلاله الإعلان رسميا عن ميلاد الجبهة واعدا و أفسح المجال واسعا أمام فئات كانت مهمّشة مثل المثقّفين و الإعلاميين والفنانين و نشطاء المجتمع المدني فإن النجاح الحقيقي يبقى مرهونا بمدى القدرة على إنجاز أمور أساسية منها :
• ضم كل القوى الشعبية الحية إلى الجبهة و إقناعها بصحة البرنامج المرحلي المطروح للانجاز.
• إيجاد توافقات مع قوى مدنية خارجة عن الجبهة (و قد دعا منسق شيكة دستورنا إلى قيام تنسيقية بين الجبهة و قوى مثل الجمهوري و المسار مثلا) .
• إقامة هياكل تنظيمية صلبة يتم فيها تجاوز الفئوية و التجاذبات الحزبية و التجند للانجاز برنامج الجبهة .
• مزيد الانفتاح على العمق الشعبي بتحقيق الانتشار الجغرافي لا في العاصمة و المدن الكبرى فحسب و إنما في المناطق الداخلية أيضا بمدنها الصغرى و أريافها عبر تواجد حقيقي على الأرض أكثر فاعلية من المنابر الإعلامية التقليدية.
• إيجاد مصادر تمويل شفافة تسمح بحد أدنى من الموارد يكفي لتغطية أنشطة الهياكل و الأعضاء و القيام بالدعاية الضرورية.

آفاق المستقبل و السيناريوهات المحتملة:
ثمّة قناعة لدى المعارضة بمختلف أطيافها و توجّهاتها بأن المسار الانتقالي مهدّد بالانتكاس أن البلاد في عنق الزجاجة غير أن الائتلاف الحاكم يرى في ذلك مبالغة و مزايدات سياسية و إن سلّم بوجود صعوبات. و تعددت المبادرات الداعية إلى إيجاد مخرج من المأزق الحالي. فالثالوث يسعى إلى توسيع الائتلاف الحاكم لكنه غير مستعد لقبول بعض الأطراف مثل نداء تونس الذي يعتبره رئيس حركة النهضة أشدّ خطورة على مستقبل البلاد من "السلفيين" في حين ترى أطراف في المعارضة أن المطروح ليس توسيع الائتلاف الحاكم و إنما تقليص عدد الوزراء و تشكيل وزارة أزمة و إسناد الحقائب في وزارات السيادة إلى مستقلين محايدين إضافة إلى شيء أكثر أهمية و هو التوافق على خارطة طريق


تتضمن تحديد مواعد انجاز المهام التي تستدعيها المرحلة الانتقالية و أهم مبادرة قدّمت لحدّ الآن مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل التي دعت إلى عقد مؤتمر للحوار الوطني تحضره كل الأطراف السياسية سواء الموجودة في السلطة أو المعارضة إضافة إلى فعاليات المجتمع المدني و الشخصيات الوطنية. و انعقد المؤتمر فعلا –بعد خمسة أشهر من الانتظار- يوم 16 أكتوبر الجاري. و قد حضره حوالي خمسين حزبا سياسيا و عشرين جمعية و شخصيات وطنية بعضهم من الذين كانوا نوابا فاعلين في المجلس التأسيسي الأول الذي أعلن قيام الجمهورية و بنى مؤسسات دولة الاستقلال (منهم أحمد المستيري و أحمد بن صالح و مصطفى الفيلالي ) كما حضر أشغال الجلسة الافتتاحية محمد المنصف المرزوقي و مصطفى بن جعفر و حمادي الجبالي لا بوصفهم ممثلين لأحزاب الائتلاف الحاكم و إنما بوصفهم رؤساء الجمهورية و المجلس التأسيسي و الحكومة. و حضر ممثل عن التكتل من أجل العمل و الحريات في حين تغيب من يمثل الحزبين الحاكمين الآخرين النهضة و المؤتمر من أجل الجمهورية. و قد فسر هذان الحزبان تغيبهما برفضهما الجلوس مع ممثلي نداء تونس الذي يعدانه امتدادا للتجمع الدستوري المنحل. و اللافت للانتباه استباق الثالوث الحاكم انعقاد المؤتمر بالإعلان عن مبادرة هي عبارة عن توافقات حصلت بين مكوناته. و قد تم تسريب بعض محتويات المبادرة مثل:
-اختيار نظام سياسي مزدوج و هذا يعني تخلي النهضة عن النظام البرلماني الذي كانت متمسكة به.
-اقتراح 23 جوان 2013 كموعد للانتخابات التشريعية و الرئاسية المتزامنة.
-تفعيل المرسوم 116 المتعلق بالإعلام.
-الإبقاء على كمال الجندوبي على رأس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
و في غياب حزبين من أصل ثلاثة في السلطة اضطر الحاضرون الذين دعّموا مبادرة الاتحاد إلى الإعلان صراحة في البيان الذي صدر في نهاية الاجتماع "عن ترك الدعوة مفتوحة أمام الجميع للالتحاق بالمؤتمر الوطني" كما اقترحوا "بعث مجلس وطني للحوار يجتمع وفق روزنامة مضبوطة للتداول بشأن المسائل الخلافية و تبادل وجهات النظر بخصوص مختلف القضايا السياسية و الاجتماعية و الانمائية بغاية التوصل إلى توافقات بشأنها ".


و أيا كانت الخلافات و التجاذبات فإن الحراك الحاصل قد يفضي بشكل أو بآخر إلى الاتفاق قبل نهاية السنة الحالية على موعد إجراء الانتخابات و بعث لجنة عليا للانتخابات و صياغة قانون انتخابي و تشكيل مجلس أعلى مؤقت للقضاء و قد يفرغ المجلس التأسيسي في هذه الآجال من صياغة الدستور لكن قد لا يتم انجاز هذه المهام بتوافق حقيقي يرضي مختلف الأطراف و خصوصا المعارضة و قد لا تلبى بعض المطالب مثل وضع شخصيات مستقلة على رأس وزارات السيادة (الداخلية و الخارجية و العدل) و فتح ملفات شائكة و في مقدمتها المسائل الاقتصادية والاجتماعية.
أما على المدى المتوسط و ربما الطويل فقد يفضي هذا الحراك بعد الانتخابات إذا ما قدر لها أن تقع إلى سيناريوهات بعضها بالغ السوء بالنسبة لمستقبل البلاد.
- أوّل هذه السيناريوهات يتمثل في تواصل المشهد الحالي المتميز بهيمنة شبه مطلقة لحركة النهضة المسنودة بأطراف إمّا مشاركة معها مباشرة في السلطة لكنها غير قادرة على تعديل سياستها و تغيير قراراتها و إمّا تمثل قوّة احتياطية غير مشاركة مباشرة في السلطة لكنها تتحرّك بكثير من الحريّة و تتصدّى للمعارضين و تخوض ضدّهم "حربا بالوكالة". مع معارضةغير مهيكلة و لا موحدة بما فيه الكفاية و بالتالي لا تشكّل سلطة مضادّة فعلا و هذا من شأنه أن يجعل الوضع الراهن يتواصل بكل ما فيه من انفلات أمني و غياب للاستثقرار و ما ينجر عن ذلك من مشاكل في مقدمتها تراجع الاستثمار و استفحال البطالة و تدهور مستوى العيش.
- ثاني السيناريوهات هو تكوّن ائتلاف لقوى تعدّ نفسها وسطية حداثيّة مناهضة للسلفية تدافع عن مكتسبات دولة الاستقلال في وجه التيارات التي تعتبرها متطرفة على يمينها و على يسارها. و هو ما ينسجم إلى حد كبير مع مبادرة الباجي قائد السبسي التي قد ينضم إليها بشكل رسمي الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي و هذا ما لا يرضي الجبهة الشعبية و النهضة و من شأنه أن يعيد البلاد إلى الوضع الذي كان سائدا قبل الثورة بما فيه من احتقان ينبئ بقرب الانفجار.
- ثالث السيناريوهات هو قيام تنسيق بين الجبهة الشعبية من جهة و ائتلاف ثلاثي متكون من الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي و نداء تونس من جهة أخرى و هذا من شأنه أن يدفع النهضة إلى مزيد الاقتراب من المجموعات التي تعد سلفية. و قد يفضي انشطار المجتمع إلى "علمانيين حداثيين " و "اسلاميين سلفيين" إلى صراع قد يتخذ أشكال عنف

مختلفة لا تسمح بحصول الاستقرار المأمول و قد يفضي في النهاية إلى حرب أهلية تتجاوز الرهانات فيها الإطار الوطني إلى الإطار الإقليمي المتميز بتمركز القاعدة في بلاد المغرب بجنوب الصحراء و نشاطها حتى في ليبيا و الجزائر الموجودتين على حدودنا.
- رابع السيناريوهات :هو قيام ائتلاف واسع على أساس توافقي ينأى عن الصراع بين الحداثة و السلفية و تكون فيه النهضة طرفا غير مهيمن و هذا يفترض:
-أولا: تمايزها بشكل معلن واضح عن المجموعات الدينية المتشددة و مطابقتها بين سلوكها السياسي و خطابها المعلن.
- ثانيا: تخلّيها عن نزعتها الهيمنيّة و سعيها إلى السيطرة على مفاصل الدولة.
- ثالثا: قبول بقية الأطراف بها كشريك على أساس برنامج مرحلي واضح يلبّي احتياجات الشعب العاجلة.
لكنّ هذا السيناريوا الأخير الذي يبدو انسب من غيره يصعب تحقّقه حاليا لعدم إبداء بعض الأطراف أيّ استعداد لتهيئة الأرضية الملائمة له. و هذا ما يجعل المستقبل مفتوحا على شتى الاحتمالات.

الحامة في19-10-2012*

* تمّ الانتهاء من كتابة هذا المقال في 10-05-2012 و لم يتسنّ نشره في الإبان لذلك وقع تحيينه حتى يأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات و الأحداث
إعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية
المخاض العسير و خطر الإجهاض
عمّار العربي الزمزمي*
لقد أفرزت انتخابات المجلس التأسيسي وضعا سياسيّا يتميّز بهيمنة حركة النهضة بالأساس و حليفيها المؤتمر من أجل الجمهوريّة و التكتّل من أجل العمل و الحرّيات بدرجة أقلّ على الفضاء السياسي و تقلّص دور المعارضة التي يمنعها ضعفها و تشتّتها و عدم هيكلتها من الاضطلاع بدور سلطة مضادّة قويّة فاعلة تحول دون انتكاس الثّورة و انحرافها عن مسارها الصّحيح.
و منذ أن باحت صناديق الاقتراع بأسرارها و السّاحة السياسيّة الخاضعة لتجاذبات داخليّة و خارجيّة تشهد حراكا يعكس مساعي أحزاب و مجموعات و تيّارات سياسية مختلفة إلى إعادة التّموضع. و لا يمكن فهم هذه المساعي الرامية إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية إلا بالعودة إلى الوراء و النظر في الوضع الذي كانت عليه قبل الثورة و المسارات التي اتّبعتها لاحقا.

النّفق المسدود قبل الثورة

كانت الحياة السياسيّة قبل الثورة مشلولة. فقد دخلت تدريجيّا إلى نفق مسدود جرّاء هيمنة دوائر السلّطة الحاكمة على المجال السياسي الذي انحسر إلى ابعد الحدود بفعل عاملين:
الأوّل: انتفاء صفة الحزب السياسي عن "التجمّع الدّستوري الدّيمقراطي" الذي سرعان ما فقد كلّ حياة داخليّة يحتاجها تجمّع حقيقي من المفروض أن تتعايش داخله قوى مختلفة يجب التوفيّق بينها. فأصبح الحزب أسير دائرة ضيّقة من دوائر السلطة أشبه ما تكون بعصابة مافيا بدل أن تكون السلّطة بيد حزب حاكم يوجّهها.


* ناشط سياسي مستقل.

الثاني: تشكيل معارضة على المقاس حدّدت السلطة الأحزاب التي تمثّل توجّهاتها و ربّما اختارت الأشخاص الفاعلين فيها بشكل جعل المواطنين أمام ثلاثة خيارات كلّها مرّة: إمّا الانتماء إلى حزب لا يتماشى تماما و توجهاتهم و لا يستجيب لطموحاتهم و إمّا الانضمام إلى حزب محظور ينشط في السريّة و إمّا البقاء مستقلّين بدون أيّ انتماء تنظيمي.
وقد استطاعت السّلطة تدجين أغلب الأحزاب المعترف بها فتحوّلت - بدرجات متفاوتة- إلى أحزاب موالاة يرسم البوليس السياسي حدود حركتها و مجال نشاطها. قلّة منها فقط استعصت على التّدجين. فعاشت تحت حصار خانق. أمّا الأحزاب المحظورة فتعرّضت عناصرها النشيطة إلى الملاحقة و المصادرة ممّا أفضى إلى اجتثاث بعضها من الساحة السياسيّة الدّاخليّة.
و كانت النّتيجة بقاء أغلب المتسيّسين خارج صفوف الأحزاب المتواجدة على السّاحة سواء المعترف بها التي تنشط في العلنيّة أو المحظورة التي تنشط في السريّة فانصرف كثير منهم إلى النّشاط في منظمات المجتمع المدني و هيئاته كالرّابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان و المنظمة التّونسية لمناهضة التعذيب و المجلس الوطني للحريات على سبيل المثال. و كان الاتحاد العام التونسي للشّغل و خصوصا هياكله القاعديّة(النقابات الأساسيّة) و الوسطى (الاتحادات المحليّة و الجهويّة ) أهمّ الأطر التي احتضنت هؤلاء الناشطين السياسيين المستقلّين إلى جانب العناصر التي لها انتماء حزبي طبعا.
و قد انخدع الملاحظون غير العارفين بحقيقة الوضع التونسي "بواحة أمن بن علي". ذلك أنّ "السلم الاجتماعي" و "الاستقرار" اللذين أفضيا إلى "الرّخاء" الموهوم تمّ التوصّل إليهما بإقامة واجهة برّاقة من الديمقراطيّة الخادعة تخفي وراءها آلة جهنّميّة تسحق الأفراد و المجموعات. و طالما وقع الحديث عن قدرة النموذج التونسي على احتواء التطرّف بشقّيه الإسلامي و اليساري علاوة على بعض المجموعات القوميّة "غير المنضبطة" و الانخراط في مسار حداثي.
و قد انساقت أغلب الأحزاب المعترف بها إلى هذا السيناريو الذي يقصي "المتطرفين" فاستظلّت بمظلّة نظام بن علي رغم أنّه ضيّق عليها الخناق حتى كتم أنفاسها و كاد يلغيها تماما.



الثورة أو الانفجار الهائل
في غياب قوى سياسيّة مهيكلة لها تقاليد عمل عريقة و أمام انسداد الأفق السياسي بشكل تامّ حصلت الثورة في شكل انفجار هائل ليس له قيادة مركزيّة بالرّغم من الدّور الأساسي الذي اضطلع به النّاشطون السياسيون المستقلّون و المنتمون إلى أحزاب سريّة راديكاليّة المتواجدون في الأطر النقابيّة و هيئات المجتمع المدني. و أفضى الانفجار إلى حصول مواجهة عنيفة بين عموم أبناء الشعب و فئاته و في مقدّمتهم الشباب من جهة و قوات الأمن التي كانت - بحكم العقيدة التي قامت عليها- في خدمة أقلية من المنتفعين من جهة أخرى.
و قد أظهر الحزب الحاكم بمختلف هياكله و تشكيلاته عجزا عن مواجهة الأحداث فضلا عن التحكّم فيها. فانهار و أصيب بالشلل التام رغم محاولات بعض عناصره القيام بتحركات في الخفاء هنا و هناك. كما أظهرت الأحزاب المعترف بها قصر نظر بلغ أحيانا حدّ العمى السياسي. فبعضها ظلّ حتّى آخر لحظة يراهن على قدرة السّلطة على قمع التحرّكات الشعبيّة التي اعتبرها نوعا من الفوضى و أدانها. و بعضها الآخر تمسّك بعد هروب بن علي بحكومتيْ الغنّوشي الأولى و الثانية و وقف في وجه القوى الدّاعية إلى مواصلة التحرّكات لتحقيق أهداف الثورة التي منها تصفيه النظام السابق و إزاحة رموزه من موقع المسؤولية و القرار.

الانفجار التنظيمي و حدود نتائجه

عرفت السّاحة السياسيّة تكوّن عدد هائل من الأحزاب التي توالدت كالفطر. و هذا طبيعي في بلد كان المواطنون فيه محرومين من حقّ التنظّم. غير أنّ هذا الانفجار التنظيمي لم بغيّر المشهد السياسي لأنّ هذه الأحزاب الجديدة لم تستطع استقطاب الكثير من المستقلين. فأغلبها لا يتعدّى نشاطها حدود جهة بعينها و خصوصا العاصمة و قد لا يتعدّى حدود العناصر المؤسسة لها. لذلك كاد نشاطها ينحصر -في أفضل الحالات- في التصريحات على صفحات الجرائد و أمواج الأثير و شاشات الفضائيات.
حركة النّهضة التي كانت محظورة و قياداتها تعيش في المنافي هي الحزب الوحيد الذي استطاع أن يستعيد مواقعه التي تخلّى عنها في ظلّ المنع و الملاحقة و أن يعيد بسرعة هيكلة

نفسه و أن يحقّق انتشارا غير مسبوق و جد ترجمته في فتح مقرّات في كلّ ركن من تراب البلاد.
و في غياب قاطرة سياسيّة حقيقيّة تقود المرحلة الانتقاليّة بكيفيّة تجعلها تحقّق أهداف الثورة تكوّنت بعد سقوط حكومة الغنّوشي حكومة الباجي قائد السبسي الذي بدا للبعض منقذا و للبعض الآخر رجل سياسة لا يمثّل الثورة و لا يلبّي طموحاتهم لكن يمكن قبوله لوجود شبه توافق عليه. و قد مثّل وجوده على رأس الحكومة مفارقتيْن:
الأولى أنّ حكومة منبثقة عن "ثورة شباب" يرأسها شيخ طاعن في السنّ يضاف إلى رئيس جمهوريّة مؤقت هو أيضا من الشيوخ!
الثانية أنّ من لم يشارك في الثورة توكل إليه مهمّة تحقيق أهدافها!
و لعلّ هذا الخلل ناتج عن الظروف و الملابسات التي أحاطت ببعث "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الإصلاح السياسي و الانتقال الدّيمقراطي". فأوّل انتكاسة أصابت الثورة و أحدثت منعرجا خطيرا في مسيرتها تمثّلت في الكيفية التي تأسّست بها هذه الهيئة سواء في ما يتعلق بالتركيبة أو بالصلاحيات.
كان من المفروض أن تكون إطارا يوحّد القوى الفاعلة التي لها مصلحة في الذهاب بعيدا في تصفية بقايا النظام السابق و أن تضمّ علاوة على ممثلين عن مختلف الحساسيات السياسية ممثلين حقيقيين عن الجهات و أن يكون لها صبغة تقريريّة لا استشاريّة فحسب.غير أنّها ضّمت قوى و عناصر غير متجانسة لها أهداف مختلفة بعضها لم يكن له أي دور في الثورة و بعضها الآخر كان-ربما- من الذين اعترضوا على مواصلة التحرّكات الشعبيّة لتحقيق أهدافها كالاعتراض مثلا على اعتصاميْ القصبة الأول و الثاني اللذين أطاحا بحكومة الغنوشي.
و في ظل هذا الوضع بدأت الشعارات الحزبية تظهر و الانقسامات تطفو على السطح و حصلت تجاذبات و صراعات داخل الهيئة و خارجها ممّا جعل المسار الانتقالي يتعثّر فلم يُسجّل تقدم يذكر في تحقيق المطالب التالية :
- محاسبة القتلى و الفاسدين.
- ردّ الاعتبار للضحايا و المظلومين و تعويضهم.
- تطهير الأجهزة الأمنية و إعادة صياغتها وفق عقيدة جديدة.
- تطهير الإدارة و المؤسسات من العناصر الفاسدة.

- تطهير الإعلام و تحريره.
- تحقيق استقلال القضاء و تطهيره من العناصر الفاسدة.
لعّل أهمّ إنجاز تحقّق هو بعث هيئة عليا مستقلة للانتخابات التي تمّ الاتفاق على موعدها بعد أخذ و رد طويلين (23 اكتوبر2011 ).

انتخابات المجلس التأسيسي و الحقائق التي كشفتها

وضعت الانتخابات عددا هائلا من الأحزاب في سباق غير متكافئ. فأغلبها تكوّن حديثا و بالتالي تعوزه الطاقات البشرية و الموارد المالية. و نظرا لضيق الوقت - و ربما لقصر النظر و الخطإ في الحسابات بالنسبة للبعض- لم يحصل تنسيق و عمل جبهوي فدخل أغلب الأحزاب السباق منفردا معوّلا على قواه الذاتية المحدودة.
و كانت النتيجة استئثار حزب حركة النهضة بـ 40 % من مقاعد المجلس التأسيسي و حصول المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات على حوالي 20 % منها. و إذا استثنينا قوائم "العريضة الشعبية" - التي كثر الجدل حول أسباب نجاح بعضها و الواقفين وراءها- فان بقية القائمات المستقلة و الأحزاب حقّقت نتائج هزيلة عموما.
و القراءة المتأنية لنتائج الانتخابات توقفنا على النتائج التالية:
أولا: حركة النهضة هي الحزب الوحيد الذي حصل على أغلبية الأصوات في اغلب الدوائر الانتخابية.
ثانيا: بقية الأحزاب –و القائمات المستقلة- وصلت المجلس التأسيسي في الغالب بواسطة أفضل البقايا.
ثالثا: المال السياسي الذي كثر عنه الحديث لم يكن دائما محدّدا في النجاح فبعض الأحزاب التي أنفقت المال بسخاء لم تحقّق بالضرورة نتائج إيجابية ممّا يدّل على أنّه لا يكفي وحده لتحقيق الفوز في الانتخابات.
رابعا: الإقبال غير المعهود للتونسيين على صناديق الاقتراع لا يجب أن يخفي إنّ نسبة المقترعين لم تتجاوز 45 % من الذين يحق لهم الاقتراع.
خامسا: حوالي نصف المقترعين ضاعت أصواتهم إذ لم يفلحوا في إيصال ممثلين عنهم إلى المجلس التأسيسي مما يدل على وجود خلل في النظام الانتخابي.

سادسا: الأحزاب الثلاثة الحاصلة على حوالي ثلثي مقاعد المجلس التأسيسي حصلت على اقل من مليوني صوت.
شرعيّة الصناديق و إشكاليات الواقع:
اعتقد كثيرون بأنّ الانتخابات ستضع حدّا للمشاكل التي تعيشها البلاد لأنّ الفائزين فيها -بحكم شرعية صناديق الاقتراع- سيتمكنون من فرض سلطة القانون و إدارة شؤون البلاد بسهولة. لكنّ الأحداث أظهرت العكس. فقد كثرت الإضرابات و الوقفات الاحتجاجيّة و الاعتصامات التي كثيرا ما تحوّلت إلى مصادمات عنيفة بين المواطنين و قوات الأمن و يعود تفاقم الصعوبات التي واجهتها الحكومة المؤقتة الى عوامل في مقدّمتها قصورها عن التسيير و عجزها عن إدارة المرحلة الانتقالية بشكل منفرد. فالثالوث المكوّن لها لم يشكّل حكومة تصريف أعمال تضم تكنوقراطيين أو حكومة وحدة وطنية تضم أهم الأطياف السياسية و إنّما اختار تكوين حكومة ذات ألوان سياسية تضمّ ثلاثة أطراف فقط و من أبرز نقاط ضعفها أنّها لم تقم على أساس برنامج سياسي واضح و إنّما قامت على المحاصصة الحزبية و لعلّ ذلك ما جعل عدد أعضائها كبيرا و الوقت الذي استغرقه تشكيلها طويلا.
وقد شعرت المعارضة منذ البداية بأنها مهمّشة في صلب المجلس التأسيسي و أنّ "الحلّ و العقد" بيد نواب الثالوث الذين يضعونهم في النهاية أمام الأمر المقضي. و بدأ أعضاء الحكومة و أحزاب الثالوث يتحدثون عن مؤامرة لإسقاط الحكومة حينا و عن تعطيل عملها و عمل المجلس حينا آخر و اعتبروا كل نقد لهم انحرافا عن أهداف الثورة كما لو كانوا هم الممثلين الحقيقين لها دون سواهم.
أقلّ ما يقال في أداء "الترويكا"(الثالوث) -سواء في مجال العمل الحكومي أو في إطار المجلس التأسيسي- أنّه كان هزيلا.فقد كان من المفروض - في هذه المرحلة الانتقالية الثانية - أن يتركّز العمل بدرجة أولى على كتابة الدستور الجديد دون إغفال مهام أخرى منها :
أوّلا: إعطاء دفع للمسار الانتقالي بكيفية تهيّئ الظروف الملائمة لإجراء انتخابات تشريعية و رئاسية تنبثق عنها سلط دائمة و هذا يقتضي بعث لجنة عليا مستقلة للانتخابات و صياغة قانون انتخابي و تحقيق استقلال القضاء و تحرير الإعلام و تطوير منظومته و إعادة صياغة المنظومة الأمنية وفق عقيدة جديدة و إصلاح الإدارة و وضع أسس متينة للعدالة الانتقالية و ذلك ببعث لجنة مستقلة يخضع عملها إلى تشريعات واضحة.


ثانيا: إقرار إجراءات عاجلة تلبّي الحاجيات الملحّة للفئات و الجهات المحرومة حتى تشعر بأنّ أوضاعها آخذة في التحسّن و لا تصاب بالإحباط الذي لا يمكن التكهّن بما قد ينجرّ عنه من نتائج.
ثالثا: تحقيق الأمن و الاستقرار بشكل يجعل المواطنين مطمئنين على أرواحهم و ممتلكاتهم.
لكن لا شيء من هذه المهامّ تحقّق بل زادت الأوضاع سوءا فارتفع عدد العاطلين عن العمل و زادت نسبة التضخّم و انكمش الاستثمار و تدهورت الخدمات و ارتفعت الأسعار بشكل جنوني و كثرت الاعتداءات و استفحلت ظاهرة العنف. والأخطر من ذلك أنّ مهلة السنة التي حدّدها المرسوم الدّاعي لانتخابات المجلس التأسيسي و أكّدها البيان الذي وقّع عليه أحد عشر حزبا من ضمنها النهضة و التكّتل كأجل أقصى للفراغ من كتابة الدستور و تنظيم الانتخابات تنتهي في 23 أكتوبر الحالي. و مع اقتراب الموعد احتدّت الصراعات و كثرت التجاذبات فالائتلاف الحاكم ليس في عجلة من أمره و لا يرى في تجاوز هذا الأجل إشكالا لأنّ المجلس التأسيسي سيّد نفسه حسب رأيه أمّا في صفوف المعارضة فمن قائل بأنّ الشرعية الانتخابية تنتهي في هذا التاريخ ممّا يستوجب إحلال شرعية توافقية محلّها حتى لا يحصل فراغ إلى قائل بأنّ الشرعية الانتخابية التي أضرّ بها الأداء الهزيل يجب أن ترمّم بشرعية توافقية لكن كيف و على أي أساس؟
إنّ ما قاد إلى هذا المأزق هو تفرّد الائتلاف الحاكم بالقرار في فترة تحتاج إلى توافق واسع. و تتحمّل حركة النهضة القسط الأوفر من المسؤولية بوصفها الطرف المهيمن داخل الائتلاف الحاكم. و يمكن رصد بعض تجليات هذه النزعة الهيمنيّة من خلال ما يلي:
أولا: تصرفت النهضة التي انتخبها أقل من 20 % من الذين يحقّ لهم الانتخاب كحزب يمثل السواد الأعظم من الشعب التونسي. فبدل أن تعمل على صياغة دستور توافقي يجد فيه الغالبية العظمى أنفسهم سعت لتكريس مواقفها الحزبية الضيقة فطرحت مجدّدا مسالة التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع بعد أن كانت تخلّت عن ذلك في برنامجها السياسي و حملتها الانتخابية. و لم تتراجع إلاّ بعد أن حصلت بلبلة كادت تعصف بوحدة البلاد الهشة و في ما يتعلق بالنظام السياسي الذي سيقع إقراره أظهرت حركة النهضة تمسّكا غريبا بالنظام البرلماني رغم رفض بقية الأطراف له بدون استثناء و هددت باللّجوء إلى استفتاء الشعب في المسألة مادام المعارضون لها لا يمثلون الثلثين المطلوبين لتمرير أيّ مقترح آخر. و حاولت حركة النهضة تمرير مفهوم التكامل بين الرجل و المرأة للالتفاف

على مفهوم المساواة بين الجنسين و لم تتراجع إلا بعد أن واجهتها قوى المجتمع المدني و خصوصا النساء بردّ فعل قوي . كما حاولت حركة النهضة - باسم الخصوصية - ضرب مقولة الطابع الكوني لحقوق الإنسان و علويّة المواثيق الدولية التي تنص عليها.
ثانيا: أقدمت الحكومة المؤقتة التي تهيمن عليها النهضة على إقالة عدد كبير من المسؤولين الإداريين - كالولاة و المعتمدين و مديري المؤسسات و رؤساء المصالح - و تعويضهم بعناصر نهضوية ضاربة بذلك عرض الحائط بمطلب شعبي يتمثل في تحقيق حياد الإدارة و اعتماد مبدأ الكفاءة دون سواه في تعيين المسؤولين و مبرهنة عن رغبة واضحة في السيطرة على مفاصل الدولة. و لم تغضب النهضة بسلوكها هذا المعارضة فحسب و إنما أغضبت أيضا شريكيها في السلطة و كثيرا ما رفض العاملون بالمؤسسات و المواطنون هذه التعيينات و أجبروا السلطة على التراجع و من أمثلة ذلك والي سيدي بوزيد.
ثالثا: تعاملت وزارة الداخلية التي يوجد على رأسها نهضوي مع المخالفين باعتماد سياسة المكيالين. فقد تغاضت عن ممارسات من يسمونهم "السلفيين" إلى درجة تركهم يعطلون الدروس بكلية الآداب بمنوية لفترة طويلة و يدنسون الراية الوطنية و يعتدون بالعنف على الفنانين في اليوم العالمي للمسرح و يمنعون بالقوة المثقفين و الناشطين من إلقاء المحاضرات و إقامة الندوات(من أبرز الأمثلة على ذلك إفساد التظاهرة التي أقيمت ببنزرت في يوم القدس بمشاركة عميد الأسرى اللبنانيين المحرّر سمير القنطار) و قد طال العنف حتى أحد مؤسسي حركة النهضة وهو الشيخ عبد الفتاح مورو. و بالمقابل تصدّت وزارة الداخلية و أجهزتها الأمنية بالعنف الشديد للذين أرادوا الاحتفال بعيد الشهداء في شارع بورقيبة و للجرحى و عائلات الشهداء الذين جاءوا إلى وزارة حقوق الإنسان للتعبير عن تدهور أوضاعهم جرّاء الإبطاء في حلّ مشاكلهم العالقة. وبالعنف نفسه تمت مواجهة المعطّلين عن العمل من حملة الشهادات و المشاركين في المسيرة التي قام بها أبناء سيدي بوزيد من منطقتهم إلى العاصمة للمطالبة بالتنمية قبل أن يصبح قمع التحركات الشعبية خبزا يوميا (نذكر على سبيل المثال ما حصل بسيدي حسين من ملاحة رادس و الحنشة و طينة بصفاقس و حي العمران بمنزل بوزيان و قلالة بجربة).
و هذه الازدواجية في التعامل مع مختلف الأطراف حسب قربها و بعدها من حركة النهضة و السلطة عموما مؤشر على توظيف الأمن في خدمة أغراض حزبية بدل أن يكون أمنا جمهوريا بعيدا عن التجاذبات الحزبية. والجميع يعرف اليوم ما قاد إليه هذا السلوك السياسي

حين تعرّضت السفارة الأمريكية بتونس إلى الاقتحام فالارتباك و عدم تحديد موقف واضح ممن يسمون "السلفيين" هو الذي جعل الأمن عاجزا عن احتواء الموقف.
رابعا: بغضّ النظر عن مدى شرعيّة التحرّكات التي تمّت مواجهتها بالقوة أو عدم شرعيتها فإنّ العنف تحوّل إلى قمع بلغ درجات قصوى تذكّر بما كان يحصل قبل الثورة.
خامسا: تواترت حالات التعذيب أثناء الإيقاف و الاستنطاق و سجّلت حالات وفاة مما جعل المنظمات الحقوقية تطلق صيحات فزع و تشكّك في أن يكون ما حصل حالات معزولة و سلوكات فردية.
سادسا: ظهرت مجموعات نعتها البعض بالمليشيات تصول و تجول دون رادع تعتدي على المتظاهرين حتى من أعضاء المجلس التأسيسي و إطارات الأحزاب السياسية الممثلة داخله. و من أبرز غزواتها غزواتها الهجوم على مظاهرة 9 أفريل و على العاملين بالإذاعة و التلفزة الوطنية في عقر دارهم بعد اعتصام دام شهرين شكلّ ضغطا رهيبا على الإعلاميين بدعوى الاحتجاج على ما يسمونه "إعلام العار".
سابعا: عمدت وزارة الداخلية إلى إعفاء ضباط أمن دون أن تقدم لهم مبررات واضحة أو أن تحيلهم على العدالة.
ثامنا: سعت وزارة العدل التي على رأسها نهضوي إلى إحكام قبضتها على القضاء و الحيلولة دون التقدم خطوة على طريق استقلاليته فقد عطلت بعث مجلس مؤقت للقضاء و أعادت إلى الحياة المجلس الأعلى للقضاء المقبور و أوكلت إليه على حدّ قولها مهمّة النظر في حركة القضاة و توخّت إعفاء العشرات دون تقديم مبررات واضحة أو إتاحة الفرصة للمعنيين بالأمر لتظلّم حقيقي أو محاكماتهم و تركت القائمة "السوداء" مفتوحتا حتى تكون سيف مسلطا على القضاة الذين لا ينصاعون لأوامرها.
تاسعا:صمّمت الحكومة على وضع يدها على وسائل الإعلام العمومي و تركيع الإعلاميين العاملين بها فقد رفضت تفعيل المرسومين 115 و116 في انتظار تنقيحهما أو تعويضهما بتشريعات جديدة و دفعت أعضاء اللجنة العليا لإصلاح الإعلام إلى تقديم استقالاتهم بعد أن أدركوا أنّها غير مستعدة لأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار كما عمدت الحكومة إلى تعيين مسؤولين غير مرغوب فيهم من العاملين معهم على رأس مؤسسات إعلامية عمومية و من أبرز الأمثلة على ذلك ما حصل بالتلفزة الوطنية و بجريدة الصباح التي تجنّد صحافيوها و عمالها للدفاع عنها و عن حرية الإعلام عامة فتضامن معهم بقية الإعلاميين في تونس

و خارجها و أصبحت قضيّتهم قضيّة رأي عام. وتوّج الحراك بشنّ كافة وسائل الإعلام التونسية لإضراب عام يوم 17 أكتوبر كان له صدى كبير عربيا و دوليا. و حتى المؤسسات الخاصة لم تسلم من الضغوط بحجب الإشهار العمومي عنها و حرمانها من حقها الطبيعي فيه.
الحراك الحزبي: الرّهانات و العوائق:
تختلف رهانات الائتلاف الحاكم عن رهانات المعارضة. فالنهضة و حليفاها يراهنون على بقاء الائتلاف الحكومي متماسكا بشكل يحقّق الاستقرار حتى يتسنّى لهم استثمار أدائهم في السلطة المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية لمزيد التمكّن و الانتشار و كسب الأنصار استعداد للموعد الانتخابي القادم. أمّا أحزاب المعارضة فتراهن على استثمار أخطاء السلطة و ضعف أدائها لتقدّم نفسها كبديل ممكن لها. و هي تعمل على تحقيق أشكال توحّد مختلفة قد تفضي إلى قيام أقطاب قادرة على تشكيل قوة مضادة للائتلاف الحاكم. غير أن هذه الرهانات محفوفة بالمحاذير و المنزلقات.
في صلب الائتلاف الحاكم:
إنّ الائتلاف ليس من الصلابة و التماسك بحيث يستطيع الصمود في وجه كلّ الأزمات فالنهضة تختلف عن شريكيها من حيث المنطلقات السياسية و المرجعيات فهي حركة ذات مرجعية دينية في حين أن المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات محسوبان على الحركات ذات المرجعية العلمانية و في غياب برنامج سياسي مشترك سرعان ما حصلت خلافات بين حركة النهضة و شريكيها كادت تعصف بهذا التحالف غير الطبيعي في رأي الكثرين و أبرز أزمة مرّ بها الائتلاف نتجت عن تسليم الحكومة للمسؤول الليبي السابق البغدادي المحمودي للسلطة الليبية الجديدة دون إعلام رئيس الجمهورية فقد آثار ذلك جدلا طويلا حول صلاحيات كل طرف. و قد انعكست هذه الخلافات على شريكي النهضة اللذين عرفا بدورهما صراعات داخلية أفضت إلى حصول استقالات و انشقاقات شملت حتى أعضاء بالمجلس التأسيسي و يرى هؤلاء بأن هذين الحزبين تحوّلا إلى حزبي موالاة و تذيّلا للنهضة. و قد يبقى هؤلاء مستقلين و قد يلتحقون بأحزاب وسطية بعيدة عن النهضة.
شمل الحراك أيضا النهضة رغم عدم حصول انشقاقات معلنة. فقد انضم جزء من قواعدها إلى حزب التحرير و المجموعات التي تسمى "سلفية" و هؤلاء يؤاخذون النهضة

على ما يعتبرونه تخلّيا عن مرجعيتها الإسلامية و تحوّلها إلى حركة علمانية لائيكية حسب رأيهم. و لا يبعد عن هؤلاء كثيرا جزء من الإطارات الوسطى و حتى العليا الذين مازالوا يأملون في جعل الحركة تتمسك بثوابتها. و يقول بعض قياديي النهضة بأنهم خسروا فعلا جزءا من قاعدتهم التقليدية لكنهم كسبوا بالمقابل أنصارا جددا أكثر من الذين خسروهم. و ربما يكون هؤلاء من الذين اعتادوا الانتماء إلى حزب السلطة أيّا كان توجهه و اختياراته و هؤلاء لا يعوّل عليهم في الأزمات. و لئن مثلّ أنصار حزب التحرير و سائر المجموعات التي تعدّ "سلفية" لحد الآن قوّة احتياط في الانتخابات فلا أحد يستطيع التكهّن بالاتجاه الذي ستتطور فيه العلاقة بين الطرفين مستقبلا خصوصا بعد اقتحام السفارة الأمريكية و ما كان له من تداعيات في الداخل و الخارج. فأمريكا بدأت تضغط على النهضة التي تعتبرها معتدلة حتى تتعامل بحزم مع من تعتبرهم متشددين أو متطرفين. و بالفعل قام وزير الداخلية بإيقاف المئات منهم و وعد بالحزم في التعامل معهم غير أن أخبارا تروج بأن كثيرا منهم أطلق سراحهم. كما جاءت تصريحات رئيس حركة النهضة مختلفة إلى حدّ التضارب بحسب الإطار و المناسبة. و قد أصبح من الصعب تصديق خطاب النهضة بعد الاستماع إلى ما تضمّنه شريط الفيديو الأخير من كلام توجّه به راشد الغنوشي منذ أشهر إلى مجموعة من "السلفيين". لقد أكّد صحة اتهام خصوم النهضة لها بازدواجية الخطاب. لم يعد من الممكن الحديث عن جناح يؤمن بالدولة المدنية و الديمقراطية و آخر مازال متشبثا بالدولة الدينية. كل ما في الأمر أن اللذين ينعتون بالمتشددين يعلنون مواقفهم في حين أن اللذين ينعتون بالمعتدلين يخفون نواياهم الحقيقية و يتّبعون سياسة المراحل في تنفيذ مخططاتهم الرامية إلى إقامة الدولة الدينية. و بناءا على هذا يصبح تعاملهم مع "السلفيين" قائما على تقاسم الأدوار! و إذا كانت حركة النهضة تضم ديمقراطيين حقيقيين فما عليهم إلا أن يعبروا عن وجودهم بإدانة مواقف رئيس حركتهم و التمايز معها.
في صلب المعارضة:
- "العريضة الشعبيّة": بعض عناصرها أعلنوا انسلاخهم عنها و البقيّة يخضعون لتجاذبات لا أحد يستطيع التكهّن بمآلها.
- الأحزاب التي تعتبر نفسها "وسطيّة":
• الحزب الجمهوري: يبدو أنّ الأحزاب التي سعت إلى الانصهار في صلب هذا الحزب الجديد -وخصوصا التجمع الديمقراطي التقدمي- تعيش أزمة عميقة وصلت حدّ الانسلاخ

و الانشقاق بالنسبة للبعض الذين ينكرون على إخوة الماضي تخليهم عن النهج النضالي و تقاربهم مع شخصيات و قوى جسورها ممدودة مع رموز من العهد السابق و من الصعب أن يكوّن هذا الحزب قطبا مهما إذا لم يرتبط بقوى و أحزاب أخرى. و يجب أن ننتظر ما سوف تسفر عنه الاتصالات الجارية بينه من جهة و بين المسار الديمقراطي الاجتماعي و نداء تونس من جهة أخرى.
• الأحزاب المنبثقة عن التجمع الدستوري بشكل أو بآخر:
تعيش هذه الأحزاب سواء كانت مرجعيتها الدستورية معلنة أم لا مشاكل منها ما يتعلق بالزعامة و منها ما يتجاوزها إلى الموقف من الإرث القديم المشترك و مدى الاستعداد للقطع معه.
و أهم مبادرة ظهرت لحد الآن على الساحة مبادرة الباجي قائد السبسي التي أفضت إلى تكوين حزب نداء تونس الذي سرعان ما تحوّل إلى قطب سياسي يخشاه الائتلاف الحاكم و أطراف في المعارضة على حدّ سواء متهمين إيّاه بالسعي إلى بعث التجمع في ثوب جديد. و لا إن بدأ هذا الحزب يشق طريقه بسرعة فإنه يواجه إشكاليات عديدة منها :
- صعوبة التوفيق بين أطراف متباعدة إلى حدّ التنافر. فبعض الرموز الدستورية و التجمعية (مثل كمال مرجان و محمد جغام) لم تلتحق بصفوفه. و كثير من اللذين لا يجدون أنفسهم في بقية الأحزاب يؤاخذون السبسي و أمثاله على عدم تقديمهم لنقدهم الذاتي و تمايزهم مع ما تسلّط على الشعب التونسي من استبداد لا في عهد بن علي فحسب و إنما حتى في عهد بورقيبة أيضا.
- تعرّض تحرّكات قادته و إطارته للمضايقات خصوصا في الجهات حيث تمّ منعهم من عقد اجتماعات عامة و الاعتداء على بعضهم بالعنف و أخطر حادث حصل لحدّ الآن هو قتل منسقه بتطاوين يوم18/10/2012 على يد ميليشيا إرهابية نصّبت نفسها حامية للثورة أثناء مظاهرة تطالب بما تسميه تطهير الإدارة من رموز الفساد.
- صعوبة التكهن بنتائج القانون الذي يزمع الائتلاف الحاكم تمريره و القاضي بحرمان من تحمّل مسؤولية في صلب التجمع الدستوري من المشاركة في الحياة السياسية.
و تبقى قدرة نداء تونس على الانتشار مرهونة بمدى قدرته على عقد تحالفات مع قوى أخرى مثل الجمهوري و المسار.


- الأحزاب القومية:
مازالت محاولات التوحيد التي حصلت(كالتي شهدتها حركة الشعب أو تلك التي أسفرت عن قيام "الجبهة الوطنية التقدمية ") لم تفض بعد إلى تكوّن قطب قومي قوي فاعل. و مما يعوق ذلك -علاوة على الصراع على الزعامة الذي هو من القواسم المشتركة بين مختلف الأحزاب و التوجهات- تمسك كل مجموعة بمرجعياتها الفكرية التقليدية فبعض القوميين مازالوا متمسكين بالناصرية و بعضهم مازالوا متمسكين بالبعث و بعضهم الآخر مازالوا ربما متمسكين باللجان الثورية الليبيّة و لم يتخلص الجميع من النزعة الفئوية التي تجعلهم -كمجموعات اليسار - أشبه ما يكونون بالملل و النحل في حين أن المطلوب هو القيام بنقد جذري لتجارب النظم القوميّة في السلطة و اتخاذ موقف نظري واضح من النظم السياسية الشمولية التي تتدثّر بعباءة الوطنية و مناهضة الصهيونية و الامبريالية لتغلق الباب في وجه الاستحقاقات الديمقراطية.
و لئن التحقت مجموعات قليلة من القوميين بالجبهة الشعبية فان البقية مازالت لم تحدد موقفا واضحا من التحالفات مع الأقطاب القائمة على الساحة و هذا ما يجعل وزنها غير كبير.
- اليسار:
• المسار الديمقراطي الاجتماعي: مازالت حركة التجديد التي انبثقت عن الحزب الشيوعي التونسي تبحث عن ذاتها. فبعد القطب الديمقراطي الحداثي الذي حقق نتائج هزيلة في انتخابات المجلس التأسيسي هاهي تسعى إلى توسيع قاعدتها بالتوحدّ مع بعض المستقلين و حزب العمل الذي هو حديث عهد بالتكوين. و هي تؤمّل من وراء ذلك استقطاب جزء من القاعدة العمالية لأنّ مؤسسي حزب العمل إطارات نقابية لكن قبل أن يحصل امتداد جغرافي حقيقي لهذا المولود الجديد خضع حزب العمل إلى تجاذبات كشف عنها مؤتمره الأخير فقد اعترض شق منه على الدخول في المسار و يقال بأنه على استعداد للتقارب مع الائتلاف الحاكم و خصوصا حركة النهضة. و التقارب حاصل بين المسار و الجمهوري وهما يتناقشان مع آفاق تونس من جهة و مع الجبهة الشعبية من جهة أخرى.




• أقصى اليسار القابل بقواعد اللعبة الديمقراطية :
توجد مجموعات يسروية –خصوصا في الأوساط الطلابية- تضع كل الأحزاب اليسارية المتواجدة على الساحة في كيس واحد وتعتبرها تحريفية و إصلاحية و لا مجال للحديث عن هذه المجموعات هنا بل سيقع الاقتصار على التنظيمات التي لها وجود علني قانوني و تنخرط في الحياة السياسية .
- التيار الوطني الديمقراطي: لئن نجحت حركة الوطنيين الديمقراطيين و حزب العمل الوطني الديمقراطي بالتوّحد و تكوين حزب جديد فإن "حمّى" التوحّد مازالت لم تبلغ كل "الأشقاء الوطنيين" فضلا عن فصائل أخرى من أقصى اليسار.
- حزب العمال: لئن تخلى عن مرجعيته الشيوعية المعلنة فلا حديث لديه عن انصهار مع فصائل يسارية أخرى و إنما هاجسه الأساسي هو بناء جبهة تتجاوز حدود اليسار و هذا ما تم له بقيام الجبهة الشعبية.
و عدم انصهار اليسار بمختلف فصائله في حزب واحد-يسمح بالجدل الفكري و تباين المواقف – يجعل انخراطه في عمل جبهوي حقيقي في إطار أوسع مهمة بالغة الصعوبة و التعقيد فضلا عن أن أزمة اليسار ليست فقط أزمة تشرذم و إنمّا هو بحاجة كالتيار القومي إلى إعادة النظر في علاقته بمرجعياته و اتخاذ مواقف واضحة من التجارب العالمية في بناء الاشتراكية و خصوصا في ما يتعلق بالديمقراطية و حقوق الإنسان إضاقة إلى تجاوز النخبويّة و التصالح الحقيقي مع الهوية.
-الجبهة الشعبية : شهد يوم 07/10/2012 ميلاد تكتل سياسي جديد ضمّ أحزابا يسارية و وسطية و أخرى قومية سبق أن كوّن أغلبها جبهة 14 جانفي التي ولدت شبهة ميتة بعيد الثورة. الجديد هذه المرة أن الجبهة الشعبية فتحت أبوابها على مصراعيها للمستقلين على اختلاف مشاربهم و قنّنت تواجدهم في هياكلها الوطنية و الجهوية و المحلية و القطاعية من خلال القبول بتنسيقية خاصة بهم ممثلة فيها. و قد طرحت الجبهة على نفسها مهمة كسر الاستقطاب الثنائي الناشئ بين حركة النهضة و نداء تونس، و قادتها يتحدثون عن جبهة قادرة على حكم البلاد عل أساس برنامج يتضمن حدا أدنى يمكن أن تلتف حوله الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب التونسي و يصعب حاليا التكهن بمدى قدرة هذا المولود الجديد منفردا على انجاز مهام طموحة كهذه.


و لئن بدا الاجتماع الجماهيري الحاشد الذي تم خلاله الإعلان رسميا عن ميلاد الجبهة واعدا و أفسح المجال واسعا أمام فئات كانت مهمّشة مثل المثقّفين و الإعلاميين والفنانين و نشطاء المجتمع المدني فإن النجاح الحقيقي يبقى مرهونا بمدى القدرة على إنجاز أمور أساسية منها :
• ضم كل القوى الشعبية الحية إلى الجبهة و إقناعها بصحة البرنامج المرحلي المطروح للانجاز.
• إيجاد توافقات مع قوى مدنية خارجة عن الجبهة (و قد دعا منسق شيكة دستورنا إلى قيام تنسيقية بين الجبهة و قوى مثل الجمهوري و المسار مثلا) .
• إقامة هياكل تنظيمية صلبة يتم فيها تجاوز الفئوية و التجاذبات الحزبية و التجند للانجاز برنامج الجبهة .
• مزيد الانفتاح على العمق الشعبي بتحقيق الانتشار الجغرافي لا في العاصمة و المدن الكبرى فحسب و إنما في المناطق الداخلية أيضا بمدنها الصغرى و أريافها عبر تواجد حقيقي على الأرض أكثر فاعلية من المنابر الإعلامية التقليدية.
• إيجاد مصادر تمويل شفافة تسمح بحد أدنى من الموارد يكفي لتغطية أنشطة الهياكل و الأعضاء و القيام بالدعاية الضرورية.

آفاق المستقبل و السيناريوهات المحتملة:
ثمّة قناعة لدى المعارضة بمختلف أطيافها و توجّهاتها بأن المسار الانتقالي مهدّد بالانتكاس أن البلاد في عنق الزجاجة غير أن الائتلاف الحاكم يرى في ذلك مبالغة و مزايدات سياسية و إن سلّم بوجود صعوبات. و تعددت المبادرات الداعية إلى إيجاد مخرج من المأزق الحالي. فالثالوث يسعى إلى توسيع الائتلاف الحاكم لكنه غير مستعد لقبول بعض الأطراف مثل نداء تونس الذي يعتبره رئيس حركة النهضة أشدّ خطورة على مستقبل البلاد من "السلفيين" في حين ترى أطراف في المعارضة أن المطروح ليس توسيع الائتلاف الحاكم و إنما تقليص عدد الوزراء و تشكيل وزارة أزمة و إسناد الحقائب في وزارات السيادة إلى مستقلين محايدين إضافة إلى شيء أكثر أهمية و هو التوافق على خارطة طريق


تتضمن تحديد مواعد انجاز المهام التي تستدعيها المرحلة الانتقالية و أهم مبادرة قدّمت لحدّ الآن مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل التي دعت إلى عقد مؤتمر للحوار الوطني تحضره كل الأطراف السياسية سواء الموجودة في السلطة أو المعارضة إضافة إلى فعاليات المجتمع المدني و الشخصيات الوطنية. و انعقد المؤتمر فعلا –بعد خمسة أشهر من الانتظار- يوم 16 أكتوبر الجاري. و قد حضره حوالي خمسين حزبا سياسيا و عشرين جمعية و شخصيات وطنية بعضهم من الذين كانوا نوابا فاعلين في المجلس التأسيسي الأول الذي أعلن قيام الجمهورية و بنى مؤسسات دولة الاستقلال (منهم أحمد المستيري و أحمد بن صالح و مصطفى الفيلالي ) كما حضر أشغال الجلسة الافتتاحية محمد المنصف المرزوقي و مصطفى بن جعفر و حمادي الجبالي لا بوصفهم ممثلين لأحزاب الائتلاف الحاكم و إنما بوصفهم رؤساء الجمهورية و المجلس التأسيسي و الحكومة. و حضر ممثل عن التكتل من أجل العمل و الحريات في حين تغيب من يمثل الحزبين الحاكمين الآخرين النهضة و المؤتمر من أجل الجمهورية. و قد فسر هذان الحزبان تغيبهما برفضهما الجلوس مع ممثلي نداء تونس الذي يعدانه امتدادا للتجمع الدستوري المنحل. و اللافت للانتباه استباق الثالوث الحاكم انعقاد المؤتمر بالإعلان عن مبادرة هي عبارة عن توافقات حصلت بين مكوناته. و قد تم تسريب بعض محتويات المبادرة مثل:
-اختيار نظام سياسي مزدوج و هذا يعني تخلي النهضة عن النظام البرلماني الذي كانت متمسكة به.
-اقتراح 23 جوان 2013 كموعد للانتخابات التشريعية و الرئاسية المتزامنة.
-تفعيل المرسوم 116 المتعلق بالإعلام.
-الإبقاء على كمال الجندوبي على رأس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
و في غياب حزبين من أصل ثلاثة في السلطة اضطر الحاضرون الذين دعّموا مبادرة الاتحاد إلى الإعلان صراحة في البيان الذي صدر في نهاية الاجتماع "عن ترك الدعوة مفتوحة أمام الجميع للالتحاق بالمؤتمر الوطني" كما اقترحوا "بعث مجلس وطني للحوار يجتمع وفق روزنامة مضبوطة للتداول بشأن المسائل الخلافية و تبادل وجهات النظر بخصوص مختلف القضايا السياسية و الاجتماعية و الانمائية بغاية التوصل إلى توافقات بشأنها ".


و أيا كانت الخلافات و التجاذبات فإن الحراك الحاصل قد يفضي بشكل أو بآخر إلى الاتفاق قبل نهاية السنة الحالية على موعد إجراء الانتخابات و بعث لجنة عليا للانتخابات و صياغة قانون انتخابي و تشكيل مجلس أعلى مؤقت للقضاء و قد يفرغ المجلس التأسيسي في هذه الآجال من صياغة الدستور لكن قد لا يتم انجاز هذه المهام بتوافق حقيقي يرضي مختلف الأطراف و خصوصا المعارضة و قد لا تلبى بعض المطالب مثل وضع شخصيات مستقلة على رأس وزارات السيادة (الداخلية و الخارجية و العدل) و فتح ملفات شائكة و في مقدمتها المسائل الاقتصادية والاجتماعية.
أما على المدى المتوسط و ربما الطويل فقد يفضي هذا الحراك بعد الانتخابات إذا ما قدر لها أن تقع إلى سيناريوهات بعضها بالغ السوء بالنسبة لمستقبل البلاد.
- أوّل هذه السيناريوهات يتمثل في تواصل المشهد الحالي المتميز بهيمنة شبه مطلقة لحركة النهضة المسنودة بأطراف إمّا مشاركة معها مباشرة في السلطة لكنها غير قادرة على تعديل سياستها و تغيير قراراتها و إمّا تمثل قوّة احتياطية غير مشاركة مباشرة في السلطة لكنها تتحرّك بكثير من الحريّة و تتصدّى للمعارضين و تخوض ضدّهم "حربا بالوكالة". مع معارضةغير مهيكلة و لا موحدة بما فيه الكفاية و بالتالي لا تشكّل سلطة مضادّة فعلا و هذا من شأنه أن يجعل الوضع الراهن يتواصل بكل ما فيه من انفلات أمني و غياب للاستثقرار و ما ينجر عن ذلك من مشاكل في مقدمتها تراجع الاستثمار و استفحال البطالة و تدهور مستوى العيش.
- ثاني السيناريوهات هو تكوّن ائتلاف لقوى تعدّ نفسها وسطية حداثيّة مناهضة للسلفية تدافع عن مكتسبات دولة الاستقلال في وجه التيارات التي تعتبرها متطرفة على يمينها و على يسارها. و هو ما ينسجم إلى حد كبير مع مبادرة الباجي قائد السبسي التي قد ينضم إليها بشكل رسمي الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي و هذا ما لا يرضي الجبهة الشعبية و النهضة و من شأنه أن يعيد البلاد إلى الوضع الذي كان سائدا قبل الثورة بما فيه من احتقان ينبئ بقرب الانفجار.
- ثالث السيناريوهات هو قيام تنسيق بين الجبهة الشعبية من جهة و ائتلاف ثلاثي متكون من الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي و نداء تونس من جهة أخرى و هذا من شأنه أن يدفع النهضة إلى مزيد الاقتراب من المجموعات التي تعد سلفية. و قد يفضي انشطار المجتمع إلى "علمانيين حداثيين " و "اسلاميين سلفيين" إلى صراع قد يتخذ أشكال عنف

مختلفة لا تسمح بحصول الاستقرار المأمول و قد يفضي في النهاية إلى حرب أهلية تتجاوز الرهانات فيها الإطار الوطني إلى الإطار الإقليمي المتميز بتمركز القاعدة في بلاد المغرب بجنوب الصحراء و نشاطها حتى في ليبيا و الجزائر الموجودتين على حدودنا.
- رابع السيناريوهات :هو قيام ائتلاف واسع على أساس توافقي ينأى عن الصراع بين الحداثة و السلفية و تكون فيه النهضة طرفا غير مهيمن و هذا يفترض:
-أولا: تمايزها بشكل معلن واضح عن المجموعات الدينية المتشددة و مطابقتها بين سلوكها السياسي و خطابها المعلن.
- ثانيا: تخلّيها عن نزعتها الهيمنيّة و سعيها إلى السيطرة على مفاصل الدولة.
- ثالثا: قبول بقية الأطراف بها كشريك على أساس برنامج مرحلي واضح يلبّي احتياجات الشعب العاجلة.
لكنّ هذا السيناريوا الأخير الذي يبدو انسب من غيره يصعب تحقّقه حاليا لعدم إبداء بعض الأطراف أيّ استعداد لتهيئة الأرضية الملائمة له. و هذا ما يجعل المستقبل مفتوحا على شتى الاحتمالات.

الحامة في19-10-2012*


* تمّ الانتهاء من كتابة هذا المقال في 10-05-2012 و لم يتسنّ نشره في الإبان لذلك وقع تحيينه حتى يأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات و الأحداث التي حصلت بعد هذا التاريخ.
v
إعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية
المخاض العسير و خطر الإجهاض
عمّار العربي الزمزمي*
لقد أفرزت انتخابات المجلس التأسيسي وضعا سياسيّا يتميّز بهيمنة حركة النهضة بالأساس و حليفيها المؤتمر من أجل الجمهوريّة و التكتّل من أجل العمل و الحرّيات بدرجة أقلّ على الفضاء السياسي و تقلّص دور المعارضة التي يمنعها ضعفها و تشتّتها و عدم هيكلتها من الاضطلاع بدور سلطة مضادّة قويّة فاعلة تحول دون انتكاس الثّورة و انحرافها عن مسارها الصّحيح.
و منذ أن باحت صناديق الاقتراع بأسرارها و السّاحة السياسيّة الخاضعة لتجاذبات داخليّة و خارجيّة تشهد حراكا يعكس مساعي أحزاب و مجموعات و تيّارات سياسية مختلفة إلى إعادة التّموضع. و لا يمكن فهم هذه المساعي الرامية إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية إلا بالعودة إلى الوراء و النظر في الوضع الذي كانت عليه قبل الثورة و المسارات التي اتّبعتها لاحقا.

النّفق المسدود قبل الثورة

كانت الحياة السياسيّة قبل الثورة مشلولة. فقد دخلت تدريجيّا إلى نفق مسدود جرّاء هيمنة دوائر السلّطة الحاكمة على المجال السياسي الذي انحسر إلى ابعد الحدود بفعل عاملين:
الأوّل: انتفاء صفة الحزب السياسي عن "التجمّع الدّستوري الدّيمقراطي" الذي سرعان ما فقد كلّ حياة داخليّة يحتاجها تجمّع حقيقي من المفروض أن تتعايش داخله قوى مختلفة يجب التوفيّق بينها. فأصبح الحزب أسير دائرة ضيّقة من دوائر السلطة أشبه ما تكون بعصابة مافيا بدل أن تكون السلّطة بيد حزب حاكم يوجّهها.


* ناشط سياسي مستقل.

الثاني: تشكيل معارضة على المقاس حدّدت السلطة الأحزاب التي تمثّل توجّهاتها و ربّما اختارت الأشخاص الفاعلين فيها بشكل جعل المواطنين أمام ثلاثة خيارات كلّها مرّة: إمّا الانتماء إلى حزب لا يتماشى تماما و توجهاتهم و لا يستجيب لطموحاتهم و إمّا الانضمام إلى حزب محظور ينشط في السريّة و إمّا البقاء مستقلّين بدون أيّ انتماء تنظيمي.
وقد استطاعت السّلطة تدجين أغلب الأحزاب المعترف بها فتحوّلت - بدرجات متفاوتة- إلى أحزاب موالاة يرسم البوليس السياسي حدود حركتها و مجال نشاطها. قلّة منها فقط استعصت على التّدجين. فعاشت تحت حصار خانق. أمّا الأحزاب المحظورة فتعرّضت عناصرها النشيطة إلى الملاحقة و المصادرة ممّا أفضى إلى اجتثاث بعضها من الساحة السياسيّة الدّاخليّة.
و كانت النّتيجة بقاء أغلب المتسيّسين خارج صفوف الأحزاب المتواجدة على السّاحة سواء المعترف بها التي تنشط في العلنيّة أو المحظورة التي تنشط في السريّة فانصرف كثير منهم إلى النّشاط في منظمات المجتمع المدني و هيئاته كالرّابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان و المنظمة التّونسية لمناهضة التعذيب و المجلس الوطني للحريات على سبيل المثال. و كان الاتحاد العام التونسي للشّغل و خصوصا هياكله القاعديّة(النقابات الأساسيّة) و الوسطى (الاتحادات المحليّة و الجهويّة ) أهمّ الأطر التي احتضنت هؤلاء الناشطين السياسيين المستقلّين إلى جانب العناصر التي لها انتماء حزبي طبعا.
و قد انخدع الملاحظون غير العارفين بحقيقة الوضع التونسي "بواحة أمن بن علي". ذلك أنّ "السلم الاجتماعي" و "الاستقرار" اللذين أفضيا إلى "الرّخاء" الموهوم تمّ التوصّل إليهما بإقامة واجهة برّاقة من الديمقراطيّة الخادعة تخفي وراءها آلة جهنّميّة تسحق الأفراد و المجموعات. و طالما وقع الحديث عن قدرة النموذج التونسي على احتواء التطرّف بشقّيه الإسلامي و اليساري علاوة على بعض المجموعات القوميّة "غير المنضبطة" و الانخراط في مسار حداثي.
و قد انساقت أغلب الأحزاب المعترف بها إلى هذا السيناريو الذي يقصي "المتطرفين" فاستظلّت بمظلّة نظام بن علي رغم أنّه ضيّق عليها الخناق حتى كتم أنفاسها و كاد يلغيها تماما.



الثورة أو الانفجار الهائل
في غياب قوى سياسيّة مهيكلة لها تقاليد عمل عريقة و أمام انسداد الأفق السياسي بشكل تامّ حصلت الثورة في شكل انفجار هائل ليس له قيادة مركزيّة بالرّغم من الدّور الأساسي الذي اضطلع به النّاشطون السياسيون المستقلّون و المنتمون إلى أحزاب سريّة راديكاليّة المتواجدون في الأطر النقابيّة و هيئات المجتمع المدني. و أفضى الانفجار إلى حصول مواجهة عنيفة بين عموم أبناء الشعب و فئاته و في مقدّمتهم الشباب من جهة و قوات الأمن التي كانت - بحكم العقيدة التي قامت عليها- في خدمة أقلية من المنتفعين من جهة أخرى.
و قد أظهر الحزب الحاكم بمختلف هياكله و تشكيلاته عجزا عن مواجهة الأحداث فضلا عن التحكّم فيها. فانهار و أصيب بالشلل التام رغم محاولات بعض عناصره القيام بتحركات في الخفاء هنا و هناك. كما أظهرت الأحزاب المعترف بها قصر نظر بلغ أحيانا حدّ العمى السياسي. فبعضها ظلّ حتّى آخر لحظة يراهن على قدرة السّلطة على قمع التحرّكات الشعبيّة التي اعتبرها نوعا من الفوضى و أدانها. و بعضها الآخر تمسّك بعد هروب بن علي بحكومتيْ الغنّوشي الأولى و الثانية و وقف في وجه القوى الدّاعية إلى مواصلة التحرّكات لتحقيق أهداف الثورة التي منها تصفيه النظام السابق و إزاحة رموزه من موقع المسؤولية و القرار.

الانفجار التنظيمي و حدود نتائجه

عرفت السّاحة السياسيّة تكوّن عدد هائل من الأحزاب التي توالدت كالفطر. و هذا طبيعي في بلد كان المواطنون فيه محرومين من حقّ التنظّم. غير أنّ هذا الانفجار التنظيمي لم بغيّر المشهد السياسي لأنّ هذه الأحزاب الجديدة لم تستطع استقطاب الكثير من المستقلين. فأغلبها لا يتعدّى نشاطها حدود جهة بعينها و خصوصا العاصمة و قد لا يتعدّى حدود العناصر المؤسسة لها. لذلك كاد نشاطها ينحصر -في أفضل الحالات- في التصريحات على صفحات الجرائد و أمواج الأثير و شاشات الفضائيات.
حركة النّهضة التي كانت محظورة و قياداتها تعيش في المنافي هي الحزب الوحيد الذي استطاع أن يستعيد مواقعه التي تخلّى عنها في ظلّ المنع و الملاحقة و أن يعيد بسرعة هيكلة

نفسه و أن يحقّق انتشارا غير مسبوق و جد ترجمته في فتح مقرّات في كلّ ركن من تراب البلاد.
و في غياب قاطرة سياسيّة حقيقيّة تقود المرحلة الانتقاليّة بكيفيّة تجعلها تحقّق أهداف الثورة تكوّنت بعد سقوط حكومة الغنّوشي حكومة الباجي قائد السبسي الذي بدا للبعض منقذا و للبعض الآخر رجل سياسة لا يمثّل الثورة و لا يلبّي طموحاتهم لكن يمكن قبوله لوجود شبه توافق عليه. و قد مثّل وجوده على رأس الحكومة مفارقتيْن:
الأولى أنّ حكومة منبثقة عن "ثورة شباب" يرأسها شيخ طاعن في السنّ يضاف إلى رئيس جمهوريّة مؤقت هو أيضا من الشيوخ!
الثانية أنّ من لم يشارك في الثورة توكل إليه مهمّة تحقيق أهدافها!
و لعلّ هذا الخلل ناتج عن الظروف و الملابسات التي أحاطت ببعث "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الإصلاح السياسي و الانتقال الدّيمقراطي". فأوّل انتكاسة أصابت الثورة و أحدثت منعرجا خطيرا في مسيرتها تمثّلت في الكيفية التي تأسّست بها هذه الهيئة سواء في ما يتعلق بالتركيبة أو بالصلاحيات.
كان من المفروض أن تكون إطارا يوحّد القوى الفاعلة التي لها مصلحة في الذهاب بعيدا في تصفية بقايا النظام السابق و أن تضمّ علاوة على ممثلين عن مختلف الحساسيات السياسية ممثلين حقيقيين عن الجهات و أن يكون لها صبغة تقريريّة لا استشاريّة فحسب.غير أنّها ضّمت قوى و عناصر غير متجانسة لها أهداف مختلفة بعضها لم يكن له أي دور في الثورة و بعضها الآخر كان-ربما- من الذين اعترضوا على مواصلة التحرّكات الشعبيّة لتحقيق أهدافها كالاعتراض مثلا على اعتصاميْ القصبة الأول و الثاني اللذين أطاحا بحكومة الغنوشي.
و في ظل هذا الوضع بدأت الشعارات الحزبية تظهر و الانقسامات تطفو على السطح و حصلت تجاذبات و صراعات داخل الهيئة و خارجها ممّا جعل المسار الانتقالي يتعثّر فلم يُسجّل تقدم يذكر في تحقيق المطالب التالية :
- محاسبة القتلى و الفاسدين.
- ردّ الاعتبار للضحايا و المظلومين و تعويضهم.
- تطهير الأجهزة الأمنية و إعادة صياغتها وفق عقيدة جديدة.
- تطهير الإدارة و المؤسسات من العناصر الفاسدة.

- تطهير الإعلام و تحريره.
- تحقيق استقلال القضاء و تطهيره من العناصر الفاسدة.
لعّل أهمّ إنجاز تحقّق هو بعث هيئة عليا مستقلة للانتخابات التي تمّ الاتفاق على موعدها بعد أخذ و رد طويلين (23 اكتوبر2011 ).

انتخابات المجلس التأسيسي و الحقائق التي كشفتها

وضعت الانتخابات عددا هائلا من الأحزاب في سباق غير متكافئ. فأغلبها تكوّن حديثا و بالتالي تعوزه الطاقات البشرية و الموارد المالية. و نظرا لضيق الوقت - و ربما لقصر النظر و الخطإ في الحسابات بالنسبة للبعض- لم يحصل تنسيق و عمل جبهوي فدخل أغلب الأحزاب السباق منفردا معوّلا على قواه الذاتية المحدودة.
و كانت النتيجة استئثار حزب حركة النهضة بـ 40 % من مقاعد المجلس التأسيسي و حصول المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات على حوالي 20 % منها. و إذا استثنينا قوائم "العريضة الشعبية" - التي كثر الجدل حول أسباب نجاح بعضها و الواقفين وراءها- فان بقية القائمات المستقلة و الأحزاب حقّقت نتائج هزيلة عموما.
و القراءة المتأنية لنتائج الانتخابات توقفنا على النتائج التالية:
أولا: حركة النهضة هي الحزب الوحيد الذي حصل على أغلبية الأصوات في اغلب الدوائر الانتخابية.
ثانيا: بقية الأحزاب –و القائمات المستقلة- وصلت المجلس التأسيسي في الغالب بواسطة أفضل البقايا.
ثالثا: المال السياسي الذي كثر عنه الحديث لم يكن دائما محدّدا في النجاح فبعض الأحزاب التي أنفقت المال بسخاء لم تحقّق بالضرورة نتائج إيجابية ممّا يدّل على أنّه لا يكفي وحده لتحقيق الفوز في الانتخابات.
رابعا: الإقبال غير المعهود للتونسيين على صناديق الاقتراع لا يجب أن يخفي إنّ نسبة المقترعين لم تتجاوز 45 % من الذين يحق لهم الاقتراع.
خامسا: حوالي نصف المقترعين ضاعت أصواتهم إذ لم يفلحوا في إيصال ممثلين عنهم إلى المجلس التأسيسي مما يدل على وجود خلل في النظام الانتخابي.

سادسا: الأحزاب الثلاثة الحاصلة على حوالي ثلثي مقاعد المجلس التأسيسي حصلت على اقل من مليوني صوت.
شرعيّة الصناديق و إشكاليات الواقع:
اعتقد كثيرون بأنّ الانتخابات ستضع حدّا للمشاكل التي تعيشها البلاد لأنّ الفائزين فيها -بحكم شرعية صناديق الاقتراع- سيتمكنون من فرض سلطة القانون و إدارة شؤون البلاد بسهولة. لكنّ الأحداث أظهرت العكس. فقد كثرت الإضرابات و الوقفات الاحتجاجيّة و الاعتصامات التي كثيرا ما تحوّلت إلى مصادمات عنيفة بين المواطنين و قوات الأمن و يعود تفاقم الصعوبات التي واجهتها الحكومة المؤقتة الى عوامل في مقدّمتها قصورها عن التسيير و عجزها عن إدارة المرحلة الانتقالية بشكل منفرد. فالثالوث المكوّن لها لم يشكّل حكومة تصريف أعمال تضم تكنوقراطيين أو حكومة وحدة وطنية تضم أهم الأطياف السياسية و إنّما اختار تكوين حكومة ذات ألوان سياسية تضمّ ثلاثة أطراف فقط و من أبرز نقاط ضعفها أنّها لم تقم على أساس برنامج سياسي واضح و إنّما قامت على المحاصصة الحزبية و لعلّ ذلك ما جعل عدد أعضائها كبيرا و الوقت الذي استغرقه تشكيلها طويلا.
وقد شعرت المعارضة منذ البداية بأنها مهمّشة في صلب المجلس التأسيسي و أنّ "الحلّ و العقد" بيد نواب الثالوث الذين يضعونهم في النهاية أمام الأمر المقضي. و بدأ أعضاء الحكومة و أحزاب الثالوث يتحدثون عن مؤامرة لإسقاط الحكومة حينا و عن تعطيل عملها و عمل المجلس حينا آخر و اعتبروا كل نقد لهم انحرافا عن أهداف الثورة كما لو كانوا هم الممثلين الحقيقين لها دون سواهم.
أقلّ ما يقال في أداء "الترويكا"(الثالوث) -سواء في مجال العمل الحكومي أو في إطار المجلس التأسيسي- أنّه كان هزيلا.فقد كان من المفروض - في هذه المرحلة الانتقالية الثانية - أن يتركّز العمل بدرجة أولى على كتابة الدستور الجديد دون إغفال مهام أخرى منها :
أوّلا: إعطاء دفع للمسار الانتقالي بكيفية تهيّئ الظروف الملائمة لإجراء انتخابات تشريعية و رئاسية تنبثق عنها سلط دائمة و هذا يقتضي بعث لجنة عليا مستقلة للانتخابات و صياغة قانون انتخابي و تحقيق استقلال القضاء و تحرير الإعلام و تطوير منظومته و إعادة صياغة المنظومة الأمنية وفق عقيدة جديدة و إصلاح الإدارة و وضع أسس متينة للعدالة الانتقالية و ذلك ببعث لجنة مستقلة يخضع عملها إلى تشريعات واضحة.


ثانيا: إقرار إجراءات عاجلة تلبّي الحاجيات الملحّة للفئات و الجهات المحرومة حتى تشعر بأنّ أوضاعها آخذة في التحسّن و لا تصاب بالإحباط الذي لا يمكن التكهّن بما قد ينجرّ عنه من نتائج.
ثالثا: تحقيق الأمن و الاستقرار بشكل يجعل المواطنين مطمئنين على أرواحهم و ممتلكاتهم.
لكن لا شيء من هذه المهامّ تحقّق بل زادت الأوضاع سوءا فارتفع عدد العاطلين عن العمل و زادت نسبة التضخّم و انكمش الاستثمار و تدهورت الخدمات و ارتفعت الأسعار بشكل جنوني و كثرت الاعتداءات و استفحلت ظاهرة العنف. والأخطر من ذلك أنّ مهلة السنة التي حدّدها المرسوم الدّاعي لانتخابات المجلس التأسيسي و أكّدها البيان الذي وقّع عليه أحد عشر حزبا من ضمنها النهضة و التكّتل كأجل أقصى للفراغ من كتابة الدستور و تنظيم الانتخابات تنتهي في 23 أكتوبر الحالي. و مع اقتراب الموعد احتدّت الصراعات و كثرت التجاذبات فالائتلاف الحاكم ليس في عجلة من أمره و لا يرى في تجاوز هذا الأجل إشكالا لأنّ المجلس التأسيسي سيّد نفسه حسب رأيه أمّا في صفوف المعارضة فمن قائل بأنّ الشرعية الانتخابية تنتهي في هذا التاريخ ممّا يستوجب إحلال شرعية توافقية محلّها حتى لا يحصل فراغ إلى قائل بأنّ الشرعية الانتخابية التي أضرّ بها الأداء الهزيل يجب أن ترمّم بشرعية توافقية لكن كيف و على أي أساس؟
إنّ ما قاد إلى هذا المأزق هو تفرّد الائتلاف الحاكم بالقرار في فترة تحتاج إلى توافق واسع. و تتحمّل حركة النهضة القسط الأوفر من المسؤولية بوصفها الطرف المهيمن داخل الائتلاف الحاكم. و يمكن رصد بعض تجليات هذه النزعة الهيمنيّة من خلال ما يلي:
أولا: تصرفت النهضة التي انتخبها أقل من 20 % من الذين يحقّ لهم الانتخاب كحزب يمثل السواد الأعظم من الشعب التونسي. فبدل أن تعمل على صياغة دستور توافقي يجد فيه الغالبية العظمى أنفسهم سعت لتكريس مواقفها الحزبية الضيقة فطرحت مجدّدا مسالة التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع بعد أن كانت تخلّت عن ذلك في برنامجها السياسي و حملتها الانتخابية. و لم تتراجع إلاّ بعد أن حصلت بلبلة كادت تعصف بوحدة البلاد الهشة و في ما يتعلق بالنظام السياسي الذي سيقع إقراره أظهرت حركة النهضة تمسّكا غريبا بالنظام البرلماني رغم رفض بقية الأطراف له بدون استثناء و هددت باللّجوء إلى استفتاء الشعب في المسألة مادام المعارضون لها لا يمثلون الثلثين المطلوبين لتمرير أيّ مقترح آخر. و حاولت حركة النهضة تمرير مفهوم التكامل بين الرجل و المرأة للالتفاف

على مفهوم المساواة بين الجنسين و لم تتراجع إلا بعد أن واجهتها قوى المجتمع المدني و خصوصا النساء بردّ فعل قوي . كما حاولت حركة النهضة - باسم الخصوصية - ضرب مقولة الطابع الكوني لحقوق الإنسان و علويّة المواثيق الدولية التي تنص عليها.
ثانيا: أقدمت الحكومة المؤقتة التي تهيمن عليها النهضة على إقالة عدد كبير من المسؤولين الإداريين - كالولاة و المعتمدين و مديري المؤسسات و رؤساء المصالح - و تعويضهم بعناصر نهضوية ضاربة بذلك عرض الحائط بمطلب شعبي يتمثل في تحقيق حياد الإدارة و اعتماد مبدأ الكفاءة دون سواه في تعيين المسؤولين و مبرهنة عن رغبة واضحة في السيطرة على مفاصل الدولة. و لم تغضب النهضة بسلوكها هذا المعارضة فحسب و إنما أغضبت أيضا شريكيها في السلطة و كثيرا ما رفض العاملون بالمؤسسات و المواطنون هذه التعيينات و أجبروا السلطة على التراجع و من أمثلة ذلك والي سيدي بوزيد.
ثالثا: تعاملت وزارة الداخلية التي يوجد على رأسها نهضوي مع المخالفين باعتماد سياسة المكيالين. فقد تغاضت عن ممارسات من يسمونهم "السلفيين" إلى درجة تركهم يعطلون الدروس بكلية الآداب بمنوية لفترة طويلة و يدنسون الراية الوطنية و يعتدون بالعنف على الفنانين في اليوم العالمي للمسرح و يمنعون بالقوة المثقفين و الناشطين من إلقاء المحاضرات و إقامة الندوات(من أبرز الأمثلة على ذلك إفساد التظاهرة التي أقيمت ببنزرت في يوم القدس بمشاركة عميد الأسرى اللبنانيين المحرّر سمير القنطار) و قد طال العنف حتى أحد مؤسسي حركة النهضة وهو الشيخ عبد الفتاح مورو. و بالمقابل تصدّت وزارة الداخلية و أجهزتها الأمنية بالعنف الشديد للذين أرادوا الاحتفال بعيد الشهداء في شارع بورقيبة و للجرحى و عائلات الشهداء الذين جاءوا إلى وزارة حقوق الإنسان للتعبير عن تدهور أوضاعهم جرّاء الإبطاء في حلّ مشاكلهم العالقة. وبالعنف نفسه تمت مواجهة المعطّلين عن العمل من حملة الشهادات و المشاركين في المسيرة التي قام بها أبناء سيدي بوزيد من منطقتهم إلى العاصمة للمطالبة بالتنمية قبل أن يصبح قمع التحركات الشعبية خبزا يوميا (نذكر على سبيل المثال ما حصل بسيدي حسين من ملاحة رادس و الحنشة و طينة بصفاقس و حي العمران بمنزل بوزيان و قلالة بجربة).
و هذه الازدواجية في التعامل مع مختلف الأطراف حسب قربها و بعدها من حركة النهضة و السلطة عموما مؤشر على توظيف الأمن في خدمة أغراض حزبية بدل أن يكون أمنا جمهوريا بعيدا عن التجاذبات الحزبية. والجميع يعرف اليوم ما قاد إليه هذا السلوك السياسي

حين تعرّضت السفارة الأمريكية بتونس إلى الاقتحام فالارتباك و عدم تحديد موقف واضح ممن يسمون "السلفيين" هو الذي جعل الأمن عاجزا عن احتواء الموقف.
رابعا: بغضّ النظر عن مدى شرعيّة التحرّكات التي تمّت مواجهتها بالقوة أو عدم شرعيتها فإنّ العنف تحوّل إلى قمع بلغ درجات قصوى تذكّر بما كان يحصل قبل الثورة.
خامسا: تواترت حالات التعذيب أثناء الإيقاف و الاستنطاق و سجّلت حالات وفاة مما جعل المنظمات الحقوقية تطلق صيحات فزع و تشكّك في أن يكون ما حصل حالات معزولة و سلوكات فردية.
سادسا: ظهرت مجموعات نعتها البعض بالمليشيات تصول و تجول دون رادع تعتدي على المتظاهرين حتى من أعضاء المجلس التأسيسي و إطارات الأحزاب السياسية الممثلة داخله. و من أبرز غزواتها غزواتها الهجوم على مظاهرة 9 أفريل و على العاملين بالإذاعة و التلفزة الوطنية في عقر دارهم بعد اعتصام دام شهرين شكلّ ضغطا رهيبا على الإعلاميين بدعوى الاحتجاج على ما يسمونه "إعلام العار".
سابعا: عمدت وزارة الداخلية إلى إعفاء ضباط أمن دون أن تقدم لهم مبررات واضحة أو أن تحيلهم على العدالة.
ثامنا: سعت وزارة العدل التي على رأسها نهضوي إلى إحكام قبضتها على القضاء و الحيلولة دون التقدم خطوة على طريق استقلاليته فقد عطلت بعث مجلس مؤقت للقضاء و أعادت إلى الحياة المجلس الأعلى للقضاء المقبور و أوكلت إليه على حدّ قولها مهمّة النظر في حركة القضاة و توخّت إعفاء العشرات دون تقديم مبررات واضحة أو إتاحة الفرصة للمعنيين بالأمر لتظلّم حقيقي أو محاكماتهم و تركت القائمة "السوداء" مفتوحتا حتى تكون سيف مسلطا على القضاة الذين لا ينصاعون لأوامرها.
تاسعا:صمّمت الحكومة على وضع يدها على وسائل الإعلام العمومي و تركيع الإعلاميين العاملين بها فقد رفضت تفعيل المرسومين 115 و116 في انتظار تنقيحهما أو تعويضهما بتشريعات جديدة و دفعت أعضاء اللجنة العليا لإصلاح الإعلام إلى تقديم استقالاتهم بعد أن أدركوا أنّها غير مستعدة لأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار كما عمدت الحكومة إلى تعيين مسؤولين غير مرغوب فيهم من العاملين معهم على رأس مؤسسات إعلامية عمومية و من أبرز الأمثلة على ذلك ما حصل بالتلفزة الوطنية و بجريدة الصباح التي تجنّد صحافيوها و عمالها للدفاع عنها و عن حرية الإعلام عامة فتضامن معهم بقية الإعلاميين في تونس

و خارجها و أصبحت قضيّتهم قضيّة رأي عام. وتوّج الحراك بشنّ كافة وسائل الإعلام التونسية لإضراب عام يوم 17 أكتوبر كان له صدى كبير عربيا و دوليا. و حتى المؤسسات الخاصة لم تسلم من الضغوط بحجب الإشهار العمومي عنها و حرمانها من حقها الطبيعي فيه.
الحراك الحزبي: الرّهانات و العوائق:
تختلف رهانات الائتلاف الحاكم عن رهانات المعارضة. فالنهضة و حليفاها يراهنون على بقاء الائتلاف الحكومي متماسكا بشكل يحقّق الاستقرار حتى يتسنّى لهم استثمار أدائهم في السلطة المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية لمزيد التمكّن و الانتشار و كسب الأنصار استعداد للموعد الانتخابي القادم. أمّا أحزاب المعارضة فتراهن على استثمار أخطاء السلطة و ضعف أدائها لتقدّم نفسها كبديل ممكن لها. و هي تعمل على تحقيق أشكال توحّد مختلفة قد تفضي إلى قيام أقطاب قادرة على تشكيل قوة مضادة للائتلاف الحاكم. غير أن هذه الرهانات محفوفة بالمحاذير و المنزلقات.
في صلب الائتلاف الحاكم:
إنّ الائتلاف ليس من الصلابة و التماسك بحيث يستطيع الصمود في وجه كلّ الأزمات فالنهضة تختلف عن شريكيها من حيث المنطلقات السياسية و المرجعيات فهي حركة ذات مرجعية دينية في حين أن المؤتمر من أجل الجمهورية و التكتل من أجل العمل و الحريات محسوبان على الحركات ذات المرجعية العلمانية و في غياب برنامج سياسي مشترك سرعان ما حصلت خلافات بين حركة النهضة و شريكيها كادت تعصف بهذا التحالف غير الطبيعي في رأي الكثرين و أبرز أزمة مرّ بها الائتلاف نتجت عن تسليم الحكومة للمسؤول الليبي السابق البغدادي المحمودي للسلطة الليبية الجديدة دون إعلام رئيس الجمهورية فقد آثار ذلك جدلا طويلا حول صلاحيات كل طرف. و قد انعكست هذه الخلافات على شريكي النهضة اللذين عرفا بدورهما صراعات داخلية أفضت إلى حصول استقالات و انشقاقات شملت حتى أعضاء بالمجلس التأسيسي و يرى هؤلاء بأن هذين الحزبين تحوّلا إلى حزبي موالاة و تذيّلا للنهضة. و قد يبقى هؤلاء مستقلين و قد يلتحقون بأحزاب وسطية بعيدة عن النهضة.
شمل الحراك أيضا النهضة رغم عدم حصول انشقاقات معلنة. فقد انضم جزء من قواعدها إلى حزب التحرير و المجموعات التي تسمى "سلفية" و هؤلاء يؤاخذون النهضة

على ما يعتبرونه تخلّيا عن مرجعيتها الإسلامية و تحوّلها إلى حركة علمانية لائيكية حسب رأيهم. و لا يبعد عن هؤلاء كثيرا جزء من الإطارات الوسطى و حتى العليا الذين مازالوا يأملون في جعل الحركة تتمسك بثوابتها. و يقول بعض قياديي النهضة بأنهم خسروا فعلا جزءا من قاعدتهم التقليدية لكنهم كسبوا بالمقابل أنصارا جددا أكثر من الذين خسروهم. و ربما يكون هؤلاء من الذين اعتادوا الانتماء إلى حزب السلطة أيّا كان توجهه و اختياراته و هؤلاء لا يعوّل عليهم في الأزمات. و لئن مثلّ أنصار حزب التحرير و سائر المجموعات التي تعدّ "سلفية" لحد الآن قوّة احتياط في الانتخابات فلا أحد يستطيع التكهّن بالاتجاه الذي ستتطور فيه العلاقة بين الطرفين مستقبلا خصوصا بعد اقتحام السفارة الأمريكية و ما كان له من تداعيات في الداخل و الخارج. فأمريكا بدأت تضغط على النهضة التي تعتبرها معتدلة حتى تتعامل بحزم مع من تعتبرهم متشددين أو متطرفين. و بالفعل قام وزير الداخلية بإيقاف المئات منهم و وعد بالحزم في التعامل معهم غير أن أخبارا تروج بأن كثيرا منهم أطلق سراحهم. كما جاءت تصريحات رئيس حركة النهضة مختلفة إلى حدّ التضارب بحسب الإطار و المناسبة. و قد أصبح من الصعب تصديق خطاب النهضة بعد الاستماع إلى ما تضمّنه شريط الفيديو الأخير من كلام توجّه به راشد الغنوشي منذ أشهر إلى مجموعة من "السلفيين". لقد أكّد صحة اتهام خصوم النهضة لها بازدواجية الخطاب. لم يعد من الممكن الحديث عن جناح يؤمن بالدولة المدنية و الديمقراطية و آخر مازال متشبثا بالدولة الدينية. كل ما في الأمر أن اللذين ينعتون بالمتشددين يعلنون مواقفهم في حين أن اللذين ينعتون بالمعتدلين يخفون نواياهم الحقيقية و يتّبعون سياسة المراحل في تنفيذ مخططاتهم الرامية إلى إقامة الدولة الدينية. و بناءا على هذا يصبح تعاملهم مع "السلفيين" قائما على تقاسم الأدوار! و إذا كانت حركة النهضة تضم ديمقراطيين حقيقيين فما عليهم إلا أن يعبروا عن وجودهم بإدانة مواقف رئيس حركتهم و التمايز معها.
في صلب المعارضة:
- "العريضة الشعبيّة": بعض عناصرها أعلنوا انسلاخهم عنها و البقيّة يخضعون لتجاذبات لا أحد يستطيع التكهّن بمآلها.
- الأحزاب التي تعتبر نفسها "وسطيّة":
• الحزب الجمهوري: يبدو أنّ الأحزاب التي سعت إلى الانصهار في صلب هذا الحزب الجديد -وخصوصا التجمع الديمقراطي التقدمي- تعيش أزمة عميقة وصلت حدّ الانسلاخ

و الانشقاق بالنسبة للبعض الذين ينكرون على إخوة الماضي تخليهم عن النهج النضالي و تقاربهم مع شخصيات و قوى جسورها ممدودة مع رموز من العهد السابق و من الصعب أن يكوّن هذا الحزب قطبا مهما إذا لم يرتبط بقوى و أحزاب أخرى. و يجب أن ننتظر ما سوف تسفر عنه الاتصالات الجارية بينه من جهة و بين المسار الديمقراطي الاجتماعي و نداء تونس من جهة أخرى.
• الأحزاب المنبثقة عن التجمع الدستوري بشكل أو بآخر:
تعيش هذه الأحزاب سواء كانت مرجعيتها الدستورية معلنة أم لا مشاكل منها ما يتعلق بالزعامة و منها ما يتجاوزها إلى الموقف من الإرث القديم المشترك و مدى الاستعداد للقطع معه.
و أهم مبادرة ظهرت لحد الآن على الساحة مبادرة الباجي قائد السبسي التي أفضت إلى تكوين حزب نداء تونس الذي سرعان ما تحوّل إلى قطب سياسي يخشاه الائتلاف الحاكم و أطراف في المعارضة على حدّ سواء متهمين إيّاه بالسعي إلى بعث التجمع في ثوب جديد. و لا إن بدأ هذا الحزب يشق طريقه بسرعة فإنه يواجه إشكاليات عديدة منها :
- صعوبة التوفيق بين أطراف متباعدة إلى حدّ التنافر. فبعض الرموز الدستورية و التجمعية (مثل كمال مرجان و محمد جغام) لم تلتحق بصفوفه. و كثير من اللذين لا يجدون أنفسهم في بقية الأحزاب يؤاخذون السبسي و أمثاله على عدم تقديمهم لنقدهم الذاتي و تمايزهم مع ما تسلّط على الشعب التونسي من استبداد لا في عهد بن علي فحسب و إنما حتى في عهد بورقيبة أيضا.
- تعرّض تحرّكات قادته و إطارته للمضايقات خصوصا في الجهات حيث تمّ منعهم من عقد اجتماعات عامة و الاعتداء على بعضهم بالعنف و أخطر حادث حصل لحدّ الآن هو قتل منسقه بتطاوين يوم18/10/2012 على يد ميليشيا إرهابية نصّبت نفسها حامية للثورة أثناء مظاهرة تطالب بما تسميه تطهير الإدارة من رموز الفساد.
- صعوبة التكهن بنتائج القانون الذي يزمع الائتلاف الحاكم تمريره و القاضي بحرمان من تحمّل مسؤولية في صلب التجمع الدستوري من المشاركة في الحياة السياسية.
و تبقى قدرة نداء تونس على الانتشار مرهونة بمدى قدرته على عقد تحالفات مع قوى أخرى مثل الجمهوري و المسار.


- الأحزاب القومية:
مازالت محاولات التوحيد التي حصلت(كالتي شهدتها حركة الشعب أو تلك التي أسفرت عن قيام "الجبهة الوطنية التقدمية ") لم تفض بعد إلى تكوّن قطب قومي قوي فاعل. و مما يعوق ذلك -علاوة على الصراع على الزعامة الذي هو من القواسم المشتركة بين مختلف الأحزاب و التوجهات- تمسك كل مجموعة بمرجعياتها الفكرية التقليدية فبعض القوميين مازالوا متمسكين بالناصرية و بعضهم مازالوا متمسكين بالبعث و بعضهم الآخر مازالوا ربما متمسكين باللجان الثورية الليبيّة و لم يتخلص الجميع من النزعة الفئوية التي تجعلهم -كمجموعات اليسار - أشبه ما يكونون بالملل و النحل في حين أن المطلوب هو القيام بنقد جذري لتجارب النظم القوميّة في السلطة و اتخاذ موقف نظري واضح من النظم السياسية الشمولية التي تتدثّر بعباءة الوطنية و مناهضة الصهيونية و الامبريالية لتغلق الباب في وجه الاستحقاقات الديمقراطية.
و لئن التحقت مجموعات قليلة من القوميين بالجبهة الشعبية فان البقية مازالت لم تحدد موقفا واضحا من التحالفات مع الأقطاب القائمة على الساحة و هذا ما يجعل وزنها غير كبير.
- اليسار:
• المسار الديمقراطي الاجتماعي: مازالت حركة التجديد التي انبثقت عن الحزب الشيوعي التونسي تبحث عن ذاتها. فبعد القطب الديمقراطي الحداثي الذي حقق نتائج هزيلة في انتخابات المجلس التأسيسي هاهي تسعى إلى توسيع قاعدتها بالتوحدّ مع بعض المستقلين و حزب العمل الذي هو حديث عهد بالتكوين. و هي تؤمّل من وراء ذلك استقطاب جزء من القاعدة العمالية لأنّ مؤسسي حزب العمل إطارات نقابية لكن قبل أن يحصل امتداد جغرافي حقيقي لهذا المولود الجديد خضع حزب العمل إلى تجاذبات كشف عنها مؤتمره الأخير فقد اعترض شق منه على الدخول في المسار و يقال بأنه على استعداد للتقارب مع الائتلاف الحاكم و خصوصا حركة النهضة. و التقارب حاصل بين المسار و الجمهوري وهما يتناقشان مع آفاق تونس من جهة و مع الجبهة الشعبية من جهة أخرى.




• أقصى اليسار القابل بقواعد اللعبة الديمقراطية :
توجد مجموعات يسروية –خصوصا في الأوساط الطلابية- تضع كل الأحزاب اليسارية المتواجدة على الساحة في كيس واحد وتعتبرها تحريفية و إصلاحية و لا مجال للحديث عن هذه المجموعات هنا بل سيقع الاقتصار على التنظيمات التي لها وجود علني قانوني و تنخرط في الحياة السياسية .
- التيار الوطني الديمقراطي: لئن نجحت حركة الوطنيين الديمقراطيين و حزب العمل الوطني الديمقراطي بالتوّحد و تكوين حزب جديد فإن "حمّى" التوحّد مازالت لم تبلغ كل "الأشقاء الوطنيين" فضلا عن فصائل أخرى من أقصى اليسار.
- حزب العمال: لئن تخلى عن مرجعيته الشيوعية المعلنة فلا حديث لديه عن انصهار مع فصائل يسارية أخرى و إنما هاجسه الأساسي هو بناء جبهة تتجاوز حدود اليسار و هذا ما تم له بقيام الجبهة الشعبية.
و عدم انصهار اليسار بمختلف فصائله في حزب واحد-يسمح بالجدل الفكري و تباين المواقف – يجعل انخراطه في عمل جبهوي حقيقي في إطار أوسع مهمة بالغة الصعوبة و التعقيد فضلا عن أن أزمة اليسار ليست فقط أزمة تشرذم و إنمّا هو بحاجة كالتيار القومي إلى إعادة النظر في علاقته بمرجعياته و اتخاذ مواقف واضحة من التجارب العالمية في بناء الاشتراكية و خصوصا في ما يتعلق بالديمقراطية و حقوق الإنسان إضاقة إلى تجاوز النخبويّة و التصالح الحقيقي مع الهوية.
-الجبهة الشعبية : شهد يوم 07/10/2012 ميلاد تكتل سياسي جديد ضمّ أحزابا يسارية و وسطية و أخرى قومية سبق أن كوّن أغلبها جبهة 14 جانفي التي ولدت شبهة ميتة بعيد الثورة. الجديد هذه المرة أن الجبهة الشعبية فتحت أبوابها على مصراعيها للمستقلين على اختلاف مشاربهم و قنّنت تواجدهم في هياكلها الوطنية و الجهوية و المحلية و القطاعية من خلال القبول بتنسيقية خاصة بهم ممثلة فيها. و قد طرحت الجبهة على نفسها مهمة كسر الاستقطاب الثنائي الناشئ بين حركة النهضة و نداء تونس، و قادتها يتحدثون عن جبهة قادرة على حكم البلاد عل أساس برنامج يتضمن حدا أدنى يمكن أن تلتف حوله الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب التونسي و يصعب حاليا التكهن بمدى قدرة هذا المولود الجديد منفردا على انجاز مهام طموحة كهذه.


و لئن بدا الاجتماع الجماهيري الحاشد الذي تم خلاله الإعلان رسميا عن ميلاد الجبهة واعدا و أفسح المجال واسعا أمام فئات كانت مهمّشة مثل المثقّفين و الإعلاميين والفنانين و نشطاء المجتمع المدني فإن النجاح الحقيقي يبقى مرهونا بمدى القدرة على إنجاز أمور أساسية منها :
• ضم كل القوى الشعبية الحية إلى الجبهة و إقناعها بصحة البرنامج المرحلي المطروح للانجاز.
• إيجاد توافقات مع قوى مدنية خارجة عن الجبهة (و قد دعا منسق شيكة دستورنا إلى قيام تنسيقية بين الجبهة و قوى مثل الجمهوري و المسار مثلا) .
• إقامة هياكل تنظيمية صلبة يتم فيها تجاوز الفئوية و التجاذبات الحزبية و التجند للانجاز برنامج الجبهة .
• مزيد الانفتاح على العمق الشعبي بتحقيق الانتشار الجغرافي لا في العاصمة و المدن الكبرى فحسب و إنما في المناطق الداخلية أيضا بمدنها الصغرى و أريافها عبر تواجد حقيقي على الأرض أكثر فاعلية من المنابر الإعلامية التقليدية.
• إيجاد مصادر تمويل شفافة تسمح بحد أدنى من الموارد يكفي لتغطية أنشطة الهياكل و الأعضاء و القيام بالدعاية الضرورية.

آفاق المستقبل و السيناريوهات المحتملة:
ثمّة قناعة لدى المعارضة بمختلف أطيافها و توجّهاتها بأن المسار الانتقالي مهدّد بالانتكاس أن البلاد في عنق الزجاجة غير أن الائتلاف الحاكم يرى في ذلك مبالغة و مزايدات سياسية و إن سلّم بوجود صعوبات. و تعددت المبادرات الداعية إلى إيجاد مخرج من المأزق الحالي. فالثالوث يسعى إلى توسيع الائتلاف الحاكم لكنه غير مستعد لقبول بعض الأطراف مثل نداء تونس الذي يعتبره رئيس حركة النهضة أشدّ خطورة على مستقبل البلاد من "السلفيين" في حين ترى أطراف في المعارضة أن المطروح ليس توسيع الائتلاف الحاكم و إنما تقليص عدد الوزراء و تشكيل وزارة أزمة و إسناد الحقائب في وزارات السيادة إلى مستقلين محايدين إضافة إلى شيء أكثر أهمية و هو التوافق على خارطة طريق


تتضمن تحديد مواعد انجاز المهام التي تستدعيها المرحلة الانتقالية و أهم مبادرة قدّمت لحدّ الآن مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل التي دعت إلى عقد مؤتمر للحوار الوطني تحضره كل الأطراف السياسية سواء الموجودة في السلطة أو المعارضة إضافة إلى فعاليات المجتمع المدني و الشخصيات الوطنية. و انعقد المؤتمر فعلا –بعد خمسة أشهر من الانتظار- يوم 16 أكتوبر الجاري. و قد حضره حوالي خمسين حزبا سياسيا و عشرين جمعية و شخصيات وطنية بعضهم من الذين كانوا نوابا فاعلين في المجلس التأسيسي الأول الذي أعلن قيام الجمهورية و بنى مؤسسات دولة الاستقلال (منهم أحمد المستيري و أحمد بن صالح و مصطفى الفيلالي ) كما حضر أشغال الجلسة الافتتاحية محمد المنصف المرزوقي و مصطفى بن جعفر و حمادي الجبالي لا بوصفهم ممثلين لأحزاب الائتلاف الحاكم و إنما بوصفهم رؤساء الجمهورية و المجلس التأسيسي و الحكومة. و حضر ممثل عن التكتل من أجل العمل و الحريات في حين تغيب من يمثل الحزبين الحاكمين الآخرين النهضة و المؤتمر من أجل الجمهورية. و قد فسر هذان الحزبان تغيبهما برفضهما الجلوس مع ممثلي نداء تونس الذي يعدانه امتدادا للتجمع الدستوري المنحل. و اللافت للانتباه استباق الثالوث الحاكم انعقاد المؤتمر بالإعلان عن مبادرة هي عبارة عن توافقات حصلت بين مكوناته. و قد تم تسريب بعض محتويات المبادرة مثل:
-اختيار نظام سياسي مزدوج و هذا يعني تخلي النهضة عن النظام البرلماني الذي كانت متمسكة به.
-اقتراح 23 جوان 2013 كموعد للانتخابات التشريعية و الرئاسية المتزامنة.
-تفعيل المرسوم 116 المتعلق بالإعلام.
-الإبقاء على كمال الجندوبي على رأس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
و في غياب حزبين من أصل ثلاثة في السلطة اضطر الحاضرون الذين دعّموا مبادرة الاتحاد إلى الإعلان صراحة في البيان الذي صدر في نهاية الاجتماع "عن ترك الدعوة مفتوحة أمام الجميع للالتحاق بالمؤتمر الوطني" كما اقترحوا "بعث مجلس وطني للحوار يجتمع وفق روزنامة مضبوطة للتداول بشأن المسائل الخلافية و تبادل وجهات النظر بخصوص مختلف القضايا السياسية و الاجتماعية و الانمائية بغاية التوصل إلى توافقات بشأنها ".


و أيا كانت الخلافات و التجاذبات فإن الحراك الحاصل قد يفضي بشكل أو بآخر إلى الاتفاق قبل نهاية السنة الحالية على موعد إجراء الانتخابات و بعث لجنة عليا للانتخابات و صياغة قانون انتخابي و تشكيل مجلس أعلى مؤقت للقضاء و قد يفرغ المجلس التأسيسي في هذه الآجال من صياغة الدستور لكن قد لا يتم انجاز هذه المهام بتوافق حقيقي يرضي مختلف الأطراف و خصوصا المعارضة و قد لا تلبى بعض المطالب مثل وضع شخصيات مستقلة على رأس وزارات السيادة (الداخلية و الخارجية و العدل) و فتح ملفات شائكة و في مقدمتها المسائل الاقتصادية والاجتماعية.
أما على المدى المتوسط و ربما الطويل فقد يفضي هذا الحراك بعد الانتخابات إذا ما قدر لها أن تقع إلى سيناريوهات بعضها بالغ السوء بالنسبة لمستقبل البلاد.
- أوّل هذه السيناريوهات يتمثل في تواصل المشهد الحالي المتميز بهيمنة شبه مطلقة لحركة النهضة المسنودة بأطراف إمّا مشاركة معها مباشرة في السلطة لكنها غير قادرة على تعديل سياستها و تغيير قراراتها و إمّا تمثل قوّة احتياطية غير مشاركة مباشرة في السلطة لكنها تتحرّك بكثير من الحريّة و تتصدّى للمعارضين و تخوض ضدّهم "حربا بالوكالة". مع معارضةغير مهيكلة و لا موحدة بما فيه الكفاية و بالتالي لا تشكّل سلطة مضادّة فعلا و هذا من شأنه أن يجعل الوضع الراهن يتواصل بكل ما فيه من انفلات أمني و غياب للاستثقرار و ما ينجر عن ذلك من مشاكل في مقدمتها تراجع الاستثمار و استفحال البطالة و تدهور مستوى العيش.
- ثاني السيناريوهات هو تكوّن ائتلاف لقوى تعدّ نفسها وسطية حداثيّة مناهضة للسلفية تدافع عن مكتسبات دولة الاستقلال في وجه التيارات التي تعتبرها متطرفة على يمينها و على يسارها. و هو ما ينسجم إلى حد كبير مع مبادرة الباجي قائد السبسي التي قد ينضم إليها بشكل رسمي الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي و هذا ما لا يرضي الجبهة الشعبية و النهضة و من شأنه أن يعيد البلاد إلى الوضع الذي كان سائدا قبل الثورة بما فيه من احتقان ينبئ بقرب الانفجار.
- ثالث السيناريوهات هو قيام تنسيق بين الجبهة الشعبية من جهة و ائتلاف ثلاثي متكون من الحزب الجمهوري و المسار الديمقراطي و نداء تونس من جهة أخرى و هذا من شأنه أن يدفع النهضة إلى مزيد الاقتراب من المجموعات التي تعد سلفية. و قد يفضي انشطار المجتمع إلى "علمانيين حداثيين " و "اسلاميين سلفيين" إلى صراع قد يتخذ أشكال عنف

مختلفة لا تسمح بحصول الاستقرار المأمول و قد يفضي في النهاية إلى حرب أهلية تتجاوز الرهانات فيها الإطار الوطني إلى الإطار الإقليمي المتميز بتمركز القاعدة في بلاد المغرب بجنوب الصحراء و نشاطها حتى في ليبيا و الجزائر الموجودتين على حدودنا.
- رابع السيناريوهات :هو قيام ائتلاف واسع على أساس توافقي ينأى عن الصراع بين الحداثة و السلفية و تكون فيه النهضة طرفا غير مهيمن و هذا يفترض:
-أولا: تمايزها بشكل معلن واضح عن المجموعات الدينية المتشددة و مطابقتها بين سلوكها السياسي و خطابها المعلن.
- ثانيا: تخلّيها عن نزعتها الهيمنيّة و سعيها إلى السيطرة على مفاصل الدولة.
- ثالثا: قبول بقية الأطراف بها كشريك على أساس برنامج مرحلي واضح يلبّي احتياجات الشعب العاجلة.
لكنّ هذا السيناريوا الأخير الذي يبدو انسب من غيره يصعب تحقّقه حاليا لعدم إبداء بعض الأطراف أيّ استعداد لتهيئة الأرضية الملائمة له. و هذا ما يجعل المستقبل مفتوحا على شتى الاحتمالات.

الحامة في19-10-2012*

* تمّ الانتهاء من كتابة هذا المقال في 10-05-2012 و لم يتسنّ نشره في الإبان لذلك وقع تحيينه حتى يأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات و الأحداث التي حصلت بعد هذا التاريخ.



#عمّار_العربي_الزمزمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احتضان تونس لاشغال المنتدى الاجتماعي العالمي : الابعاد و الر ...


المزيد.....




- قول في الثقافة والمثقف
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 550
- بيان اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- نظرة مختلفة للشيوعية: حديث مع الخبير الاقتصادي الياباني سايت ...
- هكذا علقت الفصائل الفلسطينية في لبنان على مهاجمة إيران إسرائ ...
- طريق الشعب.. تحديات جمة.. والحل بالتخلي عن المحاصصة
- عز الدين أباسيدي// معركة الفلاحين -منطقة صفرو-الواثة: انقلاب ...
- النيجر: آلاف المتظاهرين يخرجون إلى شوارع نيامي للمطالبة برحي ...
- تيسير خالد : قرية المغير شاهد على وحشية وبربرية ميليشيات بن ...
- على طريقة البوعزيزي.. وفاة شاب تونسي في القيروان


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - عمّار العربي الزمزمي - اعادة تشكيل الخارطة السياسية التونسية :المخاض العسير وخطر الاجهاض.