أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - عصر النهضة وتطور الفلسفة الأوروبية والتنوير حتى نهاية القرن الثامن عشر















المزيد.....



عصر النهضة وتطور الفلسفة الأوروبية والتنوير حتى نهاية القرن الثامن عشر


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 4012 - 2013 / 2 / 23 - 11:40
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


في سياق انتقال مجتمع أوروبا الغربية من النمط الزراعي الإقطاعي محدود الأفق إلى النمط الجديد الصناعي الرأسمالي بآفاقه المفتوحة ، وعبر صراع وتناقض نوعي متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية ، بدأت تراكماته الأولى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر .
في هذا السياق تولدت المفاهيم والأفكار والمدارس الفلسفية معلنة بداية عصر جديد للبشرية ، عصر النهضة والتنوير. لكن ولادة هذا العصر لم تكن عملية سهلة في المكان أو الزمان ولم تتم أو تظهر معالمها دفعة واحدة ، أو اتخذت شكل القطع منذ اللحظة الأولى مع النظام أو الحامل الاجتماعي القديم ، إذ أن هذا الانقطاع لم يأخذ أبعاده في الانفصام التاريخي بين العصر الإقطاعي القديم وعصر النهضة والتنوير الجديد إلاَ بعد أربع قرون من المعاناة شهدت تراكماً مادياً وفكرياً هائلاً من جهة ، وتحولات ثورية في الاقتصاد والتجارة والزراعة والمدن كانت بمثابة التجسيد لفكر النهضة والإصلاح الديني والتنوير من جهة والتلاحم مع هذه المنظومة الفكرية الجديدة من جهة أخرى ، تمهيداً للثورات السياسية البرجوازية التي أنجزت كثيراً من المهمات الديمقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية في هولندا في مطلع القرن السابع عشر ، وفي بريطانيا من 1641 _1688 ، ثم الثورة الفرنسية الكبرى 1789 _ 1815 ، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر .
لقد كان نجاح هذه الثورات بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير أو عصر الحداثة ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني ، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى التي أحدثت زلزالاً في الفكر الأوروبي الحديث كان من نتائجه الرئيسية " انتقال موضوع الفلسفة من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم وبين العقل والمادة . والسؤال .. ما هي المقدمات المادية والفكرية التي دفعت نحو ولادة عصر النهضة ؟
المقدمات الأولى أو المرحلة الانتقالية نحو أسلوب الإنتاج الرأسمالي :_
قلنا ان الفكر الذي ساد في المرحلة السابقة ( الإقطاعية ) لم يهتم ببحث المسائل المطروحة بما يدفع نحو الانتقال من حالة الجمود أو الثبات إلى حالة النهوض والحركة الصاعدة ، ولم تسفر تلك المرحلة ( التي ما زلنا نعاني من رواسبها في وطننا العربي حتى اللحظة ) عن نتائج إيجابية تذكر سواء في الفلسفة أو في العلم ، ذلك أن "المفكرين" لم يتطلعوا إلى البحث عن الحقيقة بل عن وسائل البرهان على صحة العقائد الدينية خدمة لمصالح الملوك والنبلاء الإقطاعيين ورجال الدين .
كان لابد لهذه الفلسفة القائمة على مثل هذه الأسس أن تسير في درب الانحطاط في ظروف بدأ فيها يتعزز العلم مع بدايات تشكل أسلوب أو نمط الإنتاج الجديد في أحشاء المجتمع الإقطاعي ما بين القرنين الرابع والخامس عشر .
كان بداية ذلك التشكل عبر إطارين كان لابد من ولادتهما مع اقتراب نهاية تلك المرحلة وهما : إطار التعاونيات ، وإطار المانيفاكتوره التي كانت البدايات التمهيدية نحو ولادة المجتمع الرأسمالي حيث ظهرت المانيفاكتورات في المدن الإيطالية أولاً ثم انتقلت إلى باقي المدن الأوروبية .
في هذه المرحلة الانتقالية ، نلاحظ تطوراً ونمواً للمدن وظهور التجار والصناعيين وأصحاب البنوك ، والاكتشافات التكنيكية المغازل الآلية – دواليب المياه – الأفران العالية ودورها في صناعة التعدين واختراع الأسلحة النارية والبارود والطباعة في أواسط القرن الخامس عشر .
فيما بعد تم إحراز نجاحات أخرى عززت تطور أسلوب الإنتاج الرأسمالي الصاعد والمنتشر في أوروبا ، وارتبطت هذه النجاحات بعناوين كثيرة ضمن محورين أساسيين :
1. الكشوفات الجغرافية مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر ، خصوصاً اكتشاف أميركا والطريق البحري إلى الهند ورحلة " ماجلان " حول الأرض وبالتالي إرساء أسس التجارة العالمية اللاحقة.
2. ترافق كل ذلك مع تغيرات ثقافية وفكرية رحبة كسرت الجمود الفكري اللاهوتي السائد ، وأدت إلى " تهاوي استبداد الكنيسة في عقول الناس " وإخفاق وتراجع نفوذ الكنيسة الاقتصادي والسياسي ، وظهور مجموعات من المثقفين البرجوازيين قطعوا كل صلة لهم بالكنيسة واللاهوت الديني المذهبي ، وارتبطوا مباشرة بالعلم والفن ، وقد سمي هؤلاء بأصحاب النزعة الإنسانية "HUMANISM "، ( وهو مصطلح نورده هنا لأهميته إذ أنه دل آنذاك على الثقافة الزمنية في مواجهة الثقافة اللاهوتية أو السكولائية الرجعية ) وقد أخذ هؤلاء المثقفون من أصحاب النزعة الإنسانية على عاتقهم معارضة ونقض المفاهيم والعلوم الدينية الكنيسية عبر نشر علومهم الدنيوية التي كانت بالفعل أقرب إلى التعبير عن مزاج البرجوازية الصاعدة آنذاك.
إنَ المسألة المركزية هنا التي نلفت الانتباه إليها ، هي أن هذا العصر سمي عصر البعث renaissance الذي تولت قيادته ووجهت مساره الطبقة البرجوازية الصاعدة آنذاك .
وفي ظل هذا الوضع _ كما يقول المفكر العربي سعيد بن سعيد العلوي _ كان من "الطبيعي" أن تسعى البرجوازية الصاعدة بعد أن امتلكت مقومات الوجود الاجتماعي والسياسي إلى نشر ما تؤمن به من قيم ومعتقدات وآراء وأفكار في كافة مجالات العلوم والمعارف الجديدة ، حيث وجد الفكر الفلسفي العقلاني وفكر التنوير عموماً عند هذه الطبقة الرعاية والتشجيع ، ساعدها على العمل والإنتاج من جهة ، وأوجد لها التبرير الكامل بالمطالب الكبرى لها - كطبقة صاعدة - في المساواة في الحقوق والحرية في اعتناق الآراء المختلفة مع الكنيسة وفي التفكير والعمل خارج إطار الكنيسة أو الدائرة المقدسة ، حيث بدأت في التبلور ، المفاهيم والقيم الجديدة ، وبدأ الحديث عن المصلحة والمنفعة والصالح العام ، والرابطة الاجتماعية التي تعني الرفض الضمني للنظام القائم على أساس التمايز الاجتماعي ؛ إنه الانقلاب في التصورات الإيديولوجية ، فعوضاَ عن النظرة "العمودية" حيث يكون ترتيب الناس في أعلى وأدنى تبرز النظرة "الأفقية" لأعضاء الوجود الاجتماعي الواحد حيث يكون المبدأ الوحيد المقبول للوجود وللعمل معاً هو شعار "المساواة" .
ولكن ما هي المنطلقات الأولية أو العناصر الجوهرية التي دفعت نحو هذا التشكل والاستمرارية في سيرورة عصر النهضة ؟؟
أولاً : المرحلة التاريخية الأولى لعصر النهضة
أعتقد أن كافة الدراسات التي تناولت المرحلة التاريخية الأولى من عصر النهضة وما يطلق عليها "المرحلة الانتقالية" تتفق على أن العنصر الرئيسي لهذا العصر بكل معطياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو: "الفردية أو الإقرار باهتمامات الشخصية الإنسانية وحقوقها ومصالحها كموقف نقيض للكنيسة التي ألغت هذا الحق وصادرته طوال أكثر من ألف عام ، دون أن نغفل إطلاقا دور التجارة التي شكلت العماد الاقتصادي للطبقة البرجوازية" ؛ التي وجدت في التجارة "سندها المعنوي بما تستدعيه من نظام في المعارف وفي القيم ، لأن عالم التجارة هو عالم الامتلاك والبضاعة والتنقل الحر في الزمان والمكان ، والتاجر كان يجد نفسه في ذلك العالم ممثلاُ ، فاعلاً و سيداً تام السيادة غايته الربح ولا حاجة له للراهب أو لسلطان الكنيسة" .
أما أبرز المفكرين الأوائل الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذه المرحلة هم:
- نيقولا ميكافيللي ( 1469 م. _ 1527 م. )
- هو من أوائل المنظرين السياسيين البرجوازيين ، حاول في مؤلفاته البرهنة على أن البواعث المحركة لنشاط البشر هي الأنانية و المصلحة المادية، وهو صاحب مقولة :" أن الناس ينسون موت آبائهم أسرع من نسيانهم فقد ممتلكاتهم" ، إن السمة الفردية والمصلحة عنده هما أساس الطبيعة الإنسانية؛ ومن جانب آخر فقد رأى أن القوة هي أساس الحق في سياق حديثه عن ضرورة قيام الدولة الزمنية المضادة ( البديلة ) لدولة الكنيسة؛ ويؤكد على أن ازدهار الدولة القوية المتحررة من الأخلاق ، هو القانون الأسمى للسياسة وأن جميع السبل المؤدية لهذا الهدف طبيعية ومشروعة بما فيها السبل اللاأخلاقية ( كالرشوة والاغتيال ودس السم والخيانة والغدر )؛ والحاكم عنده يجب أن يتمتع بخصال الأسد والثعلب ، وسياساته هي سياسة "السوط والكعكة"؛ هذه هي النزعة الميكافيلية التي تبرر كل شيء للوصول إلى الهدف السياسي ، وهي توضح معنى الفردية والإقرار بالاهتمامات الشخصية التي أشرنا إليها أعلاه.
- نيقولا كوبرنيكس ( 1473 م. _ 1532 م. )
- ساهم هذا المفكر في تحطيم الإيديولوجية اللاهوتية القائمة على القول بمركزية الأرض في الكون وذلك عبر اكتشافه لنظرية مركزية الشمسHelio Contricism التي قام على أساسها علم الفلك الحديث؛ وهذه النظرية من أهم منجزات "كوبرنيكس" على الإطلاق وهي تستند إلى مبدأين:_
أولاً: ليست الأرض ثابتة في مركز الكون بل تدور حول محورها الخاص؛ وقد استطاع من خلال ذلك تفسير تعاقب الليل والنهار. ثانياً: الأرض تدور حول الشمس مركز الكون.
- جوردانو برونو ( 1548 م. _ 1600 م. )
- فيلسوفاً وعالماً فلكياُ، قام بتطوير وتصحيح نظرية كوبرنيكس، بدأ حياته راهباُ وبسبب أفكاره المادية انفصل عن الكنيسة وتفرغ لنظرياته العلمية، آمن بـ "لا نهائية" المكان أو لانهائية الطبيعة، ورفض مركزية الشمس في الكون مؤكداُ على أن لا وجود لهذا المركز إلا كمركز نسبي فقط "فشمسنا ليست النجم الوحيد الذي له أقمار تدور حوله" فالنجوم البعيدة هي شموس أيضاً لها توابعها، كما افترض أن جميع العوالم في هذا الكون مأهولة ، يدفعه إلى ذلك إيمانه بأن كل ما في الطبيعة ذو نفس استناداً إلى إيمانه بمذهب حيوية المادة "HYLOTOISM " الذي اعتنقه كغيره من الفلاسفة الطبيعيون ؛ وهو أول من قال بوجود التجانس الفيزيائي بين الأرض والكواكب وهذه التنبؤات لم تؤكد علمياً إلا في أواسط القرن العشرين.
- لقد حطم برونو التصورات القديمة عن العالم المخلوق ليجعل الكون ممتداً إلى ما لا نهاية وهو القائل بأن: "الكلمة الأخيرة في كل مجال من مجالات المعرفة تكمن في العقل وحده" ؛ ألقي القبض عليه من قبل محاكم التفتيش التي سجنته ثمانية سنوات أحرقوه بعدها على أحد أعمدة التعذيب بعدما رفض إنكار فلسفته وتوجهاته العلمية.
العلماء الطبيعيون:
ليوناردو دافنشي ( 1452 م. _ 1519 م.)
كان فناناً وعالماً موسوعياً ومصمماً تكنيكياً قام بوضع عدد من التصاميم لبعض الأجهزة أو الأجسام الطائرة والمظلات، وهو من أوائل المفكرين الذي استخدموا المنهج التجريبي الرياضي في دراسة الطبيعة ، كان ليوناردودافنشي من أوائل المفكرين الذين قَدَّروا عالياً افكار ابن رشد ، وهو الذي اطلق عليه صفة " شارح أرسطو العظيم " .

جاليليو ( 1564 م. _ 1642 م. )
وهو من الرموز الخالدة في علوم الفلك .. كان لاكتشافاته الفلكية بواسطة تلسكوب صممه بنفسه دوراً كبيراً في انتصار نظرية كوبرنيكس وبرونو وأطلق عليه اسم "كولومبس السماء" .
يعتبر جاليلو من أبرز مفكري ذلك العصر الذين صاغوا النظرة الديئية deism إلى الطبيعة التي إعتنقها عدد من فلاسفة ومفكري القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ أسهمت هذه النظرة إلى جانب أصحاب النزعة الإنسانية والفلسفة البانتيئية ( وحدة الوجود ) في تعزيز وتطور الفلسفة العقلانية والمنهج المادي العلمي كمنطلقات أساسية لعصر النهضة.
رابعاً: المرحلة التاريخية الثانية أو تطور الفلسفة الأوروبية في عصر الثورات البرجوازية
أواخر القرن السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر :-
أدى تفسخ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في النظام الإقطاعي الأوروبي إلى تغيير كبير في الدور الذي يلعبه الدين في المجتمع ورغم ذلك فقد ظل الدين يحتل مواقع أساسية وهامة في ذهنية الناس ونفوسهم ، ولكن لا شك أن تفسخ العلاقات الاجتماعية الاقتصادية وتراجع الهيمنة الثقافية الفكرية اللاهوتية أدى إلى خلق المناخ اللازم لقيام الثورات البرجوازية الأولى في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ بعد أن توفر الظرف الموضوعي الذي أدى إلى انتشار العلاقات الرأسمالية وتفشيها في مسامات المجتمع الإقطاعي وبروز العامل الذاتي عبر التحالف بين قوى البرجوازية المدينية الصاعدة، وشرائح من الأرستقراطية المبرجزة التي تشابكت مصالحها مع مصالح البرجوازية وتحولت ملكيتها للأرض كلياً أو جزئياً من حيث توجيه العملية الإنتاجية لخدمة أغراض وتوجهات النمط الرأسمالي الجديد ( الصاعد ) .
بالطبع اتخذت هذه العملية في سياق حركتها الصاعدة مساراً تدريجياً بالنسبة للرؤى والأهداف الفكرية والفلسفية العامة؛ فقد بدأت هذه الحركة خطواتها الأولى تحت راية النزعة الدينية الإصلاحية التي يتزعمها مارتن لوثر (1483 م. _ 1546 م. ) الذي كان مؤيداً ومطالباً بالإصلاح المعتدل إلى جانب أنه أنكر دور الكنيسة ورجال الدين كوسطاء بين الإنسان والله، وأكد أن "خلاص" الإنسان لا يتوقف على أداء الأفعال الخيرة والأسرار الغامضة والطقوس وإنما يتوقف على الإيمان المخلص الذي يستند إلى أن الحقيقة الدينية لا تقوم على "التقاليد المقدسة" والمراسم وإنما على الإيمان دون أي وساطة من الكنيسة، وقد عبرت هذ المطالب عن الصراع بين النظرة العامة البرجوازية المبكرة للعالم من جهة، والأيديولوجية الإقطاعية والكنيسة من جهة أخرى . ومما لا شك فيه أن هذه النزعة الإصلاحية الدينية ساهمت في فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة وتعميق تطور مفاهيم المجتمع المدني والمثل السياسية البرجوازية ومؤسسات الدولة الديمقراطية من جهة؛ وتطور الفلسفة التجريبية والمنهجية العلمية من جهة أخرى، مما أدى إلى فقدان الدين لسيطرته في ميداني العلم والفلسفة، وهي خطوة هامة بالرغم من بقاء دوره بالنسبة لعامة الشعب في المجتمع الرأسمالي .
وفي ضوء هذا التطور الذي أصاب كل مناحي الحياة في عصر النهضة، رفع فلاسفة هذا العصر رغم الاختلافات بين مذاهبهم شعار "العلم" من أجل تدعيم سيطرة الإنسان على الطبيعة ورفض شعار العلم من أجل العلم.. لقد أصبحت التجربة هي الصيغة الأساسية للاختراعات والأبحاث العلمية التطبيقية في هذا العصر وأبرزها:
• صياغة القوانين الأساسية للميكانيك الكلاسيكي بما فيها قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن (1643 – 1727 ) .
• تطوير علوم الرياضيات والهندسة والفيزياء والأحياء_ ديكارت ولايبنتز
• اكتشاف الدورة الدموية- هارفي - " تأكيد اكتشاف ابن النفيس"
• قوانين الميكانيك وتعريف مفهوم العنصر الكيميائي_ بويل.
• ميزان الحرارة الزئبقي والضغط الجوي_ تورشيللي ( أحد تلامذة جاليليو)
لم يكن سهلاً لهذه الاكتشافات العلمية وغيرها أن تكون بدون تطور الفلسفة عموماً والمذهب التجريبي على وجه الخصوص ، في سياق الحراك والتناقض والصراع الاجتماعي الدائم والمستمر بوتائر متفاوتة في تسارعها بين القديم والجديد ، إذ أنه بدون هذه الحركة والتناقض لم يكن ممكناً بروز الدعوة من أجل التغيير والتقدم التي عبر عنها فلاسفة عصر النهضة في أوروبا أمثال فرنسيس بيكون، ديكارت، هوبس، لايبنتز، سبينوزا.
التنويـــر الفرنسي والفلسفة الألمانية في القرن الثامن عشر :-
أ- التنوير الفرنسي :
في فرنسا وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر.. تطور أسلوب الإنتاج الجديد _الرأسمالي_ في أحشاء المجتمع القديم -الإقطاعي-، وقد شهدت فرنسا قبيل الثورة البورجوازية الفرنسية (1789) بأربعة عقود حركة فكرية واسعة وقوية عرفت "بحـركة التنوير" ، وضع رجالها نصب أعينهم مهمة نقد ركائز الإيديولوجية الإقطاعية، ونقد الأوهام والمعتقدات الدينية والنضال من أجل إشاعة روح التسامح الديني وحرية الفكر والبحث العلمي والفلسفي وإعلاء شأن العقل والعلم في مواجهة الغيبية، ومن اهمهم شارل مونتسكيو ( 1689م. – 1755م. ) و فرانسوا فولتير ( 1694م. – 1778م. ) و جان جاك روسو ( 1712 – 1778 ) و ديني ديدرو ( 1713 - 1784 ) .
بالطبع لم يكن تيار التنوير الفرنسي متجانساً فإلى جانب المادية كانت المثالية وإلى جانب الإلحاد كان التيار الديني ، ولذلك فقد كان الفكر الإنجليزي أحد أهم مصادر فكر التنوير الفرنسي ، وكلاهما وجها نقداً جاداً للنظام الإقطاعي والحكم المطلق ، ومهدا الطريق من أجل هدمه وتغيره انسجاماً مع وجهة نظر المصالح البرجوازية الجديدة .
الفلسفة الألمانية :
عمانويل كانت ( 1724 - 1804 ):-
لم يكن فيلسوفاً فحسب.. بل كان عالماً طبيعياً كبيراً أيضاً في مجالات الأنثروبولوجيا ، والجغرافية الفيزيائية والكسموجونيا كما كان يحاضر في عدد من العلوم والرياضيات والميكانيكا والفيزياء والتاريخ الطبيعي العام.
يعتبر "كانت" رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ومن الأركان الأساسية لأفكاره أنه "اعتبر التاريخ تطوراً للحرية البشرية وبلوغاً لحالة قائمة على العقل بالرغم من أنه وقف نصيراً لحق التملك للأشياء وللناس أيضاً.. هذه المفارقات المتناقضة حول الحرية ، هي سمة أساسية للتفكير الرأسمالي الذي يتحدث عن الحرية أو الليبرالية والمساواة للمؤسسة الحاكمة دون أي تطبيق لهذه المفاهيم بين المواطنين جميعاً ، وهذه القاعدة هي جوهر الممارسة الرأسمالية المشوهة ، المطبقة بصورة فجة ومتوحشة في العالم الثالث عموماً ، وفي بلادنا بوجه خاص .
جورج ويلهلم فريدريك هيجل (1770 - 1831 )
أولا : حياته وعصره : عاش في مجتمع إقطاعي تسوده رجعية النبلاء وكذلك عاش مع رياح الثورة الفرنسية التي طالبت بتحرير الإنسان وتأثر بكليهما؛ كما تأثر بـ "كانت" وفلسفته العقلية بمثل ما تأثر بالشاعر الرومانسي الألماني "هلدرلين" .
ثانيــاً.. فلسفتــه: هو من أبرز ممثلي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ، وقد كان أول مؤلف له "فينومينولوجيا الروح" صدر في عام 1806 والذي يشكل حسب تعبير ماركس "المعين الحقيقي" للفلسفة الهيغلية؛ ثم أصدر بعد ذلك مؤلفه الضخم الثاني "علم المنطق".
حدد "انجلز" المكانة التاريخية لـ "هيغل" في تطور الفلسفة بقوله: "لقد بلغت هذه الفلسفة الألمانية الجديدة ذروتها في مذهب "هيجل" والذي تكمن مأثرته التاريخية العظيمة في أنه كان أول من نظر إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي بوصفه عملية؛ أي في حركة دائمة وفي تغير وتطور.. وقام بمحاولة للكشف عن العلاقة الداخلية لهذه الحركة وهذا التطور؛ ولا يهمنا هنا أن يكون "هيجل" لم يجد الحل لهذا المسألة..فمأثرته التاريخية تقوم في طرحه لها…!!
لقد صاغت فلسفة "هيجل" بشكل منظم النظرة "الديالكيتكية" إلى العالم؛ وما يوافق ذلك من منهج ديالكتيكي في البحث، ولقد صاغ "هيجل" الديالكتيك باعتباره علماً فلسفياً يعمم التاريخ لكامل المعرفة وكذلك القوانين الأكثر شمولاً لتطور الواقع الموضوعي وانتقد بعمق وحزم المنهج الميتافيزيقي ليصوغ وإن كان بشكل مثالي _ قوانين ومقولات الديالكتيك التي شكلت الاساس المعرفي لافكار كارل ماركس المادية الجدلية والتاريخية.
لقد قام كلاسيكيو الماركسية بمعالجة مادية للأفكار الإيجابية في الديالكتيك الهيغلي المثالي مستعيضين عن المبدأ المثالي في وحدة الوجود والفكر بالمبدأ المادي القائل بأن وعي الإنسان هو انعكاس للواقع الموضوعي الموجود خارج هذا الوعي وبشكل مستقل عنه.. لقد وضعوا منهجاً جديداً في معرفة الواقع يتناقض جذرياً مع المنهج الهيغلي؛ لقد أوقفوه على قدميه بعد أن كان متكئاً على رأسه.. هذا ما فعله ماركس بعد هيجــل اختلف الكثيرون حول فلسفته وبرز تيارين رئيسيين انعكاساً لها أو دفاعاً عنها؛ تيار يميني دعي ممثلوه بالهيغليين الشيوخ الذين تمسكوا بالأيدلوجية الإقطاعية/ المسيحية ضد التيار اليساري أو الهيغليون الشباب ، ومن أبرز الشباب "شتراوس" الذي أصدر كتاب "حيــاة يســوع" ودحض فيه المزاعم القائلة بعلة أولى خارقة "وحــي إلهي" واعتبر كل "المعجزات" المسيحية أساطير ناتجة عن موقف جماعي للشعب بأسره خصوصاً في فترة الأزمة العميقة التي عصفت بمجتمع الرق.. لكن حركة الهيغليين الشباب التي لعبت دوراً تقدمياً في الثلاثينات من القرن التاسع عشر وكان ماركس أحدهم ، بدأت تفقد طابعها التقدمي مع ظهور مادية فيورباخ، وماركس من بعده؛ حيث قدم هذا الأخير بدلاً من المطلق الذي يقرر التاريخ ، نظرية صراع الطبقات التي تؤدي حسب الضرورة الهيغلية إلى الاشتراكية؛ وقــد عبر عن ذلك ديورانت بقوله: "لقد فقس هيجـل الأستاذ الإمبراطوري بيض الاشتراكية" .
لودفيج فيورباخ (1804 – 1872 ):- كان هدف فيورباخ تحرير الإنسان من الوعي الديني؛ وفي مؤلفه "نقــد فلسفــة هيجـل" أعطى حلاً مادياً للمسألة السياسية في الفلسفة وهذا الحل يرتكز على اعتبار الطبيعة، أو الوجود، أولا ، تعتبر فلسفته استكمالاً وتجاوزاً في الوقت ذاته لمذهب هيجل.. فإذا كان هيجل يعزل العقل أو الفكر عن الإنسان ، فإن فلسفة فيورباخ - كما يسميها- "فلسفة المستقبل" تنطلق من الإنسان؛ فالإنسان وحده هو الذات الحقيقي للعقل ، والإنسان بدوره نتاج للطبيعة.
وفي رأيه إذا كان الدين يعد الإنسان بالنجاة بعد الموت فإن الفلسفة مدعوه لتحقق على الأرض ما يعد به الدين في عالم الغيب.. أي أن على الفلسفة أن تلغي الأوهام الدينية لتوفر وتعطي الإنسان القدرة على معرفة إمكانياته الحقيقية في بلوغ السعادة.. وهذا الهدف _السعادة_ هو ما سعى إليه أو إلى تحقيقه طوال حياته..! ادة واقعاً ينشأ عنه بالضرورة العقل المفكر.
اقترب في أواخر حياته من الاشتراكية العلمية خصوصاً بعد أن قرأ رأس المال، وأصبح عضواً في الحزب الديمقراطي الاشتراكي في عام 1870 م. إلاَ أنه لم يصل "بقناعاتــه" إلى مستوى المادية الديالكتيكية والتاريخية.
ظهور الفلسفة الماركسية ومصادرها ومكوناتها

إن امتلاك رفاقنا في أطر اليسار العربي لناصية الفلسفة الماركسية، لا يعني حفظ أحكامها واستنتاجاتها عن ظهر قلب، بل فهم جوهرها، ومتابعة مساراتها المعرفية المتطورة والمتجددة ، ومعرفة كيفية تطبيقها في الممارسة وفي حل المهمات الملموسة لنضالهم التحرري وصراعهم الطبقي الديمقراطي الثوري بافاقه الاشتراكية ، وبالتالي فان امتلاكنا لناصية الفلسفة الماركسية هو أكثر من ضروري في هذه المرحلة البالغة التعقيد في مجتمعاتنا العربية التي تشهد حالة غير مسبوقة من الانتفاضات الثورية الشعبية ضد انظمة الاستبداد والتبعية والتخلف من جهة وضد ممارسات حركات الاسلام السياسي التي تبين للجماهير انها لا تختلف في جوهرها الطبقي وتبعيتها وممارساتها القمعية عن الانظمة المخلوعة ، فانطلقت من جديد لتواصل ثورتها حتى تحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية التي انطلقت من أجلها.

كارل ماركس : ( 1818 – 1883 ) مؤسس فلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي ، " تأثر بأفكار هيجل وفيورباخ وآدم سميث ، نال درجة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالته بعنوان " الاختلاف بين فلسفة ديموقرطيس الطبيعية وفلسفة إبيقور " عام 1841 ، ومن خلال دراسته للاقتصاد السياسي ومشاركته في الأحداث الثورية في المانيا وفرنسا ، اكتشف لأول مره الدور التاريخي للبروليتاريا وتوصل إلى النتيجة القائلة بحتمية الثورة الاجتماعية وضرورة توحيد حركة الطبقة العاملة ، كما وضع نظرية فائض القيمة التي تمثل حجر الزاوية في الاقتصاد السياسي الاشتراكي وتكشف بوضوح عملية الاستغلال الرأسمالي ، أصدر العديد من الأبحاث والكتب أهمها " المخططات الاقتصادية والفلسفية " (1844) و " العائلة المقدسة " (1845) و " الايديولوجيا الألمانية " (1846) و"بؤس الفلسفة " ( 1847) " و"إطروحات حول فيورباخ " بالتعاون مع زميله " إنجلز " ثم أصدرا معاً " البيان الشيوعي " (1848) " الذي وضع الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم ، وهو المادية المتماسكة ونظرية صراع الطبقات والدور الثوري للطبقة العاملة ، وبعد أن وضع عدداً من الكتب الهامة حول الثورة في فرنسا وأوروبا والصراع الطبقي ، أصدر في عام 1867 المجلد الأول لكتابه الرئيسي البالغ الأهمية " رأس المال " والذي تم استكماله فيما بعد على يد رفيقه " فريدريك انجلز" 1885 و 1894 .
إلى جانب كل ذلك ، فقد كان ماركس فيلسوفاً مادياً جدلياً " رفض فهم الفلسفة على إنها علم مطلق ، غريب عن الحياة العملية والنضال ، مؤكداً إن مهمة الفلسفة والفكر الاجتماعي ليست بناء أو إنشاء Construction المستقبل ، ولا وَضَع نظريات تصلح لجميع العصور والدهور ، بل إن مهمتها " النقد الذي لا يرحم لكل ما هو قائم ، نقد لا يرحم بمعنيين ، لا يهاب استنتاجاته الذاتية ، ولا يتراجع أمام الاصطدام بالسلطات القائمة ، هكذا طرح ماركس مسألة نفي الفلسفة بمعناها القديم ، " حب الحكمة " أو " علم العلوم " ، إنه ضد عزل الفلسفة عن النشاط العملي ، ولاسيما حركة الكادحين والفقراء التحريرية ، فهو يقول " لاشئ يمنعنا أن نربط ممارستنا بنقد السياسة ، بموقف حزبي معين في السياسة ، أي أن نربط ونقرن نقدنا بالنضال الواقعي .. إن مأثرة فلسفة ماركس تكمن في كونها البرهان الفلسفي والعملي في آن واحد على حتمية التحويل الجذري لمجتمعاتنا نحو الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية، رغم كل ما يتبدى اليوم من مظاهر القوة والعدوان للتحالف الامبريالي الصهيوني في بلادنا من ناحية ورغم كل عوامل وأدوات ورموز الهبوط السياسي والتبعية والقهر والتخلف السلفي الرجعي والليبرالي الهابط من ناحية ثانية .

مصادر الفلسفة الماركسية :أولاً : الفلسفة الألمانية :
• هيجل : (1770 – 1831) أبرز رجالات الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ، وقد بلغت هذه الفلسفة ذروتها في مذهبه الذي تكمن مأثرته التاريخية في أنه كان أول من نظر إلى العالم ، الطبيعي والتاريخي والروحي بوصفه عملية ، أي في حركة دائمة ، في تغير وتطور ، إنها عملية ديالكتيكية ، وهو أول من أعطى صياغة دقيقة لقوانين الديالكتيك الأساسية ، لكنه رغم ذلك وقف على أرضية المثالية الفلسفية الخاطئة .
• لودفيج فيورباخ ( 1804 – 1872 ) لعبت فلسفته المادية دوراً هاماً في وضع ماركس وانجلز للرؤية المادية ، لقد وجه فيورباخ نقداً عنيفاً للمثالية الهيجلية ، لكنه عموماً ظل مادياً ميتافيزيقياً ، بسبب أن ماديته لم تتفهم القيمة العلمية لديالكتيك هيجل ، كذلك لم يدرك حق الإدراك ماهية الإنسان ، فاعتبره كائناً بيولوجياً فقط ، ولم يتبين الجانب المادي من العلاقات الاجتماعية .
ثانياً : الاقتصاد السياسي الانجليزي :
- من المصادر أيضاً النظريات الاقتصادية التي وضعها كل من آدم سميث (1723 – 1790 ) وديفيد ريكاردو (1772 – 1823 ) وخاصة نظرية القيمة – العمل التي كان لها أهمية بالغة في تكون المذهب الفلسفي الماركسي ، إن نظريتهما أوضحت ولأول مرة أهمية الأساس الاقتصادي لنشاط الناس ، كما بينا أن تطور المجتمع يرتكز إلى التفاعل الاقتصادي بين الناس ، لكنهما ( سميث وريكاردو ) كونهما من المدافعين عن الرأسمالية ، عملا على تبرير استغلال الرأسماليين للعمال ، وصورا هذا الاستغلال تفاعلاً بين شريكين متكافئين في إطار علاقات السوق ، أما الربح فاعتبراه مكافأة للرأسمالي على تنظيم الانتاج وإدارته ، المهم أن مذهبهما الاقتصادي كان منطلقاً للبحث اللاحق للعلاقات الاقتصادية وللكشف عن التناقض بين العمل والرأسمال من حيث هو التناقض الأساسي في المجتمع البرجوازي .
ثالثا : الاشتراكية الطوباوية :
من المصادر أيضاً : الأفكار الاشتراكية الطوباوية ، وأهم الرموز : سان سيمون (1760 – 1825 ) وفورييه ( 1772 – 1837 ) وروبرت اوين (1771 –1858 ) ، وقد لعبت هذه الأفكار دوراً هاماً في التمهيد لظهور الفلسفة الماركسية ، وخاصة المادية التاريخية ، لقد ارتكزت أفكار هؤلاء الرواد على مطالبتهم بضرورة انتشار الملكية العامة ( الجماعية ) والعمل الجماعي ، بما يسمح بالقضاء على بؤس الجماهير ، لكنهم لم يروا السبل المؤدية إلى التحول الاشتراكي وأنكروا دور الثورة والصراع الطبقي أو لم يفهموه ، واعتبروا أن الطريق إلى الاشتراكية يمر عبر التنوير وتعاون الطبقات ، وهو أمر مستحيل ، تلك هي مثاليتهم .
على ضوء الانجازات النظرية لأبرز رجالات الفلسفة والاقتصاد السياسي ، والاشتراكية الطوباوية، وضع ماركس وانجلز نظرية فلسفية جديدة كل الجدة تجمع لأول مرة في تاريخ العلم بين المادية الفلسفية والمنهج الديالكتيكي ، وتعطي تفسيراً علمياً لحياة المجتمع البشري ، وبفضلهما تحول العلم الفلسفي ليصبح أداة بيد الطلائع المثقفة والقوى الكادحة والبروليتاريا في نضالها لتغيير العالم.
إن الفلسفة الماركسية هي علم عن قوانين علاقة الوعي بالعالم الموضوعي ، عن القوانين العامة للحركة في الطبيعة والمجتمع والفكر البشري .إن ظهور الماركسية في أربعينات القرن التاسع عشر ترافق مع تطور الرأسمالية وتَكَشُّف طبيعتها التناحرية وجوهرها القائم على الاستغلال والقهر كما نشاهده ونلمسه ونعاني منه يومياً عبر همجية وتوحش العولمة الامريكية وحليفها الصهيوني في بلادنا.
لذلك ...علينا التأكيد، على رفاقنا في احزاب وفصائل اليسار ، أننا أحوج ما نكون اليوم إلى توفر الحد المقبول من الإطلاع على مؤلفات ماركس، والمؤلفات الماركسية الحديثة والمعاصرة، وقبل كل شيء أن نكون مالكين للوعي بكل جوانب واقع مجتمعاتنا الراهن، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بوضوح كبير، مدركين أن الماركسية ليست كل ما قاله ماركس، فهي لم تتشكل دفعة واحدة، بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة الفلسفية والعلمية والممارسات العملية. ماركسية ماركس إذن هي ثمرة أوضاع تاريخية واجتماعية وفكرية محددة، عبر تطورها في عصره وإلى يومنا هذا، فالمعروف أن الذي يميز النظرية الماركسية عن غيرها من الأنساق النظرية والفلسفية السابقة أمور ثلاثة:

الأول:- أنها تستمد عناصرها ومعطياتها وبالتالي قوانينها في الدراسة العلمية العينية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الفكري والصراعي.

الثاني:- هو أنها ليست مجرد نظرية معرفية علمية تستمد هدفها من الدراسة العلمية الموضوعية وإنما تتضمن كذلك موقفاً موضوعياً كنظرية لتغيير الواقع تغيراً جذرياً لإقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الاضطهاد الوطني والقومي ومن الفقر والقهر والاستغلال، وتتفجر فيه إنسانيته الإبداعية وتتوفر له الحرية الحقيقية.

الثالث:- الممارسة العملية تتم وفق هذه المعرفة، وهي شرط لها، فالممارسة هي مصدر أساسي في الوقت نفسه لهذه المعرفة.
في ضوء ما تقدم، فإن الماركسية تقف من حيث جوهرها ضد أمرين: ضد التجريد المطلق من ناحية، وضد التجريب البرغماتي من ناحية أخرى، وبالتالي ضد أي فكر عقائدي جامد غير نقدي وغير علمي، وضد أي ممارسة تقوم على هذا الفكر.

من هنا فإن مادية ماركس الجدلية، تعني معرفة الأشياء والوقائع كما هو في تحققها الفعلي لا في تصوراتها الوهمية ولا في جزئياتها المنعزلة، وإنما في علاقاتها وتشابكاتها التي تتخذ أشكالاً مختلفة، فالماركسية بقدر ما هي نظرية متكاملة إلا أنها في الوقت نفسه منهجاً علمياً متكاملاً أيضاً.

كذلك الأمر، فإن ماركس لم يقدم برنامج عملي للتحول الاشتراكي، وإنما قدم خطوط عامة، ولقد استطاع لينين أن يقود عملية الثورة وأن يحققها باقتدار عبقري في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الأوضاع الخاصة والدولية آنذاك، وكانت له إبداعات فكرية وعملية عديدة مثل:- نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ونظرية أضعف الحلقات، ونظرية الثورة الثقافية، ونظرية حق تقرير المصير...الخ.

أخيراً، لابد أن نؤكد، قبل كل شيء على أن الماركسية هي فلسفة تقوم على نظرة جديدة للواقع المعاش، وهي فلسفة ديناميكية ترتكز أيضاً على رفض النسق المنغلق على نفسه، فقد قدمت لنا نتائج مختلفة ومتضادة في بعض الأحيان جعلتنا نستطيع فهم المجتمعات الحالية.
تمتاز إذن الفلسفة الماركسية عن الإنساق الفلسفية المألوفة (الديكارتية والهيغلية ...الخ) بأنها غير نهائية ترفض الانغلاق، وبأنها تستبطن داخل نظريتها ميادين تطبيقها فتخلق بذلك وحدة عضوية بين النظرية والممارسة. ولا بد أن نلاحظ هنا أن الماركسية ليست منهجاً فقط يستخدم لفهم المجتمعات الإنسانية وتطوراتها، بل هي أساساً نظرية عن قضايا الإنسان تستخدم منهج المادية الديالكتيكية، ولا يمكننا أن نعتبرها قولاً جامداً ودغمائياً عن العالم والحياة يضاف إلى الأقوال الأخرى المتواجدة على الساحة الفكرية. فالماركسية تقرير معمم لمبادئ المنهج ونظرية متطورة تتفاعل مع التحليل العيني للواقع العيني. لهذا نستطيع القول بأنها تهتم قبل كل شيء بتحديد سبل التفكير ومناهجه، وبمبادئ استنباط المفاهيم وتجميعها، وبالسيطرة على الحقائق الاجتماعية والسياسية والعلمية عامة، وذلك بتأسيس نظرية علمية ترتكز على قوانين الفكر الديالكتيكي الصحيح والمضاد للمثالية.
فالمنهج الديالكتيكي المادي هو النظرة الجدلية التي تهدف إلى تفسير الأشياء داخل العالم المادي تفسيراً نقدياً يدرك حركية الأشياء ويلم بكل ظواهرها دون الالتجاء إلى التجريد الميتافيزيقي الذي يرى أن وجود المادة يتوقف حتماً على العنصر المثالي أو الروحي أو العقلي. فالنشاطات الإنسانية عامة تنشأ، حسب الماركسية، نتيجة الظروف المادية للحياة الإنسانية.
ومن هنا نستخلص أن الماركسية ليست فلسفة تضاف إلى الفلسفات الأخرى كالأفلاطونية أو الديكارتية وليست معتقداً أو نسقاً من الأفكار مطبوعة بطابع شعوري كالإسلام أو المسيحية وليست أيضاً نتاجاً ذهنياً وعقائدياً لتشكيلة اجتماعية تعبر عن مطامحها وتنبع من واقعها. ورغم أنها حوت كل هذه المعطيات فتشابك فيها العنصر الفلسفي بالعنصر الشعوري وبالعنصر العقائدي، فهي قبل كل شيء نظرة أصلية للواقع الاجتماعي والإنساني تحدد لا محالة سلوكاً معيناً ورؤية فكرية خاصة ولكنها تفرض تفسيراً علمياً للظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
وفي هذا السياق، نشير إلى تطور الفكر الماركسي ما بعد لينين عبر العديد من المفكرين والقادة من أمثال جورج لوكاتش، وتروتسكي، ومدرسة فرنكفورت، وماوتسي تونج، وجرامشي، والتوسير، وجورج لابيكا، وهابرماس، وارنست ماندل وجون مولينو...إلخ، إلى جانب العديد من المفكرين والمثقفين في أمريكا اللاتينية وأسيا وفي بلادنا العربية من أمثال د.فؤاد مرسي، محمود أمين العالم، مهدي عامل، سمير أمين، اسماعيل صبري عبدالله، وصادق العظم ،حسين مروة ، إلياس مرقص، فوزي منصور، هشام غصيب، وماهر الشريف، عبد الباسط عبد المعطي، عبد الله العروي، ياسين الحافظ، هشام جعيط، وجيلبير الأشقر، سلامة كيلة ..إلخ.

واليوم في عصرنا الراهن، عصر تراجع العولمة الأحادية الأمريكية لحساب تعددية قطبية (تضم بالإضافة للإتحاد الأوروبي واليابان دولاً متطورة مثل: الصين والبرازيل والهند إلى جانب الدور المركزي لروسيا) بسبب تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية المالية والعالمية التي تفجرت في نهاية العام 2008 ولم تتوقف تراكماتها حتى اللحظة سواء في بلدان المركز / النظام الرأسمالي العالمي عموماً أو في بلدان الأطراف خصوصاً حيث ستتعرض هذه البلدان الفقيرة لمزيد من الانعكاسات الخطيرة للأزمة المالية تضاف إلى ما تعانيه شعوبها من إفقار وتخلف وتبعية بسبب الاستغلال الرأسمالي البشع لمواردها، كل هذه المتغيرات، إلى جانب استعادة قوى اليسار العالمي لدورها ووصولها إلى السلطة في العديد من بلدان العالم في أمريكا اللاتينية وأسيا، ستعزز حاجة شعوب الأطراف عموماً وقواها وأحزاب اليسار فيها إلى الاشتراكية وإلى الفكر الماركسي أكثر بما لا يقاس من الحاجة إليها في عهد ماركس. ذلك أن الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما أصاب التجربة السوفييتية الاشتراكية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون عبر ما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني من ناحية، وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الثالث عموماً وشعوب أمتنا العربية خصوصاً من ناحية ثانية.

هكذا تبرز الاشتراكية والماركسية كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب العالم وخاصة شعوب بلادنا العربية. وهكذا نعود إلى البداية متسائلين: هل ما تزال الماركسية كما قال بها ماركس هي نفسها لم تتغير وعلينا أن نرفع أعلامها؟ ونجيب بوضوح إن الماركسية في تقديرنا ما تزال تحمل من المصادر النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها أساسية في مرجعيات الفكر الاشتراكي والنضال الاشتراكي وخاصة فيما يتعلق باستنادها إلى البحث العلمي إلى جانب رؤيتها النظرية الفلسفية، المادية الجدلية، فضلاً عن الطابع النضالي للماركسية من أجل الانتقال بالمجتمعات البشرية من مرحلة الرأسمالية المعولمة إلى مرحلة الاشتراكية.

ولكن علينا أن نضيف عبر البحث والاجتهاد والوعي كل ما استجد منذ ظهور الماركسية وحتى اليوم من تطورات علمية وتكنولوجية، وبخاصة متابعة ما يتحقق اليوم من ثورة كاملة في إجمالي علوم الاتصال والمعلومات إلى جانب امتلاكنا للخبرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في سياق حرصنا على بناء المقومات اللازمة لاستنهاض حزبنا في الجبهة استنهاضاً حقيقياً لا يمكن تحققه إلا بتحقيق شرط بناء الحزب العصري الملتزم بصورة جدلية بالماركسية في حركتنا وتطورها الصاعد والمستمر وعبر التطبيق الخلاق لقوانينها على واقعنا الفلسطيني والعربي لكي نسهم في صنع المستقبل الواعد لجماهيرنا العربيةعبر تحقيق اهدافها وتطلعاتها في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية.



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طروحات في الفلسفة
- حول طبيعة التطور الاجتماعي العربي المشوه ودور المثقف الثوري ...
- مدخل الى الخطوط الكبرى لتاريخ الفلسفة
- رفض التطبيق الميكانيكي لمفهوم -المركزية الديمقراطية -
- غازي الصوراني - مفكر يساري وماركسي - في حوار مفتوح مع القارئ ...
- من حوار مع غازي الصوراني
- في فهم الماركسية المعاصرة وواقع العالم الثالث
- حول ما يجري في سوريا
- من ارضية التوافق مع الصديق المفكر سعيد ناشيد
- رفاق وأنصار وأصدقاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
- ثورة الشعب المصري تؤسس لإسدال الستار على الفرعنة والاستبداد ...
- اليسار وأولوية خوض المعارك الفكرية من أجل الديمقراطية و العل ...
- المعارك الفكرية تجسيدا لمعارك الجماهير الشعبية الفقيرة
- بعيدا عن المكابرة والمزايدات ...
- على طريق النضال من أجل فلسطين الديمقراطية العلمانية لكل سكان ...
- في اليوم الثامن للعدوان الصهيوني ....غزة رغم جراحها وشهدائها ...
- الى كل وطني من ابناء شعوبنا العربية ...........
- رؤية يسارية حول مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقر ...
- أبو مازن حينما تأخذه الواقعية الرثة بالإثم
- عن أوهام الربيع العربي في الذكرى (95) لوعد بلفور............ ...


المزيد.....




- أخذ ورد بين مذيعة CNN وبيرني ساندرز بشأن ما إذا كانت إسرائيل ...
- مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين بجامعة أمستر ...
- على وقع حرب غزة.. مشاهد لاقتحام متظاهرين في اليونان فندقًا ي ...
- هل تقود الولايات المتحدة العالم نحو حرب كونية جديدة؟
- م.م.ن.ص// -جريمة الإبادة الجماعية- على الأرض -الحرية والديمق ...
- تمخض الحوار الاجتماعي فولد ضرب الحقوق المكتسبة
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 554
- الفصائل الفلسطينية ترفض احتمال فرض أي جهة خارجية وصايتها على ...
- بيان المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- حزب يساري بألمانيا يتبنى مقترحا بالبرلمان لدعم سعر وجبة -الش ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - عصر النهضة وتطور الفلسفة الأوروبية والتنوير حتى نهاية القرن الثامن عشر