أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - رائحة الليل














المزيد.....

رائحة الليل


جمال الدين أحمد عزام

الحوار المتمدن-العدد: 4002 - 2013 / 2 / 13 - 13:53
المحور: الادب والفن
    


رائحة الليل

ليل ربيعي حالم، يبث رائحته في الشوارع و الأزقة، و عبر إضاءات الأعمدة و السيارات و شرفات المنازل، رائحة يزكيها سنا البدر الضاحك المطل على بقايا حدائق المدينة. تركني أخي ليصعد إلى عيادة الطبيب في العمارة الملاصقة للمقهى. جلستُ في الخارج قبالة نضد صغير تداعبني النسمات المنعشة بين الفينة و الأخرى، منتصرة على عوادم العربات المارة من أمامي. المقهى يكاد يكون ممتلئا، و ضجيجه الخفيض الرتيب يعلو حينا بنداء صبي القهوة، أو بضحكات المتسامرين أمام أكواب السحلب، أو بقرع أحجار الدومينو بالطاولات. تناغمت أضواء النيون النابعة من المقهى خلفي مع حالة الصفاء الغريبة التي انتابتني مضفية ذلك السحر العجيب على هذه الليلة، خاصة عندما انبعث صوت غناء كارم من مذياع المقهى، "أمانة عليك، يا ليل طوّل، و هات العمر من الأول...".
وضع صبي القهوة الفنجان أمامي و كوب الماء. حملت الفنجان المستقر على طبقه الصغير، تنشقت رائحة القهوة الساخنة المحوجة، تخللت الرائحة رأسي عندما رشفت أول رشفة، تناثرت علي الصور كرذاذ مطر خفيف. ها أنا ذا أراني طفلا في بيت جدي العتيق، أطل من الشرفة على المباني القديمة المزخرفة، و رائحة القهوة تنبع من الداخل، و ضحكات الزائرين تأتى من الغرفة المجاورة. أجلس في الصالون، أقلب أوراق المجلات الصفراء القديمة، فأجدني مسحورا بالأخبار القديمة و الصور المهترئة التي تحوي بين ثناياها بريق زمن مضى. رائحة قهوة الجد الزكية ما زالت تتدفق في رأسي و أنا ألهو في الحديقة الواسعة بجوار القصر القديم، أركض في خفة، أسدد الكرات في المرمى بين حجرين، أتقافز فرحا مع كل هدف. لا يتجاوزني جريا أيا من زملاء اللعب اللذين لا أعرفهم عندما أتناقل الكرة بين قدمي. أشعر بقرب رحيلنا من بيت جدي، أعود مسرعا، ارتقي الدرجات في رشاقة، أدخل شقة جدي متلمسا رائحة القهوة و البهار، تشملني الرائحة، فأنتشي بها.
تنقشع الصور مع تدفق رائحة الليل الخالصة من القهوة، و التي لم تلبث أن تلونت من جديد برائحة أخرى، رائحة اللحم الذي يطهى، و النابعة من العمارة الملاصقة للمقهى. أراني عائدا من المدرسة، و قد طالت قامتي و دخلت أطوار الرجولة. تنفستُ رائحة اللحم المطهو من بداية الشارع، حملتني الرائحة إلى شقتنا. أجد أمي تمسح الأرضية قبالة باب الشقة و الرائحة يجري لها لعابي، تستقبلني بابتسامتها العريضة، أحتضنها، ألصق خدي بخدها الندي، ثم أنطلق إلى الداخل ملبيا نداء اللحم.
أيقظتني نسمة منعشة تلونت فيها رائحة الليل بتلك الرائحة القادمة من الهضبة المشرفة على المدينة. إنها رائحة اليود، إذ أن المدينة كانت غارقة في البحر من قرون بعيدة و لم تزل تربة الهضبة مفعمة بيودها التاريخي. أراني في الزي الأبيض و كفاي ملتصقتان بالرمال الصباحية الباردة، و صوت العريف يزأر بالعد، و صدري، كما الآخرين، يقترب من الأرض و يبتعد. أجمل ما في التمرين هو رائحة اليود الزعفرانية المنبثقة من الرمال و الحصباء، و التي تغمر أنفي مع كل ضغطة. تفوقت عليهم في العد تحت تأثير الرائحة المبهج، عدت بالخطوة السريعة إلى مقهاي مع ضحكة فوز و سحبة قشاط.
تتلون رائحة الليل هذه المرة برائحة العود. من أين أتي العود! رشفت رشفة ماء، انتقلت إلى عالم آخر، رفعت رأسي لمطالعة البدر الوضاء،الذي امتزجت زرقة نوره برائحة العود و نجيل الحديقة و نثرات من روائح الفل و الياسمين عندما بدأت الخيوط الفضية تتداخل مع الذهبية، و تنقشان الثوب الأسود بسواد الليل. تعلو الزخارف الصدر و تتشابك و تلتف في روعة عند الرقبة، و شعر ناعم أسود كليل المحاق منسدل على الكتفين. رائحة العود تنبعث من الجسد الرقيق الذي لا يبدو منه سوى الوجه الأبيض معتليا الزخارف العربية المذهلة، بينما يلمع نور القمر في العينين الواسعتين المبتسمتين على أنغام الشفاه الوردية. تدافعت الروائح منها كزهرة تفتحت عندما تلامس كفينا، يخفق قلبي لأول مرة على أهازيج رائحة العود المتلونة بروائح جديدة لم أتذوقها قبلا. رائحة النظرة، رائحة اللمسة، رائحة الهمسة، رائحة العناق، رائحة الجسد المتلعثم كطفل يتعلم الكلام، رائحة الضحكة، رائحة الانتشاء، رائحة الفرحة، رائحة الارتواء، رائحة الحب. أفقت من زخم الصور الممتعة على غناء كارم، "...حبيبي الفجر لمّا يبان، عوده الغصن لما يميل، خدوده الورد في البستان، عيونه السحر فيها جميل...".
مازالت رائحة الليل تتلون، ثم في هذه اللحظة، مرقت تلك الرائحة الشقية. أرى الزهرة الصغيرة، و قد خرجت من الكبيرة، تحمل نفس عطرها الرائع مصغرا فصار أروع. الكتاب بصوره الكبيرة الملونة أمامي، و صغيرتي في سريرها الصغير لصق جانبي، تشير في الكتاب و أروي لها القصة. أغير صوتي مع تغير الأبطال، تضحك، فتنبع نفس رائحة الأم الواقفة لدى الباب و التي تراقبنا في غبطة. لا تريد الشقية أن تنام، تجلس الأم لصق جانبها الآخر فتصبح ابنتنا بيننا، ندغدغها فتنطلق الضحكات الصغيرة مشمولة بكل تلك الروائح العطرة الجميلة التي لا أعرفها.
انسحب تدريجيا صدى الضحكات و كارم يختم، "أمانة يا، ليلي، يا ليل"، و أخي أمامي معه آخر لا أعرفه. بادر أخي..هل انتظرت كثيرا. أجبت مبتسما..أبدا. قال..هذا هو الدكتور مجدي، نزل خصيصا من أجلك. صافحتُه..أهلا يا دكتور. التفت أخي إلى الطبيب مشيرا إلي..ها هو أمامك. رد الطبيب..لم يكن هناك داع، فقد قلت لك، أنا لا أعالج هذا المرض. عقب أخي..يعني، لا علاج لديك..اجعل الأمل في الله، فقد يُكتشف العلاج. قال أخي في أسى..لا إله إلا الله، إنه مقعد هكذا منذ ثلاثين سنة، منذ كان في الخامسة...
تبددت الكلمات، تباعدت عن مسامعي و النسيم الربيعي يملأ رئتيّ. دارت عجلات كرسيَّ و نحن نفارق المكان، و رائحة الليل تتخلل الطرقات، ألاحقها، فتلقي في قلبي نشوة البحث عن تلوناتها.
تمت



#جمال_الدين_أحمد_عزام (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المأوى
- تي
- الجلاد
- فستان الزفاف
- العصفور الأحمر
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 1
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 2
- وفاء
- رؤية
- زاد الرحلة
- الفنار
- الثورة و الثورية و الثوار


المزيد.....




- كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا ...
- إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
- سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال ...
- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - رائحة الليل