|
الكسله..... نورووز البصره الجميل
رزاق عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1146 - 2005 / 3 / 24 - 12:06
المحور:
الادب والفن
"الكسله".... نورووز البصره الجميل
كل العالم، تقريبا، يعرف ان نورووزعيدا قوميا للشعب الكردي، يمجد فيه بطولة الرجل الكادح "كاوه الحداد" وثورته ضد "الضحاك" جلاد شعبه. وان الفرس يحتفلون به كعيد لبداية السنه الفارسيه. وكذلك يحتقل ألأفغان، والباكستانيون، وبعض الشعوب الشرقيه الأخرى بهذه المناسبه. وكلمة نورووز تعني حرفيا اليوم الجديد. العرب الوحيدون،ربما، الذين يحتفلون بنورووز، بهذا المعنى هم اهل البصره. ففي ليلة ذلك اليوم يدب نشاط رهيب كخلية نحل في كل بيت . "صواني الكليجه" تنتظر بالمئات امام المخابز وألأفران، ان تتحول هذه القوالب الملفوفه بعنايه فائقه الى اطيب المعجنات في العالم.
انواع الحلويات، والكرزات، والملبس، والقند، والفواكه، والزبيب، وورق ألآس العبق تحتشد في "الصينيه" تيمنا بان العام سيكون عام خير وفير. وتجتمع كل عائله حول الصينيه المليئه بكل ذلك حتى منتصف الليل منتظرين "دورة راس السنه الجديده" على راس ثور، او ديك، او حمامه، ...الخ. في اليوم الجمسل 21 اذار عصرا، تزحف الجموع نساءا، ورجالا، واطفالا بملابس جديده زاهيه . عوائل باجمعها تسير في موكب بهي عفوي حامله الصواني، و"العلاليك"، وسلال الفاكهه، واكياس الكرزات والحلويات. متابطين، او حاملين "بسط" الجلوس، وادوات العزف، وخاصة الطبله الشعبيه والدفوف. هذه الالوف من البشر تتجه كلها مهما كانت حالة الجو حارا قائضا، ام غائما ممطرا فا لكسله لا بد منها. وهناك تفترش هذه الالوف ما حملته من البسط،، والبطانيات، والجرائد القديمه، والكارتونات، وما استجد من حصران النايلون، او حشائش الساحل. تجلس ألألوف لتتمتع، بجمال النهر الخالد شط العرب، الذي يولد له تؤم في كل عام في مثل هذا اليوم . نهر بشري ملون زاهي بديع يغطي مسافة الكورنيش طولا، وعرضا، وتفرعات. وكما يقول اهل البصره حينها، واصفين ازدحام الناس: "تذب الملح ما يوكع بالكاع".
الكل سعيد، وفرح، ومبتهج يستمع الى الفرق الشعبيه "الخشابه"، وهي تطرب الناس بايقاعاتها، ورقصات الغلمان ذوي الملابس المزركشه تذكر بعهد السلاطين. و"الدكاكات"، اي ضاربات الدفوف من الزبير، والبصره القديمه، والغجر كلهم حاضرون. الزوارق تنقل الناس الى الضفه الاخرى، الى التنومه، دون مقابل. الفرق الشعبيه كلها، ومعها الشباب، والأطفال ترقص، وتغني. تقطع النهر على زوارق خاصه ذهابا، وايابا، واحيانا يحتلون سفينه شراعيه قديمه "مهيله" مسرحا عائما للرقص، والغناء، والمشاهد، والحركات البهلوانيه المضحكه . بين استغراب، ودهشةالبحاره الهنود الذين يصادف يعضهم الحدث لاول مره. ثم "ياخذهم الواهس" ويبداون بغنائهم، ورقصاتهم الخاصه، وقفزاتهم المفاجئه، والمتكرره،مثل الشواذي، الى النهر. تسري اليهم عدوى المشاركه.
وتحتل فرقة "تومان" الشهيره مكانها الاعتيادي على احد الزوارق، او السفن الشراعيه، وهو يعزف الناي "الفيفره" بلهجة البصره بواسطة انفه. ولعله الوحيد في العالم الذي يعزف بهذه الطريقه حتى ينزف انفه. تومان هذه الشخصيه العجيبه ، الافريقي الاصل، والبصري الاصيل، ورمز الفكاهه، والمرح، وعنوان السخريه، والدعابه في شوارع البصره، وساحاتها.
العباره الرسميه "الطبكه" على غير عادتها مزينه بسعف النخيل، والزهور، والاوراق الملونه، وألاعلام. الناس تتجمع، وتتراص، حتى يصبح، من المستحيل تقريبا، ان تجد مترا واحدا لا يقف، او يجلس فيه احد.عوائل باجمعها، فتيات يتمايلن بغنج، ودلال، واشارات غزل وحركات ساخره، وساحره. عباءات سوداء، واشرطه ملونه، وظفائركانها حبال السفن. شبان يعرضون فتوتهم، ويغمزون للجميلات،شعور محلوقه حديثا، وملمعه "بدهن هندي". الصغار، يرقصون، ويمرحون، ويتقافزون بحريه. الكل يغني، ويطرب، وكأن الناس تحضر حفل زفاف الالاف في يوم واحد. انه فعلا عرسا بصريا جماعيا.
الطعام، والشراب متوفر، ومبذول وفي متناول الجميع. تزول الحواجز بين الغني، والفقير. ابن القصر وساكن الصرائف. الكليجه، والكبه، والدولمه، وخبز عروق، والكرزات، والبارد، والدوندرمه، والحلويات، والزبيب، والكشمش، وقمرالدين، والعالوجه، ومن السما، وغيرها، وغيرها. مائده مفروشه، ومتاحه، ومباحه للجميع. وليمه بصريه سخيه, فرح بصراوي جميل، "سفره" عامره، كما يقال هناك. ذلك الخيرالجنوبي الرائع، والنهر الراقص، مع الوان الشمس الغاربه، تتراقص امواجه مع ضربات الطبول، والدفوف. الناس تمرح وتضحك، وتغني، وتسعد بلا كلفه.
كرنفال البصره الاممي. العيد التضامني الجميل الذي لم تنقله شبكات التلفزيون العالميه كما تفعل مع هرج ومرج البرازيل. الكرنفال، الذي تجاهلته وكالات الانباء. يعيش في الضمائر، والقلوب، وفي حنايا روح المحبين، وعاشقي نسق البصره المتفتح، والمتطلع لفضاءات اوسع. عندما كنا صغارا، لم نكن نفهم من "الكسله" غير وفرة الطعام، والكرزات، والحلويات، وذاك الفرح، والأحساس الجميل بالحريه... وعندما كبرنا، ووعينا، عرفنا انها طيبة البصره، وصيغة تضامنها مع الاقليات، والتعايش، والتسامح، والانفتاح، على نوافذ العالم كله.
في السبعينات حاولت السلطات البعثيه تأطيرالاحتفالات، واعطائها طابع حزبي. فلم يخرج الا القليل من الناس، بعد ذلك. ثم شوه صدام الكورنيش الجميل بانصبة الحرب، وتماثيل القتلى، ومواقع المدفعيه، والمتاريس الرمليه، والمواقع الكونكريتيه . ولكأن مفارقه الصوره تريد، ان تقول، شتان ما بين فرح اهل البصره العفوي، وطيبتهم المتأصله، وبين حروب صدام، وهمجيته.
ترى هل بقي في البصره اناس تحتفل؟هل لا زال الشاطئ اخضرا، موردا؟ هل لازالت القوارب تزدحم عند الساحل تنتظر"العبريه" بابتسامات جميله، وايدي ممدوده للمساعده؟ هل يصطف باعة الماء البارد ليوزعوا مائهم المثلج، بدون مقابل، وهم ينادون سبيل يا عطشان؟ ومن لا يعطش في البصره؟ هل لا زال الناس يضعون اقواس الفرح من سعف النخيل في افراحهم، واعيادهم؟ هل لا زال الناس ينتظرون "دورة راس السنه" ملتفين حول الصواني، وهم يتنشقون عبير ورد الآس الذي لم اجد لعبيقه مثيلآ في كل حدائق وجنائن العالم ؟ هل لا زالوا يرشون ماء الورد على رؤوس الماره يوم نورووز الجميل؟
ايه يا بصرتي الجميله؟ هل محت الفاشيه فرحتك الى الابد، ام ان شعبك المنتفض في اذار 1991 "شهر العيد" اراد ان يقول للطاغيه، ان البصره بصرتنا، والفرحه فرحتنا. وسنعيد للبصره حبها، وتسامحها وفرحها، و"كسلتها"
رزاق عبود 12/3/2005
ملاحظه نشرت هذا الموضوع بتوقيع "بصراوي" بتاريخ2 نيسان1992 في نشرة "الكلمه" التي كانت تصدر في لندن. وكان يقوم باعدادها وتحريرها وطباعتها وتوزيعها صديقي الحبيب الاستاذ محمد سلمان حسن.
#رزاق_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مطران مسيحي، وسرسريه متأسلمين
-
السفاره العراقيه في السويد
-
نداء الى الثوره
-
الشعب الكردي يريد ألأستقلال والزعماء ألأكراد يفضلون ألأنفصال
-
بين خيمة الثوره وعباية المرجعيه ضاعت ألأنتخابات العراقيه
-
جمهورية العراق، ام الجمهوريه العراقيه
-
متى نظفر بعودة مظفر؟؟
-
اقعد عوج، واحكي عدل
-
لماذا لم تحصل قائمة- أتحاد الشعب- على ما يسر الصديق؟
-
متى تشيع دمشق الأسيره حزب البعث الفاشي؟
-
العراقيون صوتوا لعشائرهم
-
يا حريم العراق ... احتجبوا
-
انتخابات عراقيه، والفائز شمعبعثيه
-
ألأحد الزاهي في العراق
-
تعلموا ألأسلام من مسيحيي العراق
-
ما علاقة احمد الجلبي بالمرجعيه؟
-
هل تصوت المرأه العراقيه لمن يريد أن يستعبدها؟
-
العراق غير ملزم بدفع ديون، او تعويضات لأحد
-
علاوي غير نادم، فهل نندم نحن؟؟
-
هل فقد السيد السيستاني مصداقيته؟
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|