أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - توما حميد - النظام الرأسمالي وتدمير البيئة !-الجزء الاول















المزيد.....



النظام الرأسمالي وتدمير البيئة !-الجزء الاول


توما حميد
كاتب وناشط سياسي


الحوار المتمدن-العدد: 3964 - 2013 / 1 / 6 - 12:19
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الجزء الاول

تعتبر مسألة التناقض بين نمط الانتاج الرأسمالي والمحافظة على البيئة احدى اهم نقاط ضعف الرأسمالية في وقتنا المعاصر. ليس هناك شيئ اخر يبين حيقية ان دور الرأسمالية في تطور المجتمع البشري قد انتهى ويجب تجاوزها افضل من مسالة التغير المناخي و التدمير المنظم للبيئة الذي يعتبر اكبر خطر يواجه البشرية في الوقت الحاضر. رغم حملة الرأسماليين وخاصة المستثمرين في قطاع الوقود الاحفوري (النفظ والغازوالفحم) والصناعات المرتبطة به الذين لهم مصلحة في الاستمرار في انبعاث الغازات بالشكل الحالي من اجل شراء ذمم الكثير من العلماء للتشويش على هذا الموضوع هناك اجماع ساحق في الاوساط العلمية بان التغير المناخي وتلوث الجو بالغازات المضرة وتلوث الارض والماء بالمواد الكيماوية والتعرية وتقلص مساحة الغابات وتراجع خصوبة التربة وفقدان التنوع الحيوي والصيد المفرط للثروة المائية ونقص مياة الشرب تحدث فعلا وبخطوات متسارعة.
فالجدال لم يبقى حول عما اذا كانت هذه المسالة حقيقة ام مؤامرة من مؤامراة اليسار ضد النظام الرأسمالي كما كان الوضع في القرن الماضي بل ينتقل بسرعة ليتمحور بشكل اساسي حول سرعة هذا التدمير وسرعة ارتفاع درجة حرارة الكرة الارضية وما يمكن القيام به لمعالجة هذه المشكلة وللمحافظة على البيئة بشكل عام. اذ ينشر تقرير تلو التقرير في السنوات الاخيرة من قبل المؤسسات الدولية ومراكز الابحاث تشير كلها الى خطورة التغير المناخي وبلوغ تدهور النظم البيئية درجات مقلقة. ان الظواهر والكوراث الطبيعية في السنوات الاخيرة من اعاصير وزلازل وارتفاع مستوى ماء البحر وحرائق وفيضانات وموجات جفاف والامراض الناتجة عن انواع التلوث كانت كافية للاطاحة بقلاع اكثر المشككين بهذا الامر. وقد جذبت هذه المسالة اهتمام عدد كبير من البشر لان اثارها هائلة و لايوجد احد بمنأى عن تاثيرها. والتغيرات المناخية ادت بالفعل الى مشاكل اجتماعية كبيرة مثل الهجرة والتشرد والحروب وخاصة الاثنية والعنف و ارتفاع الاسعار و فقدان الوظائف والتكاليف الاجتماعية الكارثية هذه في تصاعد مستمر.
وهناك اجماعا ايضا حول مسالة ان التغير المناخي هو بسبب فعاليات الانسان التي تؤدي الى انبعاث ثاني اوكسيد الكاربون والميثان وبقية الغازات التي تؤثر على الظروف المناخية على الارض من خلال مضاعفة مفعول الدفيئة للغلاف الجوي الذي يحبس قسم من الطاقة التي تصل الى الكرة الارضية من الشمس، بمعنى اخر انها تعمل كطبقة تسمح للحرارة بالنفاذ من الشمس الى الارض ولكن تحبسها و تمنعها من التسرب الى الفضاء خارج الغلاف الجوي. يجدر الاشارة بان التغير المناخي الذي يشمل معدل درجة الحرارة ومعدل التساقط وحالة الرياح هو تعبير ادق من ارتفاع درجة حرارة الكرة الارضية، اذ رغم ان درجة حرارة الكرة الارضية بشكل عام في ارتفاع الا ان هذا لا يحدث لكل اجزاء الكرة الارضية بل هناك مناطق ستشهد انخفاض في درجة الحرارة.
لقد تمكنت الطبقة الحاكمة من اهمال قضية حماية البيئة لعدة عقود وبوصول التاتشرية والريكانية الى الحكم استخفت الطبقة الحاكمة بالتحذيرات حول المشاكل البيئية ودشنت فترة من الاستهلاك المنفلت العقال شهدت استخدام مكثف للطاقة. ولكن الان وصلنا الى مرحلة بحيث لم يعد بالامكان اهمال هذه المسالة. لقد ارتفعت درجة حرارة الكرة الارضية بالفعل حوالي 1.2 درجة منذ الثورة الصناعية و 0.6-0.7 في القرن العشرين والذي قد لايبدوا ارتفاعا كبيرا ولكن اكثر من نصف هذا الارتفاع حدث في اخر 30 سنة وقد ادى هذا الارتفاع بالفعل الى موجات جفاف، وانقراض انواع من الحيوانات وارتفاع مستوى البحر وفيضانات والكثير من الكوارث الطبيعية الاخرى واننا نحتاج الى ارتفاع في درجة حرارة الكرة الارضية بدرجتين لتحل الكارثة بالبشرية.

ولكن رغم هذه الوقائع والاعتراف بها لم يقم الراسمالييون وحكوماتهم بشيئ يذكر رغم الكثير من القمم والاجتماعات وتأسيس الكثير من الهيئات الدولية و اصدار بعض القوانين محدودة التأثير، ذلك لان التناقض بين نمط الانتاج الرأسمالي و المحافظة على البيئة هو من التناقضات غير القابلة للحل وربما من التناقضات القاتلة للنظام نفسه. ان الطبقة البرجوازية تعرف خطورة الوضع وحقيقة انه مالم تقم بشئ لوقف التدهور في البيئة فهناك خطر على النظام نفسه ولكن ليس بامكانها القيام بالكثير في هذا المجال وخاصة في ظروف الازمة الاقتصادية الحالية. اي لايمكن حل التناقض بين النمط الانتاحي والمحدوديات الطبيعية.
فالكرة الارضية ومصادرها محدودة ولكن النظام الرأسمالي يحتاج الى نمو دائمي لامتناهي. من المعروف ان النظام الاقتصادي الرأسمالي لكي يعمل بشكل طبيعي و يبقى في وضع صحي وغير متأزم يحتاج الى نمو اقتصادي مركب لايقل عن 4% في السنة باقل تقدير على مستوى العالم. اي يحتاج الى تحقيق ربح وتراكم في الرأسمال مستمر لكي يكون في وضع طبيعي.
اذ نمى الاقتصاد العالمي بمعدل 3.5% في سنة 2012 وبمعدل 3.9% في 2011 و 5.3 % في سنة 2010 ومع ذلك كانت اجزاء واسعة ومهمة من الاقتصاد العالمي في ازمة اقتصادية، لذا فانه ليس من المبالغة ان نقول ان نمو بنسبة 4% على المستوى العالمي هي نسبة ضرورية للابقاء على الاقتصاد الرأسمالي العالمي في وضع سوي.
كان الانتاج الاجمالي العالمي لسنة 2011 حوالي 70 ترليون دولار. حتى يحقق النظام الرأسمالي النمو المطلوب و يبقى في وضع سوي يجب ايجاد فرص استثمار مربحة للراسمال المتراكم نتيجة النمو والذي بلغ في سنة 2011 مثلا حوالي 2.7 ترليون دولار هذا في وقت لايوجد فرص لاستثمار الرأسمال الاصلي ، اذ ان جزء كبير من الرأسمال العالمي الموجود في الوقت الحاضر غير مستثمر اساسا. اذا لم يكن بامكان الرسمالية ايجاد فرص استثمار ل 2.7 ترليون دولار في 2011 وتحقيق النمو، فكيف سيكون الحال بعد 30 سنة من الان مثلا في حال استمر النمو بمعدل 4% وعندما يصبح الرأسمال العالمي اضعاف والتراكم السنوي اضعاف ايضا؟ ففي سنة 2000 مثلا كان الانتاج الاجمالي العالمي 41 ترليون بينما اصبح كما قلنا 70 ترليونا في 2011. هذا يعطينا فكرة عما سيكون عليه الانتاج العالمي في المستقبل. ان هذا النمو الالزامي والذي لايعرف النهاية من اجل الربح وليس بالضرورة لتلبية الحاجات الاساسية وحتى غير الاساسية للبشر يتناقض بشكل صارخ مع السعي للمحافظة على البيئة لانه يعني المزيد من الاستهلاك واستخدام المزيد من الطاقة. فالربح يعني ضخ المزيد من البضائع الى السوق وخلق طلب على تلك البضائع، اي استهلاكها والذي يعني استعمال المزيد من الطاقة والمصادر وبالتالي اطلاق المزيد من الغازات الى البيئة والمزيد من التلوث والتعرية.
من المعروف ان مع التطور التكنولوجي يميل معدل الربح الى الانخفاض كما يؤدي التطور التكنولوجي الى تطور هائل في القوى الانتاجية مما يؤدي الى عدم قدرة الطلب على امتصاص الانتاج على مستوى العالم وبالتالي الى قلة فرص الاستثمار وتباطئ الاقتصاد والى انخفاض اكثر في الربح. وقد بدات بوادر ازمة اقتصادية للنظام الرأسمالي بسبب هذا العامل في السبعينات من القرن العشرين وخاصة مع ارتفاع اسعار النفط. لمعالجة هذه المشكلة قامت البرجوازية بالتخلص من الكينزية وبهجمة على دولة الرفاه و دفعت بالنيوليبرالية الى الواجهة و توجت بوصول التاشرية والريغانية الى الحكم. والسياسات النيوليبرالية لاتزال تحكم بقوة على مستوى العالم والتي تؤدي الى تركيز الثروة والسلطة في ايدي اقل فاقل و تعطي دورا بارزا للرأسمال المالي الذي يميل الى خلق الربح وتراكم الرأسمال من خلال المضاربات المستندة بشكل اساسي على الدين نظرا لمحدودية فرص تحقيق الربح من خلال انتاج البضائع.
فمن اجل خلق فرص للاستثمار تقوم البرجوازية بعدة اجراءات منها خلق اسواق غير تقليدية مثل اسواق الاسهم واسواق العملة واسواق الائتمانات مثل الائتمان على قروض البيوت ومن ثم الائتمان على ائتمان القرض وبعدها الائتمان على ائتمان الائتمان بحيث يصل الى سبعة طبقات ائتمان على قرض اصلي و الخ. وفرص الاستثمار هذه عادة لاتساهم في التغير المناخي بشكل كبير ولكنها تخلق مشاكل للنظام مثل ازمة العقارات وتؤدي الى اعادة انتزاع الثروة من الطبقة العاملة كما حدثت في ازمة العقارات حيث فقد الملايين من العمال اموالهم المدخرة في البيوت من خلال خلق فجوة كبيرة بين القمية التبادلية والقمية الاستعمالية للبضائع ممايؤدي الى خلق فقاءات اقتصادية يؤدي انفجارها الى المزيد من تركز الثروة واعادة انتزاع الثروة من الفقراء.
ففي ظل النظام الرأسمالي تصبح البضائع الضرورية والهمة لعدد كبير من الناس بسبب قيمتها الاستعمالية مثل البيوت مصدر للمضاربات فيخلق فجوة كبيرة بين القيمة الاستعمالية والتي هي القيمة الحقيقية اي القيمة الفعلية لانتاج البضاعة وبين قيمتها التبادلية والتي هي ليست بصدد ما يكلف انتاج البضاعة بل ما يكلف شراءها. فالقيمة الاستعمالية لبيت اي مايكلف بناء بيت مختلفة عن قيمته التبادلية اي سعر شراءه. وحيث ان البيت يشترى من خلال قرض فان المبالغ المتراكمة نتيجة الفائدة على القرض تضاف الى سعر البيت وبالتالي يصبح للبيت قيمة تبادلية حتى بالنسبة للشخص الذي يسكن فيه و يصبح طريقة للادخار.
يبدا الناس بشراء البيوت ليس من اجل قيمتها الاستعمالية بل من اجل قيمتها التبادلية مما يؤدي الى ارتفاع اسعارها بشكل كبير فيراكم الناس ديون كبيرة نتيجة القروض ومع اي ازمة اقتصادية وفقدان الناس لوظائفها لايتمكن الكثير من الناس ايفاء مستحقات القروض للبنوك فتنهارالقيمة التبادلية اي تنفجر الفقاعة ويفقد الكثير من الناس القدرة على الحفاظ على البيوت التي يسكنون فيها حيث تنخفض اسعارها في وقت يكونوا مطلوبين للبنوك بقروض كبيرة ليس بامكانهم دفعها فتقوم البنوك بمصادرة البيوت. حيث فقد 4 ملايين شخص في امريكا بيته، اي فقد القمية الاستعمالية نتيجة المضاربات في القيمة التبادلية. وحتى قبل انفجار الفقاعة، فعندما تصبح القيمة التبادلية مهيمنة وهي ما تحرك السوق يصبح الكثير من الناس غير قادرين على شراء البيوت من اجل قيمتها الاستعمالية. اي ان القيمة التبادلية تحرم الناس من القيمة الاستعمالية التي يحتاجونها. نفس الشيئ ينطبق على التعليم والصحة والكثير من البضائع المهمة. ويؤثر هذا الامر على مستوى معيشة الناس بشكل عام حيث تزداد تكاليف المعيشة بسبب ارتفاع القمية التبادلية للسلع المهمة.
ومن الاجراءات التي سعت اليها النيوليبرالية من اجل تحقيق الربح هو تشديد ظروف العمل الامبريالية في الدول التابعة اي الابقاء على طبقة عاملة رخيصة محرومة من ابسط الحقوق من خلال القمع عن طريق دعم الانظمة القمعية ومن خلال فرض سياسات صندق النقد الدولي والهجمة على مكتسبات الطبقة العاملة حتى في الدول الامبريالية المتقدمة من خلال ازالة الحدود امام انتقال الرأسمال والهجمة على التنظيم والمنظمات العمالية.
ولخلق فرص للاستثمار تقوم البرجوازية بنقل الرأسمال الى بلدان اخرى فيها فرص استثمار وتراكم الرأسمال اكبر لانها تشهد نمو وطلب اكبر على البضاعة و تكون تكاليف انتاج البضاعة اقل لكون قوة عمل الطبقة العاملة فيها رخيصة. فاقتصاديات دول مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل هي التي وفرت فرص للرأسمال العالمي وحافظت على الاقتصاد العالمي من الدخول في ازمة عميقة . ولكن فرص الاستثمار حتى في تلك الدول تتجه الى التضائل بشكل سريع بسبب تشبعها بالرساميل المحلية والعالمية وبسبب قلة الطلب المحلي والعالمي على الانتاج من ناحية اخرى. ان انتقال الرساميل الى بلدان رخيصة الايدي العاملة ، يخلق مشاكل للنظام الاقتصادي في البلدان المصدرة للرأسمال مثل البطالة ومشاكل بيئية هائلة في الدول الجاذبة للاستثمار.
وكانت تخفيض الضرائب على الطبقة الغنية يرافقه هجمة على دولة الرفاه واي تدخل للدولة في دعم البرامج الاجتماعية وخصخصة الملكية العامة طريقة مهمة لتحقيق تراكم الرأسمال ايضا. ففي امريكا مثلا كانت الحد الاعلى للضريبة في البلاد منذ الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينات من القرن العشرين تصل الى حد 92% بينما خفضها ريكان ومن ثم جورج بوش الابن الى 35%. ان تخفيض الضرائب الى جانب برامج التسلح والحروب يؤدي الى عجز الميزانية وتراكم الديون على الدولة مما يعطي فرصة للطبقة الحاكمة للتخلص من كل البرامج الاجتماعية التي لاترغب بها. وهذا كان جوهر سياسات رونالد ريكان وجورج بوش الابن. يجدر الاشارة بان النيوليبرالية ليست بصدد تحديد دور الدولة في الاقتصاد بشكل عام بل بصدد تحديد دورها في البرامج الاجتماعية ولكن يبقى لها دور كبير في الاقتصاد من خلال دعم الرأسمال الوطني في مواجهة المنافسة الخارجية وفي دعم الرساميل والاستثمارات عندما تواجه مشاكل.
كما يميل الرأسمال الى تشديد عملية اعادة انتزاع الثروة من الطبقة العاملة والطبقات الاخرى بالاف الاشكال من خلال الاحتكار والتلاعب بالاسعار في بعض الميادين و تقديم القروض بانواعها ومن خلال الكثير من الخدمات التي ترافق الحياة المدينية.
ويعتبر تخلي الرأسمال عن مسؤوليته تجاه حماية البيئة وتكاليف المحافظة عليها وضمان مصادر رخيصة للطاقة مسالة في غاية الاهمية لتحقيق تراكم الرأسمال. فالرأسماليون يتعاملون مع البيئة كمصدر رخيص للمواد ومزبلة مجانية للنفايات الناتجة عن عملية الانتاج.
كما يعتبر التسلح والدخول في حروب طريقة مهمة لتنشيط الاقتصاد وتراكم الرأسمال حيث ان الحرب تؤدي الى خلق طلب على بضائع وان كانت غير ضرورية لاستهلاك البشر. ويعتبر احيانا اعادة بناء ماتدمره الحرب طريقة مهمة لتنشيط الاقتصاد. الحرب والتسلح هي بزنز ضخم. فالنفقات العسكرية الامريكية تمثل 4-5% من الناتج الوطني الاجمالي . وصرفت 1735 بليون دولار على المسائل العسكرية على مستوى العالم في عام 2012.
ولكن نفس سياسة النيوليبرالية التي استندت الى ضرب مكتسبات الطبقة العاملة اضعفت القوة الشرائية للطبقة العاملة مما يؤدي الى المزيد من الضعف في الطلب على البضائع، لان الطبقة العاملة هي التي تخلق معظم الطلب على البضائع من خلال الاجور التي تحصل عليها. وهذا الانخفاض على الطلب وانخفاض معدل الربح بشكل عام يؤدي الى خلق منافسة شديدة وشرسة بين الشركات العملاقة والدول على السوق في بعض الميادين مما يؤدي الى الابقاء على الاسعار منخفضة جدا وهذا يجبرها على ضخ كمية كبيرة من البضائع خلال سلسلة الانتاج من اجل تحقيق الارباح، فنجد بضائع تباع باسعار رخيصة لايمكن للعقل تصورها، فيمكن مثلا شراء ساعة بدولارين او تلفون خلوي ب 10 دولارات او قطعة ملابس بثلاث دولارات في محلات البيع في الدول الغربية، علما ان معظم الربح من البضاعة يحقق ليس من قبل المنتج الاصلي الذي قد يكون في الصين مثلا بل من قبل البنوك التي تمول المستثمر ومن قبل الشركات التي تنقل وتسوق البضاعة الى الزبون. ان مثل هذه الاسعار قد تكون جزئيا انعكاس للقوة الانتاجية ولكن تعكس ايضا استغلال سافر للعمال في بقع معينة من العالم ويعني استخدام عمل الاطفال، و فرض ظروف عمل خطرة جدا على العمال وحتى استعمال العبيد وفي نفس الوقت يعني المزيد من الاستهلاك الذي بدوره يعني استخدام المزيد من الطاقة و الذي يؤدي الى المزيد من التلوث.
ويبقى اهم اجراء الذي تقوم به البرجوازية لخلق فرص الاستثمار هو خلق طلب محلي على البضائع. وياتي هذا الطلب اما من خلال قيام الدولة بمشاريع بنى تحتية قد لاتكون ضرورية وعمران لايهدف الى تلبية حاجة السكان، او من خلال تشجيع الاستهلاك الفردي الجنوني .
فعبر تاريخ الرأسمالية، قامت الانظمة مرارا في اوقات الازمات الاقتصادية في بناء مدن اواعادة تصميم مدن من اجل خلق طلب على البضائع. فمثلا عندما اشتدت الازمة الاقتصادية الاخيرة التي مر بها النظام الرأسمالي وتناقص الطلب المحلي والعالمي على البضائع الصينية قامت الحكومة الصينية بشكل مباشر او من خلال تشجيع المستثمرين من خلال تقديم تسهيلات مالية على بناء ملايين من الوحدات السكنية التي لاتزال خالية من الناس لان ليس بامكان ابناء الطبقة العاملة الذين هم بحاجة الى سكن من ايفاء المبالغ المطلوبة لامتلاكها. لقد فقد بين 25 -30 مليون صيني وظائفهم اثناء الازمة الاقتصادية الاخيرة الا انه بعد ستة اشهر قلص هذا العدد الى حوالي 3 مليون عاطل، اي ان الحكومة الصينية اوجدت اكثر من 20 مليون وظيفة في فترة ستة اشهر. كما قامت الحكومة الامريكية بحملة بناء وعمران كبيرة بعد الازمة الاقتصادية التي حلت بالنظام الرأسمالي في الثلاثينيات من القرن الماضي. وفي الكثير من الدول مثلا تشجع الدولة مؤسساتها على استبدال اساطيلها من السيارات كل سنة او سنتين بدافع خلق طلب على السيارات من الانتاج المحلي، كما تقوم بتقديم اغراءات ضريبية لتشجيع الناس على استبدال سياراتها والاجهزة المستخدمة في العمل والخ من اجل خلق طلب على البضائع وبالتالي خلق فرص استثمار. كل هذه الاجراءات التي تؤدي الى خلق طلب على البضائع تؤدي الى تفاقم المشاكل البئية دون ان تخدم البشرية بشكل كبير.
ولكن يبقى دفع الافراد الى تبني نمط حياة مستند على استهلاك جنوني الى جانب ضمان بضائع رخيصة اهم وسيلة لخلق طلب على البضاعة وبالتالي تشجيع الاقتصاد الرأسمالي. وهناك مئة طريقة وطريقة لارغام واغراء الناس لشراء البضائع من اجل ضخ اكبر كمية من البضائع خلال سلسلة الانتاج. فهناك بضائع تصمم لكي لاتدم طويلا، واخرى يجب ان ترمى بعد فترة قصيرة في حين يمكن ومن المفروض ان تبدل اجزاء صغيرة منها بين الحين والاخر. ففي امريكا مثلا 99% من اجهزة الكومبيوتر ترمى وهي لاتزال تعمل بشكل مضبوط . وبشكل عام يشتري الشخص جهاز تلفون خلوي كل 18 شهرا. وملايين الثلاجات ترمى سنويا وهي لاتزال تعمل بشكل مضبوط.
من جهة اخرى نجد الاعلانات التجارية مثل " البيع بسعر مخفض" و " صفقة رابحة" و " اشتري واحد لتحصل على الثانية بنصف السعر او حتى مجانا" في كل مكان. وهناك الالاف من الامثلة الاخرى على اجبار او اغراء الناس لشراء البضائع واستهلاكها.
ان التسوق والبذخ والاستهلاك المفرط هو ليس من ابداع البرجوازية ولكن النظام الرأسمالي قام بتثوير التسوق ويبتدع في تشجيع النزعة الاستهلاكية مستغلا التكنلوجيا الحديثة. في ظل السياسات النيوليبرالية، يعتبر الاستهلاك وظيفة الفرد تجاه النظام وقد اصبحت كلمة المستهلك مرادفة لكلمة المواطن.
في ظل النظام الرأسمالي تتحول النزعة الاستهلاكية الى منظومة للقيم والى ثقافة ونظرة للحياة والاستهلاك الى مرادف السعادة. ويتحول كل شيئ الى بضاعة بما فيها العلاقات الاجتماعية والمشاعر الانسانية والفن ويستغل الى اقصى الحدود وتلعب الدعاية التسويقية دورا اساسيا في هذا الامر.
الدعاية التسويقية هي مؤسسة مهمة للنظام الرأسمالي اذ يعتبر اقناع الانسان على التسوق وتحويله الى جزء من حلقة الانتاج مهمة حياتية للنظام من خلال فن يستند على الخداع والكذب والتلاعب واستغلال المشاعر الانسانية وزرع الخوف. يعتبر تحويل ذوق ونمط معيشة وممارسات الطبقة البرجوازية الى ذوق ونمط عيش وممارسات الطبقة العاملة وكل السكان هدف الدعاية التسويقية. فالعامل يجب ان يحاكي ويقلد الغني بغض النظر عن النتائج. ان الاغراء والاغواء هي اهم من المعلومات في جذب الناس لشراء واقتناء الحاجات. تصبح الماركة والعلاقة والتطابق مع الماركة امرا في غاية الاهمية. هناك الكثير من الكلام عن خيارات الزبون ولكن في الحقيقية خيارات الناس تختزل الى الاختيار بين الماركات.
لقد اصبح خلق الزبائن علم بحد ذاته. لذا فقد صرفت 142.5 بليون دولار على الدعاية التسويقية في الولايات المتحدة وحدها في عام 2010 و 147 بليون في 2011 و153 بليون في 2012.
توظف البرجوازية علم النفس الى اقصى الحدود من اجل تشجيع التسوق من خلال تحفيز و التلاعب برغبات ومشاعر الناس وتنمية المشاعر السلبية مثل الغيرة والمنافسة والحسد ومحاولة جعل هم الناس بان يكونوا افضل من جيرانهم ومن زملائهم والناس الذين يعرفوهم. ويكون الاستهلاك والتسوق واقتناء الاشياء احيانا ليس من اجل تلبية الحاجات المباشرة والاساسية بل حتى الترفيهية للانسان بل طريقة للتعبير عن الفردانية و التميز عن الاخرين. في ظل النيوليبرالية يصورالجشع كسمة انسانية حسنة ويصبح الدخل وحجم التسوق والسلع التي يمتلكها الانسان مقياس النجاح وليس الصفات الشخصية التي يتمتع بها اوما يقوم بها من اعمال.
تقوم البرجوازية وخاصة الشركات والاحتكارات الكبيرة بمراقبة السلوك الاستهلاكي من اجل توجيه الدعاية باحسن الاشكال وبالتالي توقع و التحكم بسلوك الناس والسيطرة على نمط حياتهم. يقومون باستغلال اعمق الاحاسيس والمشاعر الانسانية من اجل حث الناس على التسوق. يتم خلق حاجات ورغبات جديدة للناس وحثهم على الاستهلاك لتلبية تلك الحاجات والرغبات المصطنعة. يقومون بخلق احلام و هويات وهمية للناس ومن ثم استغلال تلك الاحلام و الهويات من اجل تشجيعهم على اقتناء الاشياء واستهلاكها. تمجد كل المناسبات والاعياد وحتى تخلق اعياد وتربطها بالتسوق والبذخ وتقديم الهدايا. فاكثر من 50% من واردات بعض المتاجر تاتي من خلال الاستهلاك الجنوني الذي يرافق اعياد الكرسمس على سبيل المثال.
في وقتنا الحاضر تحول البرجوازية الاستهلاك والمنافسة على الاستهلاك بين الناس الى ثقافة، لكي يصعب ابطائه بحيث حتى عندما يواجه الناس محدوديات يفترض بهم عدم البذخ يجدون صعوبة في مواجهة هذا الميل. فهدف الدعاية التسويقية هو دفع الناس الى شراء البضائع بغض النظر الى حاجتهم اليها او قدرتهم على دفع ثمنها وهذا يؤدي بالنتيجة الى زيادة التفاوت الاقتصادي والى ظهور الكثير من الامراض المتعلقة بالتسوق مثل فرط التسوق والادمان على التسوق واعتقادات راسخة مرضية عن الجمال وجمال الجسم.
يجدر الاشارة الى ان بعد اطلاق ايفون ج 3، بيع في الولايات المتحدة وحدها مليون قطعة في ثلاثة ايام وبيعت 8.3 مليون نسخة من كتاب هاري بوتر في 3 ايام وسجل 1.7 مليون طلب مسبق لشراء العاب هايلو 3 حتى قبل اطلاقها الى الاسواق. هذه الارقام لاتعكس باي شكل من الاشكال حاجات الناس وحتى مدى قدرتها على الدفع ولكن فعالية الحملة التسويقية.
وفي العقود الثلاثة الاخيرة قام الرأسمال وخاصة الرأسمال المالي ممثل بالنيوليبرالية بخلق طلب على البضاعة وادخال عملية الاستهلاك والتسوق مرحلة جديدة من خلال تمكين ابناء الطبقة العاملة على التسوق من خلال الدين اي من خلال القروض بانواعها وخاصة بطاقات الائتمان. ان الاجور بقت كما هي او حتى انخفضت منذ بداية الالفية، بينما ازداد الصرف المنزلي حتى في سنوات الازمة الاقتصادية وهذا يعني بان الناس تستدين بشكل او باخر.التسوق من خلال الدين هو اسهل ولكن اسوا طريقة لتشجيع النمو. فبطاقات الائتمان كانت اختراع مبدع للرأسمال المهتم بالمكاسب الانية. التسوق عن طريق الدين يحقق هدفين للبرجوازية.
فمن ناحية يقدم الدين طريقة لخلق الطلب على البضائع ولو بشكل موقت ومن ناحية اخرى فان الدين يؤدي الى الخمول وقتل الثورية في صفوف الطبقة العاملة، فالعامل المديون يحاول تجنب الاضراب والنضال بل يصبح ارضاء صاحب العمل والمحافظة على وظيفته باي ثمن هدفه الاساسي، ويحرف الاستهلاك انتباه العامل عن الاستغلال الذي يتعرض له في موقع العمل. كما تدفع النزعة الاستهلاكية والدين الناس الى تنظيم حياتهم حول اجور اعلى وهذا احيانا يؤدي الى الافراط في العمل والذي يؤثر على رفاهية الانسان ويخلق مشاكل اجتماعية كبيرة و مشاكل بيئية. ويعتبر التشجيع على امتلاك البيت من خلال القرض احد اهم انواع الاستهلاك من خلال الدين. من خلال الدين يتحول النظام المالي الى سلطة قمعية تتحكم بالانسان ورفاهيته وسعادته وحياته الاجتماعية .
كل هذا يؤدي الى نشر ثقافة مادية الى اقصى الحدود وقيم سطحية واحلال الميول والقيم الاستهلاكية والمادية مثل الفردانية والمنافسة وحب المادة محل القيم الانسانية والرصانة الشخصية. تؤدي القيم الاستهلاكية والصراع بين الافراد من اجل التمايز الاجتماعي الى ظهور علاقات نرجسية وعدوانية بين الافراد والى الاجهاد الشخصي وتدمير العلاقات الاجتماعية وتدمير نسيج المجتمع والى درجة كبيرة من اغتراب الانسان وتفريغ حياته من معنى من الناحية الاجتماعية. فكلما ازدادت القيم المادية ضعفت القيم الاجتماعية ويصبح الانسان اقل تعاطفا وكرما وتعاونا وكلما قل الاهتمام بالطبيعة وتقل المشاركة في الفعاليات التي تخدم الطبيعة. كما تؤدي الثقافة المادية الى بروز الكثير من الامراض ومقدار كبير من الغضب الذي يعبر عنه احيانا عن طريق العنف. اذ تؤكد الابحاث بانة كلما ثمن الناس الطموحات المادية كلما كانوا اقل سعادة ورضا واقل اختبارا لانواع ايجابية من الشعور. والكابة والقلق والادمان هي اكثر شيوعا بين الناس الذين يثمنون المادية.
للموضوع تكملة



#توما_حميد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيوعية العمالية ومسألة عبادة الشخصية!
- رد على تصورات الرفيق رزكار عقراوي - الشيوعية العمالية، الحكم ...
- النضال الحالي في العراق يضع التيار الشيوعي والتقدمي بمواجهة ...
- ثورتا تونس ومصر وازمة الرأسمالية الدائمة!
- فوائد الصيام الاسلامي، حقائق علمية ام شعوذة وتضليل!! - 1-2-3
- طارق حجي يشارك في حملة الاسلام السياسي لقمع مخالفيه!
- هل للمشاركة في هذه اللعبة الانتخابية اي قيمة!
- انه مؤتمر كل من يدق قلبه لعمال العراق!
- الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني يبدعا ...
- فوائد الصيام الاسلامي، حقائق علمية ام شعوذة وتضليل!! -الجزء ...
- فوائد الصيام الاسلامي، حقائق علمية ام شعوذة وتضليل!! -الجزء ...
- فوائد الصيام الاسلامي، حقائق علمية ام شعوذة وتضليل!!
- الاسلام والاسلام السياسي والعنف ضد المرأة
- ملاحظات حول نداء - مدنيون-
- الايبيجينيتكس(Epigenetics) نظرية علمية فذة واضافة مهمة للمار ...
- -كلام لابد ان يقال- والدوران في نفس الفلك؟!
- القضاء على اليسار الهامشي ام احيائه! - رد على رسالة مؤيد احم ...
- بصدد التفكير النقدي والممارسة المستندة على المنهجية وأهميتها ...
- المرأة في عراق ما بعد الاحتلال
- هل من حدود للعبثية الاسلامية؟؟؟


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - توما حميد - النظام الرأسمالي وتدمير البيئة !-الجزء الاول