أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - معتز حيسو - العصبيات الحديثة















المزيد.....


العصبيات الحديثة


معتز حيسو

الحوار المتمدن-العدد: 3964 - 2013 / 1 / 6 - 10:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



يشكّل الانغلاق على أحد المكونات الأولية للمجتمع، عائلة،عشيرة، قبيلة، مذهب، عرق، دين، طائفة،.. بداية تشكل العصبيات بأشكال تجلياتها المتخلفة. وتتميز العصبية بشد العصب المكوِّن لهذا الانتماء،و بالتزمت والتعصب والتقوقع حول فكرة طوطمية والانغلاق على الذات وعلى العصبية التي تشد عصب من ينتمي لها لدرجة يرى فيها من يرتبط بأحد هذه العصبيات بأن كافة مكونات الكون وقضاياه تتمحور حول عصبيته.والعلاقة بين هذه العصبيات تكون غالباً محكومة بلغة العداء والسطوة والقوة والسيطرة والهيمنة ورفض الآخر.... ومن الممكن أن تتحول بعض الأشكال والبنى الحديثة/ الحزب، النقابات،السلطة، الفكر../ إلى عصبيات في ظل: غياب الدولة، سيادة التخلف الاجتماعي،في الأزمات التي تهدد وجود الإنسان، استمرار تأثير العصبيات القديمة.
ومن البداهة بمكان أن العصبيات ليست بالشيء الجديد. إذ يرتبط ظهورها في سياق تطور التاريخ البشري في مراحل محددة ولحظات تاريخية معيّنة. فنشوءها وتناميها وتراجعها وزوالها يرتبط موضوعياً ببنية وشكل الدولة،وبالتالي بمكانة ودور مؤسسات الدولة التي يفترض أنها تمثّل المواطن / الإنسان / الفرد . فالإنسان يميل بحكم تكوينه وبنيته الاجتماعية أن يتموضع في أطر اجتماعية جماعية لتحقيق ذاته المستقلة، المتميزة ،المستقرّة، وكلما تنامت هذه الجوانب وتعمّقت في الوعي الإنساني، كلما ازداد مستوى القطع المعرفي للفرد/ الإنسان مع الحالة القطيعية. ويرتبط مستوى القطع مع القطيعية البهيمية بمستوى وشكل الوعي الاجتماعي المؤسساتي الذي يحقق للفرد المتفردة مكانته المستقلة والمتميزة والفاعلة في الأطر المؤسساتية.
وإذا كانت العصبية تنشأ في سياق تشكّل بشري محدد بسمات وشروط زمانية ومكانية خاصة، محددة ومحكومة بمستوى التطور الاجتماعي العام للبنية الاجتماعية وأشكال تجلياتها، فإنها تعزز الشد العصبي على أسس جهوية مذهبية إثنية طوائفية عشائرية دينية... فهي تقوم على مبدأ التكتل، التوحد،الاندماج، تماهي الذات وذوبانها في الجماعة ومعها. والإشكالية في اللحظة الراهنة تكمن في إعادة إنتاج التموضعات والتشكيلات الاجتماعية الحديثة (الحزب، النقابة، المؤسسات..) من منظور عصبوي يعيد إنتاج التخلف، في ذات اللحظة التي يتم فيها استنهاض ذات العصبيات بأشكال مستحدثة تتوافق مع اللحظة الراهنة، لكنها تتجلى بأشد أشكالها تخلفاً وتعصباً وانغلاقاً وتقوقعاً على الذات. وهذا يرتبط موضوعياً بالأزمة التي تعاني من آثارها كافة مكونات المجتمع السوري. لكن من يتحسس الخوف على مستقبلهم بشكل خاص هم الأقليات(المذهبية،العرقية،الإثنية والقومية.) وهذا نتيجة لتراجع إن لم نقل غياب خطاب وطني جامع، عدم وضوح آفاق المستقبل، الأخطاء التي ترتكبها أطراف الصراع، إضافة لعجز هذه الأطراف عن حماية المدنيين. إن استمرار تأثير العصبيات في الوعي الاجتماعي، يرتبط بعجز الدولة عن تمكين وعي مدني علماني ديمقراطي تعددي، وعجزها أيضاً عن تمكين وتطوير مجتمع مؤسساتي يقطع في سياق التطور الاجتماعي العام مع كافة أشكال الوعي قبل الوطني. ومن النافل القول أن البرجوازية المتخلفة التي تحكم المجتمع بالقمع والاستبداد، تحافظ في سياق سيطرتها الطبقية على التشكيلات الما قبل وطنية وأشكال وعيها وإن بمستويات وأشكال كامنة ومتفاوتة، لتوظيفها في لحظة محددة(الأزمة)، وهذا ما يلحظه المراقب والمتابع لمجريات الحراك السوري الذي دخل في طور الأزمة، والخروج منها يحتاج إلى آليات تفكير ووعي واشتغال تقطع مع ما هو سائد من أشكال وعي وتفكير وممارسة، وهذا يحتاج لنمط من الوعي والتفكير التحليلي والنقدي للوعي الاجتماعي والسياسي اليومي السائد. ومن الموضوعية بمكان أن يقترن تشكّل هذا النمط من التفكير مع الوعي العلماني، الديمقراطي، المدني في سياق نقد ونقض الوعي المتخلف، وهذا يؤسس لعمليات نقض موضوعية للممارسة السياسية السائدة التي لم تخرج عن سياق التمحور حول الأنا الذاتية المتضخمة. وهذا الشكل من الوعي يتماهى مع الوعي السائد،الذي لا يمكن للفرد تجاوزه إلا في سياق تطور اجتماعي عام يتجاوز ويجبّ ما هو سائد من وعي اجتماعي متخلف.
إن قمع التشكيلات المدنية والفصائل السياسية الوطنية والتجمعات الثقافية، في ذات اللحظة التي كان يتم فيها غض النظر إن لم نقل المساهمة في تشكيل تجمعات قبل وطنية (جمعيات أهلية، قبيسيات.. ) رغم مخالفته للشكل العلماني للدولة، كان يدلل على بنية السلطة وتركيبتها وآليات اشتغالها، وعلى المخاطر المستقبلية التي تنتظر السوريين نتيجة لهذه الآليات التي أمنت المناخ المناسب لتشكيل الحواضن الاجتماعية لتيارات سلفية وجهادية، وعمّقت التناقض الاجتماعي، في سياق المحافظة على تشكيلات قبل وطنية تزيد من حدة الاستقطاب الاجتماعي المستند إلى العصبيات، وهذا يوضح أسباب بروز وظهور الانتماءات والولاءات العصبوية، وأيضاً يوضّح أسباب استدامة إنتاج التخلف، واستمرار كمون أشكال ثقافية عصبوية. إن استنهاض هذه الآليات وتوظيفها سياسياً في اللحظة الراهنة، يساهم في إشاعة الفوضى وخلط الأوراق وإعاقة سيرورة التغيير الوطني الديمقراطي المدني، ونكوص المجتمع لأشد مراحله تخلفاً. والأهم أنه يستدعي ممارسة العنف المركّز والمركّب من قبل السلطة المسيطرة لمواجهة عنف مكونات المجتمع الأهلي المسيس عصبوياً،والذي ساهمت أطراف من السلطة في تمكينه في ذات اللحظة التي كانت تشتغل فيها على تفريغ الحراك الشعبي من مكوناته المدنية السلمية بالقمع المبطّن والعاري، وهذا لن يتم لأن بنية الحراك الشعبي السوري ومكوناته الأساسية هي قوى مدنية، وما يتجلى من مظاهر عنفية متطرفة هي حالات طارئة ودخيلة على المجتمع السوري، والشعب السوري الذي يتمتع بوعي ديمقراطي، مدني،سلمي،وطني، يحترم العيش المشترك القائم على التنوع. قادر على مواجهة وتجاوز هذه المظاهر، لأنها ليست من نتاج بنية المجتمع السوري، ولا تعبّر عن ثقافته.
وليس جديداً إن يرتبط ظهور وتجلي هذه الأشكال من الوعي العصبوي، ببنية الدولة وأشكال تجلياتها السياسية والاقتصادية ودور مؤسساتها وتأثيرها على الفرد لجهة الانتماء والتعبير عن المصالح الاجتماعية من ناحية. ومن ناحية أخرى يرتبط عودة ظهور هكذا وعي، بمستوى تطور الوعي السياسي والمدني والمعرفي الذي تتحدد بموجبه أشكال الاشتغال بالقضايا العامة.
لقد مثلت العصبيات التقليدية في أشكالها الأولية أحد مكونات الدولة قبل وطنية / سياسية. فكانت هذه الأشكال من التجمعات والتكتلات والانتماءات، تعبيراً عن حاجة الفرد لأطر اجتماعية يحقق فيها ذاته وانتماءه،و بذات اللحظة كانت تؤمن استقرار الفرد الاجتماعي،النفسي،الاقتصادي، وبشكل خاص الاستقرار الذهني والعقلي.
إن هذه الأشكال من التكتلات والانتماءات سادت وانتشرت في مراحل لم تكن فيها الدولة ببنيتها وأشكالها القديمة تقوم بوظائفها الاجتماعية التي نشهد جوانب مهمة منها في معظم الدول الأوربية التي قطعت في سياق تطورها الليبرالي( فكرياً، سياسياً، اقتصادياً)مع أشكال الوعي القروسطي المتخلف. من هذا المنظور يمكن أن تشكّل إن هذه الانتماءات، حاجة إنسانية واجتماعية ضرورية وموضوعية للفرد في الدول التي لم تتجاوز حتى اللحظة أشكال تكوّنها الجنيني.
لكن ما إن بدأت المؤسسات الاجتماعية للدولة بالتشكل على قاعدة الفهم والعقل الوطني والمصلحة والوظيفة الوطنية العليا الشاملة والجامعة .. حتى بدأ الفرد ينزاح ويتحول عن التشكيلات الأهلية السابقة، لإدراكه أنها متخلفة عن سياق التطور التاريخي في لحظته الراهنة، إلى تشكيلات مدنية ذات سمة وطنية قاطعة مع هذه الأشكال من الانتماءات. لكن مع كل حالة تراجع وارتداد للدولة عن وظائفها الاجتماعية، ومع كل لحظة غياب عن دورها الاجتماعي الوطني في سياق ما تستنبطه آليات العولمة من أشكال لدويلات مشوهه في بلدان العالم المتخلف، كانت هذه التشكيلات تستعيد أدوارها ووظائفها المعهودة وإن بأشكال ومستويات مختلفة. فحاجة الإنسان لتلبية احتياجاته تدفعه في بعض اللحظات ليتمسك بحبال جهنم حتى ينجو مما يعاني،فكيف إذا كان من يتحكم في سياق وآليات العولمة يدفع إلى استعادة هذه التشكيلات، ليعاد بناء الدول والمجتمعات على مكوناتها الأولية المتخلفة، من أجل إحكام هيمنتها السياسية والاقتصادية وفق منظور سياسي جديد يقوم على إعادة صياغة وبناء الدول الطرفية المتخلفة من منظور اثني، مذهبي، طائفي، ديني.. وهذا يفترض بالضرورة أشكال جديدة من العلاقات التي تبقي على التخلف والتبعية والارتهان من قبل هذه الدويلات لمراكز رأس المال العالمي المهيمن. وهذا لا يستدعي فقط استنهاض العصبيات الأولية، بل تمكينها سياسياً، إن هذا التحوّل في شكل العلاقات وآليات اشتغال رأس المال المعولم، يخدم مشروع إقامة الدولة اليهودية في المنطقة. وهذا يتناقض موضوعياً مع كل الدعوات الديمقراطية التي تطلقها الدول الرأسمالية في سياق تأكيدها على ضرورة دعم بناء الدولة المدنية التعددية، كون دوائر صناعة القرار في ( الإمبرياليات المهيمنة) لا تشتغل فقط على الترويج لديمقراطيات شكلانية وظاهراتية،بل تشتغل لإعادة تشكيل بنية الدول المتخلفة على أساس المكونات الأولية للمجتمع. لذا فإن بقاء هذه التشكيلات والانتماءات وحتى آليات التفكير في حيزات الوجود وتلافيفه المعلن وغير المعلن دليلاً ومؤشراً على فشل الدولة بالقيام بمسؤولياتها ووظائفها .. التي تشكلت أي الدولة من أجل إنجازها.. وبذات اللحظة هي دليل على أن هذه التشكيلات والأشكال من الانتماءات والولاءات لم يجبّها أو يتجاوزها التطور والارتقاء الاجتماعي( السياسي، الاقتصادي). مما يعني موضوعياً تقاطع الواقع الاجتماعي الراهن وسياسات النظم المسيطرة مع الميول العولمية المشوهة والمشبوهة.
لكن إذا كان ظهور هذه الأشكال من الانتماءات بتجلياتها وأدوارها الإيجابية منها والسلبية، يعبّر عن حالة موضوعية من التطور الذي يتراجع فيه دور الدولة الاجتماعي الوطني، فإن المجتمع سوف يتجلى بداهة وفق أشكال أهلية / قبل مدنية. وهذا شيء طبيعي وموضوعي في سياق المتغيرات الراهنة.حتى لو كان يعاكس أو يخالف المنطق التاريخي في تطوره الارتقائي المتصاعد،الذي يجبّ في سياقه بقايا التخلف. لكن ظهور العصبيات القديمة بأشكال مستحدثة في دول حداثوية، يدلل على عجز حكومات هذه الدول عن انجاز مشاريعها التنموية، وعلى فشلها في بناء الدولة من منظور سياسي ديمقراطي مدني مؤسساتي، وعلى تقاطعها وارتباطها البنيوي مع سياسات الدول الرأسمالية المعولمة التي تشتغل على تعميق التخلف والتناقض الاجتماعي بكافة مستوياته ومن منظور دون وطني، ودون سياسي.
لكن الإشكالية الكبرى تكمن في التجليات المستحدثة للعصبيات في ظل دولة حديثة تقوم على المؤسسات والأحزاب والجمعيات المدنية والحقوقية.ويمكننا الوقوف على هذه الحالة، ليس فقط من هذه الزاوية، بل على قاعدة تحوّل مؤسسات المجتمع المدني ذاته في ظل الأزمة التي تعصف بدول ( الربيع العربي) وتحديداً سورية، إلى أشكال عصبوية لا تجّب فقط دور مؤسسات المجتمع المدني(الشكلاني)، بل تناقضها وتهدد استمرارها، وهذا يدلل أيضاً على تشكّل بدايات وعي وتفكير متخلف بأشكال مختلفة. وهذا يستدعي من كافة المثقفين والهيئات والفعاليات المدنية، العمل بوعي وفكر ديمقراطي مدني علماني لمواجهة هذا الميل المتخلف الذي يهدد بنية المجتمع السوري. ومن الممكن في حال تعمّق تأثيره اجتماعياً أن يعيد المجتمع السوري لعصور التخلف، وأن يساهم في تفجير المجتمع على ذاته. وفي هذه اللحظة بالذات، فإن هكذا تحوّل لا يساهم فقط في إجهاض إمكانية التحول الديمقراطي، بل يعمّق حدة الانقسامات والتناقضات الاجتماعية التي أخذت تومئ برأسها من خلف إشكاليات لم نكن نلحظها بالشكل المباشر والعياني الملموس في السابق. مما يعني أن ظهور هذه التشكيلات (العصبيات)في اللحظة الراهنة يؤكد التساؤلات التي كنا طرحناها فيما مضى عن أسباب انكفاء الدولة عن القيام بدورها و وظائفها الاجتماعية من منظور وطني جامع،وعن تراجع المضمون الوطني للسياسات الحكومية في سياق نكوصها إلى الاعتماد على بعض المكونات الأولية والفعاليات الأهلية للمجتمع السوري من منظور متخلف يعفيها من تحمّل مسؤولياتها.وهذا التحول يعزز التساؤل عن إشكالية ومخاطر تحلل مؤسسات الدولة وتفتتها وتشتتها وتخلّع كيانيتها. ونتساءل: هل حقاً تم تجاوز الوعي ما قبل وطني بشكل فعلي وحقيقي، أم أنه ما زال يقبع داخل ذهنية وعقل الفرد. وإن كان هذا، فماذا كانت مؤسسات الدولة ( العلمانية / الحداثوية ) تفعل لتطوير مستوى الوعي الاجتماعي بأشكاله ومستوياته المدنية والعقلانية والعلمانية التي كان يجب ويفترض أن تواكب التطور العلمي والحضاري العالمي. أم أننا لم نشهد في الحقيقة حتى اللحظة تشكّل دولة مدنية، بل دويلات دون الدولة تجلّت ظاهرياً وشكلانياً بكونها مدنية، لكنها في العمق كانت دويلات تحافظ على العصبويات الأهلية الأولية التي لم تتخلى عن أدوارها ووظائفها الاجتماعية والسياسية والمذهبية، بل تغيرت أشكال تجلياتها وآليات اشتغالها فقط .. وهذا يدلل على أن تجليات هذه الدول المدنية المعاصرة ظاهرياً وشكلانياً، كان يحجب بنية الدولة الحقيقية القائمة على التكتلات العصبوية.. التي حافظت على أدوارها ووظائفها المعلنة وغير المعلنة. وما هذا إلا دليلاً على تخلف الدولة كبنية مؤسساتية عن مواكبة التطور العام، وأيضاً دليلاً على إشكالية الشرائح والفئات البرجوازية المسيطرة بأدوات ووسائل التخلف، وعجزها وفشلها عن القيام بمهامها الوطنية. وبمثل هذه الحالة فإن الارتداد والنكوص إلى التخلف سيكون سمة الفرد والمجتمع والدولة.
فالدولة في أشكال تجلياتها الراهنة وبنيتها الإشكالية لم تعد تتمتع بمقومات الدولة،وهذا يؤكده تراجع سلطتها المركزية(الوطنية المدنية)على المجتمع،المؤسسات،الأرض. وأيضاً مؤسساتها لم تعد تعبّر عن المجتمع القائم على التنوع السياسي، الاجتماعي،المذهبي... وحتى الأحزاب تعود القهقرى إلى أشكال ما قبل سياسية لتتجلى بأسوأ أشكالها ومستوياتها(عائلية،عشائرية،إثنية،جهوية،..)ومن الموضوعية بمكان أن يرتد ويرتكس وينكص الإنسان إلى تشكيلات قبل سياسية عندما تفتقد مؤسسات الدولة لحظة الأزمة دورها المدني الديمقراطي التنموي، وتحديداً عندما تعجز عن تحقيق العدالة.
هذا التحول الذي يعاد فيه إنتاج التخلف، من خلال إعادة إنتاج التشكيلات الأهلية يدلل على تراجع دور الدولة وضعفها وتخليها عن مسؤولياتها. ولحظنا كيف أن الجهات الرسمية في السنوات القليلة السابقة اشتغلت على استعادة دور هذه التجمعات والتشكيلات والجمعيات.ويشكّل هذا التحوّل نبشاً لتاريخ التخلف،الذي يدعّم الدور الوظيفي لهذه التشكيلات التي لم يتجاوزها التطور، ويدلل على هذا قدرة هذه التشكيلات على تلبية حاجة الفرد للانتماء حتى اللحظة.
ومن المفترض أن لا نتوقف أو نكتفي بملاحظة ومتابعة أشكال تمظهر هذه التشكيلات. بل الأهم هو فهم وإدراك إشكالية ظهور عصبيات حديثة تستند بأشكال ومستويات تجلياتها إلى الجذر والعمق التاريخي لذات العصبيات القديمة، مستغلة تراجع إمكانية مؤسسات السلطة المركزية عن القيام بأدوارها ووظائفها السياسية والاجتماعية في لحظة الأزمة المتضخمة التي تنبئ بإمكانية تحلل كيانية الدولة في حال لم يتم الاشتغال على إيجاد حل سياسي ديمقراطي وطني شامل وعميق، تحديداً بعدما فشلت آليات ومفاعيل القوة العارية (الأمنية والعسكرية) عن فرض استمرار سيطرة الفئة المسيطرة. والسبب في ذلك يكمن في أسباب مختلفة ومتباينة، منها تعدد مراكز القوى خارج الأطر الرسمية. إن تعدد مراكز القوة المادية والبشرية لا يتجلى في اللحظة الراهنة من منظور التشكيلات الأولية ( الإثنية،المذهبية،العشائرية...) فقط، بل أن بعض الحالات السياسية ( الحزبوية المسلحة، والعقائدية الجهادية) تتجلى من ذات المنظور. أي إننا نلحظ نهوض واستعادة لدور هذه التشكيلات من منظور يختلف عما كان سائداً فيما مضى. فمن جانب يدافع بعضاً من هذا التشكيلات التي تحولت إلى قوة مادية مسلحة عن سلطة الفئة المسيطرة التي يتم شخصنتها على الأغلب. فيما البعض الآخر يناصب العداء لسلطة الفئة المسيطرة التي يتم اختزالها أحياناً في شخص بذاته. أي أننا نشهد انقساماً حدياً في البنية الاجتماعية، وتشتتاً على مستوى مكوناتها الأولية والسياسية التي تتجلى بالتناقض والتداخل والتراكب على كافة المستويات.
من جانب آخر بات من الملاحظ بأن التحولات التي يشهدها المجتمع السوري، تنعكس على كافة مستويات وتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية. فالمستوى السياسي لم يعد يتجلى فقط بذات الأشكال والبنى التي كانت سائدة فيما مضى، بفعل عدم تجاوز الفصائل والقوى السياسية لإشكالاتها وتناقضاتها البنيوية. بل أن هذه التشكيلات القديم منها والجديد الذي تسامق في ظل الأزمة السورية، لم يزل يمارس السياسية بذات الأدوات والآليات والذهنية،ومن ذات المنظور الأحادي الذي يدّعي امتلاك الحقيقة وتمثيل الشعب السوري،هذا إضافة إلى أن الوعي العصبوي المتخلف يشكّل أحد مستويات الممارسة السياسية لهذه الأطراف، مما يعني أنها تعاني أزمة حقيقية تضعها في مواجهة الشعب السوري الذي يدفع دمه يومياً على مذبح الحرية، وفي مواجهة السياق الموضوعي للتغيير الوطني الديمقراطي السلمي الذي ما زال المجتمع السوري يتمسك به، كونه يرى فيه المخرج الوحيد من واقعه الراهن.
وفي ذات السياق فقد بات واضحاً بأن مكونات المجتمع السوري التقليدية بهيئاتها الأهلية تتجلى بوضوح، وفي بعض اللحظات تتصدر المشهد. لكن وظائفها وأشكال تجلياتها الحالية تختلف وإن بشكل نسبي عما سبق. ففي هذه اللحظة يتجلى بوضوح تمحور مكونات المجتمع السوري التقليدية حول ذاتها عصبوياً، وهذه الحالة موضوعية نتيجة لتراجع دور مؤسسات الدولة عن وظائفها وأدوارها الاجتماعية، ونتيجة لتراجع خطابها السياسي الوطني الذي يجب أن يمثّل كامل الشعب السوري بكافة مكوناته العرقية والإثنية والقومية .... . وإذا كان من الموضوعية بمكان أن تمارس الأقليات فعل التكتل والاندماج وذوبان الفرد في الكل مما يزيد من الشد العصبي لحظة الأزمات الكبرى التي تهدد وجود ومصير الأقليات، فإن آثار ذات الأزمة يمكن أن تنعكس بأشكال تفتيتية وتقسيميه بفعل تداخل وتباين وتراكب تأثير المستوى السياسي على تكوين وتركيب وآليات اشتغال التشكيلات الأقلوية. ففي اللحظة الراهنة المتسمة بالتأزم نلحظ كيف يتراكب المستوى السياسي إشكالياً مع الأشكال التي تتجلى بها المكونات الأولية للمجتمع السوري. فهذه المكونات تحاول تملّك بعضاً من مقومات الدولة، وتوظيفها بما يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية، فيما لو تحللت الدولة الكيانية. أي أننا يمكن أن نلحظ في حال تحلل الدولة الكيانية أو تراجع قوتها المادية التي تمارس من خلالها فعل السيطرة، تشكّل كيانات سياسية جديدة تعيد تقسيم المجتمع السوري والدولة السورية على أسس مكوناته الأولية. إن العصبويات الحديثة تشتغل وفق آليات تتمحور حول توظيف هذه التشكيلات سياسياً، أي إن هذه التشكيلات قبل الوطنية تستعيد إنتاج ذاتها في اللحظة الراهنة من منظور سياسي، لكن بأكثر الأدوات والأشكال والآليات تخلفاً(تطييف السياسية).وبتقديرنا هذا التحول يهدد مستقبل المجتمع السوري فيما لو لم تتملك سلطة الدولة خطاباً وطنياً جامعاً ومعبّراً عن المجتمع السوري بكافة مكوناته، ولم تستطع الحفاظ على كيانية الدولة الموحدة( مجتمعياً وجغرافياً). أي أن تفجّر كيانية الدولة على ذاتها من الداخل، و تشظيّها بفعل تناقضاتها الداخلية والأزمة العامة والمركبة التي تعاني منها سوف ينعكس على المجتمع وعلى سلطة الدولة المركزية التي تميل للتحلل تدريجياً. مما يعني توفّر المناخ السياسي المناسب لمكونات المجتمع السوري التقليدية من إعادة إنتاج ذاتها من منظور سياسي تفتيتي وتقسيمي يعيد إنتاج التخلف، والأخطر في هذا التحوّل هو اقترانه بوسائل القوة العنفية الإقصائية والإستئصالية على أسس عصبوية متضيقة.وقد تكون الإشكالية الأعمق هي اعتماد بعض الأطراف السياسية لذات الأدوات والأشكال وآليات. وبالمقارنة مع هذه التجليات، فإن ممارسة القوة من قبل الفئة المسيطرة (دولة السلطة)، تتجلى في اللحظة الراهنة أحياناً على أنها ذات عمق عصبوي، مما يجعلها ومؤسساتها ذات الشكل المدني تتماهى مع بعض تجليات العصبيات الحديثة. إن هذا التحوّل في شكل ممارسة الدولة لسلطتها يشكّل الإشكالية الأعمق والأكبر، كونه يضعها في تناقض مع المجتمع ومكوناته السياسية والمدنية، ومع دورها الاجتماعي والسياسي الوطني. مما يهدد بتحلل مكونات الدولة الاجتماعية والسياسية تناقضياً،وتمكين فاعلية العلاقات السياسية على أسس تقليدية متخلفة لاقترانها بالعقل والآلية العصبية،وهذا يعيد المجتمع السوري إلى ما قبل التاريخ. ولا تقف تتداعيات الأزمة عند هذا الحد، بل حتى الإسلام الذي يشكّل المعتقد الرئيس لغالبية السوريين يتحول في الممارسه السياسية التي تتخذ أحياناً أشكالاً عنفية إلى فكر وعقل وممارسة ذات مضمون وبُعد طائفي ضد السلطة والطوائف والأحزاب والفصائل السياسية المخالفة له. أي يمكننا أن نلحظ تجليات للعقل و التفكير الطائفي على مستوى: الدين،السلطة،الدولة،المعارضة،الأقليات .. ونظراً لعدم امتلاك الإسلام وتحديداً الإسلام السياسي( العربي الريعي) لنظرية اقتصادية تنموية إنتاجية، فإن قياداته السياسية والاقتصادية يعتمدون على تنمية رأس مالهم الريعي الطفيلي في التجارة الحرة كبديل عن رأس المال المنتج،وهذا الميل يتقاطع مع الاقتصاد الحر الذي تشتغل على فرضه الدول الرأسمالية، مما يعني مزيد من التناقض الطبقي والاستقطاب الاجتماعي والقمع والاستبداد بأشد أشكاله تخلفاً، وهذا ما يشكل الإشكالية الأساس والمعضلة الكبرى في مواجهة التحول الديمقراطي السياسي المدني السلمي.
إن هذه التحولات تنذر بمخاطر كبرى على المجتمع السوري وعلى الدولة السورية، مما يعني ضرورة تضافر كافة الجهود الوطنية من أجل بناء ثقافة وطنية ديمقراطية علمانية تمارس النقد والنقض، لتجبّ في سياقها المتطور كافة مظاهر تجليات الوعي قبل سياسي. إن تجاوز الأزمة الراهنة يحتاج إلى كافة الجهود الوطنية التي يزخر بها المجتمع السوري القائم على التنوع الذي يمد المجتمع السوري بالقوة في حال توظيفه ديمقراطياً، وينعكس إلى عوامل ضعف وتشتت وتناقض فيما لو تم التعامل معه بآليات استبدادية قمعية .. لذا فمن الأهمية بمكان التركيز على صياغة خطاب وطني جامع يعتمد العقل والأدوات والآليات الديمقراطية والسلمية، لأنه يشكّل حتى اللحظة المخرج الأمثل من الأزمة السورية.



#معتز_حيسو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السوريون بين سندان الصراع السياسي ومطرقة الأزمة الاقتصادية
- واقع الطبقة العاملة في سياق تطور النظام الرأسمالي
- انعكاسات الدستور السوري الجديد على الأوضاع في سوريه
- الثورة السورية في عامها الثاني ((واقع وآفاق))
- المعارك الاسمية
- عتبة التحول الديمقراطي ((الاستعصاء السوري))
- عودة السياسية إلى المجتمع السوري
- معاً من أجل سوريا
- مقدمات الانفجار الاجتماعي
- الشباب روح الثورة
- الملتقى الوطني للحوار الاقتصادي خطوة في السياق الصحيح ... ول ...
- الثورة في سياقها المستمر
- دور اليسار السوري في النهوض الشعبي
- حوامل النهوض الشعبي في سورية
- تأثير الإنتفاضة السورية على الوعي الشعبي
- تأثير الانتفاضة السورية على التفكير الاجتماعي
- عتبة التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا
- الطبقة العاملة السورية في اللحظة الراهنة
- التغيير في سوريا ( قراءة أولية)
- دور المثقف السوري في اللحظة الراهنة


المزيد.....




- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - معتز حيسو - العصبيات الحديثة