أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - جزيرة في نهر سان لوران.















المزيد.....


جزيرة في نهر سان لوران.


سميح مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 3931 - 2012 / 12 / 4 - 07:50
المحور: الادب والفن
    


تنسابُ مياه نهر سان لوران في مجراه من منبعه في بحيرة أونتاريو ( واحدة من البحيرات العظمى ) حتى مصبه في المحيط الاطلسي … يتسع مداه بعد منبعه ، يجتاح عدة عشرات من المدن والقرى ، ويلتف بمياهه الوفيرة حول جزرعديدة ، يحتفظ بها في داخله ، تمتزج فيه بمساحات أرضية واسعة … جزر كثيرة بمساحات مختلفة تثير العجب ، أول مجموعة منها ألف جزيرة تتناثر فيه... يحيطها من كل الاتجاهات ، موشومة بخلود زمني مثير ، تتراوح مساحاتها بين بضعة أمتارمربعة حتى ألاف الأمتار ، أصغرها تتسع لنسر واحد يفرش جناحيه عليها ، وأكبرها تتسع لمئات البيوت ، مليئة بأشجار جميلة تزهو بألوان أوراقها ، تشكل صوراً طبيعية مرسومة بخطوط وألوان ساحرة .

يمر النهرعبر معالم مدهشة قدمتها له الطبيعة بسخاء زائد… رؤيتها واضحة غير متعثرة ، تحتفظ بأثار أحداث كثيرة لأناس من قبائل الإيروكويس وغيرها من قبائل الهنود الحمرالذين عاشوا هنا قبل ألاف السنين ، كانوا يزينون رؤوسهم بشريط جلدي من ريش الطيور ، ويطوقون أعناقهم بقلائد من العظم والأصداف والحجارة الملونة ، عاشوا حول النهر مع بدء نشأته ، إنه نهرهم ...جذورهم تمتد في أعماقة بصلابة وثبات ، تمتزج مع مياهه المتدفقة منذ زمن بعيد ، إنه أعظم مابقي إلى اليوم من اّثارهم .

يفتح النهر اّفاقا واسعة للأسماك والطيور… تسبح فيه الأسماك بصفوف غير منتظمة ، تقفز من موجة الى أخرى ، وتقفز مع تباشير الفجر الى سطح الماء ...ترُى بأحجامها وألوانها المختلفة على مقربة من الشاطئ حيث الماء قريب الغور... وتكثر الطيور حوله ، خاصة العصافير الصغيرة بألوانها الساحرة ، تصدر دوما ًشقشقة مرحة مع تباشير الفجر أثناء لهوها وقفزها محلقة في الأيام المشمسة … تترابط حركاتها بتشكيلات جميلة ، وتعلو أصواتها كلما زادت قرباً من سطح النهر ، تمتزج أصواتها مع خرير الماء بإيقاع ساحر يفوق الوصف .

يشق النهر طريقه عبر مساحات واسعة من الأراضي ، تمتد على جانبيه على مدى خط البصر ، مليئة بأشجارالقيقب الساحرة التي ترتفع عمودياً ، و تميل تيجانها نحو الإستدارة عندما تكبر ...تتميز عن غيرها من الاشجار بنسغ سُكري ذو لون بني ذهبي يستخرج منها حين يُشق جذعها ، وتتميز بنمو أوراقها في أزواج ، كل ورقة في عكس اتجاه الأخرى … أوراق جميلة تسقط في نهاية الموسم ، تتبدل ألوانها على مدار أشهر الصيف والخريف بكل تدرجات اللون الأخضروألوان أخرى متوهجة جميلة تأسر الرائي لها ... يكثر فيها تدرجات اللون الأحمر القاني والبنفسجي واللون الأصفر .

تندفع مياه النهرهنا وهناك بحرية مطلقة … تجري في بعض الأحايين بهدوء لا تكاد تُسمع... تترقرق صافية تنساب في نطاق غابات كثيفة واسعة شاسعة مفرطة بجمالها ومثيرة برائحة أشجارها ، تتنفس الارض منها ، مليئة بكائنات حية كثيرة تشكلت من كل الأنواع منذ أقدم العصور ، في مقدمتهىا الخيول والجواميس والكلاب والدببة البرية والحيوانات المكسية بالفراء… ومزدحمة بنباتات طبيعية جميلة ، وبأنواع كثيرة من الأشجار المتلاصقة بصفوف طويلة متشابكة تمتد دون انقطاع في كل الاتجاهات … أشجار شامخة من الصفصاف والجميز والزيزفون والحور والبلوط والتفاح والتوت والزعرور والصنوبر، وأنواع اخرى كثيرة مثلها .

في مكان ما في كيبك الجنوبية يلتقي نهرأوتاوا مع نهر سان لوران ، يمتزجان معاً في مجرى واحد ، بعدها تتشكل في نفس المجرى جزيرة كبيرة من الأرض اليابسة يحيطها الماء من كل الجهات … تنتشر فيها مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والهضاب والغابات والجزر الصغيرة والقنوات المائية المتفرعة عن النهر … وفيها جبل في الجهة الشمالية من الجزيرة ، يزداد شموخاً كأعلى نقطة فيها … على مقربة من سفحه توجد قرية " هوشيلاجا " ومعناها لدى الهنود الحمر " نحن قضينا الشتاء هنا " … اّهلة بمجموعة من سكان الجزيرة الأصليين من قبائل الإيروكويس ، بدأت خطواتهم الأولى عليها قبل ما يزيد على الفي عام ، تعاقبت عليهم الفصول في عالمهم المنعزل بتتابع زمني مع تراكم السنين ... تغطى جزيرتهم بثوب ناصع البياض في الشتاء ، وتنتفض فيها الأزاهير في الربيع في أصفى لحظات حياتهم ، وتتمايل حولهم أشعة الشمس المتشعبة في الصيف مع بلوغ الصيد البري والنهري ذروته ، وتتساقط أوراق أشجارهم مع هبوب الرياح في الخريف .

عاش سكان القرية على الفطرة ، تجاوبوا مع إيقاع الطبيعة في حياتهم وحركاتهم وسكناتهم ومعتقداتهم ، تفهموا مكونات الحياة على الجزيرة ، تعايشوا مع كل ما فيها من ثلوج ومياه ورياح وحيوانات وطيور وأسماك واشجار وصخور وهضاب ، اهتموا بجريان التيار المائي في نهر سان لوران ، وقاسوا الزمن بتغيرات جبلهم العالي عبر الفصول المتعاقبة ، ارتفع حبهم له الى مستوى التقديس ، ربطوه بصلة مع الغيبيات لإدراك أسرار الكون ومعرفة المعاني الخفية للحياة ...تتابع مظاهر الحياة والموت … البدايات والنهايات وأعماق النفس البشرية .

كانت الجزيرة كافية لهم ، تنتشر فيها خيامهم وبيوتهم في حلقات دائرية ، تمتلئ بهم وبخيولهم ، تتلاصق على أطراف طرق ضيقة ، يعيشون فيها مع بعضهم البعض كعائلة كبيرة يسودها المحبة والألفة والتكاتف ، يحترم فيها الصغير الكبير ، ويبجلون كلهم زعيمهم ، قراراته مسموعة تبعث الطمأنينة فيهم ... يتبعونه على إيقاع نصوص تعاويذهم ، ويعبدون معه المظاهر الطبيعية … الرياح والبرق والرعد ، ويقفون خلفه رجالاً ونساءً يغنون اغاني ممطوطة وهم يمارسون عاداتهم وتقاليدهم ، في تقديس الشمس والقمر والنجوم ، وفي الرقص المتواصل للشمس والتحديق فيها لأطول مدة ممكنة حتى تمنحهم الحياة الطويلة والسعادة وطرد الأرواح الشريرة .

كانت تدور حياتهم في دائرة تكاد تكون مغلقة على طقوس الرقص الصاخبة والصيد وزراعة الذرة والإحساس بعبير الأشجار والصخور وتربة الأرض ... يتذوقون الإخلاص لأهداف روحية بالرقص والإحساس بالريح وهواء النهر وأشعة الشمس وهي تُلامس وجوههم ، والتلويح برماح يعلوها الريش الملون ، وفي حرق حزم الحطب والتحكم في الدخان المنبعث منها بصفته رسالة منهم إلى أعالي السماء .

كانوا يعيشون حياة قبلية جماعية تختفي فيها النزعة الفردية ، يمارسون معاً أعمال الصيد وزراعة الذرة وقطع الأخشاب وتجميع النسغ السكري من جذوع شجر القيقب … اهتموا كثيراً بصيد الحيوانات المكسية بالفرو ، وصيد الجاموس البري ...لم يستأنسوه مع الحيوانات الأليفة ، أبقوه بريًا ، وواصلوا صيده بمهارة في الغابات المجاورة ، كانوا يستخدمون مجموعة من التعاويذ الخاصة لصيده لأهميته في استمرار بقائهم " من جلده كانوايصنعون الخيام والسروج والسياط والأوعية والملابس والقوارب ، و من عظامه يصنعون السهام وأسنة الرماح والحراب والخناجر وأبر الخياطة والأمشاط ، ومن قرونه يصنعون الأبواق والأكواب ومن حوافره الغراء " .

***

ذات يوم من أيام صيف عام 1530 ، كانت فيه الجزيرة هادئة ، تزهو بجمال كل شيء فيها … تتألق فوقها أشعة أرجوانية لشمس مساء على وشك المغيب ، وصلت في ذاك المساء مجموعة من الاغراب على متن قارب شراعي كبير يرفع على ساريته علم فرنسا ، يختلف عن قوارب الكانو المعروفة في تلك المنطقة … مثبت شراعه في الهيكل بواسطة حبال وعارضة ، بحيث يمكن تحريكه الى اليمين واليسار حسب الاتجاه المطلوب .


توقف القارب في نقطة مقابلة للقرية ، صعد جميع ركابه الى السطح ، رأوا في تلك اللحظة قرية "هوشيلاجا " لأول مرة ، وبدت لهم الجزيرة رائعة وخيالية الى حد ما ، كما لوكانت باقة وردية موضوعة على مسطح واسع من الماء ... واحد منهم حدثهم بسعادة بالغة عن الجزيرة ، إنه كبيرهم جاك كارتيه الذي سيُسجل اسمه في كتب التاريخ كمكتشف للجزيرة وكل ما يتصل بنهر سان لوران ، ألقى على رجاله كلاماً مؤثراً الى الحد الذي ظهرت فيه الدموع تترقرق في كثير من العيون ، غمرتهم سعادة النجاح كأول حملة استكشافية تصل من القارة القديمة الى عالم جديد لم يعرفه الناس من قبل ... أنهى جاك كارتيه حديثه مع اقتراب الغسق ، راقب مع رجاله الشمس وهي تغيب فوق الجزيرة ، والقرية تختفي رويداً رويداً وسط الظلام … استسلموا كلهم لنوم عميق في قاربهم ، على إيقاع أصوات أمواج نهر سان لوران .

في اليوم التالي ، عند بزوغ الفجر ، كانت السماء صافية رقيقة زرقاء ، والشمس تنثر أشعتها في كل مكان … خرج الضيوف الغرباء من القارب ، إنهم أول من وطئ أرض الجزيرة من غيرأهلها ، كان جاك كارتيه في المقدمة وخلفه صفاً من عشرين مرافق له يتبعونه الواحد تلو الأخر ، اجتازوا مشياً على الاقدام مسافة ستة أميال بخطى سريعة ، على أرض معشوشبة بلا ممرات ، سوى ممر واحد يضيق شيئا ً فشيئا ًصعودا ً تحت أشجار باسقة متشابكة ، يفضي الى بداية القرية .

وصلوا إلى الطرف الشرقي من القرية... كان باستقبالهم زعيمها ... عجوز ذا قامة طويلة ، يزيد من ارتفاع رأسه عصابة عالية من ريش الطيور … رجل يفيض حيوية وجذلا ً… نظر للزائر الغريب بعينينه الرزينتين ، حدثه بلطف زائد بكلمات من لغة الإيريكويس … .استقبله في جو ألفة عائلية ، وقدم له غليونا ً، علمه كيف يسحبُ نفسا ً طويلاً منه ، وينفث الدخان بشدة ، ويتفنن في رسم الدخان المنبعث من الغليون … وضح له بالإشارة بما يفيد أن الغليون هو غليون سلام يقدم عند المصالحات بين المتخاصمين ، ويتم التدخين به للتعبيرعن الشكر للأرواح الطيبة .

سارا معا ًنحومصطبة عالية بعض الشئ ... جلسا عليها … اصطف حولهما جلوسا ًعلى الأرض كل أهل القرية والضيوف الغرباء ، وكانت النساء على مقربة يختلسن النظر بانفعال إلى الغرباء أصحاب الوجوه البيضاء … أقام زعيم القرية للضيوف مائدة غداء عامرة ، وليمة تكدست فيها الاسماك ، وقدم لهم كؤوساً من نسغ القيقب السكري … تناولوا الطعام وهم ينظرون الى فتية وفتيات يرقصون على إيقاع أصوات تملأ الأجواء ممزوجة بالضحك والأغاني… زاد انتباه الضيوف لبعض الشباب ممن كانوا يرقصون وهم يمتطون خيولهم الجميلة على امتداد ساحة كبيرة .

قبل الغروب بساعة تقريباً ، وقف جاك كارتيه معلنا ً رغبته في الرجوع الى قاربه ، استخدم لغة الاشارات بمهارة ( خلطها مع كلمات من لغة الإيريكويس التي تعلمها في قرية ستاداكونا التي اكتشفها من قبل) قدم الشكربها لزعيم القرية على الضيافة وحسن الإستقبال ، ثم عاد مع رجاله من حيث أتوا ، عبر نفس الممرالذي استخدموه من قبل … وصلوا قاربهم عند اقتراب الغسق ، كان ظل أوراق الاشجار القريبة من النهر ترسم صورا ًمتصلة على مياهه الرقراقة في منتهى الجمال ، وكان أريج الأزهار في كل مكان .

بعد أن أظلمت السماء وحل الليل ، جلس جاك كارتيه (1) في الغرفة الخاصة به في الجهة الأمامية من القارب ، أشعل مصباحاً زيتياً من "الأوبولين " تحمله قاعدة نحاسية مزركشة بأسلاك مجدولة ... تنبعث منه هالات الضوء من فتيل قطني مغمس بالزيت السائل .

مد أوراقه أمامه , وأخذ يكتب انطباعاته عن اكتشافاته الجديدة … عن اكتشافه للجزيرة والقرية ، كتب بلغته الفرنسية عن المظاهر العامة للأرض الجديدة الي اكتشفها بتاريخ 2 اكتوبر 1535.

كتب عن زعيم القرية وسكانها ، قدر عددهم بنحو 1200 نسمة ، وصف ملامحهم البرونزية ، ووصف بيوتهم الخشبية بقمم هرمية في أعلاها ، وبين ارتباط أعيادهم بمواسم الصيد والزراعة ، وسجل بتوسع عن اهتمامهم بزراعة الذرة والتبغ غير المعروفة للأوروبيين ، وعن تعودهم على حرق التبغ واستنشاقه بقطعة خشبية شبيهة بما يسمى الان بالغليون ، وعن إيمانهم بأساطير كانت لهم بمثابة كتاب مقدس ، تتحدث عن مجئ اّلهة بيضاء من الشرق عبر أمواج المحيط ، ستكون مخلصة لهم من جميع الشرور والخطايا ، كانوا يجمعون قطع الذهب والمعادن النفيسة لتقديمها كقرابين الى هذه الاّلهة حال ظهورها .

كما سجل في أوراقه عن معرفتهم الرسم على الرمل باستخدام المساحيق الطبيعية الملونة ، وعن قدرتهم على صنع الفخار الملون بالزخارف من الطمي ، وانتاج مشغولات مصنوعة من الحجر وقرون الحيوانات والاصداف والخشب ، ونسج ملابسهم من الأعشاب ولحاء الشجر والجذور النباتية ، واهتمامهم بالتطريز واستعمال الخرز الملون والنقش على الجلود وفن النقش على الخشب واعتنائهم بتزيين خيولهم بالأقنعة الملونة … بعد ذلك كتب عن الجبل المنتصب على مقربة من القرية ، وقرر أن يسميه باسم " الجبل الملكي " تكريماً للملك فرانسوا الأول ملك فرنسا وقتذاك وهي نفس التسمية التي يحملها حتى الأن .

في اليوم التالي ، بعد بزوغ الشمس بقليل ، حضر مئات من أهل القرية ، وقفوا خلف زعيمهم على مقربة من القارب ، أرادوا توديع ضيوفهم … خرج جاك كارتيه من القارب ، تقدم نحو الزعيم ، شد على يديه وتحدث بكلمات قليلة نطقها بأريحية ملحوظة ، تسلم غليونا ً كهدية له من أهل القرية … تحرك القارب ترافقه تحيات الوداع … لوح أهل القرية لركابه ، كان يصعب عليهم تصديق حقيقة كون زوارهم من عالم أخر مجهول غير عالمهم

لم يكن ثمة شئ ينبئ في ذلك اليوم بأن مصير الهنود الحمر كان يتقرر على يد الزوار الغرباء … لم يكن بوسع أحد أن يتصور ما سيحصل لهم من أحداث مؤلمة وقاسية بعد تلك الزيارة على مدى مئات السنين القادمة .

حفلت سنوات ما بعد زيارة جاك كارتيه للجزيرة ، زيارات اخرى كثيرة لها ، تابع الفرنسيون الإبحار الى العالم الجديد ، زاد عدهم من عام الى اخر ، خاصة بعد اكتشافهم وجود حيوانات ذات فراء ثمين مطلوب بكثرة في أوروبا خاصة فراء القندس الشهير … طوب الفرنسيون كل المناطق المجاورة لنهر سان لوران ملكية خاصة باسم ملكهم فرنسوا الأول .

ذات صباح من عام 1608 وصل الجزيرة الرحالة صمويل دي شامبلين بهدف تأسيس تجارة منظمة للفرو فيها ، ولأول مرة أسمى الجزيرة باسم جزيرة مونتريال ، بعد ذلك بأعوام بنى المستوطنون الفرنسيون حصناً يسمى الان بمونتريال القديمة ، وفي عام 1642 جاء الى جزيرة مونتريال عبر نهر سان لوران رحالة أخر مع اربعين رجل اسمه بول شومدي دي ميزونيف ، أسسس فيها مستوطنة فيل ماري كمركز لتجارة الفراء وقاعدة لمزيد من الاستكشافات الفرنسية في امريكا الشمالية .

إتسع مدى هذه المستوطنة مع الايام … امتدت في مبانيها أخذت في الصعود الى الجبل الملكي ، وأخذت تعرف باسم مونتريال… ومع توالي موجات المهاجرين اليها من فرنسا ، اصبحت موقعا ً مهما ً فيما سمي بفرنسا الجديدة التي كانت تقع بمحاذاة نهر سان لوران والساحل الشمالي للبحيرات العظمى على امتداد مساحات واسعة ، وهي نفس المنطقة التي اخذت تعرف فيما بعد باسم " كندا " ، وأساسها كلمة " كاناتا " التي تعني بلغة الأيروكويس قرية أو مستعمرة .

كان الاتصال الأولي بين الفرنسيين وقبائل الهنود الحمر أهل البلاد الاصليين سليماً نسبيا ً ، تم التزاوج بينهم وظهر نتيجة هذا التزاوج ما يسمى بشعب " الميتي " الجديد ... يتحدث بلغة فرنسية مختلطة تسمى " مشيف " كما كانت تتعقد الأمورفي بعض الاحيان وتنشب معارك بينهم ، انقرضت بسببها قبائل كثيرة ، وفي أحيان خرى

كانت تتواصل العلاقات الطيبة حتى انهم في أوقات كثيرة تحالفوا معا ً لمحاربة البريطانيين الذين كانوا في صراع دائم مع الفرنسيين ، ويخططون لاحتلال فرنسا الجديدة ، وهكذا كان الهنود الحمر قوة رئيسية في الدفاع عن المناطق الفرنسية ، وفي هذه الأجواء بدء المرسلين الكاثوليك بنشر مبادئهم بين الهنود ، وتحول زعيم ميماك في عام 1605 الى الكاثوليكية ورحب بالفرنسيين وعقد تحالفا ًمع الفاتيكان .

وعلى الرغم من كل هذا ، كانت الدائرة التي تحيط الهنود الحمر ضيقة تتقلص بمرور الوقت … زاد تقلصها
بعد استيلاء القوات البريطانية على جزيرة مونتريال عام 1760 ، واصبحت كندا بالتالي مستعمرة بريطانية ، وسرعان ما تحولت جزيرة مونتريال الى مركز تجاري بريطاني ، وفي ظل هذه الظروف البريطانية الجديدة
فقد الهنود الحمر كل مايملكونه في الجزيرة وفي كل كندا ... أراضيهم وبيوتهم وخيولهم وظلال أشجارهم …أصبحت قراهم في صورة تقرب من الأشباح ، خاصة بعد إبادة أعداد كبيرة منهم بالقتال وباستخدام الأوبئة كالجدري والحصبة والطاعون والكوليرا والملاريا وغيرها من الامراض .

هكذا اندثر أغلبهم ولم ينج منهم سوى أعداد قليلة محدودة … تم تجميع من تبقى منهم في محميات متناثرة (2) ، يتسع مدى الظلم فيها وتشتد وطأته ، يعمها ظلام تتعذر فيه الرؤية ، وضغط نفسي مريع ... إنهم لا يملكون موطنهم الحقيقي ، وانما يغتصبه منهم الغرباء ، الجزيرة الجميلة الفريدة في كل مافيها ليست لهم إنها لغيرهم ، والنهر لغيرهم ، ليس لهم سوى استرجاع ذكرى أجدادهم ينثرونها حولهم بحروف سطور طويلة على اتساع الفضاء .(3)

لاأثر في الجزيرة لقرية هوشيلاجا ، في مكانها توجد في الوقت الحاضر جامعة ميجيل العريقة ، لا يوجد في رحاب المدينة ما يشير الى أصحاب الجزيرة الاصليين ، استترت شواهدهم خلف ضباب كثيف ، واصبحت رؤيتها متعثرة … وحدها أمواج نهر سان لوران ما زالت مكبلة ببصمات مجاديف قوارب الكانو الهندية ، و ما زالت اّثار خطوات أهل الجبل الملكي الأصليين تحمل دلالاتهم حول أشجار القيقب على اتساع مساحات حدائق شاسعة مترامية الأطراف .

كل شيئ في الجزيرة يشير لعهد جديد ، تفيض فيه مدينة مونتريال حيوية ونشاطا ... تستحوذ على نحو خمسي مساحة الجزيرة ، تمتد صعوداً على سلسلة من التدرجات من شاطئ نهر سان لوران الى سفح الجبل الملكي ، مليئة بالمباني القديمة جنباً الى جنب مع المباني الحديثة الشاهقة … شواهد كثيرة فيها تذكر باسماء المكتشفين الاوائل ، جسر لجاك كارتيه يمتد فوق نهر سان لوران ، وعلى مقربة منه جسر أخر لصومويل شامبلين يمتد فوق النهر أيضا ً، يصل بين جزيرة مونتريال وضواحيها في الضفة الجنوبية ، وهناك ساحة مهمة لجاك كارتيه ، وشارع رئيس باسم ميزونيف ، تيمناً باسم بول شيمدي دي ميزونيف ، يخترق المدينة من غربها الى اخر نقطة في جهتها الشرقية ، كلها تعمل على إحياء صور جديدة في ذاكرة المدينة. لأناس جاؤوها من بلاد بعيدة، حلوا محل سكانها الأصليين .

هكذا يتصرف المنتصرون في كل مكان ، يستغلون كل ما لديهم في سبيل أهدافهم الكبيرة ، يبدلون مقومات الحقيقة والواقع كما يحلو لهم … يتسع مداهم في كل مكان ، يمدون جذورهم في اعماق الأرض وفروعهم في السماء .

هوامش

( 1 )

ليس هذ الاكتشاف هو الأول لجاك كارتيه في العالم الجديد ، فقد حقق اكتشافات أخرى كثيرة ، إنه أول مكتشف



أوروبي وصف ورسم على الخرائط خليج سان لورانس ، وشواطئ نهر سان لوران معلنا ً كل هذه المناطق ملكية فرنسية ، ومطلقا ً اسم سان لوران على النهربدلا من اسمه القديم "ممر مائي كبير" ، … هو مكتشف قرية ستاداكونا ( مكان مدينة كيوبيك ) … تعرف فيها على زعيمها " داناكونا " الذي ساعده في تحقيق اكتشافاته ، ووضع اثنين من أبنائه تحت تصرفه لإرشاده في التنقل عبر النهر لاكتشاف المجهول من بلادهم ، وأخذهما جاك كارتيه معه الى فرنسا بعد انتهاء رحلته الاولى ، وعاد الشابان الهنديان معه الى وطنهما مع عودته في رحلته الثانية... قام برحلة ثالثة أخرى ، وبنهاية الأمر لم يستقر بكندا ، ترك استكشافاته وعاد الى فرنسا ، لعدم تمكنه من اكتشاف الذهب .

(2 )

منها محمية كاينساتاكي التي تصدرت أخبار الصحف العالمية في ربيع 1990 ، حينما قررت بلدية مدينة أوكا المجاورة لها ، إضافة تسع حفر جديدة لملعب الغولف على حساب غابة صغيرة تابعة للمحمية ، وحينما أرادت
الجرافات إقتلاع اشجار الغابة ، فوجئت الحكومة الكندية الاتحادية بأن السكان الأصليين قرروا الدفاع عن ممتلكاتهم … احتشد لهذا الهدف رجال قبيلة الموهاك ، وقد حمل بعضهم السلاح ، وفي مواجهتهم حشدت الحكومة الكندية اربعة ألاف جندي ، حاصروا المقاومين لفترة طويلة ، وبالنهاية اضطرت الحكومة على مضض الإستغناء عن حفر الجولف الجديدة بسبب الضغوط الدولية ، وخوفا ً من حدوث مذبحة تسيئ لصورة كندا عالميا ً ، وهكذا انتصر رجال قبيلة الموهاك لأول مرة بعد قرون طويلة من القهر والاستلاب والضياع .

(3 )

تعقدت أمورهم اكثر بعد تأسيس الاتحاد الكندي في عام 1867 ، عندما شرعت الحكومة في اتباع سياسة غريبة معهم استهدفت إدماج أطفالهم بالقوة في "المجتمع المتحضر " ، فأنشأت عشرات المدارس الداخلية لهذا الغرض ، كان يعيش ويدرس فيها صغار الهنود بعد أخذهم بالقوة من أسرهم ، يبقون فيها لعشرات السنين مُنقطعين عن ثقافتهمالأصلية وترُاثهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الروحية ، بغرض دمجهم بالمجتمع الكندي الجديد ...أغلقت هذه المدارس قبل عدة سنوات ، لكنه ما زال نحو 80 ألف من تلاميذها على قيد الحياة ، يؤكدون أنها أسوء صفحة في تاريخهم ، تعرضوا فيها لسوء المعاملة والإهمال وكل أنواع التجاوزات … الجوع والحرمان وحتى الإيذاءالبدني والجنسي والعاطفي والعنصري … طالبوا من الحكومة الكندية أن تقدم لهم إعتذرا رسمياً ًلتضميض جراحهم .

و هذا ما تم فعلاً ، فقد قدم رئيس الوزراء الكندي اعتذارا ًرسميا ً لهم في جلسة للبرلمان عقدت خصيصا ً في بداية شهر حزيران عام 2008 ، بحضوركافة زعماء الاحزاب الكندية ، وأحد عشر زعيماً من زعماء السكان الأصليين بلباسهم التقليدي ، ومجموعة من الذين عاشوا ذات يوم في تلك المدارس ...ردد رئيس الوزراء كلمة
" أسفون " بعدة لغات : الانجليزية والفرنسية واوجيبوا وكري وأينوكتيتوت ، رددها بعد كل فقرة من خطابه ،وأكد على أنه باعتذاره "تضع كندا نهاية لواحد من أشد الفصول ظلاما ً في تاريخها " .

ومع أهمية هذا الاعتذار إلا أنه غير كاف ، لا بد أن تلحقه خطوة مهمة يتم فيها توقيع كندا على إعلان الأمم المتحدة بخصوص حقوق السكان الأصليين في العالم الذي صدر في عام 2005 ووافقت عليه 143 دولة في مقابل معلرضة أربع دول هي كندا واستراليا ونيوزيلندة والولايات المتحدة الامريكية ، وامتناع 11 دولة عن التصويت ، ويحدد هذا الاعلان قواعد جديدة للمحافظة على حقوق الانسان الخاصة بالسكان الأصليين وحقوقهم في أراضيهم ومواردهم الطبيعية ، وتمتعهم بفرص متكافئة وامتيازات متساوية مع غيرهم من المواطنين .



#سميح_مسعود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن الجذور
- عيسى بُلاطه : ناقداً وأديبا ً
- تراجيديا الهنود الحمر
- التوثيق في الأعمال الإبداعية
- امرأة منسية
- فتاة الترومبون
- ناجي علوش شاعراً ومفكراً
- في ذكرى ناجي العلي ثانية
- في ذكرى ناجي العلي
- العرب لا يقرأون
- كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
- رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
- رواية فريدة للروائي نعيم قطان
- حول ابداعات القاص عدي مدانات
- حول التقشف والانضباط المالي في أوروبا
- التنمية العربية في ظل الربيع العربي
- عن فنِّ التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي
- هذه الارض لنا ...أنا وانت
- رواية أيام قرية المُحسنة
- مريم ذاكرة وطن


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - جزيرة في نهر سان لوران.