أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - تراجيديا الهنود الحمر















المزيد.....

تراجيديا الهنود الحمر


سميح مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 3866 - 2012 / 9 / 30 - 20:39
المحور: الادب والفن
    


لتقيت به مصادفة ، قدم نفسه باسم مارفين جونر من سكان كندا الأصليين ، وجدته عميق الشعور ، يمتلئ وجدانه بالحزن على أحوال شعبه ، خاصة أبناء قبائل كري ، أكبر مجموعات الهنود الحمر الذين يعيشون في محميات كثيرة موزعة على عدة مناطق في كندا ، منها محمية على مقربة من بحيرة مستيسيني ، في وسط مقاطعة كيبك … بيته يقع فيها على مرمى حجر من البحيرة .

حدثني باسهاب عن شعبه ، كيف مزقته المحن ، وطحنته الأيام … فقد اتجاهه وتحول الى بقايا شعب يعيش في محميات تحمل بصمات مئات السنين من الظلم والهزائم والانكسار، لايشعر بالرضا عن أحوالهم … يشعر أن غربتهم في بلدهم تشكل مصدر عذاب شخصي له ، لا يستطيع بأي حال من الأحوال تجنب هذا العذاب ... إنه مثل شعبه يشكو الغربة أيضا ًحتى في بيته ، يصعب عليه التلاؤم مع عالمه المحيط .

أفهمني أنه يستيقظ كل يوم على إيقاع تاريخ شعبه القديم ، كان أجداده فيما مضى أسياد الأرض الواسعة التي تسمى اليوم كندا … تاريخ طويل بدأ مشواره قبل ما يزيد عن خمسة عشر الف سنة ، كان لشعبه على امتداد تلك السنين حضارته وقيمه ومأثوراته ومعتقداته وأخباره وأحداثه … ظلت راسخة في أذهان الناس جيلا ً بعد جيل .

بقيت أوضاع شعبه على هذا الحال حتى وصول المكتشف الأول من القارة القديمة ، بدأت مع وصوله مأساة شعبه ، نشبت الحروب وعم القتل ، وتلاشت مظاهر الحياة الطبيعية في قرى أجداده وأماكن تواجدهم … انقرض أغلبهم ، ومن بقي منهم يتمرغون الان في أوحال محميات أقيمت لهم ، أجبروا على العيش فيها في ظل ظروف صعبة غير انسانية .

بهذا الإحساس يواجه محدثي الدنيا ويقبل عليها ، بسخط وإحساس دائم بأنها لا تطاق ، و هو ما زال في الرابعة والعشرين من عمره .

قلت له : “ زرت عدة محميات قريبة من مونتريال تعرفت عليها عن بعد ، لم أتلمس مافيها من عذاب وضياع ، هل لك أن تحدثني عن ظروف الحياة الداخلية للمحميات ؟ "

نظر الى ساعته ، واعتذر لقرب موعد بدء محاضرة في كلية لاسال التي يتابع الدراسة فيها .

ودعني ، بعد أن اتفقنا على اللقاء ثانية في اليوم التالي ، للإجابة على سؤالي حول حياة شعبه وظروفهم وأحوالهم المعيشية في المحميات .

التقيت به في الموعد المحدد في نادي فاتس ، على مقربة من تقاطع شارعي جاي وسانت كاترين في وسط المدينة ، كان برفقته ابنة عم له اسمها هليري ، وصديقة لها اسمها جاكلين دكسون …قدمني للفتاتين بلغة كري لغته الأم … ذكرته بسؤالي السابق الذي طرحته عليه حول ظروف الحياة الداخلية للمحميات .

اجابت ابنة عمه هلري : “ تغرقهم الديون ، وتطاردهم لقمة العيش ، يعيشون في ازمة دائمة …يواصلون الحياة في محمياتهم في ظل أوضاع تخيم عليها العزلة والوحدة والجهل وعدم التعليم ، فرُضت عليهم فرضا والتحمت بهم وأثرت فيهم تأثيرا ًعميقا "

توقفت هلري بغتة عن مواصلة الحديث ، وسرعان ما التقط مارفين خيط الحديث بقوله : “ مؤثرات تاريخية كثيرة ساهمت في تشكيل مجمعاتنا في المحميات المخصصة لنا بحكم القانون ، لعبت دورا ً كبيرا ً في ظهور عقد نفسية تطورت وتفاقمت إلى حالات مرضية ، وبالتالي ساهمت في ظهور انحرافات اجتماعية كثيرة لا تتماشى مع قيم أجدادنا التقليدية ، ومخالفة للأنماط السلوكية السوية ، مثل القتل والنهب والضرب والإعتداء على الأخرين وإتلاف الممتلكات ، إضافة الى ظهور انحراف سلوكي بين الطلاب ، يتمثل بالهروب من المدارس والتسرب الدراسي "

بعد ذلك اشترك الثلاثة بالحديث عن مشاكل عملية ملموسة في محمياتهم … لفت نظري في حديثهم ، عدم تفاعل أهلهم مع الجماعات التي تعيش على مقربة منهم ، و انعدام توفر حوافز لديهم للتغيير ، والتعلم من الأخرين لتحسين أوضاعهم .

لاحظت من حديثهم أن أهلهم يتفننون في الوصول الى الوسائل التي تزيد من شعورهم باليأس و الضياع … يقضون أوقاتهم في حانات رخيصة ، يقرعون فيها الكؤوس المترعة بالمشروبات المسكرة طيلة أيامهم ولياليهم للفرار من واقعهم المرير ، وحتى إذا استردوا توازنهم وأفاقوا إلى أنفسهم ، يبدأون بتناول المخدرات , ويزيدون بهذا من مفعول مشاكلهم التي تلاحقهم وتكدرصفوهم .

يعيشون حياة روتينية مملة ، تفقدهم نظرة التمتع العميق الصامت للطبيعة الجميلة الممتدة حول محمياتهم ، تضعهم دوما ً تحت تأثير نفسي مريع ، وشعور مخجل من الهزائم ، ومن إنقراض الملايين من جدودهم وأسلافهم أصحاب البلاد الاصليين .

توصلت من مضمون حديثهم الى قناعة بأن ما أسمعه عن حياة أهلهم في المحميات يشكل تكوينات حقيقية لتراجيديا من نوع تراجيديات المسرح القديم ، التي لازمت المسرح الإليزابيثي فترة طويلة من الزمن ، واهتمت بابرازمضامين درامية متصلة الحلقات لماّسي إنسانية كثيرة .

وهذا ما قلته بصوت عال : “ إن ما أسمعه عن الحياة في محمياتكم تعبر عن تراجيديا واقعية ليست من نسج الخيال ، تراجيديا خاصة بكم بالوجوه البرونزية فقط دونما غيرها ، تبرز فيها حقيقة ماّساة إنسانية فريدة في التاريخ ، تتكرر فصولها على المسرح العالمي منذ مئات السنين ، في رحاب دول تتباهى بالحرية والديموقراطية والقيم الإنسانية .”

أجاب مارفين : “ نعم إنها تراجيديا من نوع خاص ، من منابع حياة حقيقية ، لا تُعرض في مسارح مغلقة ، بل في رحاب دول كثيرة ، بدون مؤثرات صوتية وضوئية للإثارة ، لأن ما فيها يعبر عن علامات فارقة وبارزة على صعيد الإثارة ، بأبعاد درامية غير متداولة . “

علقت جاكلين بكلمات متقطعة ، بينت فيها أن أهم فصل من فصول تراجيديا شعبها ، ذلك الفصل الذي يتحدث عن أسلافهم الأولين ، منه يسترجعون ذكرى الماضي ، ومنه تنبعث أحلامهم بغد افضل ، ومنه يتعرفون على تراثهم ولغتهم وثقافتهم وأساطيرهم ومعتقداتهم وتفاصيل تاريخهم .

أكدت هلري بأن ماضي تاريخهم ليس مجرد ذكرى فحسب ، بل إنه يمثل صك ملكيتهم لمساحات شاسعة من الأراضي العائدة لجدودهم ،بكل ما فيها من أنهار وبحيرات وجبال وهضاب ووهاد .

إلتزمت الصمت ، كان حديثهم كافيا ًلي للتعرف على صور كثيرة عن حياتهم ، أخرجتني من دائرة التضامن العاطفي معهم ، إلى نطاق الفهم الموضوعي لواقعهم ، بكل ما فيه من أسى ً ومرارة وتدهور في مقوماتهم الحياتية .



#سميح_مسعود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التوثيق في الأعمال الإبداعية
- امرأة منسية
- فتاة الترومبون
- ناجي علوش شاعراً ومفكراً
- في ذكرى ناجي العلي ثانية
- في ذكرى ناجي العلي
- العرب لا يقرأون
- كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
- رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
- رواية فريدة للروائي نعيم قطان
- حول ابداعات القاص عدي مدانات
- حول التقشف والانضباط المالي في أوروبا
- التنمية العربية في ظل الربيع العربي
- عن فنِّ التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي
- هذه الارض لنا ...أنا وانت
- رواية أيام قرية المُحسنة
- مريم ذاكرة وطن
- دينُ الحب
- بنت عمي فاطمة
- هيلين توماس


المزيد.....




- البروفيسور عبد الغفور الهدوي: الاستشراق ينساب في صمت عبر الخ ...
- الموت يغيب الفنان المصري عماد محرم
- -محاذاة الغريم-... كتاب جديد في أدب الرحلات لعبد الرحمن الما ...
- -أصيلة 46- في دورة صيفية مخصصة للجداريات والورشات التكوينية ...
- -نَفَسُ الله-.. هشاشة الذات بين غواية النسيان واحتراق الذاكر ...
- جبل كورك في كردستان العراق.. من خطر الألغام إلى رفاهية المنت ...
- لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟ ...
- الذكاء الاصطناعي يختار أفضل 10 نجوم في تاريخ الفنون القتالية ...
- شباب سوق الشيوخ يناقشون الكتب في حديقة اتحاد الأدباء
- الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـ-غزة.. ص ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - تراجيديا الهنود الحمر