أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - وفاء















المزيد.....

وفاء


جمال الدين أحمد عزام

الحوار المتمدن-العدد: 3891 - 2012 / 10 / 25 - 14:01
المحور: الادب والفن
    


وفاء

بعد غياب دام عشر سنوات، عدت إلى وطني في زيارة قصيرة. كانت صلتي مقطوعة تماما بكل من أعرفهم هنا بمن فيهم أمي. أعرف أني مقصر معها تقصيرا يصل إلى حد الإجرام. التهمتني دوامة العمل في البلد الغريب و حاكت لي الغربة ثوبا من الصدود عن جذوري لأدرك جمع أكبر قدر من الثروة وسط أنواء التنافس الشرس.
لم يكن لدي وقت لأمارس إنسانيتي، أما الآن، و بعد أن وجدت لنفسي في الغربة موطئ قدم، اطمأننت قليلا فبدأت أفيق و انتبهت، و قد مرت السنوات كأنها أيام، أن لي وطنا و أما. أفقت عندما قرأت آخر خطاب وصل إلي منها البارحة، و هو الخطاب الوحيد الذي قرأته من كم هائل من خطابات أرسلتها لي منذ سافرت. و رغم أني لم أكن أقرأ أو أرد إلا أنها واصلت الإرسال و واصلت التجاهل.
الخطاب مليء باللوم والعتاب و الألم و المرارة. ليتني قرأت كلماتها منذ زمن بعيد. ذكرتني كلمات الخطاب رغم قسوتها بأيامي الجميلة معها، بحينا، بعمارتنا، بالشارع الذي لعبت فيه، بأصدقائي، بوطني.
مرائي وطني التي طالما ألفتها، و إن بدت أقدم، تعبر من خلف زجاج التاكسي مؤججة اشتياقي إليها و قد تبعثرت ملامحها فيها. يدفعني الحنين إلى لملمة شتات الملامح قبل أن أراها مجتمعة في وجهها و أتساءل، ترى كيف أصبحت بعد مرور السنين! كيف أصبح شكلها! كيف أصبح قلبها! هل ستسامحني على غفلتي عنها!
اقتربت من العمارة و التي تغيرت قليلا، ربما طليت بطلاء مغاير. نزلت من التاكسي، صعدت عدة درجات و دلفت. سلمت على الحارس الذي أخذ يسألني و طلب إلقاء نظرة على بطاقتي. تعجبت من ذلك الحرص بل و من وجود حارس أساسا و إن أشعرني ذلك بأن أمي تعيش في أمان.
ارتقيت بالمصعد إلى الدور الخامس، طرقت باب الشقة، لم يرد أحد، قلت في نفسي، ربما أكون قد أخطأت إذ لم أتصل بها مسبقا، و لكني أردت أن أفاجئها و أرى فرحتها بقدومي في عينيها و أقطع بمفاجأتي بعضا من طريق العتاب. واصلت الطرق، لم يجب أحد. هناك صوت ينبعث من الداخل، يبدو أنه التلفاز. قررت أن أستخدم مفتاحي رغم خشيتي أن أفزعها، فليس المفتاح مع أحد سوانا، فأنا وحيدها و أبي مات منذ أربعين سنة.
أدرت المقبض و دخلت. كان الجو مكتوما قليلا و التلفاز يأتي صوته من غرفتها. ساعة الحائط تشير إلى الواحدة و خمس دقائق. ناديتها برفق و عيناي تجوبان المكان الذي لم يتغير، الأثاث كما هو و إن علاه الغبار، الصالة كما هي تتوسطها نفس السجادة، و الستائر بهتت ألوانها قليلا. ناديتها بصوت أعلى و أنا أطرق على باب غرفتها.
فتحت الباب و دخلت فوجدت التلفاز يشع في الحجرة المظلمة و يلقي بأضوائه على جسدها الممد على السرير. دنوت لأوقظها تحدوني خشية إفزاعها. هالتني كمية الأدوية المتراصة فوق الكومودينو بجوار الدورق نصف الممتلئ و الكوب الفارغ. تأملت ملامحها و قد دبت فيها الشيخوخة و إن لم تفقد بقية من جمال شبابها. داعبت شعرها الفضي و أنا أوقظها..أمي! أمي! استيقظي.
..و الآن، هيا، لخاطري، آخر ملعقة. ابتسمتْ ثم فتحتْ فمها، تناولتْ آخر ملعقة من الحساء. وضعتُ الصينية على الكومودينو بجوار السرير و هي تدعوا لي..أكرمك الله يا بني، الحمد الله الذي ردك لي بالسلامة..الحمد لله يا أمي، و لكني لا أعرف كيف أعتذر لك، صدقيني، رغما عني، لم أكن أستطيع الالتفات، و لكنك كنتِ ببالي دائما. قالت بعد سعلتين..كنت أريد أن أطمئن عليك فقط، كنت أترقب منك و لو رسالة قصيرة أو اتصال هاتفي لتطفئ لهيب قلبي عليك..أنا آسف يا أمي، أه لو كنت أعلم أنك مريضة. ثم أردفتُ بادعاء و الألم يعتصرني إذ لم أقرأ سوى خطاب واحد..لماذا لم تذكري في خطاباتك أنك مريضة! ضحكت بالكاد ضحكة لا تخلو من العتاب ارتج لها رأسها فوق الوسادة..و كأنك كنت تقرؤها! ثم واصلتْ، و قد عقدت شفافيتها لساني..لم أرد أن أزعجك في غربتك و أربك لك نظامك. تنهدت ثم أردفت مبتسمة..على العموم، لا يهم، فها قد عدت..نعم يا أمي صحيح، هذا هو المهم، و سأعوضك عن كل السنين الماضية، سآتي لك بأكبر الأطباء و ستشفين، لن أعود إلى هناك مرة أخرى، سآتي بزوجتي و ابني من هناك و سنعيش معك. لمعت عيناها فرحا..صحيح يا بني. ابتسمتُ و أنا أعطيها الدواء، أضع القرص في فمها و أرفع رأسها لتشرب بعض الماء..ليس هناك في الدنيا أعز منك، صحيح أنني لم أخطط لعودة نهائية، و لكن الحمد لله، جنيت ما يكفي لبدايتي هنا. بدت أيما فرحة في عينيها.
شعرتُ أنها لا تطيق هواء النافذة فأغلقت زجاجها تاركا ضوء الشمس النافذ يضيء وجهها الذي أشرق و صفا. قالت..الحمد لله يا بني، رؤيتك حسنت من حالي، لا داعي لأن تنفق مالك على علاجي، هل سنأخذ زماننا و زمان غيرنا. أقبلت عليها و جلست قبالتها على السرير ثم أمسكت بيدها، احتضنتها بين يدي و نظرت في عينيها..لا تقولي ذلك يا أمي، أمد الله عمرك، أنت كل ما أملكه في هذه الدنيا. ابتسمت عيناها..يا لئيم! و زوجتك و ابنك!..أنت تعلمين، الأم لا تعوض. ثم تنهدت مردفا..أه يا أمي، كم اشتقت إليك! كل حنين الدنيا يشتعل في الآن و أنا أتذكر كيف كنا نحيا بعد موت أبي، كيف لم تشعريني باليتم، كيف عملت و سهرت لرعايتي بل و للعب معي و للتنزه، كنت طفلا و لكني كنت أشعر بك و أنت تحرمين نفسك لتعطيني. دمعت عيني فاحتضنتني و أنا أردد..أنا آسف. ثم أجهشت في البكاء و هي تربت على ظهري.
صحوت على صوت باب الشقة يُغلق. توجهت مسرعا إلى غرفة أمي، وجدتها مستندة إلى وسادتها تشاهد التلفاز. التفتت إلي و رأت الفزع في عينيّ فقالت..لا تخف، هذه وفاء، ابنة جارنا الجديد، الحاج مصطفى، رجل صالح، و ابنته ملك من الجنة، منذ مرضت و هي تأتي كل يوم تنظف الشقة و تعطيني الدواء. قلت..الحمد لله، لقد ظننته لصا. ضحكت..ليس هنا ما يغري لصا، إلا إن كنت تقصدني. ضحكتُ بدوري ثم أردفت..لها الشكر هذه الوفاء، كانت أحسن مني، فعلت ما لم يفعله ابنك. ثم نظرتُ خلفي فوجدت الأثاث و السجاد نظيفا و نظرت يميني فوجدت الحمام يشع بلاطه نظافة. قالت أمي..على فكرة، لقد أخبرتها بمجيئك فلم تستطع تنظيف غرفتك..لا يهم سأنظفها أنا.
توجهتُ نحو الحمام و تركت الباب مفتوحا و أنا أغسل وجهي و أمي تتكلم من غرفتها..تصور أنها أصرت على مواصلة المجيء و إن قالت أنها ستبكر قليلا لئلا تزعجك، لم تقل الحمد لله أن جاء ابنها لأتخلص من هذا العبء. رددت و أنا أجفف وجهي مقبلا نحو غرفتها..يبدو أنها تحبك يا أمي، الحكاية ليست حكاية خدمة..و أنا أيضا أحبها، ليتك عدت منذ زمن، كنت زوجتك إياها. ضحكتُ..الخير فيما اختار الله يا أمي العزيزة.
صحوت على صوت إغلاق الباب. نهضت متوجها إلى الحمام و باب غرفة أمي مفتوح كالعادة. قالت و أنا أمر من أمام بابها..صباح الخير يا حبيبي..صباح الخير يا أمي. تسربت إلى أنفي رائحة غريبة و أنا أغسل وجهي.. ما هذا يا أمي! هناك رائحة كريهة!..لا أعلم يا بني، يبدو أننا سنحتاج سباكا..لا تقلقي سأتولى هذا الأمر، سآتي به غدا بعد أن أفرغ من بعض المشاوير.
صحوت على صوت الباب يغلق. نهضتُ و الرائحة قد ازدادت. قلت في نفسي، كلا هناك شيء بالتأكيد في مواسير الصرف. فُتح باب الشقة و دخلت امرأة جميلة، فوجئت بي فقالت..أنا آسفة، نسيت حقيبتي. خجلت من جمالها و ابتسمتُ..لا بأس. ثم أردفتُ..أنتِ وفاء إذن..نعم، أنا آسفة، أزعجتك..لا يهمك. سكتُ هنيهة و هي ترمقني بنظرات اعتذار خجلى ثم قلت..لا أعلم كيف أرد جميلك، اعتنيت بأمي في غيابي و لم تقصري..لا شكر على واجب. تنامت الرائحة فقلت..أنا آسف على الرائحة، سآتي بالسباك اليوم. استغربتْ..سباك! لماذا!..يبدو أن هناك شيء ما يصدر تلك الرائحة في مواسير الصرف لدينا. أقبلت نحوي..كلا، الرائحة ليس سببها المواسير في شقتكم..ربما تكون مواسير شقة أخرى إذن..كل سكان العمارة يشتكون منها بالمناسبة..و لماذا لم يفعلوا شيئا!..حاولت معهم و لكن كما تعلم، كل مشغول بحاله. ازدادت الرائحة فقلت..كلا، لا يمكن، المشكلة تبدأ من مواسير شقتنا. دنت مني أكثر..لم تفهمني، الرائحة ليست من المواسير إطلاقا، الرائحة من هنا. و أشارت إلى غرفة أمي. سبقتني و فتحت الباب. دخلت خلفها لأجد أمي نائمة. تعجبت و أنا أنظر إلى وفاء..من أين تأتي الرائحة! أشارت إليها.
تراقصت صورة وفاء أمامي، أمسكت برأسي فجأة فقد انتابها ألم رهيب أغمض عيني. كانت ومضات سريعة تدق عقلي دقا...ساعة الحائط تشير إلى الواحدة و خمس دقائق، أنادي أمي برفق، عيناي تجوبان المكان، لم يتغير الأثاث، الغبار فوقه، أناديها بصوت أعلى و أنا أطرق على باب غرفتها، التلفاز يشع في الحجرة المظلمة و يلقي بأضوائه على جسدها الراقد فوق السرير، أداعب شعرها الفضي، أحاول إيقاظها دون جدوى..أمي! أمي! استيقظي.
فتحت عيني بصعوبة و الألم يعتصرني فوجدتني أصرخ و يداي تهزان الجسد الميت بعنف..أمي! أمي!
تمت



#جمال_الدين_أحمد_عزام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رؤية
- زاد الرحلة
- الفنار
- الثورة و الثورية و الثوار


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - وفاء