أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - أعلام المسلمين في روسيا (2)















المزيد.....


أعلام المسلمين في روسيا (2)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 3857 - 2012 / 9 / 21 - 10:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


إسماعيل كسبرينسكي (كسبرالي) (1851-1914)



ولد إسماعيل كسبرالي في قرية اخجي قرب بخشيسار عام 1851. كان والده مصطفى كسبرالي من أغنياء منطقة كاسبر قرب يالطة المعاصرة. واستطاع والده أن يحصل على لقب أرستقراطي من القيصرية الروسية مقابل عمله في مؤسساتها وبالأخص في مجال القوات البرية العسكرية.
ودخل إسماعيل المدرسة الابتدائية، وحالم بلغ سنته العاشرة أرسله أبوه لاستكمال الدراسة في المدرسة الروسية. وبعد سنتين من الدراسة نقله أبوه مرة أخرى للدراسة في مدرسة الكاديت (العسكرية) الروسية إلى مدينة فارونيش. بعدها انتقل إلى موسكو لاستكمال دراسته العليا، حيث اخذ يرتاد إلى جانب الدراسة المراكز الأدبية والثقافية الواسعة الانتشار حينذاك في موسكو. واكتشف موهبته المبكرة ايفان كتكوف أحد محرري جريدة الأخبار الموسكوفية. وقد كان كتكوف من بين الشخصيات الروسية الفاعلة وسط الأدباء والمفكرين القوميين السلافيين (الوطنيين). وتوثقت عرى الصداقة بينهما، إلى أن بدأت ثورة القبارصة ضد الأتراك، التي وقف كتكوف إلى جانبها، بعد مهاجمته الشديدة للأتراك. وقد أثار ذلك الأسى والتألم في قلب الشاب إسماعيل كسبرالي، بحيث ترك صداقته بكتكوف وغادر موسكو راجعا إلى أوديسا، من اجل الانتقال إلى تركيا للانضمام إلى جيشها. ولكنه لم يستطع قطع الشوط حتى نهايته بسبب عدم امتلاكه آنذاك جواز سفر يخوله حق الخروج.
اضطر بعدها للرجوع إلى أهله، واخذ بتدريس اللغة الروسية في المدرسة. إلا أن رغبة الانضمام للجيش التركي ظلت تراوده بين الحين والآخر. وجرى السماح له للخروج إلى اسطنبول عام 1871. بعدها سافر إلى النمسا ومنها إلى فرنسا. حينذاك بدأ بوضع مشروعه الفكري عن "الإسلام الروسي" (روسكويو موسلمانستفو)، بوصفه أحد البدائل الفكرية الضرورية لتأسيس موقف المسلمين من أنفسهم ومن الروس والحضارة الغربية. إلا انه لم يستطع تنفيذه آنذاك بسبب الظروف الحياتية التي اضطرته للعمل مترجما في باريس. بعدها رجع إلى اسطنبول للعيش عند عمه. وحاول حينذاك دخول المدرسة العسكرية التركية العليا إلا انه لم يفلح بسبب تدخل السلطات الروسية والسفير الروسي اغناتييف عند الوزارة التركية لمنعه عن ذلك. عندها عمل على مد الجرائد الموسكوفية والبطرسبورغية بالمقالات. واخذ بمزاولة الكتابة الأدبية. وكتب في مرحلته الأولى عن حياة الفلاحين وحياة الناس العادية، من خلال تصوير حياة الناس في شبه جزيرة القرم. بعدها كتب قصة حياته بعنوان (قيون دوق دو) وذيلها باسم مستعار هو دانييل بي. وفي كتابه هذا استعرض رغبته في إنشاء جريدة يخدم بها مصالح بلده (القرم) والأتراك في الموقف من الحضارة الأوربية.
في عام 1878 تزوج من زهرة خانوم، لعائلة تترية غنية من قازان. واصبح رئيسا لمدينة بخشيسار. وفي عام 1879 كتب عريضة لإنشاء جريدة للمسلمين، غير أن السلطات الروسية رفضت طلبه في أول الأمر. آنذاك اخذ بكتابة سلسلة مقالات عن "حالة المسلمين في روسيا" نشرها في الجريدة الروسية - التترية "تافريده". وهي المقالات التي سبق وان فكر بها كمشروع عن المسلمين في روسيا. وفي عام 1881 جمع هذه المقالات ونشرها على هيئة كتاب مستقل بعنوان "الإسلام الروسي". وفي عام 1883 حصل على إجازة إنشاء جريدة خاصة بالمسلمين باللغة الروسية والتترية اسماها "الترجمان". وفي عام 1905 غّير اسمها إلى "ترجماني أحوالي زمان"، واستمرت بالصدور حتى عام 1917، أي بعد موته بثلاث سنين.
لعبت "الترجمان" دورا سياسيا وثقافيا كبيرا ليس بين مسلمي روسيا فحسب، بل وخارجها أيضا. وجرى الاعتراف بقيمتها وفعاليتها وأثرها بما في ذلك من قبل الدول الإسلامية خارج روسيا. ففي الاحتفالات المخصصة عام 1908 على مرور ربع قرن على إنشائها حصلت الترجمان على أوسمة تقدير تركية وفارسية ومن بخارى. وسلمه القيصر الروسي نيكولاي الثاني وسام ستانيسلاف من الدرجة الثالثة. والى جانب "الترجمان" اصدر في بخشيساراي جريدة أسبوعية بلغة القرم التترية تحت عنوان "ملة" (الأمة). وكذلك جريدة خاصة بالمرأة تحت اسم "عالمي نسوان" (عالم النساء).


لم يترك إسماعيل كسبرالي أعمالا فكرية كبيرة بالطريقة المعتادة في تقاليد الإبداع الإسلامي. أي انه لم يترك لنا أعمالا فقهية أو تاريخية أو فلسفية أو كلامية بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه ترك جملة من الاعمال الفكرية الاجتماعية التي جمعها من نتاجاته المتراكمة في الكتابة الصحفية. ذلك يعني أنها تراكمت في مجرى تجاربه الحياتية العملية. وهو الأمر الذي أعطى ويعطي لها حيوية فكرية وسياسية بما في ذلك في العالم المعاصر.
فقد أثار اهتمامه منذ البداية مشاكل الحياة اليومية للمسلمين التتر في شبه جزيرة القرم. ووجد ذلك انعكاسه في كتاباته الأدبية عن حياة الفلاحين في القرم كما وضعها في كتاب (قيون دوق دو). ونفس الشيء يمكن العثور عليه في سلسلة المقالات التي كتبها عن (حالة المسلمين في روسيا)، والتي جمعها في وقت لاحق ونشرها تحت عنوان (الإسلام الروسي)، الذي حاول فيه إرساء قواعد جديدة للعلاقة بين الروس والمسلمين، تتجاوز تقاليد السيطرة والإكراه والهيمنة المميزة للسياسة الروسية القيصرية تجاه رعاياها المسلمين. وتتوج عمله هذا في أهم كتاباته الفكرية ألا وهو (الاتفاق الروسي الشرقي) الذي وضعه باللغتين الروسية والتترية (لغة تتر القرم). واحتوى هذا الكتاب على صيغة مكثفة لتجاربه الحياتية السياسية والفكرية في تأمل حالة المسلمين في روسيا ومحاولة إنهاضهم عبر حركة تجديدية تبني مواقفها العملية على رؤية واقعية من روسيا، أي انه حاول التأسيس فيه لرؤية استراتيجية للعلاقة الروسية الإسلامية تخدم مصالح الطرفين.
وكتب أيضا جملة من المقالات والأبحاث والكتب ذات الصفة التربوية التي سعى من خلالها لانهاض الروح الأدبي عند الجيل الشاب. لذا نراه يكتب للصبيان (خواجي صبيان) و(معلوماتي نافيعة). ووجد ذلك تعبيره أيضا عبر تحويله الكتابة الأدبية إلى أسلوب للتربية الأخلاقية، كما هو الحال في روايته الخيالية (دارتي راحة للمسلمين). وأراد كتابة موسوعة شاملة للمسلمين في روسيا إلا انه لم يعثر على من يمولها آنذاك.
كل ذلك يشر إلى أن الاعمال الفكرية لإسماعيل كسبرالي كانت تهدف لإنهاض الروح العملي عند المسلمين. غير أن ما يميزها عن الحركات الإصلاحية الإسلامية لنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هو موضوعاتها العملية المباشرة المرتبطة بالواقع الروسي وحالة المسلمين فيه.

لا يعني اهتمام إسماعيل كسبرالي بواقع المسلمين في روسيا (وبمنطقة القرم بالأخص) ضعف اهتمامه بالعالم الإسلامي. على العكس، أننا نعثر في سلوكه الحياتي على اندفاع عارم صوب مشاكل العالم الإسلامي جميعا. لذا نراه يسافر إلى بخارى وتركستان ومصر والهند للمساهمة في إنهاض الفكر الإسلامي التنويري والعمل التنظيمي من اجل توحيد المسلمين. وهي فكرة ظلت متغلغلة في أعماق تصوراته وأحكامه عن كيفية خروج المسلمين من المأزق التاريخي الذي اخذوا يواجهوه في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مواجهة الهيمنة والسيطرة الكولونيالية.
انطلق إسماعيل كسبرالي في رؤيته عن وحدة المسلمين من ضرورة اعتمادها على عقول مستنيرة وناس قادرين على التضحية والعمل. وهي مهمة مستحيلة في ظل سيادة الجهل والتخلف المادي والمعنوي. من هنا وضعه قضية الاهتمام بالمعارف والعلوم في صلب تصوراته الإصلاحية. وأكد بهذا الصدد على ضرورة الاستفادة من إيجابيات الثقافات الأخرى في مختلف الميادين والعلمية منها بالأخص. فهو يسير هنا في نفس تقاليد العقلانية الإسلامية وتقاليدها الإصلاحية القديمة عن أن العلم بحد ذاته فضيلة. بحيث جعله ذلك يقر بإمكانية بل وبضرورة توسع روسيا في المناطق الإسلامية ولكن بشرط مساهمتها في إنهاض المسلمين ثقافيا وعلميا. وبنى اجتهاده هذا، الذي كان يهدف ضمن تصوراته إلى خدمة وحدة المسلمين على اعتبارين، الأول هو حقيقة الإسلام التوحيدية والأممية، والثاني رؤيته عن طبيعة المكونات الثقافية لروسيا نفسها. ووضع في الاعتبار الأول الفكرة القائلة بان عظمة الإسلام تقوم في قدرته ومساعدته المسلمين على الاحتفاظ بهويتهم الثقافية. من هنا فانه لا معنى لتجزئة المسلمين على أساس العنصر والمكان والتراب. لذا وقف بالضد من أن يكون لكل قوم وشعب مسلم مفتيه الخاص، معتبرا الانتماء للكل الإسلام أرقى من أي اعتبار للقومية. لهذا السبب اعتبر توحيد المسلمين داخل روسيا مساهمة موضوعية في جمع شمل المسلمين. من هنا يمكن فهم موقفه المعارض لما اسماه بالنزعة الانعزالية لمسلمي روسيا آنذاك، الذين أرادوا العيش خارج روسيا وبدونها. وكتب بهذا الصدد يقول بان مصلحة الدولة(الروسية) تفترض الاستفادة من الجميع بما في ذلك من المسلمين. لذا ينبغي أن تتعامل معهم بصورة إيجابية. وبنفس الوقت طالب المسلمين بالانخراط الثقافي الفعال في الحياة الروسية. فقد استغرب اعتداد بعض المسلمين بالنفس في حين لا تتعدى حياتهم دائرة المناطق الريفية. من هنا دعوته لذهابهم إلى المدن والاستفادة من نتاجات الحضارة الروسية. وأعطى لهذا الاشتراك الفعال للمسلمين في روسيا أبعادا ثقافية عالمية، من خلال ما اسماه بالعامل الوسط في الثقافة الروسية بين الغرب والشرق، وبالعامل الوسط للمسلمين في روسيا بين روسيا وعالم الإسلام. وأعطى لهذه "الوسطية" أيضا أبعادا سياسية وروحية، بحيث جعلته يتكلم عن "المكان الشرعي" للروس والمسلمين في روسيا بين الغرب والعالم الإسلامي، وذلك بفعل التوافق الباطني بين المسلمين والروس.
كانت مواقف واجتهادات إسماعيل كسبرالي هذه مبنية على تحسسه واقع المسلمين بشكل عام وفي روسيا يشكل خاص. لقد تحسس حينذاك خسارة المسلمين أمام الروس والغرب ثقافيا وحضاريا. وأعتقد بان الاحترام الحقيقي والمحبة المخلصة للإسلام يفترضان الاندفاع الفعال من اجل منافسة الآخرين لا الانعزال المكتفي بذاته. ولم ير في اندفاع المسلمين في روسيا للانخراط في الحياة الروسية والاستفادة منها أمرا "تكتيكيا" أو عابرا، بقدر ما انه وجد في ذلك شيئا يستند إلى أصوله الخاصة القائمة في "الدين" الروسي أمام المسلمين أنفسهم الذين أنقذوا روسيا و الروس فيما مضى. وأكد بهذا الصدد على أن التتر والمغول قد أنقذوا روسيا من الانحلال في الغرب الأوربي. مما ساهم على إبقاء الأصالة الروسية وتوحيدها اللاحق. ومن ثم فان على روسيا أن تدفع الثمن، لكن لا بالنقود الآسيوية القديمة، بل بالنقود "الأوربية المعاصرة"، أي بالعلم والمعرفة.
وإذا كانت هذه الأفكار تتشابه ظاهريا مع ما هو مألوف في الاعتبارات الفكرية لتيار محبي وأنصار السلافية الروسي و تيار الأوروآسيوية، فانه يختلف عنها في الباطن، من حيث وضعه أولوية العامل الإسلامي في اعتباراته السياسية والثقافية. فهو أيضا يتكلم عن الروح الجماعي والجماعة الروحانية ومعارضة الفردية الأنانية(بما في ذلك الجماعية والقومية) باعتبارها مكونات أساسية في الإسلام وضرورية للمسلمين، إلا انه ادرج هذه الأفكار في سلسلة الغاية السياسية الكبرى، ألا وهي توحيد المسلمين. معتقدا بان توحيد لمسلمين داخل روسيا هي فرصة لتقويتهم الداخلية وتحّضرهم السريع.


ووضع إسماعيل كسبرالي بهذا الصدد نظريته عن الوفاق الروسي الشرقي(الإسلامي)، والتي انطلق فيها من واقع وجود المسلمين ضمن إطار الدولة الروسية من جهة، وطبيعة العلاقة المتكونة تاريخيا بينهما من جهة أخرى. واعتبر وجود المسلمين في روسيا خيرا لهم انطلاقا من إمكانية الاستفادة مما توفره الثقافة الروسية المعاصرة، بينما اعتبر تاريخ العلاقة بين الروس والمسلمين ضمانة الوفاق التاريخي بينهم، لاسيما وانهما يتمثلان ثقافيا وروحيا موقع الوسط والحلقة الرابطة بين الغرب والشرق. وروسيا بهذا المعنى هي "قدر" المسلمين فيها. لان روسيا هي طريق الغرب الأوربي إلى المسلمين، الذين يحصلون على الثقافة الأوربية بعد مرورها في التجربة الروسية. أي أنها تصل إليهم "بصورة مشذبة" وخالية من عنفوان الأوربية المباشرة. وهو أمر يجعل من الممكن الأخذ بنتاجات الثقافة الأوربية دون الاصطدام المباشر بها. لاسيما وان روسيا تتصف بصفات ثقافية ونفسية مشتركة مع المسلمين. إضافة إلى أنها لا تتميز بسياسة القهر الحضاري. فالروس تعودوا على وجود اكثر من ثقافة بينهم.
وصاغ من هذه المقدمة مطلبه القائل بضرورة تذليل الشكوك المتبادلة بينهما. واعتبر إعلان روسيا وطنا للجميع بغض النظر عن الدين والعرق الأساس الضروري لهذا الوفاق. بمعنى اقتناع المسلمين بان وجودهم ضمن روسيا يعطي لهم إمكانيات هائلة للتقدم والازدهار العلمي والثقافي والاقتصادي(التجاري)، وإقناع الدولة الروسية بالا تكون عندها شكوكا تجاه المسلمين، وان تزيل من هواجسها وسلوكها موقف الشك الدائم بالمسلمين باعتبارهم عملاء كامنين للدول الإسلامية(العثمانية بالأخص). ويترتب على ذلك بنظر كسبرالي سيادة الواجب المشترك عند الروس والمسلمين تجاه الدولة ومسئولية الدولة المتساوية تجاههما. واعتبر "عدم تدخل الدولة في الشئون الداخلية للمسلمين" عملا ضارا. فإذا كان لذلك ما يبرره فيما مضى، فان الظروف المعاصرة تفترض دخول المسلمين واشتراكهم الفعال في إدارة الدولة. أي ينبغي أن يكون الجميع مشتركين فعالين في بناء روسيا العظمى. وهو اشتراك ينبغي أن يستند على مبادئ الحرية والإبداع، اللذين ليس فقط لا يتعارضان مع تقاليدهما وإيمانهما، بل ويساعدان على نهوضهما المشترك.
واعتقد كسبرالي بان الدولة القيصرية ينبغي أن تعمل من اجل وضع الشروط المتكافئة للجميع واستعمال الأساليب النبيلة من اجل بلوغ هذه الغاية. إذ لا يمكن بلوغ الغاية السامية، كما يقول كسبرالي، بوسائل رذيلة. وان رسالة القيصرية الروسية ينبغي أن تكون رسالة أخلاقية روحية تساهم في تذليل تخلف رعاياها المسلمين لا بالإبقاء عليهم في غياهب الجهل والتخلف. لأنه في حالة عدم قدرة القيصرية وروسيا على رفع مستوى هذه الشعوب، فإنها لا تمتلك الحق الشرعي والأخلاقي للتدخل في شئونهم.
وحاول أن يؤسس لفكرته عن الوفاق الروسي – الشرقي(الإسلامي) من خلال ربط الأبعاد الجيوسياسية والثقافية للعلاقة الروسية – الإسلامية في كل واحد. فقد انطلق مما اسماه بضرورة تذليل خطورة الصين والإنجليز. فالصين تتميز بسيادة فكرة السلطة من اجل السلطة والتصنين، الذي يسحق الأصالة الثقافية للشعوب والقوميات، بينما يتميز الإنجليز بالصلافة وعدم احترام تقاليد الشعوب الأخرى. أما الروس فانهم على خلاف ذلك. فهو لم ير شعبا سائدا يعامل الشعوب الأخرى الخاضعة له ضمن الدولة على قدر المساواة، كما انهم ينظرون إلى الآخرين كما لو انهم منهم واليهم. ولا يتميز الشعب الروسي بروح العداء للمسلمين، بل هم اكثر تسامحا واعدل في علاقتهم بالشعوب التركية المسلمة في روسيا من أتراك السلطنة العثمانية تجاههم. إضافة لذلك أن الروس يختلفون عن الأوربيين الغربيين المتميزين بالأنانية والنفعية الباردة. فالمسلمون يرون في الروس أيضا ذاتهم المشتركة مثل الانفتاح والتسامح والصداقة وحب الآخرين. لهذا اشترط في ترسيخ الوفاق الروسي الإسلامي اعتماده على الشعور المشترك بالانتماء المعنوي لروسيا، لا على أساس الاعتبارات النفعية والسياسية الضيقة. وطالب المسلمين بان يكونوا أولا وقبل كل شئ وطنيين والعمل مع الروس من اجل التنوير والنهضة. ويفترض ذلك من الدولة الروسية العمل من اجل تخليص المسلمين من الجهل والتخلف. إذ لا ينبغي أن تكون السيطرة الروسية من اجل السيطرة والاستغلال ودفع الجزية. ومن العيب على روسيا أن تكون مهمتها بهذا الصدد مجرد الاستعاضة عن القاضي بتسمية الحاكم وعن النائب بتسمية الشرطي. إن مهمة روسيا كما خطط لها كسبرالي في الوفاق المفترض هي مهمة حضارية. واعتقد بان سياسة كهذه سوف تدفع حدود روسيا إلى كل مناطق الأتراك المسلمين. بحيث تصبح هذه المناطق عاجلا أم آجلا جزءا من الدولة الروسية.
وربط كسبرالي هذه الحالة بواقع سيادة الحقوق والواجبات المشتركة على الجميع في الدولة الروسية. لذا طالب بان يعيش الروس والمسلمين في دولة واحدة بقوانين واحدة، كشركاء مثلما يعيش أبناء عائلة كبيرة من شعوب وقوميات متنوعة.
واعتبر مساواة الجميع حاجة طبيعية، بينما يؤدي استعمال القوة إلى تدمير الدولة ورعاياها. وكتب بهذا الصدد قائلا بان الدولة لا ينبغي أن تجمع ما هو غير قابل للإجماع كما لا ينبغي لحم ما هو قابل للتكسر في كل لحظة. أي ينبغي على الدولة ألا تستعمل القوة في فرض شروطها دون الأخذ بنظر الاعتبار حقوق من تريد ضمه إليها. ووضع في هذه الحقوق مساواة الجميع. وادرج في هذه المساواة الضرورية للوفاق الروسي الإسلامي سيادة الحرية والإبداع المشترك. لهذا طالب بالكف عن الروسنة المفروضة بالقوة، وطالب بالاستعاضة عنها بالوحدة الروحية الأخلاقية والحفاظ على الأصالة الثقافية. من هنا وقوفه المعارض لتدخل الدولة في كل دقائق الحياة الاجتماعية والروحية للمسلمين، وطالب بالحرية السياسية، معتبرا إياها فضيلة ضرورية لوجود الدولة والأمم. واعتبر أن افضل خدمة يقدمها المواطن طواعية للدولة هو المواطن الحر. أي ينبغي للجميع أن يكونوا أحرارا في خدمة الدولة. ولم يقصد هو بهذه الخدمة العبودية للدولة، بل الإبداع الحر المستند إلى فكرة الحق والواجب. فما كان يقلق عقل كسبرالي وضميره ليس "المصير الروسي" بل حقوق المسلمين وواجب الدولة الروسية تجاههم. وفي حالة تطبيق الدولة الروسية لمبادئ العدل والمساواة والحرية، فإنها تكون بذلك الأقرب إلى أفئدة المسلمين وعقولهم، لان هذه المبادئ هي مبادئ المثال النموذجي للحكم الإسلامي والحضارة الإسلامية. وروسيا المثلى هي روسيا المبنية على أساس الاتحاد الطوعي المرتكز على مبادئ المساواة والحرية والعلم والتربية والتعليم.


إسماعيل كسبرالي دون شك هو أحد الأعلام المتميزين للجديدية (الإصلاحية) الإسلامية في روسيا. تميزت آراءه ومواقفه بالواقعية وغلبة النوازع الاجتماعية والسياسية فيها. فهو يشبه الكواكبي. بمعنى اهتمامهما الأساسي بقضايا الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين. غير أن ما يميز إسماعيل كسبرالي أن شخصيته الاجتماعية والسياسية تبلورت في مجرى الدفاع عن حرية وتقدم المسلمين في ظل السيطرة الروسية. وكانت أفكاره العلمية والعملية موجهة من اجل إيجاد الحلول لمشاكل المسلمين في روسيا والخروج بهم من المأزق التاريخي والثقافي آنذاك. وأوصلته رؤيته الواقعية إلى التشديد على أولوية التنوير والتربية والتعليم والتأسيس للتدرج في ميدان الحرية الاجتماعية والسياسية. لذا نراه أيضا يقف ضد الفكرة الاشتراكية المنتشرة حينذاك بين الروس بعد ثورة 1905، انطلاقا من عدم ثقته بالنجاح السريع. معتبرا الراديكالية خطرا على التحرر الاجتماعي والثقافي ومدمرة للأصالة الثقافية. من هنا اتزان موقفه من الغرب الأوربي. فقد أكد من جهة على أنانية الغرب وأعطاه في نفس الوقت حقه باعتباره معقل العلم والثقافة في ذلك الوقت. واقتبس منه فكرة التنوير والحرية ولكنه لم يجر بخطى أنصار ومحبي السلافية الروس في انتقادهم المرير "لبرلمانية الغرب وإلحاده" وما شابه ذلك. لقد بنى معارضته للغرب الأوربي على أساس انعدام التعددية الثقافية فيه. وأنطلق في ذلك من يقينه عن أن الغرب لا يعرف سوى سياسة الهيمنة والابتلاع والسيطرة، بينما شكلت الأصالة الثقافية والدينية للمسلمين بالنسبة لكسبرالي مرجعية ثابتة في فكره.
في حين كان مشروعه عن الوفاق الروسي – الإسلامي في غاياته هو مشروع المستقبل. بناه على أساس تاريخي – ثقافي – روحي. بمعنى تداخل الرؤية التاريخية عن نماذج الثقافتين الروسية والإسلامية. وهو تداخل تراكمت عناصره في مجرى قرون عديدة من الحرب والسلم، ترتبت عليه صيرورة أبعاد روحية متغلغلة في أجساد وأرواح المسلمين والروس متشابهة في السلوك والأخلاق والأمزجة. لذا اعتبر أن على الدولة الروسية أن تبني موقفها من المسلمين على أسس روحية أخلاقية لا على أساس القوة والغلبة، كما مارسته تجاه البولنديين والفنلنديين وغيرهم. واعتقد بان روسيا سوف تسير بهذا الطريق، وسوف تترأس التمدن الإسلامي، الذي يجعل من العالم الإسلامي وروسيا قوة لها أثرها التاريخي الهائل.
لم تكن أفكار ومشاريع إسماعيل كسبرالي هذه معزولة عن واقع المسلمين في القرن التاسع عشر وخضوعهم للسيطرة الروسية. أي أن اجتهاده كان منصبا نحو البحث عن سبل واقعية للنهوض بمسلمي روسيا ومن خلالهم المسلمين بشكل عام. وهي فكرة لها أصالتها الثقافية وأبعادها الجيوسياسية المعاصرة. أي أنها لم تفقد قيمتها المعاصرة بعد ضرورة الأخذ بحصيلة التغيرات التي جرت على النطاق العالمي في مجرى القرن العشرين بشكل عام وعلى مسلمي روسيا(القيصرية) والاتحاد السوفيتي بشكل خاص.
فقد أدى زوال روسيا القيصرية إلى زوال "مشروع الوفاق الروسي الإسلامي" بصيغته التي اقترحها كسبرالي. ولكنه فتح الطريق أمام إمكانية ظهوره في التشكيلة السوفيتية، التي أدرجت الشعوب الإسلامية في تركيبات دولتية وقومية أدت إلى تجميعهم المتجزئ. وهي خطوة متناقضة من حيث قيمتها السياسية والثقافية، أي أن المرحلة السوفيتية جسدت بصورة جزئية مشروعه عن الوفاق وعن التمدين والتنوير، ولكنها خربت بصورة كبيرة مبادئ الأصالة الثقافية للمسلمين. ولعل اكثر هذه المظاهر مأساوية بهذا الصددهو ما حدث بالنسبة لشعبه ووطنه الأم (القرم).
لقد عانى المشروع الثقافي السياسي لكسبرالي من نقاط ضعف منها وهم التجمع الحر للمسلمين وتنويرهم التام داخل قومية وثقافة ودولة أخرى مسيطرة عليهم. فالسيطرة بحد ذاتها لا تفترض ولا تستلزم المساواة. إضافة لذلك أن التجمع الحقيقي للقوميات والثقافات يفترض خوض معاناة الصراع من اجل صنع مكونات الوحدة الداخلية، لا الوحدة المفروضة خارجيا. أما مطالبته الدولة القيصرية بتقديم شروط متكافئة للمسلمين مع الروس فهو وهم يتناقض مع كامل تاريخ وسياسة القيصرية. وهو نفس الوهم القائم في تصوراته عن إمكانية الرسالة الروحية والأخلاقية للقيصرية تجاه المسلمين. ونفس الشيء يمكن قوله عما اسماه بدور روسيا الحضاري، وضرورة دخولها مناطق عيش الشعوب التركية جميعا! إذ يفترض هذا التصور وجود روسيا المثالية. ولا مثالية في السيطرة، لان السيطرة تسعى أساسا للحصول على غنيمة. إضافة إلى ما في هذا التصور من إجحاف للحقيقة التاريخية التي لازمت تفوق المسلمين تاريخيا وثقافيا لآلاف السنين على الروس وغيرهم. ذلك يعني أن الوفاق الروسي – الإسلامي يستلزم أولا وقبل كل شئ المساواة والتكافؤ الوجودي للثقافات والأمم عبر بنائه على أسس المعاناة الذاتية في البحث عن النظام الأمثل.
لكن تجربة وحياة وفكر ومشاريع إسماعيل كسبرالي كانت وستبقى ذات قيمة حيوية بالنسبة للمسلمين عموما وبالنسبة للعلاقة الضرورية بين العالم الإسلامي وروسيا بشكل خاص.
*** *** ***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أعلام المسلمين في روسيا
- الاستشراق والاستعراب الروسي (6-6)
- الاستشراق والاستعراب الروسي (5- 6)
- الاستشراق والاستعراب الروسي (4-6)
- الاستشراق والاستعراب الروسي (3-6)
- الاستشراق والاستعراب الروسي (2- 6)
- الاستشراق والاستعراب الروسي (1-6)
- منهج الشهرستاني في الموقف من الأديان
- النقد الظاهري للدين النصراني عند ابن حزم
- النقد الظاهري للدين اليهودي عند ابن حزم
- النقد الاشعري للأديان في الثقافة الإسلامية
- النقد المعتزلي للأديان في الثقافة الإسلامية
- التقاليد الإسلامية العامة في نقد الأديان
- نقد الأديان والبحث عن الوحدانية في الثقافة الإسلامية
- فلسفة الإيمان عند الغزالي (2-2)
- فلسفة الإيمان عند الغزالي (1-2)
- منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية
- المنهج الجدلي لابن حزم في تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية
- تصنيف وتقييم البغدادي للفرق والمدارس الإسلامية
- تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية عند الاشعري


المزيد.....




- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟
- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - أعلام المسلمين في روسيا (2)