أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية















المزيد.....

منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 3805 - 2012 / 7 / 31 - 10:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عمّق الشهرستاني المبدأ المنهجي المجرد في تقييمه وتصنيفه للفرق الإسلامية من خلال ربط تقييم الفرق بأفكارها الجوهرية وبيان ما هو مميز لها. وافرز لهذا السبب بعض القضايا، التي اعتبرها أصولا يتوقف على كيفية فهمها وحل معضلاتها العلمية والعملية تحديد وتقييم الاتجاه المعني. وتتبع بهذا الصدد تقاليد التصنيف السابق له.
فهو ينطلق من التقسيم العام حسب الانتماء الديني والفكري. ويقسم الاتجاهات بالتالي إلى أهل الديانات التوحيدية وهي اليهودية والنصرانية والإسلام، وأهل الديانات القريبة منها "ممن له شبهة كتاب" وهي المجوسية وأمثالها. أما الاتجاهات الأخرى من المدارس الفلسفية والدهرية والصابئة وعبدة الكواكب والأوثان والبراهمة وأمثالهم فيدعوهم "بأهل الأهواء والآراء". وهو منهج يتجاوز نفسية الاتهام والتكفير والعقائدية الضيقة، ويضع أمام نفسه مهمة الكشف عن خصوصيات الجميع. مما أدى في آن واحد إلى الإقرار بوجود الجميع والتعامل معهم جميعا بوصفهم أصنافا لاتجاهات دينية وغير دينية.
فالفلسفة والفلسفة الدينية ليست من الدين بشيء، كما أن الفرق الدينية (الملل) ليست دينية بصورة خالصة. لهذا نراه يعترف بما في جميعها من بذور عقلانية ويبني تقييمه لها على كيفية حلها للقضايا الجوهرية المميزة لها عبر وضعها على محك المعيار الشامل لما اسماه بصراع النص والرأي. لهذا لم ينظر إلى أهل الديانات وأهل الأهواء نظرة دينية أو غير دينية، بقدر ما انه تطرق إليهم جميعا من رؤية علمية تاريخية.
بعبارة أخرى، انه وضع معيار المنطق في أساس تقييمه لماهية "الملة" و"الأهواء". فهو لم ينظر إلى الفرقة الدينية على أساس دينها أو تدينها بالمعنى الشائع للكلمة، بل طابق بينها وبين مفهوم العقل والاجتهاد. فالإنسان في اعتقاده وقوله "مستفيدا من غيره أو مستبدا برأيه". والمستفيد من غيره مسلم مطيع، لان "الدين هو الطاعة. والمسلم المطيع هو المتدين"، كما يقول الشهرستاني. من هنا فان المعيار الحقيقي للإسلام هو الطاعة. ومضمون الطاعة يتحدد بالاستفادة، ومصدر الاستفادة لا يتحدد بأصل واحد أي كان. وهو استنتاج يفسح المجال أمام التنوع غير المتناهي في مصادر الحقيقة التي يمكن أن تقدمها "الملل" و"الأهواء" أو الدين والفلسفة.
وهو استنتاج أكده الشهرستاني بصورة غير مباشرة من خلال تحليله لمفهوم الاستفادة. فهو ينطلق من أنه ليس كل استفادة فكرية يمكنها أن تكون مصدرا للحقيقة. وذلك لان الحقيقة لا تعقل تقليدا أيا كان هذا التقليد. فربما يكون المستفيد من غيره مقلدا قد وجد "مذهبا اتفاقيا، بان كان أبواه أو معلمه على اعتقاد باطل فيتقلده منه دون أن يتفكر في حقه وباطله وصواب القول فيه وخطئه، فحينئذ لا يكون مستفيدا لأنه ما حصل على فائدة وعلم ولا اتبع الأستاذ على بصيرة ويقين". فحقيقة الاستفادة تقوم في مدى إدراكها الفعلي للحقائق. ومن ثم فإنها مستحيلة دون المشاركة الفعالة للعقل. وبدون هذه المشاركة لا يمكن "للحقيقة" أيا كانت أن تتمتع بمعناها الخاص. وبهذا المعنى يصبح الاستبداد بالرأي فضيلة. لأنه يكف في الواقع عن أن يكون استبدادا في حال استناده إلى العقل والمنطق. فاستبداد كهذا هو الصيغة الأخرى للاستفادة الحقيقية. وذلك لان المستبد بعقله حالما يستند إلى شروط موضع الاستنباط وكيفيته "حينئذ لا يكون مستبدا حقيقة لأنه حصل العلم بقوة تلك الفائدة ركن عظيم"، كما يقول الشهرستاني. وهو استنتاج يمسح الخلاف الظاهري بين الاستفادة والاستبداد بالرأي، كما يطابق بينهما بفعل استنادهما إلى العقل والمنطق. وفي حال ابتعاد البحث عن المنطق والعقل، فإن المستبد برأيه غير مستفيد (غير مسلم)، والمستفيد بالتقليد غير مستفيد (غير مسلم).
ذلك يعني أن المسلم الحقيقي هو المسلم العقلاني ـ المجتهد. وهو استنتاج منطقي يمكن رؤيته في الصيغة المتناقضة ظاهريا، التي يقدمها لنا الشهرستاني حينما يقارن بين من يدعوهم بالمستبدين بالرأي مطلقا، وهم المنكرين للنبوات والشرائع الدينية النصية، الذين يستندون في أحكامهم على حدود عقلية يضعوها للعيش، وبين المستفيدين القائلين بالنبوات. وبغض النظر عن الإشارة الظاهرية للاختلاف بين هذين الاتجاهين، إلا أنها إشارة لا تتعلق من حيث الجوهر بالحكم المنطقي والعقلي. من هنا تأكيده على أن القائلين بالأحكام الشرعية يقولون بالضرورة بالحدود العقلية، أما العكس فلا. واحتوى هذا الاستنتاج المنهجي العام، الذي توصل إليه الشهرستاني على قيمة جوهرية في مجال تقييمه اللاحق للأديان والفرق والمدارس الفلسفية. ولا يغير من حقيقته شيئا تكراره القول، بأنه لم يسع من وراء تصنيفه هذا تصويب الفرق أو تخطئتها، لأنه شرط على نفسه "أن يورد مذهب كل فرقة كما وجدها في كتبهم من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم، دون أن يبين صحيحه من فاسده ويعين حقه من باطله".
لقد الزم الشهرستاني نفسه بعرض أفكار الفرق كما هي استنادا إلى فكرة الاستفادة والاستبداد بالرأي. ولم يعن ذلك تجاهله لقيمة الأحكام المقارنة وضرورتها. لكنه أبقى عليها في تحليليه المقارن للفرق والمدارس والأفكار وليس في الجدل أو الاستعراض الخالص. من هنا سعيه لوضع قاعدة عامة أو قانون عام يمكن على أساسه تصنيف الفرق الإسلامية. ولم يعر الشهرستاني اهتماما جديا لإعادة النظر في التقسيمات وأسماء الفرق الإسلامية (الدينية وغير الدينية) الشائعة الانتشار.
وانطلق في موقفه هذا من أن تصنيف الفرق وأسمائها المستتبة هو تعبير عن تراكم ثقافي وتكامل له أسسه التاريخية. وبالتالي فان إعادة النظر فيها جميعا يؤدي إلى التباس اشد واعقد بالنسبة لتاريخ الفكر. لهذا نراه يستعمل "القانون الجديد" في الموقف من الفرق وتصنيفها، الإسلامية منها وغير الإسلامية، بالشكل الذي يجعل منها جميعا مادة للمقارنة ضمن منهجية علمية لتاريخ الفكر كما هو. فعندما يتكلم، على سبيل المثال، عن "اليهودية خاصة"، فإنه يشير إلى قضية القدر في فرقها ومدارسها بالصيغة التي يشكل فيها "الربانيون" عندهم كالمعتزلة فينا والقراؤون عندهم كالمجبرة والمشبهة". وبغض النظر عن مدى دقة هذه المقارنة، إلا أن قيمتها العلمية تقوم في انه حاول أن يعطي لقانونه الجديد في تقييم الفكر بعدا يتجاوز المدارس والأديان كما هي إلى ميدان الفكرة كما هي.
لقد ظل علم تاريخ الأفكار يعاني من عدم وجود قانون عام أو قاعدة عامة يستند إليها في تصنيفه للفرق وتقييمها، كما يقول الشهرستاني. من هنا انتشار الاختلاف والتشويش الكبير في تحديد الفرق والمدارس الإسلامية. غير أن الشهرستاني أدرك جيدا، بان ما يقدمه من قانون وقواعد لها رصيدها التاريخي والعلمي في علم الملل والنحل وتاريخ الفرق نفسها وإبداعها الخاص. بل أننا نعثر في القانون الجديد الذي يدخله على تجريد أولي للأساليب والمبادئ التي بلورها ابن حزم. لكن مأثرة الشهرستاني تقوم في وضعها بصورة منهجية ومنظومية واضحة وأكثر شمولا وسعة وعمقا. فهو يوسع الأصول التي يستند إليها في تصنيفه وتقييمه للفرق ويدققها. مما أدى إلى ضم أكبر عناصر ممكنة من آراء المفكرين، وبالتالي تدقيق انتماءه لهذه الفرقة أو تلك دون تعسف وإلحاق كذاك الذي نعثر عليه عند غيره من مؤرخي الفكر المسلمين.
وافرد الشهرستاني في قانونه الجديد أربعة أصول عامة، بنى عليها موقفه من تصنيف الفرق والمدارس الفلسفية، وهي:
أولا: الصفات والتوحيد فيها، أي الموقف المثبت أو النافي لها مع جملة القضايا الأخرى المرتبطة بها مثل بيان صفات الذات والفعل، التي تميزت بها واختلفت الاشعرية والكرامية والمعتزلة.
ثانيا: قضايا القدر والعدل فيه، بما في ذلك مسائله الأخرى كالقضاء والقدر والجبر والكسب، وإرادة الخير والشر، بمعنى الموقف المثبت أو النافي لها، الذي تميزت به واختلفت القدرية والنجارية والجبرية والأشعرية والكرامية.
ثالثا: قضايا الوعد والوعيد والأحكام، التي تشمل مسائل الإيمان والتوبة والإرجاء والتكفير والتضليل، التي تميزت بها واختلفت المرجئة والوعيدية والمعتزلة والاشعرية والكرامية.
رابعا: قضايا السمع والعقل والرسالة والإمامة مع مسائلها من التحسين والتقبيح والصلاح والأصلح والعصمة في النبوة وشرائط الإمامة من حيث اعتبارها بالنص أو بغير النص وكيفية انتقالها، التي تميزت بها واختلفت الشيعة والخوارج والمعتزلة والكرامية والأشعرية.
مما سبق يتضح، بان الشهرستاني يدخل في أصول قانونه الجديد القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية الجوهرية لعصره. وعلى كيفية حلها النظري العام يصوغ موقفه وتقييمه لاتجاه هذه الفرقة أو تلك، لهذا المفكر أو ذاك. أنه لا يضع حدودا مطلقة مكبلة لتمايز الفرق داخل المذهب العام، ولا يميعها للدرجة التي يفقد فيها التقييم العقلاني ضرورته. فالمذهب العام للفرقة، أي اعتبار مقالة هذا الإمام أو ذاك مذهبا وجماعته فرقة مرتبط بمدى انفراده بمقالة من هذه الأصول الأربعة المذكورة أعلاه. أما في حالة انفراده بمسألة من مسائلها فلا يمكن أن تعد مقالته مذهبا ولا جماعته فرقة، بل يندرج تحت من تتوافق معه. ذلك يعني أن الشهرستاني يستند إلى المبدأ الأوسع والأكثر تجريدا. من هنا تقسيمه للفرق الإسلامية الكبرى إلى أربع فرق وهي القدرية والصفاتية والخوارج والشيعة، دون أن يعني ذلك نفيه لوجود الجبرية والمرجئة. لقد أبقى عليهما بصفتهما فرقا صغرى، اقرب إلى جماعة تناقض القدرية والشيعة والخوارج في بعض القضايا. بينما نراه يهمل وجود فرقة مستقلة لأهل السنة والجماعة. مما يعني افتقاد منهجيته للتقييم العقائدي. وبالتالي الاستعاضة عنه بإبراز أولوية القضايا التي استعرضها ضمن ما اسماه بالقواعد الأربع وحلولها النظرية.
غير أن تقسيم الشهرستاني العام لا يعني تفريقه التام بين الفرق والمدارس إلى حد عزل إحداها عن الأخرى عزلا تاما. على العكس! إنه يؤكد على تفاعلها وتركب بعضها من بعض وتشعب كل منها إلى أصناف. وعلى الرغم من أن الشهرستاني ظل لحد ما أسير الحديث الموضوع عن انقسام الفرق، بمعنى محاولته إيصال عدد الفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة، إلا أن واقعية قواعده وعقلانية مضمونها المنهجي وتقييمه للفرق أدى إلى سحق الغلاف الديني والطابع المذهبي الضيق للحديث. ونعثر على ذلك أيضا في تصنيفه وتقييمه للفرق الإسلامية العديدة، مقارنة بمن سبقه في هذا الميدان. إذ يجعل من الشيعة 25 فرقة وهي الغلاة (عشرة فرق) والكيسانية (أربع فرق) والزيدية (ثلاث فرق) والإمامية (سبع فرق) والإسماعيلية (فرقة واحدة). أي أنه يحصرها في خمس وعشرين فرقة. وجعل من المعتزلة 12اثنتا عشرة فرقة، أما الجبرية والصفاتية فكل منهما ثلاث فرق، والمرجئة ثمان فرق أساسية، والخوارج ثمان أساسية يتفرع منها سبع فرق للثعالبة وثلاث للاباضية. بهذا يكون حاصل الفرق جميعا سبع وستين فرقة يمكن أن تضاف إليها بسهولة فرق أخرى بحيث يصل عددها إلى ثلاث وسبعين فرقة.
ومهما يكن من أمر هذه القضية، فإن ما هو مهم من وجهة نظر دراسة تقاليد التقييم العلمية للمدارس، هو أن الشهرستاني يهمل إهمالا كليا ما يسمى بالفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة، أي انه لم يعط لها كيانها التاريخي والعقائدي المشخص في هيئة لها ملامحها ووجوهها المتميزة. وبغض النظر عن "الهفوات" التي يمكن العثور عليها في آرائه ومواقفه بهذا الصدد إلا انه استطاع تذليل النواقص الجوهرية المميزة لمن سبقه في هذا المجال. فإننا نعرف من خلال استعراضنا لآراء مؤرخي الفكر المسلمين بهذا الصدد بأن الأشعري اقترب لحد ما من الصيغة "الكلاسيكية" لتحديد فرقة "أهل السنّة والجماعة"، بينما حاول البغدادي تحديد ملامحها اللاهوتية – الفلسفية بدقة بالغة، في حين اخرج ابن حزم عن فرقة "أهل السنة والجماعة" الأشعري نفسه، مع انه من الناحية التاريخية والكلامية يعتبر من أكبر ممثلي "السنة".
لقد حرر الشهرستاني نفسه من هذه المذهبية الضيقة، عندما جعل من مفهوم أهل السنة والجماعة صيغة جديدة لنمط التفكير المنطقي. فعندما يتناول تباين الفرق، فإنه يشير في النهاية إلى أن "الفرقة الناجية أبدا من الفرق واحدة". والمقصود بالنجاة عنده هنا هو كل ما يتطابق مع الحقيقة. وبالتالي فسح المجال أمام جميع الفرق للنجاة في حالة تمسكها بمنطق الحقيقة، أي أن الناجية هي الصائبة. وهي واحدة. وحاول بيان ذلك على مثال الصراع بين فكرتين متناقضتين حول قضية واحدة. إذ لا بد وأن يكون أحدهما مصيبا والآخر مخطئا. بهذا المعنى إن الفرقة الناجية (فرقة أهل السنة والجماعة) بالنسبة له هي الفرقة المتمسكة بالمنطق والعقل، أو على الأقل تلك التي تربط في كل واحد العقل (الرأي) والنص، والمعقول والمنقول. وحتى في حالة افتراض أن الشهرستاني يربط أهل السنة والجماعة بالأشعرية، فإن الأخيرة بوصفها جزءا من الصفاتية، تثير جملة من التساؤلات الفكرية حول مدى دقة هذا الربط. وفي كل الأحوال فإن موضع الاشعرية في سلة الفرقة الناجية، لا تتعدى في أفضل الأحوال ميدان علم الكلام دون غيره من الميادين. وهو أمر يتضح من خلال تتبع موقف الشهرستاني من نشوء فرق المعتزلة، التي أدت في إحدى مراحل تطورها إلى ظهور خلاف الاشعري مع أستاذه أبي علي الجبائي (ت - 303) في مسائل التحسين والتقبيح. وهو خلاف أدى بالأشعري للانحياز إلى ما يدعوه الشهرستاني "بطائفة السلف" ونصرة مذهبهم على قاعدة كلامية فصار ذلك مذهبا منفردا. وسوف يقرر هذا المذهب ويحققه كل من الباقلاني (ت – 403) وأبي بكر ابن فورك (ت – 406) وأبي إسحاق الاسفرائيني (ت – 418). ولم يكن هذا التحول معزولا عن التراث "السلفي"، المستند إلى إثبات الصفات الأزلية من العلم والقدرة والحياة والكلام والمشيئة الإلهية وغير ذلك. وهو تراث ارتبط علما وعملا بقضية التأويل والموقف منه. فقد توقف مالك بن أنس (ت – 179) عند التأويل بكلماته الشهيرة عن استواء الله على العرش "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". وتبعه سفيان الثوري (ت – 161) وبعد ذلك أحمد بن حنبل (ت – 241) وغيرهم. إلا أنه توقف لم يكن قادرا على الصمود طويلا في برجه المتعالي، بسبب ترسخ وتوسع منظومة الجدل والخلاف وتطور العلوم وتشعب التجارب الثقافية للحضارة الإسلامية. حينذاك بدأ يتبرعم وسط تقاليد "السلف الصالح" إدراك أهمية بل وضرورة التعامل مع التأويل، بوصفه جزءا من التراث السني نفسه. وهو "إنجاز" جسده عبد الله بن سعيد الكلابي (ت - 240)، وأبي عباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي (ت - 243) (قبل انتقاله التام للتصوف)، الذين ادخلوا الحجج الكلامية والبراهين الأصولية. وظهر هذا التحول بصورته النموذجية عند الاشعري، الذي لم تكن اشعريته سوى مدرسة معتزلية من طراز خاص. فقد أدى انحيازه "للسلف الصالح" إلى أن تتحول مقالاته الجدلية مع المعتزلة إلى "مذهب لأهل السنة والجماعة". وهو انتقال كان يعني من الناحية المجردة انتقال تقاليد المعتزلة العقلية إلى "أهل السنة والجماعة".
أما بالنسبة لتقييم الشهرستاني للأشعرية ضمن "الصفاتية"، التي أدرج فيها أيضا المشبهة والكرامية، فان اقل ما يقال فيه انه يثير الشك بالنسبة لتمثيلها الفرقة الناجية أو الحقيقة بما في ذلك بالنسبة لقضايا الكلام. ذلك يعني أن تحول مقالاته إلى "مذهب أهل السنة والجماعة" لا يعني انه المذهب الفعلي لها، الذي استطاع أن يحل بصورة "نهائية" صراع الرأي والنص. والشيء نفسه يمكن قوله على المسائل الفكرية الأخرى التي جعل الشهرستاني من حلها الصحيح تعبيرا عن فهمه لماهية أهل السنة والجماعة. أما لو تأملنا ما افرده الشهرستاني للأشعرية من أوراق، فإنها لا تتجاوز عشر صفحات تناول فيها أيضا الاسفرائيني والجويني (ت - 478)، أي اقل بكثير مما افرده لغيرها من الفرق.
ومع ذلك تبقى كل هذه الاعتراضات أمورا ثانوية مقارنة بما هو جوهري في منظومته عن تاريخ الفكر استنادا إلى القواعد والأصول، التي وضعها في أساس تصنيفه للفرق والمدارس. فقد أدت هذه الأصول وظيفة القواعد المنهجية، التي تنطلق من تحديد لمقالات الفرق على أساس الموضوعات الجوهرية للفكر. وبالتالي فان تصنيفها وتقييمها مبني على "حقيقة" الاتجاه الفكري المعني لا على أساس انتمائه لهذه الفرقة أو تلك. مما اجبره على إعادة بناء الفرقة المعنية أو الاتجاه المعني من خلال تحليل وبناء العناصر الأساسية في الفرقة المعنية من أجل نسبها لهذا الاتجاه أو ذاك. وهو عمل يؤدي إلى كسر تكلس الوعي التقليدي وترسبات أحكامه الجازمة عليها. مما يضع بالضرورة مهمة إعادة ترتيبها بصيغة جديدة. لهذا نرى الشهرستاني يدخل في منظومته جملة من تصنيفات الماضي، كالروافض والخوارج والمعتزلة (القدرية) والمرجئة. وفي نفس الوقت نراه يعيد النظر بأسماء بعض الفرق كما هو الحال في موقفه وتقييمه "للصفاتية والجبرية" وغيرها. وذلك لأنه حاول أن يربط ربطا عضويا العناصر الفكرية الأساسية للفرقة واسمها، أي البحث عن تمثيلية الفرقة. من هنا مقارناته الدقيقة كما هو الحال في قوله "المعتزلة مشبهة الأفعال" و"المشبهة حلولية الصفات"، و"المعتزلة غلو في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات" أما "المشبهة فقد قصروا حتى وصفوا الخالق بصفات الأجسام"، وغلا "الروافض غلوا في النبوة والإمامة حتى وصلوا إلى الحلول، في حين قصرت الخوارج حتى نفوا تحكيم الرجال". بعبارة أخرى، لم يعد التقييم محصورا ضمن إطار كل فرقة، بل وفيما بينها أيضا.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنهج الجدلي لابن حزم في تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية
- تصنيف وتقييم البغدادي للفرق والمدارس الإسلامية
- تصنيف وتقييم الفرق الإسلامية عند الاشعري
- الفلسفة والبحث عن الاعتدال العقلي (2-2)
- الفلسفة والبحث عن الاعتدال العقلي (1-2)
- الطائفية السياسية – الأفق المسدود (التجربة العراقية)
- المصير التاريخي للغلو السلفي السياسي في العالم العربي
- الكواكبي ومرجعية الدولة السورية
- الكواكبي- الإصلاح والثورة!
- فلسفة الإصلاح والحرية عند الكوكبي
- الخطأ والخطيئة في المعادلة السورية
- سوريا وإشكالية موقعها في الصراع العربي والعالمي
- الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وس ...
- الفيتو الروسي والقضية السورية
- رد على مقال الطيب تيزيني (دبلوماسية في خدمة الجريمة)
- الوحدة والتنوع في الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى
- -الإسلام السياسي- المعاصر في آسيا الوسطى
- إشكالية ومفارقة الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى
- الظاهرة الإسلامية المعاصرة في آسيا الوسطى
- هادي العلوي - شيوعية القيم


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ميثم الجنابي - منهج الشهرستاني في تقييم وتصنيف الفرق الإسلامية