أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فارس كمال نظمي - هل تلاشى الربيع العربي في متاهات الأسلمة السياسية ؟!















المزيد.....



هل تلاشى الربيع العربي في متاهات الأسلمة السياسية ؟!


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 3853 - 2012 / 9 / 17 - 19:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حوار أجراه الإعلامي (ظافر نوح) مع (فارس كمال نظمي) - بغداد


س- أمسينا اليوم نواجه سؤالاً حتمياً حول لغز اختلاط مسارات السياسة بالدين في بلدان الربيع العربي. فمتى وكيف يلجأ السياسي إلى استثمار الدين لضمان بسط سيطرته على حركة الجماهير؟
ج- بدأنا اليوم فعلاً عصرَ الدين السياسي في المنطقة العربية بعد اندلاع ما سمي بثورات "الربيع العربي"، إذ انجلت عنه أن أحزاباً دينية سياسية أمسكت بالسلطة بالرغم من أن الحراك المدني الشعبوي غير المنظم بأحزاب تقليدية هو الذي أشعل تلك الثورات. ما نحتاج إليه هو أن نتعمق في هذه الظاهرة كي نخلص إلى إجابات واقعية بشأن أسبابها ومساراتها ومآلاتها. فالفراغ النفسي والفكري والأخلاقي والروحي الذي تركته أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية منذ أكثر من نصف قرن، وسقوط ملكيات وقيام جمهوريات كانت أكثر استبداداً وفساداً ممّا سبقها، ترك ما أسمّيه بـ"التجويف النفسي والأخلاقي والروحي" للفرد العربي. فأصبح الفرد مغلوباً على أمره ومهمشًا ومُستَلباً ومُبتَلعاً من السلطة. ولما كان لا بد له أن يتوحّد أو يتقمص شخصيةً اجتماعية ما -فالبشر يبحثون دوماً عن هوية اجتماعية يتماهون بها-، فما أن زالت تلك الأنظمة حتى دفع الفراغُ السياسي الفردَ العربي للبحث عن هويةٍ تعيد له الاعتبار، بعد أن تركته تلك الأنظمة الاستبدادية مجوفًا بلا قاعدةٍ نفسية صلبة، فكان الخيار الديني هو الأسهل لأنه يوفر أمانًا سريعًا، يعطيه الثقة بأن حياته الآنية المأساوية بكل مظالمها ستجد ثواباً وتعويضاً في عالم ما ورائي آخر.
هكذا استثمرت أحزاب الدين السياسي هذا الفراغ السياسي والهوياتي من جهة، فيما كانت الشخصية العربية مدفوعةً نحو الاندماج بهوية جديدة من جهة أخرى. فأكمل أحدهما الآخر في حلقة متينة تفسر لنا غرابة ما آلت إليه الأحداث. مع ذلك لا يزال بعض المحللين يدورون في حلقة مفرغة من التحليل، فمنهم من قال: "هناك مؤامرة"، وآخر قال: "هناك تخطيط من مخابرات أجنبية"..، لكنني أعتقد أننا في إطار موضوعي من أحداث لها جذور وأسس سوسيوسيكولوجية موضوعية تتعلق بالشخصية الاجتماعية السائدة، إلى جانب نجاح أحزاب الإسلام السياسي في استثمار الفراغ الحاصل بما لديها من ثراء في التمويل وقوة في التنظيم.

س- إذن، من الرابح الأكبر والخاسر الأكبر من اختلاط الوظيفة الدينية بالوظيفة السياسية؟
ج- الربح إما آني أو بعيد المدى. آنياً تربح أحزاب الإسلام السياسي خلال العقدين القادمين على الأقل في حكم معظم بلدان الشرق الأوسط ومنها العراق، لكنه ربح مؤقت ونسبي. ستستعين الأحزاب الدينية بصناديق الاقتراع فهي تعرف كيف توجّه الناخب لأسباب سنشرحها بعد قليل. لكن الخسارة الحقيقية هي أننا سنعيش ثقباً زمنياً أسوداً جديداً بعد أن خسرنا أكثر من نصف قرن ضاعت خلاله أجيال في عتمة الاستبداد والعنف والعدمية والاضطراب النفسي، فلم تظهر دول ديمقراطية حقيقية في المنطقة، بل عاشت شعوبها ظروفًا فظيعةً من حروب عسكرية واقتصادية وثقافية ونفسية فيما بينها وداخل البلد الواحد.
ويبدو لي أننا مضطرون مرة أخرى لنغرق في فجوة حضارية جديدة طالما إن الدين السياسي بصيغته الحالية سيكون هو المتحكم بالتطورات السياسية والاجتماعية، وطالما لم يحدث تعديل في مفاهيمه وأدواته، ولم تنشأ تيارات إصلاحية تنويرية جذرية داخل مؤسساته. ولكن إذا حدث ما يخالف هذه التوقعات، فعندها سيكون لكل حادث حديث؛ لكن ما نراه في الواقع اليوم هو رغبة قوية لدى الأحزاب الثيوقراطية بالاستئثار المَرَضي بالسلطة، وتعويض عصابي عن الماضي، ونهم لنهب ثروات البلاد، وهيمنة على الزمن. في النهاية سيكون الكل خاسراً، والضحية الكبرى هي الفرد أو المواطن.

س- إذا كان الحل لتجنب هذا الخسائر يكمن بفصل الدين عن الدولة، فما هي احتمالات أو آليات الوصول إلى هذا الحل؟ وهل توجد فرصة حقيقية لتحقيق ذلك كما حدث في الغرب؟
ج- ما حدث في الغرب من فصل الدين عن السياسة لم يأت بوصفه عملية سريعة أو اعتباطية أو قائمة على النوايا، بل بوصفه تطوراً متريثاً لوعي جمعي: اجتماعي، وثقافي، وسياسي، واقتصادي. فالغرب مر بحروب أهلية ودينية ومذهبية طاحنة قبل أن يتراكم في مجتمعاته الوعي الديمقراطي الجوهري بضرورة فصل الدين عن الدولة. وهذا التراكم الذهني كانت له قاعدة مادية لا غنى عنها هي نشوء الصناعة وتأسيس بنى تحتية اقتصادية راسخة قائمة على تراكم الثروات من جهة، وعلى الإمساك بمفاتيح العلم والتكنولوجيا من جهة أخرى. وكلها شروط لقيام الوعي السياسي المدني (لا القبلي أو الديني أو المذهبي أو المناطقي). لكن البلدان العربية اليوم ما تزال تفتقر إلى قاعدة اقتصادية- علمية حقيقية، لذا لم يتراكم في مجتمعاتها وعي سياسي كاف بأن العدل الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار الدولة الديمقراطية المدنية اللادينية.
وإلى جانب العامل الاقتصادي، نحتاج أيضاً إلى بنية ثقافية عقلانية لتحقيق الدولة المدنية عبر مشاركة قطاعات واسعة من الشعب ممن حصلوا على تعليم جيد في الحراك السياسي المدني. لكن الإحصائيات تقدم مؤشرات مخيفة، إذ احتلت مصر المرتبة السابعة من بين أكثر عشر دول تعاني من الأمية في العالم، إذ بلغت نسبة الأمية فيها أكثر من (40%) طبقاً لبعض التقديرات، فيما تجاوزت نسبة الأمية في العراق (25%) من إجمالي عدد السكان، هذا إلى جانب الفساد الجامعي الأكاديمي في هذه الدول التي لم يعد لديها إنتاج حقيقي للمعرفة، فهي دول مستهلكة تستورد كل شيء من قلم الرصاص إلى الأسلحة.
في النهاية كيف لنا أن نتوقع لبلداننا العربية أن تظهر فيها بسرعة ثقافةٌ سياسية نخبوية أو شعبوبة تؤمن بفكرة إن الدولة عبارة عن كيان خدماتي يخص الناس جميعاً بكل مشاربهم وينبغي أن ينفصل وظيفياً وايديولوجياً عن الدين بوصفه منظومة أخلاقية لا سياسية؟ لذلك، نحتاج إلى زمن ليس بالقصير ليتراكم رأس مال حقيقي -لا عائدات نفطية وهمية يبتلعها الفساد- لبناء اقتصاد متين وتعليم مؤثر، وعندها سنشرع بابتناء وعي اجتماعي تقدمي وعقلاني يمكن أن يصل إلى ذروة نسبية بلغتها قبلنا مجتمعات ليبرالية منذ أكثر من 200 سنة.

س- في قراءتي لبعض طروحاتك عن سيكولوجيا الهوية الإسلاموية، وجدتك تفرّق بين الدين والتديّن، فكيف تميز بينهما على المستوى المفاهيمي والتطبيقي؟
ج- ما دمنا في عصر الدين السياسي، فيجب أن نكون حذرين عندما نقول دين أو تدين أو تديين، ولا نخلط بين المفاهيم. فالجمهور هو صاحب قضية الدين بوصفه بنية "معتقدية" تخضع للتطوّر الاجتماعي. الدين بنية ذهنية إدراكية "مُتَخيَّلة" أو "مُتَصوَّرة"، أي لا يوجد ولن يوجد على الأرض دين بمفاهيم كلية يدركها كل البشر بنفس الكيفية. هناك فروق في إدراكات الأفراد، وفروق إدراكية بين مذهب وآخر، بل حتى داخل المذهب الواحد. تفاسير رجال الدين تختلف بينهم بخصوص الخلق والنشوء أو أركان العبادات والطقوس أو صوابية السلوكيات والممارسات الفردية والاجتماعية للبشر. يبقى الدين إذن أمراً يتم إدراكه أو تخيله بشكل نسبي، بين إنسان وآخر، ومذهب وآخر، وفقيه أو رجل دين وآخر.
ما يهمنا إذن في المحصلة هو "التديّن" Religiosity وليس الدين Religion، وأقصد بالتدين نمط الممارسة السلوكية والعقلية والعاطفية للدين "المُتَخَيَّل" لدى الفرد، أي صب الفكرة الدينية "المُتَخَيَّلة" في قالب سيكولوجي معين يختص به فرد معين. ولذلك ليس غريباً أو شاذاً أن يكون المتديّن متسامحاً ومسالماً وإصلاحياً وتنويرياً ما دمنا نتحدث عن بناء نفسي قابل للتطوير والإغناء والإرتقاء؛ في حين نجد اليوم أن الصبغة الأساسية للتدين في المنطقة العربية غدت تعصبية عنفية إقصائية بل دموية. الأمر برمته يعتمد على الإطار الثقافي الذي يجري فيه إنتاج نمط التدين. وهذا النمط الثقافي بدوره يتصل هيكلياً ووظيفياً بالبنية الاقتصادية- الاجتماعية للدولة والمجتمع كما أسلفت. التدين لا يحدث في فراغ ميتافيزيقي بل هو وعي سيكولوجي له شروطه الموضوعية تعصباً أو تسامحاً.
اليوم دخل عنصر جديد في المعادلة هو "التديين" Religionization. ما عدنا نكتفي بالتدين فقط وإنما التديين أيضاً، بمعنى أن أحزاباً معينة بدأت تحث أو تحرض أتباعها على الخروج من هويتهم الدينية المألوفة التقليدية المشروعة ليدخلوا في الهوية التديينية أو الدينوية. وبين هذا وذاك فرق جوهري، فعندما يكون الفرد "مسلماً" فهذا معتقده واجتهاده وحقه الحر والمشروع في التعبير والاعتناق، ولكن عندما يصبح "إسلاموياً" فإن هويته تصبح كارهة للهويات المغايرة. هو ما يزال مسلماً، ولكنه صار مسلماً كارهاً وليس بمسلم متسامح. تكمن المشكلة في أن أحزاب الدين السياسي ليس لديها قاعدة ثقافية إنسانية واضحة المعالم، وليس لديها فكر اجتماعي مدني مأخوذ من الحاجات الاجتماعية الحقيقية للبشر، فهي تلجأ إلى بضاعتها الوحيدة وهي التحريض على أن يتحول الإنسان من هويته الدينية إلى هويته التديينية لكي تحصل على صوته الانتخابي.
الدين بوصفه بنية عقلية فوقية فيه حدان، إذ يمكن توظيفه ليصبح أداة لتهميش الآخر أياً كان دينه أو مذهبه أو معتقده، أو يمكن أن يبقى في إطاره الأخلاقوي الفردي يحث على قيم التسامح والرحمة والقبول بالآخر والتفكر بشؤون الحياة والكون. ولكن واقع الحال العربي اليوم يشير إلى أن زج الدين في هذا الإطار السياسي الملتبس في بلدان ليس فيها تراكم برأس المال، ولا ضمانات اجتماعية، وتعاني من الفقر والحرمان والتخلف، ومن عقد نفسية جمعية شديدة العمق بسبب سنوات طويلة من الكبت والضغط والإذلال، لن يؤدي إلا إلى الاحتراب، ليس فقط بين الدين والعلمانية، أو بين دين وآخر، أو بين طائفة وأخرى، بل حتى بين أتباع المذهب الواحد.

س- يقودنا هذا إلى الحديث عن مفهوم "التدين الزائف" الذي طرحته مؤخراً في إحدى مقالاتك. كيف نميزه عن التدين الأصيل؟
ج- أدى ارتباط الدين بالسياسة في العراق اليوم إلى ما نسميه في علم النفس الاجتماعي بظاهرة "التديّن الزائف" أو السطحي Extrinsic، وهذا مرتبط بتراجع وتدهور شامل في قيم النزاهة والصدق والفضيلة في عموم الدولة والمجتمع والسلطة؛ بمعنى أن نمط التدين الزائف عبارة عن نزعة في النفس البشرية تشطر الشخصية إلى قسمين: قسم طقوسي ظاهري شعوري وقسم آخر انفعالي باطني لاشعوري. ما هو ظاهر يصبح ممارسة سلوكية شكلية وسطحية ليس غايتها تحقيق جوهر الأخلاق المطلوبة كما يدّعي المتدين، إنما للحصول على المال والجاه والسلطة وحماية الذات في المجتمع. لكن في العمق فإن ذلك الشخص ليس متدينًا أصيلاً بل يخضع لرغباته ولذاته وغرائزه وحاجاته النفعية الأنانية، إنه يعمل بمبدأ براغماتي كلياً، إنه كمن يدّعي شيئاً ويفعل العكس.
وعندما يسود هذا النمط من الشخصية في المجتمع ما الذي يحدث؟ يبدأ الناس بمعايشة ما نسميه في علم الاجتماع بـ"اللامعيارية" أو "الأنوميا" Anomie التي أشار إليها "دوركهايم" Durkheim بوصفها حالة الفوضى المجتمعية التي تنتزع من الناس ثقتهم بوجود معايير مؤكدة أو سلم قيمي راسخ يمكن الركون إليه لفرز الخطأ من الصواب، إذ تتبادل "الرذيلة" و"الفضيلة" أدوارهما القيمية الاجتماعية المعهودة، فتضيع المعايير ويصبح الحلال حراماً والحرام حلالاً، وعمل الخير لا يؤدي إلى نتائجه المرجوّة، بينما عمل الشر يعطي أفضل النتائج!
وتشير الدراسات النفسية إلى أن التدين الزائف في مجتمعات عديدة يمكن أن يصبح ستاراً يخفي وراءه أشد صور العنف والإجرام، كما إنه يمكن أن ينبيء بتدني الصحة النفسية وشيوع الاكتئاب والتفكير الخرافي والجمود الفكري. حينما يصبح الدين مسيساً يكف عن كليانيته الروحية الشاملة، ويستحيل إلى طقوس وإجراءات روتينية يبتغي الناس من ورائها مكاسبَ ومصالح شخصية. هذا ما حدث ليس في العراق فحسب وإنما في العديد من البلدان التي عانت من هذه الإشكالية، ومنها ما نلاحظه اليوم في وسائل الإعلام إذ بدأ مواطنون في بعض بلدان الربيع العربي يتكلمون بنبرة المعاناة ذاتها التي تكلم بها العراقيون قبل نحو ثماني سنوات، حينما بدأ انقسام الشخصية بين سلوك ديني سطحي أو شكلي أو طقوسي (أي تدين زائف)، وبين سلوك دنيوي يومي فاسد باحث عن اكتناز المال والسلطة.

س- إذن أنت تقرن شيوع التدين الزائف بظاهرة الإسلام السياسي. ما الحل إذن للعودة إلى التدين الأصيل وإعادة توحيد الشخصية العربية المشطورة حالياً بين الجوهر والمظهر؟
ج- كما أشرتُ من قبل، فإننا أمام ظاهرة وأمام عصر، وبالتالي لا يوجد حل آني يتمثل بإجراءات آنية من قبيل النصح أو الإرشاد أو المواعظ. المعضلة أكبر من ذلك، علينا أن نعيش هذا العصر وأن ندفع ثمنه الذي قد يطول ربما لعقدين أو أكثر من الزمن، ريثما يقتنع الناس في لحظة معينة بأن كل ما حدث من أسلمة للسياسة كان زيفاً، وأنه كانوا مخدوعون بكذبة كبيرة باتوا لا يطيقونها ولا يستطيعون التوافق أو التكيف معها أكثر من ذلك. كثيراً ما يعيش الإنسان كذبةً ويقبلها لأمد طويل لأنها توفر له إشباعاً نفسياً معيناً تحت وطأة دوافع وعوامل تبريرية شتى، ولكن يأتي يوم يتوقف فيه هذا الإشباع عن التحقق بسبب تراكم المستجدات والخبرات التي تكون كفيلة بتفتيت الوهم. إننا أمام تأريخٍ من آلاف السنين انتقل فيه الإنسان من عصرٍ كان يقبل فيه بعبوديته من أجل لقمة العيش فقط، إلى عصر الحريات والدساتير والتشريعات القانونية الدولية التي باتت تختص بأدق تفاصيل الكرامة البشرية.
المشكلة المزمنة في الحياة البشرية، إننا نضع مفاهيم ونعيشها ربما لسنوات وأجيال وقرون، أي نتبنى مفهوماً غير عقلاني ونفرضه على أنفسنا والآخرين وكأنه الحقيقة المثلى والنهائية؛ ولكن عندما نراجع أنفسنا بعد مدة حين يتطور الوعي وتتراكم التجربة، نتوقف ونقول: هل ما فعلناه كان سليماً؟ هل كان سوياً؟ هل حقق سعادة الناس وصان كراماتهم؟ أم إننا لوينا الأحداث لنثبت فقط صحة ما أردنا فعله؟
ممارسو الدين السياسي يلوون الحقائق البديهية للطبيعة البشرية، ويحرقون زمن شعوبهم، ويربطون عربة التأريخ بايدولوجيات سلطوية لايمكن إقامة الحجة أبداً على صوابيتها أو سرمديتها. كيف يمكن لسلطة أن تحكم بعقيدةٍ "مُتَخَيَّلة" لا يوجد إجماع على أسلوب إدراكها حتى ضمن أتباع المذهب الواحد؟
الدين السياسي يأخذ البلاد إلى المجهول لأنه يمزج المطلق بالنسبي، لكن الزمن بمعناه الاجتماعي والاقتصادي كفيل بتنقية الوعي البشري وتقويض الأساطير.

س- ماذا تقصد بقولك أن الدين السياسي يمزجُ المطلقَ بالنسبي؟
ج- الدين بنية أخلاقوية معتقدية مطلقة تؤمن بوجود مفاهيم نهائية وشاملة لا يمكن المساس بها سلوكياً وطقوسياً وميتافيزيقياً، فيما السياسة بنية نسبية متحولة متقلبة تتبع مبدأ التغاير والتعديل والتكييف والتوفيق بين المعطيات والعناصر بشكل مستمر. في السياسة يمكن للغاية أن تبرر الوسيلة، والمنفعة يمكن أن تتقدم على الأخلاق، والمصالح قد تحل محل المباديء بحكم التعقيد التي تنطوي عليه الحياة البشرية. السياسة تريد أن تنظم حياة ملايين الناس ضمن وحدة جغرافية اسمها البلد أو الوطن، بينما الدين يريد أن يقيم قاعدة أخلاقية روحية داخل الفرد لكي تجعله يسمو، فيحاول أن يجد له طريقاً واثقاً ومستقيماً في الحياة.
هذا الدمج بين بنيتين، أي بين بنية إطلاقية بكل مفاهيمها (الدين) وبنية نسبية بكل مفاهيمها (السياسة)، يمكن أن يؤدي إلى واحد من احتمالين: إما المطلق يبتلع النسبي أو النسبي يبتلع المطلق. وبما أن النسبي لا يمكن أن يتحول إلى مطلق بحكم طبيعة الشيء، إذن سيبدأ المطلق بالتحول إلى نسبي، وهنا تبدأ عملية الهبوط من علياء المُثل إلى تفاصيل الواقع بكل ميكيافيليته وبراغماتيته وتنازلاته. هذا ما يفعله الدين السياسي اليوم؟ لماذا لم نُبقِ الدين في عليائه؟ لماذا أنزلناه إلى الحياة اليومية؟ لماذا نهبط بشيءٍ سامٍ إلى حالة لا سامية؟ أسأل دعاة الأسلمة السياسية: إذا افترضنا أن الدولة الفلانية هي دولة إسلام سياسي، فهذا يعني ضمناً إن الكهرباء باتت إسلامية، ومياه الشرب لابد أن تكون إسلامية، والزراعة أو الصناعة غدت إسلامية، فهل هذا يتفق مع فطرة العقل السليم والبديهة السليمة ؟ لا يمكن لأي من هذه المفاهيم أن يكون إسلامياً، لأنها مفاهيم خدمية لا معتقدية، ضمن كيان تنظيمي خدمي أكبر هو الدولة ؟ وإذا كان لهذه المفاهيم أن تصبح إسلاميةً أو دينيةً بالفعل، عندها لن نعارض قيام الدولة الدينية، وهذا غير ممكن حتماً.
الدولة منظومة مؤسساتية وجدت لتنظيم الحياة البشرية فحسب، أما المجتمع فيمكن أن يكون معتنقاً لدين معين ولا غبار على ذلك. المجتمع هو البشر بكل حالاتهم العقلية والسلوكية والمعتقدية والقيمية والمزاجية، أما الدولة فهي هيكل إداري مدني محايد، له وظائف فنية تتعلق بإرضاء حاجات الناس وتوقير حقوقهم وصيانة كراماتهم بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو معتقدهم. هذا المزج التعسفي الذي يريده دعاة الدين السياسي بين مطلقية الدين ونسبية السياسة (الدولة) لن يؤدي إلا إلى إشاعة التدين الزائف وتوابعه من الفساد واللامعيارية والاغتراب في كل مفاصل الحياة الاجتماعية.

س- "دولة الخدمات المدنية" التي تتحدث عنها، باتت بالفعل مطلباً شائعاً لدى قطاعات واسعة من العراقيين، ومع ذلك فإن الوضع السياسي في العراق يتجه إلى مزيد من الاستقطاب الطائفي، كيف تفسر ذلك؟
ج- هذا صحيح تماماً، فالمواطن العراقي اليوم يبتهل إلى الله أن تظهر حكومة خدمية حقيقية توفر له الحد الأدنى من حاجاته وكرامته. ولكن لنكنْ صريحين، فهذا المواطن ذاته عندما سيأتي يوم الانتخابات بعد مدة ليست طويلة سيذهب وينتخب أحزاباً دينية سياسية (أي طائفية). وهذا سيعيدنا إلى التحليل السيكولوجي. أنا مؤمن تماماً أن ظاهرة الإسلام السياسي في المنطقة العربية اليوم ومنها العراق، تحتاج إلى تحليل نفسي، إذ لا يكفي التحليل السياسي الفوقي أو التحليل الاجتماعي العام الذي اعتدنا عليه. نحتاج أن نفهم ماذا يحدث داخل الفرد العربي؟ لماذا سلوكه متناقض؟ لماذا يقول شيء ويفعل عكس ذلك في اللحظة الأخيرة رغم معرفته للصواب؟
أقول باختصار أن هناك حالة من الارتهان النفسي بات يعيشها الفرد العراقي أو العربي. فبعد سنوات طويلة من الاستبداد والقهر والتخويف والترويع ما عاد يريد أن يتحمل مسؤولية اتخاذ قرار مستقل، أو أن يمسك بزمام مبادرته الذاتية، بل يريد من يحل محله ويتخذ القرار عنه. هذا الفرد قدم نفسه رهينةً طوعية لقوى متأسلمة فوّضها الإنابة عنه في كل شيء. فنشأ ما يمكن تسميته باللاأبالية السياسية، أو السلبية السياسية، أو العدمية السياسية، أو عدم الفاعلية السياسية.
فالناس في العراق وفي بلدان الربيع العربي على حد سواء، لديهم وعي عاقل بما هو مطلوب، أي دولة خدمات مدنية، ولكن عندما تأتي لحظة القرار الانتخابي تراهم يذهبون إلى الصناديق ليوقعوا على ارتهانهم من جديد، وكأنها يريدون القول ضمناً أو لا شعورياً: ((إننا عاجزون وغير مؤهلين لأن نمسك بقيادنا من جديد، نحن نحتاج إلى وسطاء بيننا وبين الآلهة)). هؤلاء الوسطاء من أحزاب الدين السياسي، أسميهم بـ"المستألهين" لأنهم نصبوا أنفسهم وكلاء بين الإنسان العادي والآلهة، إذ يحددون له القائمة أو الأسماء التي يتوجب عليه أن ينتخبها لأنها تعني "الاصطفاف" مع الله، ومن لا ينتخبها فهو ضد الله.
لا نستطيع أن نطلب من إنسان عاش لعشرات السنين حياة الاقصاء والتخويف والتنكيل، أن يمتلك سريعاً الجرأة الكافية ليعيد الإمساك بدفة حياته لحظة الانتخاب. إنه يعود إلى خوفه السابق، ويسلم مفاتيحه بيد هذا الزعيم وذلك الحزب عسى أن يوصلوه إلى دار الثواب في الدنيا الآخرة. في النهاية، هناك عملية ابتزاز سيكوسياسي شاملة لشخصية الفرد العربي.

س- إذن الفرد العربي بات في مفترق طرق، بين نزعة علمانية مدنية تلح عليه داخلياً، ونزعة ثيوقراطية تحدد له سلوكه السياسي. إلى أين ستتجه الأحداث برأيك؟
ج- يمكننا تقسيم النزعة العلمانية إلى: اجتماعية وسياسية. فمجتمعات مثل مصر والعراق مثلاً يمكن عدّها علمانية اجتماعياً، إذ لم تكن فيها نزعة دينية متشددة، بل لديها تدين معتدل غير أصولي نسبياً، وسرعة تكيف مع مستجدات الثقافة والتكنولوجيا، ونزعة نقدية جدالية، وحس ذوقي جمالي، بل إنها أنتجت مدارس حداثوية في الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية؛ إنها نزعة عقلانية تقبل بالآخر المختلف، لذلك كان الأقباط والمسلمون في تآخ حقيقي على مستوى التعايش الاجتماعي في مصر، وهذا صحيح حتى في العراق في حقبة معينة كان التسامح الديني العميق فيها موجوداً، أي كانت النزعة العلمانية الاجتماعية متحققة بدرجة ملموسة.
يبقى السؤال كيف يمكن أن تتحول هذه النزعة العقلانية الاجتماعية (التي ما تزال بتقديري سائدة بدرجة ملموسة وإنْ كانت أقل من السابق) إلى نزعة علمانية سياسية على المدى البعيد؟ فالدولة يفترض أن لا تعتمر العمامة، وموظفو الدولة الكبار ينبغي أن لا يرتدوا أي لباس ديني، بل واجبهم أن يضعوا قوانين لا تنحاز إلى دين معين. فلماذا يعتمد الدستور العراقي مثلاً الدين الإسلامي فقط؟ لماذا لا يعتمد الأديان الأخرى الموجودة في العراق؟ أو لماذا لا يكون دستوراً مدنياً صرفاً يستفيد من مجمل التجربة البشرية بابعادها الدينية والوضعية دونما انحياز تعصبي مسبق لأي ديانة بعينها؟ لكي يتحقق هذا نحتاج إلى زمن ووعي.
أنا متفائل تاريخياً وليس آنياً، أي متفائل بقوة النزعة العلمانية الاجتماعية وقدرتها على التحول إلى نزعة علمانية سياسية، إذ بدونها لا يمكن العيش والديمومة والبقاء في عالم متطور سريع أصبحت فيه الأحداث والمعطيات والمعلومات كلها متاحة بشفافية وعلانية غير مسبوقة. فالمجتمعات لا يمكن أن تستمر بالبقاء ضمن اللحمة السوسيولوجية وضمن البقاء الآمن على بقعة معينة وتجد حلولاً لمشكلاتها وإخفاقاتها وأزماتها دون اللجوء إلى دولة الخدمات المدنية العصرية. ودونما ذلك إما أن تتصارع أو تتفتت، وهذا يبدو مستبعداً في ضوء ما يشهده العالم كل يوم من عملية تنام في الوعي الإنسانوي وتداخل في المصالح البشرية المشتركة. نحتاج إلى زمن لكي تتحول العلمانية الاجتماعية التي هي متجذرة حضارياً في هذه البلدان وأؤكد منها العراق ومصر، إلى علمانية سياسية عن طريق الورقة الانتخابية.

- إذا كانت الديمقراطية هي الطريق المؤكد نحو الدولة المدنية العادلة، فإن الكثير من العراقيين والعرب أخذوا يعبّرون عن فقدان الثقة بالديمقراطية بسبب ما آلت إليه أوضاعهم من صراعات دينية وفقدان للأمن بعد انهيار أنظمة الاستبداد ونشوء آليات ديمقراطية لإدارة الدولة. كيف نستطيع أن نفصل بين الديمقراطية بقيمها الحقيقية التنويرية، وبين الديمقراطية الحالية التي باتت توصف بأنها وسيلة تحايل سياسي وديني؟
للديمقراطية آليات تتمثل بصندوق الانتخاب وحرية الإعلام والتعبير عن الرأي وحق التظاهر وتأسيس الأحزاب، لكننا نعاني اليوم في العراق من ازدواجية في دور الديمقراطية، فأصبحت جسدًا بلا مضمون ومجرد آليات. المواطن العادي أخذ يقرن بين الديمقراطية وبين ما يحصل حوله من إنهيار وفساد. ومع ذلك اتساءل: ما البديل؟ أهو العودة إلى فرض نظام الحكم بالقوة أو بالانقلاب العسكري أو عبر دكتاتورية الفرد أو الحزب الواحد؟
الديمقراطية مراحل تطورية، لا بديل عنها، وهي بناء نفسي فردي – اجتماعي بعيد المدى. آليات الديمقراطية تبقى ممارسات فارغة دونما لبرلة حقيقية للوعي الاجتماعي. نحن في بداية مرحلة، وننتظر قيام تقاليد ديمقراطوية حقيقية على مستوى التفكير والممارسة من خلال عملية اقتصادية اجتماعية تاريخية فكرية واسعة، من خلال الحراك السوسيولوجي المتصاعد والتفاعل الجدلي بين كل من الفرد والمجتمع والدولة والسلطة، مع تقوية النزعة المؤسسية الدستورية، أي مأسسة السلطة بروح القوانين، ومحاربة النزعة الاوتوقراطية لخرافة الدور السياسي "المقدس" للفرد أو للحزب.
نحتاج إلى تراكم قيم وتقاليد تقبل بالآخر. نحتاج موضوعياً إلى المرور بصراعات اجتماعية لإنضاج الوعي بأن خيار الأكثرية يجب أن يُحترم، وبأن الأكثرية يجب أن تحترمَ الأقليةَ كما لو أنها الأكثرية.
ليس لنا إلا أن نقبل بآليات الديمقراطية الشكلية الحالية، سعياً إلى تحقيق جوهرها في مراحل تأريخية لاحقة. إننا أمام معطى جماعي، ولسنا أمام قضية فردية بسيطة. نحن أمام تنظيم اجتماعي واسع المدى، أمام عالم متغير، أمام علاقات اقتصادية، أمام مشكلات اجتماعية لا نهاية لها. فهذه الآليات بالنسبة للعراق وبقية الدول العربية ذات الديمقراطية الناشئة هي بداية الطريق، وإنْ كانت تبدو بداية غير واعدة وغير كافية، ولكنها البداية.

س- لننتقلْ إلى النطاق الأوسع لتفسير مسارات الأحداث: ما دور العولمة في التحولات التي ترجوها؟
ج- ليس هناك عولمة واحدة، بل عولمات، منها إيجابي ومنها سلبي بالمعنى الأخلاقوي. فالعولمة في أحد وجوهها تنشر الثقافة والعلوم والتكنولوجيا والمعلوماتية والعلوم الإنسانوية الطابع، فمنذ العقدين الماضيين شهدنا تقدماً في هذه المجالات يمكن أن يساوي تقدم البشرية لآلاف السنين. لكن الوجه الآخر للعولمة يتمثل في كونها هيمنة سياسية وعسكرية تمارسها دول مالكة لشرايين التقانة والاقتصاد، تسيطر على منظمات عالمية كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، وتفرض ما تريد في هذا البلد أو ذاك بطريقة المعايير المزدوجة أو المتعددة، فيصبح هذا حراماً في بلد وحلالاً في بلد آخر. جيوش عولمية جاءت من وراء المحيطات لكنها لم تخلق ليبرالية حقيقية، بل زرعت أجنةً لأنظمة حكم أساطيرية مشوهة، كما في حرب العراق 2003 وما بعدها.
العولمة بدأت مع الثورة الصناعية وانتشار الفكر الليبرالي المدني المدعوم بقوة اقتصادية وعسكرية مع تراكم رؤوس أموال وانتقال السلطة من الإقطاع إلى البرجوازية في نهايات القرن السابع عشر. لذا فنحن متأثرون بالغرب، نقرأ مذ كنا صغاراً تراثه ولدينا انبهار بكل شيء يأتينا منه كالسينما والروايات والايديولوجيات والانترنت. لكن للأسف لم نأخذ، أو الأصح لم يُتحْ لنا في أي من شعوب المنطقة العربية أن نأخذ ما هو جوهري من الفكر الغربي النير في العلوم والفلسفات والفنون والآداب والسياسة.
وهنا أعود إلى قضية الصراع على المصالح والثروات، إذ يبدو أن الستراتيجية الرأسمالية الغربية ما زالت تؤمن بأن ثمار الديمقراطية يجب أن تبقى داخل بلدانها، لا يريدون - في هذه المرحلة على الأٌقل- أن تصبح الثمار من حق شعوب أخرى ربما لأمور تنظيمية اقتصادية أو لإدامة سياسة الهيمنة أو الصراعات بما يمكن أن تنتجه من تحريك فاعل ومثمر للماكنة الاقتصادية الغربية العملاقة.
أنظرْ إلى الحقبة الأمريكية في العراق بعد العام 2003، ماذا فعل الأمريكان؟ أزاحوا دكتاتورية تؤمن بالفكر القوموي الغيبي وليس بالفكر القومي الإنساني، وسمحوا بنشوء حكم ديني سياسي يقوم على أساس الصراعات الطائفية الدموية، وعلى فكرة أن الدولة هي غنيمة ينبغي تقاسمها. فما الذي فعلته هذه الحضارة والتي أقول أنها عظيمة في نتاجها الفكري، لصالحنا كبلدان نامية تمتلك عمقاً حضارياً؟ هم لا يريدون دولاً قوية ولا مجتمعات قوية تنشأ في الشرق الأوسط يكون لها استقلال سياسي وإرادة وقدرة اقتصادية حقيقية وتأثير في العالم، لا يريدون أصواتاً عالية، بل يريدون شعوباً تابعة من الدرجة الثانية أو الثالثة وأسواقًا ومستهلكين صامتين مغيبين عن أي مشروع ينهض بمعنى الحياة ويتفكر بغاياتها الفريدة.

- أنطلقُ من إجابتك الأخيرة، إذا كانت الإدارة الأمريكية في العراق قد شجعت بالفعل على نشوء حكم ديني طائفي، فهل أدت الصراعات الدموية الناجمة عن هذا الحكم إلى إيقاظ غرائز نفسية عدوانية كان سابتة في الشخصية العراقية؟
يعتقد بعض المفكرين العراقيين بنظرية "قمقم علاء الدين"، أي أن أموراً كانت كامنة في الشخصية العراقية فأزيح عنها غطاؤها، فانطلقت المكبوتات والغرائز والتعصّب المتراكم ودخلنا عصر التطرف والكراهية.
أنا شخصيًا لا أميل إلى هذا الرأي، فالسلوك البشري عموماً، ومن ضمنه الشخصية العراقية، هو دوماً نتاج لتفاعل خصائص الفرد مع "موقف معيّن"، وليس نتاجاً أحادياً لخصائص الفرد الكامنة فحسب. فالفرد قد يكون عنيفاً في سماته الشخصية، ولكن إذا كان الموقف حوله منضبطاً فلن يستطيع الإفصاح عن العنف الذي بداخله، وبالعكس قد يكون الفرد متسامحاً ولكن الموقف المحيط به يفرض عليه التصرف بطريقة لا إنسانية أو تنافسية أو صراعية للحصول على مكاسب أو خوفاً من فقدان مكاسب. إذن سلوكنا في النهاية هو نتاج لتفاعل خصائصنا الشخصية مع عناصر الموقف حولنا.
ولذلك أميل إلى تفسير ما يحدث اليوم في العراق من طائفية سياسية ومجتمعية وتعصب وعنف، بأن أعزوها إلى "مواقف" أكثر منها إلى سمات شخصية اجتماعية متأصلة لدى العراقيين. فالموقف تم "تصنيعه" بعد الاحتلال الأمريكي بتقنيات سياسية نعرفها ومررنا بها. فشكل الدولة ومؤسسات الحكم تأسسا بوجود قوة عسكرية مهيمنة في البلد هي التي قرّرت أن يكون التأسيس بصيغة سمحت لأحزاب لاهوتية طائفية أن تأتي من خارج العراق وداخله، كما سمحت لها أن تتبوأ مراكز سلطوية رفيعة، في حين استبعدت تيارات أخرى لنسميها "مدنية" أو "ديمقراطية" فلم تعطها الدعم الكافي بل وضعت أمامها حواجز ومعوقات سياسية ومالية ولوجستية. فالجيش الأمريكي كان منتشراً في كل أجزاء العراق ولديه اتصال مع كثير من الحلقات الاجتماعية، لكن الطريقة التي تصرف بها خلقت أو اصطنعت لدى الفرد العراقي موقفاً صراعياً تصادمياً مع الآخر المختلف عنه دينياً أو مذهبياً أو حتى مناطقياً. فكان رد فعله الاحتمائي المنطقي هو أن يتذكر هويات فرعية ثانوية لديه بل حتى لاعقلانية ليتماهى بها تقهقراً إلى مرحلةٍ ما قبل مدنية على مستوى الإدراك الاجتماعي. فبدأ يتذكر: أنا من العشيرة الفلانية أو المذهب الفلاني أو العرق الفلاني، وهذه عملية انكفاء ونكوص كانت غايتها النفسية الشعور بالاحتماء والأمان ضمن كينونة اجتماعية معينة وجد فيها شيئاً من الاستقرار النفسي، طالما إن الإطار الوطني العام قد جرى تقويضه.
هذا يمكن تسميته في علم النفس السياسي بعملية "تصنيف الذات" Self-Categorization، أي إن الإنسان في موقف معين يُخرج أو يمارس هويةً تتناسب مع ذلك الموقف، فالرجل قد يتصرف بوصفه ذكراً في موقف محدد يفرض الذكورية عليه أكثر مما يفرض عليه أن يتصرف بوصفه أستاذاً جامعياً أو كونه عراقياً مثلاً. الإنسان في كل زمان ومكان يحمل في شخصيته مجموعة هويات كامنة أو مرشحة للبروز، فيُظهر تلك التي يحتاج إليها بحسب متطلبات موقف ضاغط معين كي يتعايش مع الموقف ومع ذاته في آن معاً.

- هذا يعني أن الحل يكمن في تفعيل الهوية الوطنية العراقية. أليس في هذه الرؤية تفاؤلاً قد يتعارض مع معطيات الواقع ومساراته؟؟
ج- بعد العام 2003 تحفزت لدى العراقيين نزعة العودة إلى هويات فرعية، لكنّهم بقوا بعناد إيجابي يتذكرون الهوية الاجتماعية العامة، هوية الوطن. هذه النزعة الوطنية العقلانية تبرز في حالات معيّنة، عندما يفوز نجم فني أو رياضي عراقي في مسابقة دولية، الكل يفرح ويحتفل ويبعث الرسائل والتهاني دون أن يسأل إلى أي عرق أو دين أو مذهب أو مدينة ينتمي ذلك الشخص، فقط لأن عراقياً قد فاز. هذا مؤشر مهم لنا بوصفنا باحثين نفسانيين نتوقف عنده، إذ ليس أمراً اعتباطياً أو عابراً أن يتصرف الناس بهذه الكيفية.
ففي حالات معيّنة تنبعث الهوية الوطنية دليلاً على وجودها كامنة لتحقق فخراً وارتياحاً وشعوراً بالرضا. لكن في الوقت عينه هناك مواقف "تم تصنيعها" لأسباب سياسية أصبحت تحفز الناس على إبراز هويات فرعية لا مدنية أخرى.
الصراع إذن سيبقى قائماً بين الهويات الفرعية والهوية الأم. وكل الاحتمالات ممكنة في العراق، احتمالات التشرذم قد تستمر مدة طويلة، وحتى احتمال التقسيم الدولتي وارد. لكن علمياً الموقف السوسيوسياسي يوحي بوجود عمق عقلاني علماني اجتماعي في العراق، ونشاط اقتصادي متشعب ومتداخل بين مكوناته السكانية، وهناك مصاهرة وزيجات وتلاقح أدبي وفني بين كل المكونات، وهناك ذاكرة تاريخية تجعل ابن مدينة ما يحب ابن مدينة أخرى. عملية النسج هذه هي ذاكرة مشتركة تجمع هذه العناصر وتجعلني متفائلاً، فأتقدم بالاحتمال الثاني أي إن للهوية الاجتماعية الوطنية حصة في إمكانية بقاء التيارات العقلانية المدنية التي تؤمن أن من حق كل إنسان أن يعيش بكرامة وأمان، بلا عنف أو ظلم أو بطالة، أن يحصل على تعليم مناسب ويعيش حراً ويستفيد من ثروات بلده. هذه التيارات ينبغي أن تبقى تعمل، وتبشّر سواء كان في إطار سياسي أو حتى ديني، لكن ليس بإطار "ديني سياسي" بل ديني أخلاقي تسامحي نقبله كما قبله كل البشر منذ آلاف السنين.
سنهدر ربما عقدين من الزمن أو أكثر من الصراع والتجريب والمحاولة والبدء من جديد والعودة إلى الوراء قليلاً والتقدم إلى الأمام قليلاً، حتى نصل إلى حالة من الارتكاز السوسيوسياسي، وهذا سيشمل الشرق الأوسط أيضاً وليس العراق فحسب، ولكن العراق هو الذي بدأ هذا المشوار، ولعله أيضاً قد يسبق الآخرين بالتوصل إلى حالة من الاستقرار الهوياتي المدني على مستوى الدولة والمجتمع، بعد أن تكون الأسلمة السياسية قد استنفذت زمنها ووسائلها وأساطيريتها لصالح البداية المنتظرة لمشروع النهضة والإصلاح والحداثة.



#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية الإسلاموية العراقية والتدين الزائف
- الأسلمة السياسية في العراق: رؤية نفسية
- وصمة الإيمو والخوف العراقي المزمن من الحرية
- الإسلام السياسي وعقدة المرأة
- اليساروية الشعبوية المدنية العربية سبقت قوى اليسار التقليدي ...
- سيكولوجيا مواكب السلطة في شوارع بغداد
- موت السلطة في العقل الجمعي العراقي (تحليل لما حدث في 25 شباط ...
- اليقظة العراقية .... هل اكتملت شروطُها؟!
- العراق ... المجتمع الرهينة !
- تحليل الشخصية المسيحية العراقية
- المحرومون في العراق: دراسة في سيكولوجية الظلم: (صدور كتاب لف ...
- جدل (الإهانة) و(الكبرياء) في الحياة العراقية
- النزعة الماسوشية في العقلية العراقية
- هل ابتدأ عصرُ الاحتجاجات الجمعية في العراق..؟!
- سيكولوجية قطع الكهرباء عن الروح العراقية
- الشيوعيون والصدريون ... وخيار الكتلة التأريخية !
- الفساد الأكاديمي في الجامعة العراقية
- الهوية البغدادية .... ماذا تبقّى منها؟!
- أزمة الضمير المهني لدى الفرد العراقي
- العراق الافتراضي


المزيد.....




- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فارس كمال نظمي - هل تلاشى الربيع العربي في متاهات الأسلمة السياسية ؟!