أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فارس كمال نظمي - وصمة الإيمو والخوف العراقي المزمن من الحرية















المزيد.....

وصمة الإيمو والخوف العراقي المزمن من الحرية


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 3672 - 2012 / 3 / 19 - 19:32
المحور: حقوق الانسان
    


ألم يكن تأريخنا السياسي المعاصر في العراق في وجه من وجوهه، تأريخاً سيكوباثياً لاستئساد الأقوياء على الضحايا، والموهومين على الأحرار، والخائفين على الواثقين، والمالكين على الفاقدين؟
لكن هذا الاستئساد القطيعي على الطريدة المستسلمة، يتخذ اليوم منحى جديداً عبر طقوس الرجم المتصاعدة ضد فئة شبابية صغيرة تحمل -مثل راجميها- الهويةَ العراقية، باتت تُعرف بـ"الإيمو".
لا تتوافر أدلة وشواهد مادية موثقة عن حجم الأذى الجسدي الذي تعرض له هؤلاء الشبان، إذ يكتنف الأمرَ غموضُ معلوماتي والتباس إعلامي وتعتيم رسمي وتهويل مجتمعي. إلا أن كل ذلك لا يحجب حقيقةَ أن جوهر الأمر بات لا يتعلق بشبان الأيمو أنفسهم، بل بالفورة الاستئسادية التي طالت أطرافاً عدة في المجتمع والدولة، انبرت لتقرع طبول "الفضيلة" تحذيراً من "خطر" محدق بـ"نقاء" النسيج الاجتماعي، بل وتحريضاً على الاقتصاص من هؤلاء "المارقين" عن جادة الصواب.
أتوجه بتحليلي إلى هذه الظاهرة القطيعية "التأديبية" حصراً، تمحيصاً وتفسيراً واستشرافاً. أما الأيمو أنفسهم فلا يمثلون إلا الخلفية الفنية الشكلية للظاهرة، إذ لا يعدون كونهم عينة الدم التي أتاحت لنا تحليل الحالة الصحية للجسد كله.
أتابعُ طقوسَ الرجم البدائية هذه بمزيج من الحزن الروحي والسعادة العقلية: الحزن الروحي من جراء الهستريا الجمعية العنفية "الأخلاقوية" ضد بضعة شبان وفتيات أرادوا ممارسة الاكتئاب الوطني علنياً وسلمياً وجمالياً؛ والسعادة بل النشوة العقلية لأن هؤلاء الشبيبة أفلحوا بطريقة عفوية وجريئة في استفزاز كل التراث اللاعقلاني للحضارتين الذكوروية والإسلاموية المتلاقحتين بغنج شديد في الغابة العراقية المكتظة بتأويلات مفتوحة فلسفياً وواقعياً على مختلف احتمالات التطور أو النكوص الاجتماعي-السياسي القادم.
إن انخراط فئات مجتمعية ودوائر رسمية ووسائل إعلامية في الصولة "الشرفية" المستمرة ضد وهم "الأيمو"، إنما يعيدنا مباشرة إلى إشكالية الجدال الفكري الذي لم ينقطع يوماً حول أولوية العدالة أم الحرية؟ ألا يجدر فعلاً أن نختزل كل معضلات الوضع البشري المزمنة إلى مشكلة الحرية: سعياً لها أو خوفاً منها؟ وهل يمكن للتقدم الملموس في ميدان محاربة الحرمان وإرساء العدل الاجتماعي في أي بلد أن يتحقق فعلاً على نحو مؤسساتي راسخ نسبياً، دونما تحقيقٍ مسبق لدرجة معقولة من الوعي المجتمعي المتين بضرورة الحرية وقدسيتها؟!

ما معنى الإيمو؟
يجب التمييز أولاًَ بين ظاهرة "الإيمو" في منشئها الأول في مجتمعات غربية متقدمة في أوربا وأمريكا خلال العقد الأخير من القرن الماضي وما بعده، وبين حالات الإيمو المتفرقة التي ما برحت تظهر في مجتمعات نامية، ومنها العراق ومصر والسعودية والأردن، بوصفها تماهياً شكلياً محدوداً بالظاهرة الأم، ضمن حدود الموضة والأزياء والعيش في العوالم الإفتراضية لشبكات الاتصال الاجتماعي.
أشتقت مفردة "الإيمو" Emo في الغرب من مصطلح "العاطفي" Emotional للدلالة على ظاهرة نفسية قوامها الحساسية الوجدانية الشديدة تجاه فكرة الألم، انتشرت بين المراهقين من الجنسين في أعمار (12-17) سنة ممن يتبعون نظاماً معيناً في السلوك والتفكير والشعور والأزياء والموسيقى وتسريحة الشعر ونمط الحياة. فإلى جانب ارتداء السراويل الضيقة أو الفضفاضة، والقمصان القاتمة والاكسسوارات الغرائبية كالجماجم، يحرصون أن تكون عيونهم كحيلةً بلون قاتم، وشعرهم فاحماً منسدلاً يغطي عيناً واحدة أو نصف الوجه بدعوى إنهم لا يرون إلا النصف الفارغ من الكأس، أو ليخفوا مشاعرهم ودموعهم. أما موسيقاهم فتنتمي إلى الروك والميتال، وتتضمن قصائد عميقة معبّرة عن مواقف بالغة الحزن مستمدة من وقائع الحياة. إلا أن الأهم من كل ذلك هو فلسفتهم الحياتية، إذ يتسمون بشخصياتهم السوداوية التشاؤمية، وبالصمت والخجل والحزن الدائم مع الدموع، وبافتقارهم التام للشعور بالقيمة الذاتية والثقة بالنفس، ويرون أنفسهم منبوذين اجتماعياً، وهم انسحابيون جداً ولا تلتقي عيونهم أبداً بعيون الآخرين، لكنهم في الوقت ذاته يرتبطون ببعضهم بعلاقات عميقة أساسها التفهم والألفة. ومع إنهم يجدون علاقاتهم ببقية الناس غير ضرورية وغير ودية، إلا إنهم يحترمون الآخرين مهما كانوا. وقد يدفع الأسى والاكتئاب المزمنينِ بعضهم إلى قطع أرساغهم بسبب ميولهم الانتحارية، ما يجعلهم عرضةً للانعزال والاضطرابات النفسية. وقد يندفع بعضهم إلى إدمان العقاقير أو المخدرات أو ممارسة الشذوذ الجنسي سعياً للانفصال النفسي التام عن المعايير التقليدية للمجتمع. أما ما يُقال عن إنهم مصاصو دماء أو عبدة شيطان، فلا صحة له، لأن الإيمو ليست ديانة محددة بل أسلوب حياة يمثل ثقافة فرعية Subculture فحسب، وهي عابرة للطبقات وللتمايزات الاقتصادية.

الإيمو في العراق
بالعودة إلى المجتمع العراقي، فبحسب الملاحظات العيانية والمؤشرات الميدانية والإفادات الحية من الشباب أنفسهم، فإن حالات الإيمو المرصودة لا يمكن عدّها ظاهرةً مستقرة المعالم، إذ لا تعدو كونها تقليعات سلوكية سلمية ظهرت لدى شابات وشبان محدودي العدد بأعمار تراوحت بين (18-24) سنة، تضمنت اتجاهاً اكتئابياً نحو الذات، ممتزجاً بمشاعر الألم الاجتماعي واليأس من المشهد الحياتي العام، وانخفاض تقدير الذات، والاعتقاد بالعجز الذاتي وقلة الحيلة، والنزعة العدمية من جراء الأنوميا (اللامعيارية) المجتمعية المتصاعدة. وكل ذلك أتى مصحوباً بنمذجة (أي تقليد) مظهرية لما يصدّره الغرب إعلامياً وتجارياً من أزياء وحلي وتسريحات شعر، تضفي خصوصيةً أسلوبية يحتاجها الشاب في هذه المرحلة العمرية القلقة، بل يستقوي بها لأنها تمنحه تميزاً وفرادةً وإدهاشاً وسط عالم "خاو" لا يرى فيه معنى أو غاية تستحق التعلق أو الاحتذاء.
ولم يصل الأمر بأي من هؤلاء الشباب إلى هجران أسرهم والعيش في تجمعات سكانية خاصة بهم كما يحدث في الغرب، ولم تتوافر أي أدلة على ممارستهم المنظمة للمثلية الجنسية أو الإدمان الكحولي أو العقاقيري أو المخدراتي، أو أي ممارسات طقوسية تشذ عن الموروث الديني التوحيدي المتعارف عليه في العراق؛ بل أن العديد منهم عبّر عن مواهب أو هوايات فنية مميزة، وعن قدرة لفظية ملفتة في التعبير عن مزاجهم السوداوي وأحزانهم الفلسفية النبيلة تجاه المشهد المؤسي المحيط بهم.
فما الذي حرّك إذن هذه الغوغائية المجتمعية والدولتية معاً ضد هذه الفئة المهمشة، بل هؤلاء الأفراد المبتلين بالاكتئاب الشعبي الشامل Mass Depression وبالرغبة المستميتة بالانعزال وإغماض عيونهم عن المأساة اليومية المحدقة بهم؟ ما الذي حفز على إهانتهم وثلم كبريائهم وإلصاق هذه الوصمة بسمعتهم؟ ما الدافع وراء إرغامهم على حلق شعرهم، أو إدراج أسمائهم في قوائم سود للقتل، أو حتى التهديد بتهشيم رؤوسهم؟!
في كل عصر بشري قلقٍ ومثخن بالمآسي، كان هناك "إيمو" من نوع ما "يستوجب" استهدافه من جموع الأكثرية الفاشلة في إيجاد حلول لأزماتها الحقيقية. والمسألة في العراق لا تخرج أيضاً عن هذا الإطار، إذ لا يتعلق الأمر بشباب الإيمو حالياً أو بالمثليين جنسياً قبل نحو عامين بحد ذاتهم، بل بالاجتماع البشري (الرسمي والشعبي) الذي يريد أن يمارس استئساده تحت وطأة آليات نفسية مَرَضية، يمكن تحديدها في سياقين: أحدهما يخص الدولة والآخر يخص المجتمع، وتتفرع من كل منهما مستوياتٌ عدة.

سيكولوجيا الاستهداف الدولتي للإيمو
1- عقدة "الطلفاحية البدويانية" الناتجة عن نمط السلطة الفاشية القومانية السابقة، ما تزال فاعلةً في أعماق العقل الباطن لسلطة التأسلم السياسي الطائفي الحالية، نتيجة تماهيها الافتتاني اللاشعوري بالسلطة التي سبقتها. وفي الحالتين، تقوم هذه العقدة على وهم احتكار "الفضيلة"، عبر تلك الرغبة العصابية الدفينة بشن غزوات عنتروية لمكافحة "الرذيلة" بوسائل سادية تقع خارج إطار المؤسسة القضائية الشرعية للدولة. وكأن العراقيين محشورون في لعبة عبثية دائرية لا تنتهي، فما أن يغادروا كابوساً حتى يجدوا أنفسهم بمواجهته من جديد.
2- إن بعض عناصر الأجهزة الأمنية، مدفوعين بثقافة الاستبداد التي ما تزال متأصلة في مؤسسات الدولة، يمارسون على نحو فردي غير منظمٍ بتعليماتٍ رسمية مبرمجة، آليةَ "الإزاحة" (أو الإبدال) Displacement، إذ يستبدلون لا شعورياً هزائمهم المستمرة في مواجهة خصوم حقيقيين يصعب الوصول إليهم (أي التطرف السياسي-الديني الدموي، والجريمة والفساد المنظمين)، بـ"انتصارات" خاطفة على خصوم وهميين يسهل اصطيادهم في وضح النهار (أي شباب الإيمو وقبلهم المثليين جنسياً وهواة موسيقى الراب). وفي هذه الإزاحة الإبدالية يتحقق إشباعان نفسيان مهمان لدى المسؤول الأمني المعني باقتناص الإيمو: ((إذن، أنا قادر وفاعل مهنياً، وأنا قادر وفاعل أخلاقياً أيضاً)).

سيكولوجيا الاستهداف المجتمعي للإيمو
1- ما دام الناس غير قادرين على تقويض المظالم الراسخة التي تحول دون تحقيق آمالهم في الأمن والرخاء والكرامة، فلا بد من "كبش فداء" Scapegoat ضعيف يزيحون نحوه كل طاقة الاستياء والامتعاض والغضب المتراكمة في أعماقهم المثلومة بالإهانة والألم، ولو لأيام قليلة أو حتى لساعات محدودة. يريدون أن يحققوا أي "انتصار" صغير في حياة مليئة بالهزائم الكبرى المتناسلة. إنه التعصب بوصفه آلية لاشعورية لتصريف طاقة الإحباط العدوانية ضد أقلية مسالمة لا خوف ولا خطر منها. والتعصب هنا يعني توصيمَ تلك الأقلية وازدرائها واستبعادها اجتماعياً خارج إطار المقبولية والشرعانية، ولو بأدوات قاسية تصل حد القتل: ((نحن عاجزون عن استئصال البؤس والقهر من حياتنا، لكننا على الأقل ما نزال كفوئين وأخلاقيين لأننا قادرون على رصد المخالفين والفاسقين وإخراجهم من مجالنا الطاهر!)).
2- انبرت جماعات دينية متطرفة، بدعاوى لاهوتية رثة، وبغض أبصارٍ واضحٍ من جانب الأجهزة الأمنية، وبقبول مجتمعي عام، للتنكيل بشبان الإيمو، متخذين من عقدهم النفسية الحضارية وأنظمتهم الذهنية الميثولوجية المغلقة أداةً بديلة لتحقيق الضبط الاجتماعي الموكول افتراضاً ودستوراً للدولة العاقلة الغائبة عنا منذ عقود. فهؤلاء الشباب يمثلون بسلوكهم أقصى خيارات الحرية الشخصية التي لا تجرؤ الغالبية المجتمعية على ممارستها لأنها تخاف عبءَ الحرية. فالإيمو بوصفهم أقلية متحررة، يذكّرون الآخرين بعبوديتهم على نحو لا شعوري مبطّن. إنه صراع نفسي بين إرادتين: أقلية قوية في أدائها الرمزي الحداثوي، وأكثرية ضعيفة في أدائها العبودي الأساطيري الرتيب: ((ما لم نستطع فعله نحن الرهائن المكبوتون، يفعله هؤلاء المتحررون الصريحون. نتمنى أن نكون مثلهم، لكننا نخاف حريتنا، إذ كيف يمكن أن نحطم كل التابوات التي لا تستقيم حياتنا إلا بها؟ أين نذهب بأصنامنا المزمنة التي تتنفس في دواخلنا؟ ولذلك ليس أمامنا إلا رجمهم لأنهم قادرون وشجعان وليسوا عاجزين ومتخاذلين مثلنا. نغار منهم. إنهم يذكّروننا بقنوطنا وذلنا وفشلنا ولا معنى حياتنا، ولذلك يجب محوهم من ذاكرتنا الاجتماعية، يجب قتلهم!)).
استكمالاً لما تقدم، ما هي إذن الوظيفة السوسيوثقافية المركزية الناتجة من كل تلك الميكانزمات النفسية الفرعية؟ إنها "الإبتلاع الاجتماعي" الذي تمارسه الجمعانية القطيعية ضد الفردانية المستسلمة، بشتى أدوات التركيع: وصماً وتشهيراً وانتقاصاً ورجماً وإفناءً. إنها الذهنية الجمعية التي لا تبتني "فضيلتها" إلا بتفسيق الآخرين، لأن فزعها الدفين من عبوديتها يجعلها تحرّم أي حرية واثقة تهز قضبان "معصوميتها" الهشة. إنه الرعب من النقيض الذي يذكّرها ببؤسها، فلا بد أن تبتلعه لتستعيد "مطلقيتها" الآمنة: ((أقتلُ حريتهم لأظل آمناً في عبوديتي!)).

الدلالات السياسية لوصمة الإيمو
كل المجتمعات المأزومة وغير المأزومة لا بد أن تفرز فئات مهمشة أو مستبعدة اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً لأسباب تتعلق بتوازنات الجذب والطرد بين الجماعات، ومنها فئات التمرد الطقوسي أو السلوكي أو المظهري كالإيمو وغيرها. والعراق تحديداً يعج بفئات مستبعدة إلى أقصى حدود الإقصاء والنبذ، كالأقليات الدينية والعرقية، والعاطلين والمحرومين والأميين والأيتام والمدمنين والمعوقين والمتسولين والأرامل والعوانس والمرضى العقليين؛ فلماذا كل هذا التهويل حيال الإيمو تحديداً، فيما يُسكَت عن بقية المآسي الاجتماعية المزمنة والمتجذرة في أعماق بنية المجتمع؟!
إن أزمة الإيمو اليوم تنبهنا من جديد إلى ضرورة إدامة الإصرار على طرح مسألة الحريات المدنية في العراق، وتحديداً مسألة علاقة الأكثرية بالأقلية على نحو تأصيلي وتجذيري لا ينقطع، إذ اتضح مرة أخرى بجلاء عجزُ الأكثرية البنيوي عن استيعاب حرية الأقلية، وفشلها في تأسيس نظرة إنسانية للآخر المختلف.
فكل الدلائل المتواترة والمتراكمة تشير إلى أن السلطة السياسية التي نشأت بعد العام 2003م ما تزال تركيعيةً احتوائية في أدائها نحو خصومها السياسيين والفكريين، وهي بايديولوجيتها الأساطيرية تريد الترويج ضمناً وصراحةً لخرافة أحقية الأكثرية (دينياً ومذهبياً وعِرقياً وثقافياً) حيال مخطوئية الأقلية، ضمن بناء دولتي مرتبك، أقل ما يقال عنه إنه تمثال تنخره شروخ الاستبداد وتغطيه خرق الديمقراطية.
الأمر لا يتعلق بمدى صواب أو خطل المنظومة القيمية التي تطرحها خيارات احتجاجية صامتة كالإيمو، بل يتعلق الأمر بأحقيتها الطبيعية والمكفولة إنسانياً ودستورياً في التعبير الحر والسلمي عن الضرر البالغ الذي لحق بإنسانيتها المثلومة، حتى إنْ جاء هذا التعبير غرائبياً وصادماً للمألوف الاجتماعي، ومنطوياً على إخفاق نفسي بدرجة معينة.
فالاضطراب النفسي ليس وصمةً بحد ذاته، بل هو في جوهرة إدانة للثقافة المجتمعية السائدة وللنظام السياسي الحاكم اللذينِ فشلا في إنصاف الناس ومنحهم كينونةً اجتماعية ذات معنى إيجابي.

خـلاصـة أخـيرة
حالات الإيمو في العراق ليست أكثر من احتجاج مسالم، ذي نزعة اعتلالية نفسية وجودية مشروعة، لا تهدد إلا صاحبها الذي قطع بالأساس صلته التفاعلية بالمجتمع وانعزل عنه اغتراباً ويأساً. وهي صرعة شبابية إحباطوية غير عدوانية، تحتاج تعاطفاً واحتضاناً وتفهماً وتضامناً وجدانياً من المجتمع والدولة. ولا يحق قانونياً لأي جهة رسمية أو شعبية أن تتدخل على نحو اعتباطي فظ للتعامل مع مثل هذه الحالات، باستثناء مؤسسات أكاديمية متخصصة بالعلوم الاجتماعية تعمل وفق أساليب علمية إرشادية وعلاجية.
قضية الإيمو افتتحت مبحثاً جديداً في موسوعة تطور الوعي الاجتماعي بمسألة الحريات في العراق. فما عاد الأمر يتعلق بالمواجهة بين الـتأسلم والعلمنة، أو بحقوق الأقليات الدينية والعرقية فحسب، بل ابتدأ اليوم ما يمكن تسميته بقضية "حرية اختيار أسلوب الحياة"، أو "حرية التعامل مع المظهر والجسد". إنها خطوة رائدة، مهما كانت محدوديتها، نحو تبجيل الفردانية وإعلاء هيبتها. ولن ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل سوف تتوالى تباعاً قضايا مشابهة في المستقبل، ما دامت السلطتان الأبويتان: السياسية والاجتماعية، لم تبلغا سن النضج الثقافي بعد.
فإذا كان للغوغائية المفجعة والسادية التي جرى التصدي بها لشباب الإيمو، من معنى أو عزاء، فهي إنها اجترحت وأضافت بُعداً فلسفياً عميقاً لأداء التيار المدني العقلاني الذي لم تنقطع جذوره ابداً في بلاد شهدت انبثاق كل أنواع الايديولوجيات المتصارعة وقيم الجمال المتسامحة على مدى تسعة عقود من الدماء والآمال.
إن عملنا التنويري الشاق والدؤوب والمفعم بالأمل حيناً وباليأس أحياناً، سيزهر ويثمر في شوط قادم من مشوار هذا الزمن الاجتماعي الهادر، فقط لأننا لا نحرّف الحقائق ولا نخاف الحرية.





#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام السياسي وعقدة المرأة
- اليساروية الشعبوية المدنية العربية سبقت قوى اليسار التقليدي ...
- سيكولوجيا مواكب السلطة في شوارع بغداد
- موت السلطة في العقل الجمعي العراقي (تحليل لما حدث في 25 شباط ...
- اليقظة العراقية .... هل اكتملت شروطُها؟!
- العراق ... المجتمع الرهينة !
- تحليل الشخصية المسيحية العراقية
- المحرومون في العراق: دراسة في سيكولوجية الظلم: (صدور كتاب لف ...
- جدل (الإهانة) و(الكبرياء) في الحياة العراقية
- النزعة الماسوشية في العقلية العراقية
- هل ابتدأ عصرُ الاحتجاجات الجمعية في العراق..؟!
- سيكولوجية قطع الكهرباء عن الروح العراقية
- الشيوعيون والصدريون ... وخيار الكتلة التأريخية !
- الفساد الأكاديمي في الجامعة العراقية
- الهوية البغدادية .... ماذا تبقّى منها؟!
- أزمة الضمير المهني لدى الفرد العراقي
- العراق الافتراضي
- النزعة العلمانية في الشخصية العراقية
- عُُصاب التفاوض السياسي
- سيكولوجية العمامة واليشماغ !


المزيد.....




- متوسط 200 شاحنة يوميا.. الأونروا: تحسن في إيصال المساعدات لغ ...
- -القسام- تنشر فيديو لأسير إسرائيلي يندد بفشل نتنياهو بإستعاد ...
- إيطاليا.. الكشف عن تعرض قاصرين عرب للتعذيب في أحد السجون بمي ...
- -العفو الدولية-: كيان الاحتلال ارتكب -جرائم حرب- في غزة بذخا ...
- ألمانيا تستأنف العمل مع -الأونروا- في غزة
- -سابقة خطيرة-...ما هي الخطة البريطانية لترحيل المهاجرين غير ...
- رئيس لجنة الميثاق العربي يشيد بمنظومة حقوق الإنسان في البحري ...
- بعد تقرير كولونا بشأن الحيادية في الأونروا.. برلين تعلن استئ ...
- ضرب واعتقالات في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في جامعات أمريكية ...
- ألمانيا تعتزم استئناف تعاونها مع الأونروا في غزة


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - فارس كمال نظمي - وصمة الإيمو والخوف العراقي المزمن من الحرية