أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اسمهان الزعيم - محكيات الروائية المغربية اسمهان الزعيم















المزيد.....



محكيات الروائية المغربية اسمهان الزعيم


اسمهان الزعيم

الحوار المتمدن-العدد: 3845 - 2012 / 9 / 9 - 02:16
المحور: الادب والفن
    


محكيات الروائية المغربية اسمهان الزعيم
"ما قيل همسا" (رواية) عن المطبعة الإسماعيلية، مكناس، المغرب، 2007
محمد معتصم*
1/ المرأة المغربية والرواية:
تندرج مسألة كتابة الرواية لدى المرأة المغربية ضمن السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي المغربي المعاصر، فقد مرّ المغرب كباقي البلاد العربية، بمراحل سريعة التحول في تاريخه المعاصر. وفي إطار السياق الدولي العام. وبالتالي كان من الطبيعي أن يؤثر ذلك في الفكر والأدب، إبداعا وتلقيا. ومن الملاحظات التي كان يسجلها الدارسون والنقاد في حينها، غياب المرأة عن المجالات الحيوية والتي تسهم في الحراك الثقافي والسياسي، وتُعد رواية "غدا تتبدل الأرض" لفاطمة الراوي، الصادرة عن المطابع العامة المغربية بالدار البيضاء سنة 1967م أول رواية تكتبها المرأة. وهو تاريخ بالتالي مهم في التأريخ لظهور كتاب منشور، يؤرخ به لبداية خوض المرأة المغربية في مجال سردي جديد هيئت له الظروف الاجتماعية والسياسية، كاستقلال المغرب من الحماية الفرنسية، وتطور أنماط الكتابة السردية المغربية التي كانت بدورها متأرجحة بين كتابة المذكرات والسيرة الذاتية والقصة المطولة. وهذه الملاحظة يمكنها أن تكون مؤشرا على أن الرواية التي كتبتها المرأة لم تكن متأخرة كثيرا عن بداية اهتمام الرجل بهذا النمط من الكتابة السردية، إذا سلمنا برأي الناقد والباحث المغربي أحمد اليبوري الذي يرى في كتاب التهامي الوزاني "الزاوية " الصادر عن مطبعة الريف بمدينة تطوان سنة 1942م، رواية حاضنة لكل المقومات الفنية والجمالية للنص الروائي. وبالرغم من اتساع المدة الزمنية بين 1942م وبين 1967م فإن عدد الروايات الصادرة خلالها لم تتجاوز اثنتا عشرة رواية، وتحل رواية فاطمة الراوي المرتبة الثالثة عشر.

هذه المقدمة تتوخي وضع كتابة المرأة المغربية في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الموحد لجميع المغاربة. أي أن الكتابة السردية عموما، جاءت استجابة لتحولات مهمة عرفها المغرب المعاصر والحديث، ساهمت فيها القوى الوطنية، والبعثات التعليمية، وانفتاح الجامعة المغربية، والتفاعل الثقافي بين المغرب وجيرانه في القارة الأوروبي،ة فضلا عن اتصاله الجذري والعميق مع البلاد العربية شرقا.

لكن ينبغي أيضا عدم إغفال الفترة الفارقة والتي خفت فيها صوت المرأة على مستوى الكتابة الروائية، بعد صدور رواية الكاتبة التي أغنت المكتبة المغربية برواياتها وقصصها، خناثة بنونة. وقد صدرت روايتها الأولى سنتين بعد ظهور رواية فاطمة الراوي، أي رواية "النار والاختيار" حوالي سنة 1969م، مع تحديد أجناسي مختلف. ولعل لهذا الخفوت أسبابه الاجتماعية والسياسية أيضا. ومن أهمها انكباب المرأة المغربية على العمل الحقوقي والسياسي، لإيمانها الشديد بأن ما تحتاجه المرأة المغربية في خضم التحول والتطور العام وإثبات الذات، هو تغيير القوانين المتحكمة في سلوك وفعل المرأة داخل المجتمع. وكان لزاما علينا انتظار مبادرة خناثة بنونة مرة أخرى لتصدر سنة 1981م روايتها الثانية " الغد والغضب". لتعلن بذلك مرحلة الاسترسال المتواتر لإسهامات المرأة في مدونة السرد المغربية بنكهات خاصة. وقد ظهرت أسماء روائية نسائية خلال الثمانينيات من القرن المنصرم مثل ليلى أبو زيد بروايتها "عام الفيل"، وزهراء دحان عنتر، برواياتها القصيرة.

وجاء العقد التسعيني بسرود جريئة، وأعني خوض المرأة المغربية في كتابة "السيرة الذاتية" والتي كانت الركيزة الأساس في كتابات المغاربة. وأعني هنا سيرة ليلى أبو زيد "رجوع إلى الطفولة" الصادرة سنة 1993م عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء. ولهذا الحدث أهمية قصوى، فقد سمح للمرأة بالكتابة عن ذاتها، لكن أيضا الخوض في السرد دون الاحتماء بالقضايا السياسية والاجتماعية الكبرى، التي تذوب فيها أنا الكاتب في أبعاد الموضوع أو الشخصية الروائية. وتبين ليلى أبو زيد الوضعية التي كانت عليها المرأة المغربية بين الستينيات والتسعينيات من القرن الماضي فتقول:" ...كانت كتابة سيرتي الذاتية غير واردة لأنني فوق هذا وذاك، امرأة في مجتمع ظلت المرأة فيه تاريخيا ولأمد طويل مستبعدة وساكتة، فضلاً عن أن تقوم بتعرية ذاتها بالكلام عن خصوصياتها، عندما كتبت أول مقال في أواخر الستينيات لم تكن عندي الجرأة حتى على توقيعه باسمي الحقيقي. وعندما كتبت أول رواية تركت بلدة البطلة بدون اسم لأنها بلدتي. بعبارة أخرى كان علي أن أنتظر سنوات طويلة قبل أن أجرؤ على كتابة سيرتي الذاتية..." ص (4).

فماذا جرى خلال عقدين من الزمن ونيف؟ لقد تطور الوعي بفضل الصراعات الفكرية والأدبية التي كانت الصحافة المغربية وقتها تتابعها بالنشر، والتقييم والتقويم والمساهمة في توسيع دوائر الرأي والرأي الآخر المختلف والمحتمل. كما انفتحت الدروس في الجامعة المغربية على التيارات والمدارس والمذاهب الفكرة والأدبية الحديثة في العرب، وبالتالي تغيرت رؤية المتلقي للأدب، وقد تغير نمط العيش لدى المغاربة، وتفاعلوا إيجابا وسلبا مع المتغيرات وانخرطوا فيها قبل أن تتحول المسارات تحولا غير متوقع مع بداية الألفية الثالثة، وما صاحبها من أزمات وحروب قطرية ودولية مجاورة.

ومع ذلك لا بد من سرد أسماء الروائيات اللائي ساهمن حتى اليوم في توسيع دائرة مدونة السرد المغربي إبداعا، رغم اختلاف القيمة الجمالية، وتنوع أنماط الكتابة أجناسيا بين الرواية والسيرة والمذكرات، وهن: فاطمة الراوي، خناثة بنونة، ليلى أبو زيد، زهراء دحان عنتر، نزهة براضة، ربيعة السلامي، عائشة موقيظ، زهور كرام، حسناء القباج، حليمة زين العابدين، نادية وادجيني، مليكة مستظرف، مريم التوفيق.

ومع مطلع الألفية الثالثة ظهرت أسماء جديدة بتجارب ورؤى سردية جديدة أيضا، دون توقف الكاتبات السابقات عن الإنتاج والإسهام المتواتر باستثناء كاتبات لم يستطعن تجاوز عتبة الرواية الأولى، ولهذا التعثر والتوقف أسباب ذاتية لا نستطيع الخوض فيها لخصوصيتها، وأسباب موضوعية ترتبط بمستوى تلقي الرواية النسائية، وانشغال الكاتبة بوضعيتها السياسية والحقوقية كعتبة هامة، وانخراطها في هذا المسار. ومن الكاتبات اللائي أصدرن روايات جديدة مع مطلع الألفية الثالثة: دليلة حياوي، خديجة مروازي، حفيظة الحر، فاطنة البيه، ليلى السايح، وزهرة المنصوري، والزهرة رميج، وفاتحة مرشيد، ووفاء مليح، ثم اسمهان الزعيم.

وهذا التزايد المتواتر يطرح على الدارس والناقد عددا من الأسئلة الجوهرية، بعضها يدخل في سياق مجال الخصوصية السردية، كالبحث عن خصائص مميزة للسرد النسائي عن السرد الذي يكتبه الرجل مثلا، أو البحث في خصوصية السردية النسائية دون الانفتاح على كتابات أخرى موازية. وهذا المبحث مهم جدا لأن نتائجه ستنعكس على مسار الكتابة السردية المغربية عندما يتم تحديد حجم الإسهام النسائي في تطوير وتطويع البحث السردي،وبعضها الآخر مرتبط بالتخييل النسائي وعلاقته بمحيطه المغربي والعربي. أي مساءلة السرود النسائية المغربية حول وظائفها الاجتماعية والمعرفية والسياسية.

وهذان البعدان سنحاول تلمسهما في الرواية الأولى للكاتبة اسمهان الزعيم الموسومة بـ "ما قيل همسا". وتم التركيز على هذا العمل لاعتبارات كثيرة منها:

• حجم الرواية الذي يزيد عن ثلاثمائة وثمانين صفحة من القطع المتوسط. وهو حجم مهم عندما نقارنه بالروايات النسائية المغربية السابقة عليه، وحتى بمقارنته بروايات يكتبها الرجال المغاربة.
• تنوع طرائق السرد في الرواية، مما يدل على أن الكاتبة لم تكتب من فراغ نظري، وأن الرواية ليست تدفقا في المشاعر، أو في القول بل تفكير وتخطيط وتنقيح وتشذيب، أي اشتغال مخبري.
• تعدد الشخصيات واختلاف أنماطها السلوكية ومواطنها وأفكارها. وبالتالي تكون الرواية مفتوحة على واجهات متعددة ومتناقضة تتطلب قدرة على التحكم في مسار الحبكة وحماية خيوطها من الترهل.
• تطرق الرواية لكثير من القضايا الاجتماعية المحلية والقومية، وتدوين ملاحظات ومواقف حول قضايا طلابية أيضا. مما يجعل النص منفتحا على محيطه منشغلا به يحاوره دون تعصب للرأي الشخصي، أي رأي الكاتبة. وهو ما سمح لكل من الكاتب والسارد والشخصية أن يقوموا بأدوارهم السردية...



2/ العتبات الروائية:
ظلت إلى وقت قريب عتبات النص مهملة ومهمشة في قبل الدارسين، وقل أم التفت دارس لأهمية العنوان وعلاقته بمحتوى النص المدروس. أو الانتباه إلى الإهداء أو التقديم أو الاستشهاد في افتتاحيات الفصول...لأنه خارج النص بالنسبة للدراسات المحايثة، وغير أدبي بالنسبة لباقي الدراسات. لكن مع جيرار جنيت تغير الوضع بعدما أوضح في دراسته للمتعاليات النصية أن هذه العتبات ليست خارج النص، أو أنها خلو من كل قيمة أدبية، أو من وظيفة تفسيرية أو مضيئة لعتمة النص. وبعدما عددها وعرفها بالتحديد المنطقي الذي يميز بين كل نوع على حدة، سار على ذلك بعده عدد من الباحثين.

وقد قسم جيرار جينيت المتعاليات النصية إلى خمسة أقسام، بينها حدود واضحة لكنها متعايشة داخل النص، وهي: التداخل النصي (Intertextualité)، التوازي النصيParatextualité))، النص الواصف (Métatextualité)، النص المتفرع Hypertextuaité))، ثم جامع النص (Architextualité).

1.2/ العنوان:
لقد وضع جيرار جنيت "العنوان" ضمن "النص الموازي" الذي لا يدخل في صميم الحكاية، ولكنه يدل عليها ويوحي بعوالمها أو جزء منها. والعنوان عتبة مهمة من عتبات الكتاب. وإذا اعتدنا العثور على كتب مهملة من ذكر أسماء أصحابها، أو تعوضها بأسماء مستعارة، تحاشيا للحرج الاجتماعي، كما ينص على ذلك المجتزأ المأخوذ عن السيرة الذاتية للكاتبة المغربية ليلى أبو زيد أعلاه، فإننا لا نعثر على كتب معاصرة بلا عناوين. ومن هنا يكون العنوان عتبة أساس يقترحها الكاتب لاستقبال كتابه والترويج له. وتبرز أهمية العنوان في الأقوال المصرح بها عند بعض الشعراء والكتاب، والمعاناة التي يجابهونها وهم يبحثون لقصائدهم أو رواياتهم وقصصهم القصيرة عن عناوين تدل على محتواها أو على الأقل توحي بما يرومونه من فكرة أو معنى.

وقد اختارت الكاتبة اسمهان الزعيم لروايتها العنوان التالي "ما قيل همساً"، وهو في تقديرنا اختيار قوي الدلالة، ومؤشر يوجه ذهن المتلقي نحو نوع محدد من الكتابة، قد يناقض التحديد الإجناسي المدون بالغلاف الأول "رواية". ويتضح ذلك في اسم الهيئة الذي ضمنته الكاتبة العنوان "همسا". والعنوان يُطْرَحُ أمام المتلقي في صيغة السؤال: "ما السر / الأسرار التي قيلت همسا، وتريد الكاتبة إعلانها على العموم؟". ولكلمة "سر" سحرها وجاذبيتها. وكأننا سنعود للبناء الحكائي التقليدي الذي يقوم على الغموض، ويحول الحكي من متابعة شيقة مطردة تنحدر نحو الحل النهائي ولم خيوط الحبكة وحصول الإشباع المعرفي، إلى بناء حكائي سلطوي يمارس على المتلقي/ القارئ قهرا من نوع القراءة المتلهفة لمعرفة السر، لمعرفة ذلك الشيء الخطير الذي لم يقل سوى همس، خافت، خوفا من الانكشاف.

إن العنوان في تركيبه يوحي بنوع الكتابة السير ذاتية، التي تتوخى الإفراج عن معلومات ووقائع غير متخيلة. وهذا النمط من الكتابة له سحره أيضا والمتمثل في الكتابة بضمير المتكلم الذي يمارس على القارئ سلطة محددة نظرا لتقارب صوت الراوي والكاتب والشخصية، وتداخلهم في صوت واحد لا يفصل بين الوقائع الحقيقية التي تعكس ما جرى في الحياة والتي يمكن التأكد منها في الواقع، وبين الوقائع المتخيلة التي تتمثل الواقع، لكن ليس بالمنظور الانعكاسي والتماثل المطابق له.

هذان البعدان يمكن العثور على آثارهما في محتوى النص الروائي: السِّرُّ وضمير المتكلم. وهو ما يعزز لدى القارئ احتمال تداخل الرواية والكتابة السير ذاتية، واحتمال العثور على أسرار خاصة. إنها تقنية محكمة وذكية تسعف القارئ على القراءة، لكنها لا تضمن له التوقع المسبق. أي أنها قد تخون توقعه وأفق انتظاره الذي كان حافزا على القراءة.

وإذا كانت القصة حسب فورستر، تشترط وجود عنصر السببية، وأن الحبكة يمكن تتبع مسارها عبر القصة، فإننا يمكن أن نقول بان الكتاب (رواية "ما قيل همساً" لاسمهان الزعيم) ليس سيرة ذاتية، ولا تخييلا ذاتيا بل هو رواية متقنة الحبكة، وتتضمن عددا من القصص المسترسلة والمتضمنة، والمتداخلة في تناوب والمتوازية في آن كما سنوضح لاحقا.

ونطرح هذا السؤال المتشعب للإجابة عنه في المتن الروائي النسائي المغربي (المغاربي)؛ هل السر عنصر جوهري في بناء السرد النسائي المغربي؟ وهل الكتابة بضمير المتكلم شرط من شروط الكتابة النسائية؟.


2.2/ الإهداء:
أصبح الإهداء من العتبات المطردة والمستساغة في الكتابة العربية الحديثة، بالإضافة إلى كلمات الشكر والامتنان. وتتمثل وظيفة الإهداء في تخصيص حيز التلقي. أي أن الكاتب يخص شخصا واقعيا عادة ، وقد يكون شخصية من التاريخ أو من الخيال...يقدم له عصارة جهده لسبب من الأسباب وغالبا ما يكون خارج نصي. ولهذا لا ترتفع وظيفته على وظيفة العنوان المعرفية والتفسيرية. لكن تحليل الإهداء يمكن أن يوصل إلى نتائج مبهرة من حيث طرائق صياغته، وأنماط الأشخاص والشخوص المهدى إليهم الكتاب، وبعض الإضاءات التي تنير عتمة النص، وقد توحي بمدخل للقراءة ...

وفي الصفحة الثالثة من الرواية نقرأ الإهداء التالي :" إلى وجوه عصية على النسيان، تتربع عرش الذاكرة، أحببتها، وستظل رابضة هناك ما جرى الدم في العروق..
وإلى وجوه أخرى أحبتني وشاطرتها الحب في صمت، سأظل أحبها أيضا.. س.ز".

أول ما يثير اهتمامنا في الإهداء إصراره على الإيحاء بالصلة الوثيقة بين الكاتبة والراوي. أي الكتابة السير ذاتية. وضمير المتكلم الذي يقيد الكلام ويشده إلى مربط الذات. الأنا :أحببتها/ أحبتني/ أحبها. ثم كلمة "أحب" التي تؤكد على لفظ "السر" أي الحميمية والخصوصية.

إن الصيغة التي ركب بها العنوان تتواشج وصيغة الإهداء. فهل هي مرة أخرى، تقنية في الكتابة تتوخى من ورائها الكاتبة بناء ميثاق سري مع القارئ، وإيهامه بأفق انتظار معين؟ .

عموما فالرواية مليئة بمثل هذه الصيغ الذاتية، لكنني أميل إلى الاختيار الأجناسي الذي وضع على الغلاف الأول للكتاب "رواية".

ثم إن الرواية تحكي عن الزمن الماضي، وعن شخصيات كان لها حضور في الماضي، ومستقرها الآن مقبرة الذاكرة، ومجراها الدم الساري في العروق. وهذا أوحى لي بالفكرة التالية: إن الرواية ليست مقبرة للأموات، كما الذاكرة، بل هي جنة يحيون فيها من جديد، يبعثون عبر الكلمة وسحرها وقوتها. وأن الكتابة ليست قتلا، بل الكتابة إعادة إحياء، وبعث، وانتصار على النسيان وعلى السكون، والثقل والبرودة. إن الرواية حياة من نوع آخر. حياة افتراضية على الورق.



3.2/ مقدمات الفصول:
لقد ابتدعت اسمهان الزعيم طريقة جديدة في تقديم فصول الرواية. لم تعطها كما هي العادة أرقاما بلا معنى تقريبا، سوى ترتيب الفصول ترتيبا تعاقبيا وزمنيا. بل كتبتها بصيغة الحوار تفترض فيه محاورة بين شخصين، يكون الأول متسائلاً طلبا للمعرفة، والتفسير والفهم والتوضيح. ويكون الثاني مالكا لتلك المعرفة، قادرا على التفسير والتوضيح والتعليق والتعقيب.

إلا أن الحوار في مقدمات الفصول ينفتح على وظائف متعددة:

• تقديم المعرفة الشافية. أي الإجابة الصريحة والواضحة.
• الانفتاح على آفاق التأويل. أي الإجابة الغامضة التي تتطلب فك شفرة اللغة لبلوغ المعنى المراد من محتوى الفصل.
• الاقتراب من مضمون الفصل. وذلك بتركيزه في مفهوم محوري وجوهري. أو في صفة من الصفات المميزة للشخصية الروائية.
وهذا مثال على تقديم الفصل الخاص بشخصية "سلام"، يقول النص:

" قلتِ:
وما الخداع؟

قلتُ:
تلك كسوة نقي بها أنفسنا من شواظ الصقيع وشراسة اللهيب.

قلتِ:
وما الشواظ؟ وما اللهيب؟ وما الشراسة؟ وما الصقيع؟.

قلتُ:
تلك مخلوقات لا ظل لها، تطرق أبوابنا في ليلة لا اسم لها، تقول لنا:" أنا الحب، أنا الحياة، أنا البسمة، أنا الشجرة الوارفة، أنا الأغصان الدانية.." ندنو منها كي يغمرنا ظلها، فتحتوينا بسمة الظل!" ص (9).

يتم الحوار هنا بين الشخصية المحورية (مها) والشخصية الروائية (سلام). ويتمركز السؤال حول الخداع. وبالتالي تكون هذه اللفظة/ الصفة مدخلا لقراءة الفصل الروائي. والمجيب يحاول هنا تبرير سلوكه بالخارج أمام المتسائل: لماذا يخفي الإنسان حقيقته؟ لماذا يخادع نفسه والآخرين؟ ومن أجل ماذا؟...

أسئلة تبحث لها شخصية مها عن أجوبة شافية. لكن الجواب في تقديم الفصل/ عتبته جاء مراوغا ربما في الاستعارة، مستعيراً لذاته ما يستدعي الغموض لا ما يستدعي الوضوح. وربما هنا يكمن الجواب الحقيقي. أي أن من سلوك الناس ما لا يمكن فهمه والتحكم فيه. وأن الكائن قد يجد نفسه في حال لم يكن يرغب فيها نتيجة الشروط المحيطة به، أو نتيجة الظروف النفسية والتربوية، أو نتيجة لانفصال بين الكائن وذاته. انفصال بين ما هو عليه، وما كان ينبغي أن يكون عليه. وكأن الكائن ليس هو هو، كما يقول الفلاسفة عن الجوهر. فالإنسان في سياق اجتماعي وتربوي ونفسي وسياسي قد لا يكون ذاته. ولا يستطيع أن يكون ذاته ، إذا لم يكن قادرا على قطع الصلة بأمور كثيرة محيطة به. أو لضعف فيه كامن.
إن تقديم الفصول في رواية "ما قيل همساً" جديد وحدد وظيفته في الإيحاء بالمحتوى، وإرشاد القارئ كما ترشد الصوى العابر في الطريق، أو كما تدل الآثار على العابر فوق الرمال المتحركة. وهو هنا يختلف عن التقديم المعتمد في الرواية عموما والمتمثل في الترتيب بالأرقام، ويختلف عن الاستشهاد المجتزأ الذي يوظف في الرواية المعاصرة عتبة لقراءة فكرة الفصل، أو الإفصاح عن صفة من صفات الشخصيات أو صيغة تركيبية وأسلوبية معتمدة في الكتابة...


4.2/ الهوامش:
تعتبر الهوامش من النصوص الموازية للنص الإبداعي. لأنها ترتبط به بصورة من الصور الكتابية، كالتعليق وإبداء الرأي، والإحالة على مصدر أو مرجع يستفاد منه في إضاءة محتوى النص أو واقعة من الوقائع الخارج نصية. وقد اتخذت الهوامش قيمة كبرى لدى النقاد القدماء، لأنها قامت بوظيفة الشرح والتفسير والتفصيل والإضافة لما جاء في مضمون "الرسالة/الخطاب". وهو إذا كتابة على كتابة. نقد بالمعنى الشامل؛ أي الحكم، والشرح، والتحليل، والتفسير، والتقويم، والتقييم.

لكن الإبداع لم يكن يعرف هذا النوع من الإحالات، لأنه مكتف بذاته. ولأنه إبداع من الخيال. ومن حسنات الكتابة الجديدة أنها استوعبت أهمية "الهوامش" ووظيفتها المعرفية في إنارة سبيل القارئ عندما تكون معرفة النص أكبر من معرفته. أو عندما يكون التعبير متعدد الاحتمالات/ القراءات، والتأويل. ومن ثمة تكتسب الهوامش صفة النص الموازي للنص الأصل الإبداعي. فما وظيفة الهوامش في رواية "ما قيل همسا" ؟.

لقد اختارت الكاتبة وضع الهوامش على المتن الروائي بغاية الإحالة والتوثيق والأمانة العلمية. وهي بذلك تفصح عن مرجعيتها الثقافية والأدبية، وتكشف عن محيطها القرائي، الذي يفصح بدوره عن تركيبة النص الإبداعي الأصل، وعن النصوص المتضمنة فيه. أي النصوص التي تدخل في عملية تناص مع المتن المتخيل. وبالنظر إلى الإحالات في الهوامش التالية: أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي، ومن شعر بدر شاكر السياب، ومن شعر محمد مهدي الجواهري، ونزار قباني، ومن ملحمة كلكامش، ومن شعر الكاتبة. نستنتج التالي:

• ارتباط الإحالات بمضمون المتن الروائي.
• مساهمتها في تأثيث الفضاء الروائي.
• إثراؤها للمتخيل الروائي.
• إضاءتها لسياق المحكي الروائي.
• إحالتها على نوعية المقروء والمخزون الأدبي/الشعري للكاتبة.
• اهتمام الكاتبة بالشعر الى جانب الرواية...

إذن، فالإحالة والهوامش على المتن الروائي (الإبداعي عامة) ليست بدون وظيفة معرفية.وقد كان للشاعر المغربي إدريس الملياني إسهام مهم في المجال، عندما وضع إحالات وهوامش ذيل بها قصائده في ديوان "زهرة الثلج" فسر فيها الكلمات الروسية، وعرف بالشخصيات الواردة في القصيدة، ووضح محتوى وسياق أحداث القصص والأساطير المتضمنة في النص الأصل. وهي تجربة تدخل في سياق فك العزلة على النص الإبداعي، والخروج به من منطقة الإلهام والإبهام إلى منطقة الإضاءة والتوعية والتثقيف والنقد أحيانا بالتعليق والتعقيب ولإبداء الرأي المخالف...

5.2/ الكاليغرافي:
من موجهات القراءة التي يمكن إدراجها في مدونة العتبات النصية، الكتابة الكاليغرافية، أقصد بها هنا أنماط الخطوط التي تميز بين متوالية سردية وأخرى. ومن الخطوط المميزة الخط المضغوط الذي يعين السرد المنساب من الذاكرة، والمرتبط بحالة من الشرود الذهني والخروج عن الاسترسال في الحكي. إنه نوع من التحول في السياق دون الإخبار عنه أو التأشير له داخليا، فتلجأ الكاتبة إلى تعيينه كاليغرافيا. لينتبه القارئ إلى الانتقال من الحكاية المروية إلى الحكاية المنسابة. وكأن هناك نوعا من الاستدعاء الذي يسمح لنا بالحديث عن النوع الرابع من المتعاليات النصية "النص المتفرع". حيث ينقل السارد مركز الحكي من مجال إلى آخر. وأكثر ما يظهر هذا النوع من المتعاليات في النص الرقمي والإلكتروني. وهي إمكانية كتابية مهمة لو تم استغلالها جيدا على مستوى الكتابة الإبداعية على الورق أيضا.

إن التمييز الكاليغرافي لخطوط الكتابة لا يقف عند حدود الجمالية البصرية للنص، ولتوزيع فضاء الورقة فحسب، بل يتجاوزه كما بينّا إلى درجة أسمى وتتجلى في توجيه القارئ وإرشاده إلى تغيير مستويات النص، وتغيير المتواليات السردية أيضا. وهو ما يجعل النص على مستوى البناء مكونا من طبقات، ومستويات متدرجة من المحكيات. وهو ما سيتضح لاحقا.

3/ القصة:
ما هي القصة؟ سؤال متشعب ومراوغ. لأنه يحمل معه تاريخا من الدلالات. منها تواتر الأحداث، وتفاعل الشخوص الروائية، ولها بداية ونهاية أو حل يمران عبر حبكة تسمى الذروة. ومنها أيضا ما يرتبط بمعنى "جامع النص" ،حيث يتداخل المعنى الأول مع المعنى الأجناسي. أي أن القصة نوع أدبي له خصائص تميزه عن باقي أنواع السرد المتعارف عليها كالرواية والسيرة الذاتية واليوميات والحكاية الشعبية والخبر.لكننا نحن سنتعامل مع المفهوم الأول الذي ميزه الدارسون في السرديات عن مفهوم الخطاب، والحبكة. أي مادة الحكي. وبالتالي ستكون القصة في "ما قيل همسا" حكاية حب بين فتاة مغربية اسمها مها صابر، ورجل عراقي اضطرته الظروف السياسية في العراق إلى الاستقرار بالمغرب. لكن التشويق الذي يجعل من القصة قصة ليس الحب فقط، بل المعوقات التي تقف في طريق تحققه. تلك المعوقات كانت السبب في فتح جيوب القصة المركزية الكبرى، والانتقال في اللغة والمكان والزمان، والسياحة بين الذاكرة، والواقع، والأحلام.

ويرى الدارسون بأن "الرواية كانت واستمرت كقصة". ولكي تكون القصة كذلك ينبغي أن تنظم تنظيما محكما، وأن تحتوي على العناصر الأساس التالية: التتابع، والترابط المنطقي، والسببية. وهكذا تكون القصة "الجسم" بينما يقوم هذا الجسم ويستقيم بوجود الحبكة؛ أي "الهيكل العظمي". من ثمة لا يمكن دراسة القصة كمحتوى ومضمون للعناصر القصصية، إلا بدراسة موازية لترتيب وتنظيم تلك المحتويات.

1.3/ القصة المحورية:
ليست القصة المحورية في الرواية كما حددتها أعلاه: قصة حب عذري جارفة، تعوقها موانع، تؤجل تحققها الكامل. هذا اختزال شديد ولكنه يصلح نواة للقصة المركزية وقد صغته صياغة "الخبر". لكن القصة في الأدب بناء لغوي وتخييلي معقد. ثم إنها عبارة عن صيغ خطابية تراوح بين تركيب زمني متعدد؛ كالتركيب الخطي التقليدي، أو التركيب الدائري الاسترجاعي، أو التركيب الحلزوني المنفتح على كل الآفاق، أو التركيب المتقطع والمتداخل في آن واحد. أو التركيب الشامل لكل هذه المظاهر الزمنية. وإذا كان التركيب الزمني هاما في بناء القصة، نظرا لمادتها اللغوية والتخييلية الأساس، فإنها لا تهمل القطب الآخر للشرط الوجودي للكائن (الشخصية الروائية) أي المكان.

انطلاقاً من هذا التحديد المركز يمكن رسم خطاطة تعاقبية لحركة الزمن/ السرد والتوالي الحكائي والسردي في آن للقصة في رواية "ما قيل همسا" كالتالي:



القصة المحورية

اعتمدت في هذه الترسيمة على الترتيب الزمني لسير أحداث القصة. كما اعتمدت على الأحداث الرئيسية التي تشكلت منها معبرها ملامح وحدود القصة المحورية في الرواية. وهذا يعني أن الرواية ليست بها قصة واحدة محورية بل بها قصص أخرى جاءت موازية ومتضمنة ومجاورة. واخترت منها القصص المركزية الكبيرة. مما يعني أن الرواية تتكون من طبقات من القصص وهي كالتالي: القصة المحورية وهي الكبرى، والقصص المركزية وهي الكبيرة، ثم القصص الصغرى، فالقصص الصغيرة التي تدخل في سياق جيوب القصة المحورية أو المركزية.

2.3/ القصص الكبيرة:
يلاحظ من الترسيمة أعلاه، أن التطور الزمني للأفعال/ الأحداث يسير سيرا متوازيا مع التحول في المكان،وفي الشخصية الروائية. كما يمكن للقارئ التفطن إلى دائرية البناء وانغلاقه. فالشخصية الروائية الأولى والمركزية (مها) تتواشج علاقاتها والشخصيات الروائية الأخرى حسب التحول في الزمان (النفسي في الرواية)، والمكان، إلا أنها تظل مرتبطة في الحضور والغياب معا بشخصية (بسام) الروائية.

ودرءا للتطويل والإطناب أسرد القصص الكبيرة كالتالي:

* مها ---- سلام ---- جنيف / سويسرا ----- فترة متابعة الدراسة والتكوين.
* مها ---- بسام ---- ليبيا ---- لقاء شعري، ولقاء عابر لكنه سَيَتَرَسَّخُ عبر المراسلة.
* مها ---- عمار ---- اليونان ---- زيارة خاطفة من مها لعمار بعد المراسلة وفشل تحقق اللقاء.
* مها ---- أشرف ---- الصويرة ---- فترة الهروب من ألم الفراق والحب، وإتمام الرواية.
* مها ---- بسام ---- الرباط ---- العودة، ولم خيوط القصة المحورية وإغلاق الخطاب.

هذا التسلسل الخارجي للقصص الكبيرة المشكلة لخطاب الرواية، والمحددة لزمنية القراءة والحكي. لكنها قصص، وإن كان من الممكن عزلها مستقلة في كتاب، فإنها في سياق القصة المحورية تعد طبقات ترقي الحدث/ الأحداث. وتنوع مستويات المحكي، وتنوع السرد نظرا لتنوع المكان والشخوص. وأيضا تعدد إمكانية الوصف؛ وصف طباع وسلوك الشخصيات الروائية (سلام المخادع، وأشرف المخاتل والمخاذل...)، ووصف المكان عمارة وطبيعة.

3.3/ جيوب القصة:
أعتبر جيوب القصة تلك القصص التي تكون وظيفية داخل النص السردي. قصص مرتبطة حتما مع القصص الكبرى والكبيرة الأساس لكنها في الآن ذاته تمتاز باستقلالية خاصة. تمكنها من القيام بوظائف سردية أو معرفية، إضافية تضيء جوانب من الشخصية الروائية وتحاكيها مع الواقع والنموذج والمثال في الواقع. كما يمكنها أن تنهض بوظائف من قبيل التشريح النفسي وإظهار الميول والنزوع الفكري لدى الشخصية الروائية، كما يمكنها أن تقوم بأدوار اجتماعية، فتح نافذة على السلوك الاجتماعي السائد في المحيط والفضاء الروائيين.

ومن القصص الصغرى متضمن في الرواية وتشكل وحدة الخطاب، قصة عبد الرحمان صاحب الفندق الذي أقامت به مها بالصويرة، وزوجته. ثم قصة بسمة وخالها صاحب المطبعة بمدينة مراكش. ومن القصص الصغيرة نجد ما يحيل على الواقع الخاص بحياة الطالبات بفاس والرباط.

إن جيوب القصة كما بينت في دراسة سابقة، ذات وظائف متعددة، وتساهم في البناء الخارجي للقصة وتغني المحتوى بالإضافات التي تقدمها معرفيا وسلوكيا. لذلك لا ينبغي إهمالها، أو اعتبارها مجرد خروج عن السياق أو وقفات استراحة.

ويمكن هنا وضع الترسيمة التالية لإبراز التعالق القائم بين مختلف مستويات القصة في الخطاب الروائي عموما، وفي رواية "ما قيل همسا" خصوصا:




هكذا تكون القصص مبنية بناء هرميا، وتتفاعل جميعها من أجل تقديم خطاب روائي منسجم ومنتظم ومسترسل في آن واحد. وتشغل كل واحدة فضاء روائيا محددا. وتقدم كل واحدة شخصيات روائية جديدة. وكل المصاحبات الأخرى؛ اللغة، طريقة السرد، تأثيث المكان، طبيعة الزمان...

4/ السرد:
يمثل السرد الطريقة التي يتم بها تقديم القصص باختلاف أنواعها ومستوياتها داخل الخطاب الروائي. وبالتالي يصبح السرد الصيغة الخارجية للقصة (المادة / الحكاية/ الأفعال/ الأحداث). ويمكن صياغة التعريف هكذا: تروي القصة (ماذا يحدث، ماذا يقال)، ويقول السرد (كيف يحدث، كيف يقال). وطبيعي جدا أن ينتبه القارئ هنا إلى المنظور السردي كما صاغه جون بويون، وجيرار جنيت، وتزفيطان تودوروف.

وفي الإطار ذاته تم تعريف السرد بأنه " العلاقة بين الأحداث والسارد"، وأيضا من خلال العلاقة بين السارد والشخصية الروائية ومدى حضوره أو غيابه في القصة. وانطلاقا من العلاقة الرابطة بين السارد والشخصية الروائية خلص الدارسون في ميدان السرديات إلى تحديد أربعة أنواع من الساردين:

• السارد المميز عن الكاتب ( Intradiégétique).
• السارد الصوت، أو السارد الغائب عن القصة ( Extradiégétique).
• سارد وشخصية روائية في آن واحد ( Homodiégétique).
• السارد الخارجي ( Hétérodiégétique).


وفي رواية "ما قيل همساً" تتعدد الرؤى السردية، وبتعددها تتعدد صيغة تركيب القصة، وتفاعل القصص. وهو ما سنقف عنده للتحليل.

1.4/ الاسترسال:
يعتبر التسلسل السردي والاسترسال من أوجه الصيغة السردية في رواية"ما قيل همسا". وهي صيغة سردية متواترة ومتعارف عليها منذ القديم، لأنها تقوم على الترتيب المنطقي، والسببية،والوضوح. أي أنها كتابة سردية لا تعتمد على التجريب القصصي. وهذا ملمح متقدم من ملامح الكتابة النسائية العربية عموما والمغربية خصوصا. لذلك نجد فيه مضامين كثيرة وأفكار متنوعة ومعرفة أيضا وكأن الكاتبة العربية والمغربية تحاول الجهر بالحقيقة المتعلقة بالذات أو بالواقع والتاريخ.

وما يجعل السرد في رواية اسمهان الزعيم متواترا مسترسلا اعتماده على شخصية روائية محورية (مها الصابر)، وجعله الشخصيات الروائية الأخرى مرتبطة بها وتدور في فلكها. والترسيمة التي أدرجناها أعلاه للقصص تبرز ذلك. هذا فيما يخص القصة المركزية الكبرى. أي قصة مها الصابر وبسام.

2.4/ التناوب:
يعرف جون مشيل آدم التناوب ( L’alternance- entrelacement) بأنه طريقة : "تنمي بالتوازي حبكتين على الأقل". وإذا كانت الحبكة هي الهيكل العظمي للقصة، وهي تتبع الترتيب والتنظيم الخاص بمسار الحكاية. فإننا لا نعثر بصورة مميزة على حبكتين في الرواية، ولكن يمكننا الاجتهاد واعتبار القصص الكبيرة (مها- سلام/ مها- عمار/ مها- أشرف) حبكات موازية للحبكة في القصة الكبرى (مها- بسام). بالرغم من أنها جميعا تصب في معين واحد هو القصة المركزية الكبرى.

3.4/ التضمين:
لا تخلو رواية من التضمين، حيث تتحكم قصة مركزية في قصص أخرى صغيرة أو صغرى مرتبطة بها. وقد اشرنا عند تحديد مستويات القصة في رواية "ما قيل همسا" وهي بالتحديد القصص الصغرى والصغيرة، قصة العبد الرحمان وزوجته. وهي قصة فرعية تعالج قضية المصائر وغرائب الأمور، وقصة زواج أم مها من أبيها، وقدوم أهلها من الشرق العربي والاستقرار بالمغرب، وهي قصة تبحث في الجذور...وهكذا.

إنها قصص لا يمكن أن تكون إلا بفضل سياق القصة المركزية. وهذه العلاقة تتسبب في صيغة التضمين السردي. ويعرف تودوروف ذلك كما يلي:" عندما تحل متوالية سردية محل المتوالية السردية الأولى".

لقد وظفت الكاتبة اسمهان الزعيم كل التقنيات التي تتيحها لها تقنيات السرد الحديثة، من استرسال وتضمين وتجاور. ولكن اعتمادها على صيغة السارد الشخصية الروائية جعل الرواية تقترب من المحكي الذاتي. ويدل على ذلك عنوان الرواية "ما قيل همسا" وهو هنا سرد استرجاعي يدون ما مر على الشخصية/السارد في الماضي، ويدل عليه كذلك تشارك الكاتبة والشخصية في الاسم، فمها جزء من اﺳــمهان. ومأخوذ منه. ويدل على ذلك أيضا ما جاء على الغلاف الرابع :" شاركت في العديد من الملتقيات الشعرية داخل وخارج الوطن، وسيصدر لها قريبا ديوان شعري تتضمن هذه الرواية مقتطفات منه".

بالرغم من التداخل بين السارد والشخصية فإن الرواية ليست سيرة ذاتية، لكن يمكن إدراجها ضمن المحكي الذاتي، أو التخييل الذاتي. وهو ما تؤكده طريقة سرد الوقائع في هذه الرواية.

5/ مستويات المحكي:
للمحي الروائي ( Récit) مستويات متعددة تختلف باختلاف المحتوى والصيغة والنوع. وسنحاول الوقوف هنا على بعض مظاهره في رواية "ما قيل همسا" وهي رواية تتيح للدارس هذه الإمكانية، نظرا لطريقة كتابتها، وسردها التخييلي والذاتي، ووضعية السارد فيها الذي لا يبتعد خارج النص بل يقيم فيه ويشارك في بنائه لغة وأسلوبا وأفعالا.

1.5/ المحكي الذاتي:
من مظاهره الأسلوبية "الرسالة" و"المذكرات". وهما معا يكتبان بضمير المتكلم "أنا". وتحتل الرسالة مكانة مهمة جدا في الرواية لأنها كانت المساعد على تحمل لحظات الفراق والقلق القاسية. وتكشف الكاتبة من خلال الرسائل عن أنماط سلوكية مختلفة للأشخاص. وغالبا لا تدرج الكاتبة الرسالة في الرواية بل يتحدث عنها بأسلوبها ولغتها وضمير المتكلم. وقليلا ما تدون نماذج من تلك الرسائل. مما يوحي بأن الرسالة هنا ليست مقصودة لذاتها كنوع أدبي، بل المقصود وظيفتها الاجتماعية والترفيهية.

أما المذكرات فقد قدمت منها الكاتبة جزءا من مذكرات عمار يروي فيها أسباب خروجه من وطنه لينخرط في صفوف المناضلين المنافحين عن كرامة الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية والاستقلال. ويحكي فيه عن مراحل تدرجه في التعليم، وإقامته متنكرا بين الإسرائيليين حيث سيتعرف على كلارا المناهضة للفكر العنصري وسياسة التقتيل. وقد سلم عمار مها هذه المذكرات بعد لقائهما بأثينا في اليونان عند مغادرتها نحو أرض الوطن.

إن المحكي الذاتي يبدو واضحا في رواية "ما قيل همسا"، سواء أكانت بضمير المتكلم عندما تروي مها عن نفسها وعن علاقتها ببسام، وعن المعيقات التي تحول بين اكتمال تلك العلاقة التي تصفها على لسان إحدى الشخصيات الروائية كالتالي:" قد لا تصدقون، لكنها الحقيقة، أنا من يعرف بسام جيدا وهو يصدقني القول دائما. إن صديقته المغربية أشرف من أن تكون عشيقة أحد، قد يعشقها ويحبها ويعزها لكن لم تجمعهما نزوات الجسد، إنها فتاة نادرة، متعففة، ورغم مظهرها العصري، فهي متدينة وإن كانت لا ترتدي حجابا، تصلي وتصوم، وقد رأيته يوما مع بسام في إحدى المعارض التشكيلية، أذكر أنه كان معرضا للفنان "القاسمي"، وهي فتاة جميلة تقرأ في ملامحها العفوية صفاء سريرتها. وتشدك نظراتها الهادئة الحالمة بجاذبية غريبة." ص (176).
...

* ناقد من المغرب ــ الرباط/سلا.



#اسمهان_الزعيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحب كائن هش ومهزوم في الرواية العربية
- الأرجوحة
- صمتا.. لتعرج الحكاية
- المعطوف عليها
- شعر
- لوعة البياض
- قصة قصيرة جدا


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اسمهان الزعيم - محكيات الروائية المغربية اسمهان الزعيم