أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد عادل زكى - الاقتصاد السياسى للصراع فى السودان















المزيد.....



الاقتصاد السياسى للصراع فى السودان


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 3824 - 2012 / 8 / 19 - 15:23
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


التحرر من الوطن
الاقتصاد السياسى للصراع فى السودان



من أجل رولا



". . . . ومِن الغَلطِ الخَفّىّ فى التَاريِّخ الذُهول عَنْ تَبَدلِ الأحوَالِ فى الأمم والأجْيَّال بتبدلِ الاعْصَار ومُرور الأيام وهو داءُ شَديدُ الخَفاء إذ لا يَقع إلا بَعدَ أحقابٍ مُتطاولة فلا يَكاد يَتَفَطنُ لهُ إلا الآحَاد مِن أَهلِ الخَليّقةِ والسببُ الشَائع فِى تَبَدل الأحوَال والعوُائدِ أنَ عوائدَ كُل جِيلٍ تابعةٌ لِعوائدِ سُلطانِهِ كمَا يُقال فِى الأمثَال الحُكْمِيّة النَاس عَلى دِينِ المَلِكِ وَأهل المُلك أو السلْطَان إذْ استوْلُوا علّى الدّولةِ والأمْر فلابُد مِن أن يَفزَعوُا إلى عوائدِ مَن قَبلَهم ويأخُذوا الكَثيرَ مِنهَا ولا يُغفلون عَوائدَ جِيلِهم مَع ذَلك فَيقَعُ فِى عَوائدِ الدْولَةِ بَعضُ المُخالَفة لعَوَائِدِ الجِيلِ الأول فَإذا جَاءت دَولةٌ أخْرَى مِن بَعدِهم مَزَجَت مِن عَوائِدِهم وعَوَائِدِهَا وخَالَفتْ أيّضاً بَعض الشيّء وَكَانتْ للأولى أَشدُ مُخَالفة ثُمَ لاَ يَزالُ التدريجُ فِى المُخالفةِ حتْى يَنْتَهىّ إلى المُبايّنةِ بالجُملة فمَا دَامَت الأمْمُ والأجيّالُ تَتَعاقبُ فِى المُلكِ والسُلطان لا تَزَالُ المُخَالفة فِى العَوائدِ والأحوَال واقِعَة والقيّاس والُمُحَاكَاة للانسانِ طبيعة مَعرُوفة ومِن الغَلطِ غَير مَأمُونَة تُخرجُهُ مع الذُهول والغَفلة عَنْ قَصدِهِ وتَعوَج بهِ عَن مَرامِه فَلرُبَما يَسْمُعُ السامعُ كثيراً مِن أخباِر الماضيَّن ولا يَتَفَطنُ لما وَقعَ مِن تَغيُّر الأحوَالِ وإنْقِلابِها فيُجْريّهَا لاول وَهلةٍ على مَا عَرفَ ويَقِيسَهَا بما شَهِد وقد يَكونُ الفرقُ بيّنَهُما كَثيراً فيَقُعُ فِى مهواةٍ مِن الغَلطْ."
ابن خلدون











المحتويات
مدخل ............................................................................................................................. 4
أولاً: الهيكل والجغرافيا ..........................................................................................................9
1- الهيكل الاقتصادى .................................................................................................. 11
2- الجغرافيا ............................................................................................................ 24
ثانياً: الكل التاريخى ........................................................................................................... 31
1- القرن التاسع عشر ................................................................................................. 31
2- الحركات الوطنية فى السودان .................................................................................... 41
ثالثاً: التكوين الاجتماعى فى تطوره عبر الزمن ............................................................................ 44
1- الصراع على الأرض ............................................................................................. 44
2- القاعدة السكانية المتنوعة .......................................................................................... 45
3- التصنيف الطبقى بعد الاستقلال ................................................................................... 46
4- التصنيف القبلى .................................................................................................... 48
5- ملاحظات حول التكوين الاجتماعى السودانى فى تطور عبر الزمن ........................................... 53
6- الصراع فى الشرق ................................................................................................ 54
رابعاَ: الصراع الاقتصادى والاجتماعى الراهن ............................................................................. 70
1- ما بعد الانفصال .................................................................................................... 74
2- أثر انفصال الجنوب فى الشمال ................................................................................... 74
3- أثر انفصال الجنوب فى الجنوب نفسه..............................................................................75
الخلاصة ........................................................................................................................ 76
أهم المصادر ................................................................................................................... 78








مدخل:
(1)
المثل التقليدى(1)الذى أضربه لشرح فرضيتى الخاصة بظاهرة (تجدد إنتاج التخلف) الاقتصادى والاجتماعى هو: إن جميع مجتمعات النظام الرأسمالى الدولى المعاصر، المتخلفة منها والمتقدمة، لا تكف عن الإنتاج؛ ومن ثم يتعين أن يتجدد هذا الإنتاج على نحو يضمن تجدد إنتاج البشر أنفسهم، وفلنفترض أن المجتمع (ويهمّنا هنا المجتمعات المتخلفة، ومنها السودان) فى لحظة تاريخية معينة وتحت ظروف إجتماعية محددة، يدخل العملية الإنتاجية على صعيد "الكُل" الاقتصادى بمبلغ (30) مليار وحدة من النقود (بالمعنى الواسع لكلمة نقود) موزَعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة (الزراعة، والصناعة، والخدمات) التى يتكون منها الهيكل الاقتصادى، بواقع (10) مليار لكُل قطاع ويتم توزيع هذه المليارات العشرة على النحو التالى: (5) وحدات لشراء أدوات العمل، و(3) وحدات لشراء مواد العمل،و(2) وحدة لشراء قوة العمل؛ وهكذا الأمر فى كل قطاع، وفى نهاية الفترة وبإفتراض أن القيمة الزائدة المنتَجة فى كل قطاع من القطاعات الثلاثة=100%،أى أن الرأسمالى يدفع لقوة العمل (2) وحدة ويتلقى مقابل هذه الـ(2) وحدة عملاً يساوى (4) وحدة؛ أى يأخذ (2) وحدة قيمة زائدة. فسيكون لدينا ما يلى:
القطاع الزراعى: (5 أدوات العمل) + (3 مواد العمل) + (2 قوة العمل) +(2 قيمة زائدة) = (12)
القطاع الصناعى: (5 أ ع) + (3 م ع) + (2 ق ع) + (2 ق ز) = (12)
قطاع الخدمات: (5 أ ع) + (3 م ع) + (2 ق ع) + (2 ق ز) = (12)
ووفقاً لمثلنا أعلاه فلقد حقق المجتمع زيادة فى القيمة، أى أنه بدأ بـ (30) مليار وحدة، وفى نهاية الفترة صار لديه (36) مليار وحدة. فأين تذهب تلك الـ (6) مليارات وحدة الزائدة؛ والتى أنتِجَت بداخل الاقتصاد القومى فى فترة زمنية محددة؟ تلك هى الإشكالية المركزية.
فى البداية يتعين علىّ، فى سبيل تقديم طريقة إجابة، أن أبرز هنا ثلاث ملاحظات تتعلق بالفرضية المقترحة؛ الأولى: أن القيمة الزائدة ليس حقل إنتاجها المصنع فحسب، كما تقول كراسات التعميم والموجزات الأولية، وإنما هى موجودة فى النظام الرأسمالى بأكمله، ليس فى حقل الصناعة فقط وإنما كذلك فى باقى القطاعات التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، أى فى قطاع الخدمات، والزراعة أيضاً، فلا فارق بين إنتاج القيمة الزائدة فى مصنع لانتاج الحديد والصلب وبين إنتاجها فى مكتب للمحاسبة يعمل فيه عشرات المحاسبين بأجر. فالعامل لا يُنتِج فى المصنع فقط قيمة زائدة، وإنما يُنتج المهنى، كالمحاسب والمحامى، أيضا قيمة زائدة فى المكتب أو المؤسسة التى يعمل فيه بأجر ويقدم خدمات، وبالطبع فى قطاع الزراعة يُنتج العامل الزراعى قيمة زائدة مثله مثل العامل فى قطاع الصناعة، وكالمهنى فى قطاع الخدمات. وتلك هى القاعدة العامة فى النظام الرأسمالى؛ كما سنوضح، حالاَ، فى الملاحظة التالية. فالملاحظة الثانية مؤداها: إن إنتاج القيمة الزائدة يجب ان يُنظًر إليه نظرة عِلمية، فهو ليس رذيلة تماماً، وإنما النظام الرأسمالى لا يُمكن أن يعمل بدونه، فهو القانون العام الحاكم لعمل الرأسمال، أياً ما كــان حقــــــل توظيفه (الزراعة، أوالصناعــة، أوالخـدمات) ومن هنا يجـب مراجـعة الخطـــاب
---------------------
(1) لمزيد من التفصيل أنظر كتابى: الاقتصاد السياسى للتخلف (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012).
الأيديولوجى الدعائى ضد الرأسمالية. فأياً ما كانت شرور الرأسمالية، وهى بلا ريب كثيرة ظاهرة، فيجب علينا أن نُقدر كل حضارة تقديراً موضوعياً بعيداً عن الأهواء، ونبحث فى الوقت ذاته عن القانون الموضوعى الحاكم لعمل النظام ككل، والقانون العام الذى يَحكم عمل النظام الرأسمالى هو قانون القيمة.
ومن هنا؛ ومن هنا فقط قد نتمكن من فهم النظام بل والقضاء على آثامه وشروره، بل ورسم المشروع الحضارى لمستقبل آمن لاجيال لم تأت بعد؛ ونتحمل أمامها المسئولية كاملة. أما الملاحظة الثالثة فهى: إن العملية الإنتاجية بالمعنى العام تحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة مثل: الأرض، والفكرة، والإدارة، والنقل...إلخ؛ بيد أن تلك الأمور تأتى فى مرتبة أو مرحلة إتمام المنتَج، وهى مهمة من زاوية ما من أجل"تسيير" العملية الإنتاجية، وهى، فى نفس الوقت، ثانوية وغير مؤثرة فى عملية زيادة القيمة، إذ لا تزيد القيمة إلا بقدر دخول عنصر العمل الحى أو المختَزن فى العملية الإنتاجية والذى من شأنه أن يُزيد القيمة(2). ولكنه سوف يزيد قيمة على السلعة الجديدة وليس القديمة، فالنقل مثلاً لا يزيد قيمة السلعة، وإنما يمكن لعملية النقل خلق قيمة فى حقل صناعة النقل نفسه.
ان الوعى بملاحظاتنا الثلاث تلك يجعلنا نتقدم بإطمئنان نحو تقديم طريقة إجابة على سؤالنا المطروح بشأن أين تلك تذهب القيمة الزائدة المنتجة بداخل الاقتصاد القومى خلال فترة زمنية معينة، وسيكون هذا السؤال محل إنشغالنا عبر صفحاتنا، وإنما إبتداءً من سعينا لتقديم طريقة للإجابة عليه، وليس إجابة؛ إذ أننا نرى أن الإجابة على أى سؤال مطروح ليست بأهمية طريقة الإجابة، فما يعنينا ليس الإجابة، وإنما الطريق الذى يسلكه الذهن من أجل إنتاج هذه الإجابة.
فلنترك، مؤقتاَ، هذه الأفكار وهذه الملاحظات وهذا السؤال؛ ولنتخذ من المسألة السودانية نموذجاً نسعى من خلاله إلى تقديم طريقتنا المقترحة للإجابة، فلنذهب إلى السودان، وفى أذهاننا مثلنا التقليدى؛ فلنفترض أن المجتمع السودانى هو الذى بدأ العملية الإنتاجية على مستوى "الكل" الاقتصادى بقطاعاته الثلاثة (الصناعة والزراعة والخدمات) بـ (30 مليار) وحدة، وهى مزوعة على القطاعات الثلاثة بواقع (10) وحدات لكل قطاع.
وفلنفترض أيضاً أن القيمة الزائدة تبلغ 100%، أى أن "الكل" الاقتصادى السودانى بدأ السنة الإنتاجية بـ (30) مليار وحدة، وفى نهايتها وجد لديه (6) مليار وحدة زائدة وفق المثل أعلاه، حينما قمنا بتوزيع الـ (10) مليار وحدة المخصصة لكل قطاع على قوى الإنتاج المستلزمة للعملية الإنتاجية وهى (قوة العمل، ومواد العمل، وأدوات العمل) وعلى ذلك يكون كل قطاع قد أنتَج (2) مليار وحدة زائدة، أى (6) مليار وحدة زائدة على مستوى "الكل" الاجتماعى. فأين تذهب هذه القيمة الزائدة التى أنتجها المجتمع السودانى خلال فترة زمنية معينة، طبقا لمثلنا أعلاه؟ هذا هو سؤالنا المركزى؛ ولنذهب إلى السودان من أجل تقديم طريقة إجابة عليه. أننى أحدد هدفى منذ البداية وأجعله محدداً بالبحث فى خط سير القيمة الزائدة التى ينتجها المجتمع فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر؛ والتى ينتجها المجتمع السودانى على وجه الخصوص.
---------------------
(2) قارن:"... كيف تُضاف هذه القيمة الجديدة؟ ذلك بأن تضاف إلى تكاليف الإنتاج، أولاً: تكاليف النقل، وثانياً: ربح الرأسمال الذى أنفقه التاجر. وتزداد قيمة السلعة لنفس السبب الذى يمكن أن تزداد به قيمة أى سلعة أخرى، وذلك لأن عملاً أكثر قد أنفق على إنتاجها ونقلها قبل أن يشتريها المستهلك. إلا أن ذلك ليس من حسنات التجارة".

David Ricardo, The Principles of Political Economy and Taxation, Barnes&Noble.New York 2005
(2)
شهد المجتمع السودانى، على الصعيد السياسى، خلال عام 2010 حدثين مهمين: فمن ناحية ألقت الانتخابات الشاملة التى أُجريت فى شهر أبريل من ذلك العام بظلالها على الشارع السودانى من الشمال إلى الجنوب، ومن شرقه إلى غربه؛ إذ أعتبرت تلك الانتخابات بمثابة أول إنتخابات حرة حقيقية يشهدها المجتمع السودانى منذ حصوله على الاستقلال فى الأول من يناير عام 1965، فلم تكن إنتخابات أبريل بالانتخابات العادية، بل إتجهت لها أنظار المجتمع الدولى بأسره، فهى أكبرعملية إنتخابية تحدث فى بلد لم يعرف قط معنى الديمقراطية منذ إستقلاله عن التاجين المصرى والبريطانى، إذ أجريت تلك الانتخابات بشكل شامل على ستة مستويات: بدءً من إنتخاب رئيس الجمهورية، ثم رئيس حكومة الجنوب، وحُكام الولايات، والمجلس الوطنى، ومجلس الجنوب التشريعى، ومجلس الولاية التشريعى.(3)
ومن ناحية أخرى شهد المجتمع السودانى مجموعة من الإجراءات من أجل الاعداد لقرار مصيرى يتعلق بقرار يتخذه الشعب يُحدد على أساسه مستقبل البلاد، إذ كان على المجتمع السودانى أن يُقرر إما رفض إنفصال الجنوب عن الشمال، وإما قبوله (وهو ما تم عملاً فى يناير 2011) وبالطبع فى ضوء تصاعد التوتر فى العلاقة السياسية ما بين حزب المؤتمر الوطنى(الشمال) وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان(الجنوب) وتزايد الاحتمالات بعدم إجراء الاستفتاء فى موعده بفعل حكومة النظام التى ترى الانفصال بمثابة تهديد مباشر لحكمها فى الشمال فى المقام الأول، وبصفة خاصة بعد أن بسطت الحركة الشعبية المعزَزة بالجيش الشعبى كامل سيطرتها على كل الجنوب سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً، بيد أن الأمر الواقع فرض نفسه وبمنتهى القوة على جميع الدعاوى المثالية غير المبررة والتى كانت تنادى بالوحدة وتتباكى عليها، إذ فرض الأمر الواقع نفسه، وإستطاع الجنوب(بكل خصوصية تركيبته الاجتماعية المتناقضة) أن يظفر بالاستقلال عن الشمال، ولكى تبدأ سلسلة أخرى، فى الواقع لا تبدأ، وإنما تستمر سلسلة من الصراعات المسلحة فى دولة الجنوب المستقلة، جوبا، ولكن من دون تورط حكومة الشمال، ظاهرياً، حتى الآن على الأقل.
فى العام نفسه، وبعد العديد من المناورات السياسية والخلافات والضغوط المتبادلة، تمكنت القوتان الكبيرتان اللتان تحكمان البلاد(حزب المؤتمر الوطنى، والحركة الشعبية لتحرير السودان) من الوصـول إلى إتفاق يتـم بمقتضاه تقنين عمليـة الاستفتاء على تقرير المصير، إذ توصـل هذا الائتلاف الحاكم إلى حلول لبعض المشكلات الجوهرية التى مثلت عقبة دائمة فى وجه المفاوضات، أهمها تلك المشكلة المتعلقة بالنسبة المئوية اللازمة فى التصويت لإعتبار الاستفتاء(على الانفصال) صحيحاً قانوناً، وعملاً فقد تم الاتفاق على إعتبار مشاركة 60% من المسجلة أسمائهم نسبة كافية لإعتبار الاستفتاء صحيحاً قانوناً، كما أقر الاتفاق بين الحزب وبين الحركة إعتبار الانفصال قانونياً إذ ما تم بنسبة 50 + 1، وقد مضت الأيام، وتم الاستفتاء كما أراد الجنوبيون، وربما البعض من أهل الشمال، وصرنا الآن أمام حقيقة إجتماعية تشكلت على أرض الواقع مفادها أننا أمام دولتين: السودان فى الشمال، وجوبا فى الجنوب، والصراع بين الدولتين صار صراعاً معلناً على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية. فمالذى يَحدث فى الســودان؟ ولماذا الصراع بين الشمال وبين الجنــوب؟ ولمَ الصراع بين القبائل نفسها وبخاصة
---------------------
(3) للمزيد من التفاصيل أنظر: التقرير الاستراتيجى العربى2010 (القاهرة: مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. القاهرة، 2010 ) ص187-194.
قبائل الجنوب؟ وعلى ماذا؟ و لأجل ماذا؟ ومَن المستفيد ومَن الخاسر؟وإن إشكالية الاشكاليات تلك المتعلقة بالانفصال. فما هو موضوع الانفصال هذا؟ وما هى النتائج المتصور ترتبها عليه؟ وما الذى دفع المسألة لمثل هذا الطريق؟ ومَن المسئول عن كُل تلك الصراعات القبلية والحروب الداخلية؟ ومَن المستفيد؟ ومَن الخاسر؟ ولماذا لم يكن هناك سودانيين، أحدهما شمالى وأخرهما جنوبى، على يد الإحتلال البريطانى، طالما عامل الاستعمار الجنوب كإمتداد للمستعمرات فى شرق أفريقيا، والشمال كإمتداد لمصر؟ وغيرها من الاسئلة التى تتعلق بتاريخ السودان ومستقبله فى ضوء حاضره.
(3)
تظل تلك الأسئلة حائرة، وعلى رأسها سؤالنا المركزى المنشغل بخط سير القيمة الزائدة التى أنتجها المجتمع السودانى خلال فترة زمنية معينة. وستظل هذه الأسئلة هكذا حائرة إذ لم نفطن إلى أن الإجابة عليها (ونكرر إن الذى يعنينا هو طريقة الإجابة؛ وليس الإجابة فى ذاتها، ونكرر دوماً أن الإجابة الصحيحة تكون نتيجة طريقة تفكير صحيحة) نقول ان الإجابة، بمعنى طريقة الإجابة، تعتمد على مدى قدرتنا على إستخدام الأدوات الفكرية التى يمدنا بها عِلم الاقتصاد السياسى من جهة، ومدى وعينا بأهمية التحليل الجدلى للظاهرة محل البحث، من جهة أخرى؛ وعلى ذلك سوف نقوم بأربع خطوات فكرية على النحو التالى:
(أ) التعرف على الواقع الاقتصادى الآنى، بالتعرف على طبيعة وحقيقة الهيكل الاقتصادى السودانى. الأمر الذى يستلزم التعرف على مُجمل الوضع الجغرافى. ويتبدى وجه اللزوم هنا فى التأثير الحاسم لعنصر الجغرافيا فى مجمل النشاط الاقتصادى فى المجتمع السودانى، من جهة، ومن جهة أخرى فإن الجغرافيا لها الدور الرئيسى فى حروب القبائل، والولايات، بل والأقاليم، إذ ما إعتبرنا أن الشمال والجنوب هما بمثابة إقليمين كان يتكون منهما السودان فيما سبق.
(ب) مُعاينة الكُل التاريخى الذى تُرد إليه المسألة، بحثاً فى الجذور وعنها، وإنما إبتداءً مِن (إقتصاد سياسى) وليس (تاريخ). فلن ننشغل كما يفعل البعض "برصّ" المعلومات التاريخية دون معنى يمكن إستخلاصه، وسنبدأ من موضوع نفترض أنه صحيح للاقتصاد السياسى كعِلم نمط الإنتاج الرأسمالى(4) وإنما إبتداءً من قانون القيمة. ومن ثم سيكون من المفهوم لماذا نبدأ المناقشة إبتداءً من الحركة الاستعمارية الدامجة للمجتمع السودانى بكل خصوصيته فى النظام الرأسمالى الناشىء آنذاك، من أجل تعبئة الفائض من المواد الأولية نحو الخارج.
(ج) التقدم خطوة إلى الأمام بفحص التكوين الاجتماعى فى تطوره التاريخى فى البلد المراد التعرض للإشكالية المثارة بداخله، فإن إستقام لنا الطريق لتلك الخطوات، كان لنا أن نتقدم فى إتجاه خطوتنا الفكرية الرابعة.
(د) وفيها ننشغل بتكوين الوعى حول طبيعة وحقيقة الصراع الجدلى الراهن، وتطوره على الصعيد الاجتماعى. والمنهج ذاته وخطواته تلك نفسها، يمكن إعمالهما على جُل بلدان قارتى (أفريقيا وأمريكا اللاتينية بوجهٍ خاص) للخصوصية التاريخية التى تشترك فيها بلدان القارتين. ولنر ذلك بشىء من التفصيل.
---------------------
(4) لم يظهر عِلم الاقتصاد السياسى كعِلم مُستقل عن باقى العلوم الاجتماعية، إلا بتبلور مجموعة من الظواهر على صعيد (الواقع) الاجتماعى، لم يعهدها المجتمع قبل ذلك، فتشكل على صعيد (الفكر)منظومة من شأنها التعامل النظرى مع هذه الظواهر بتقديم التفسير العِلمى الصحيـح لها. وهو الأمر الذى إستدعى ظهور الاقتصـــاد السياسى، كعِلم، كى يتولى التعامل مع الظــواهر الوليدة، الآخـــذة =















---------------------
= فى التشكل، فى هذا المجتمع الجديد، والتى تدور جميعها فى فلك واضح ومحدد بدقة، آلا وهو فلك الإنتاج من أجل السوق من خلال الألة. بما يعنى ضرورة ظهـــور عِلم إجتماعى ينهض بتفسير جدلية وهيكل تلك العملية الاجتماعيـــــة التى تدور بأسرها حــــــول القيمة، والقيمة الزائدة، بالتبعية لدورانها حول محور الإنتاج من أجل السوق من خلال الألة. كان من الطبيعى إذاً أن يظهر الاقتصاد السياسى(كعِلم) كى يَشرح للمجتمع ما الظاهرة وما القانون الموضوعى الحاكم لها. وهذا ما تبدى فعلياً على صعيد الإنتاج الفكرى، بدءً من فرنسوا كينيه، ووليم بتى، ومروراً بالكلاسيك وعلى رأسهم أدم سميث، وديفيد ريكاردو، كأول تنظير رأسمالى للرأسمالية نفسها، وإنتهاء بماركس، كمراجعة وإعادة نظر فى مُجمل الجسم النظرى للاقتصاد السياسى، والذى تم إنجازه على يد الكلاسيك تحديداً. وهذا هو عِلم الاقتصاد السياسى الذى أفهمه، كعِلم منشغِل بالقوانين الحاكمة للإنتاج والتداول والتوزيع وإنما إبتداءً من ظاهرة القيمة، وقانون القيمة الزائدة، فى النظام الاقتصادى الرأسمالى. وأشير هنا إلى أنى أنظر إلى التواصل التاريخى الذى يُلقّن للطلاب، فى معظم المؤلفات الجامعية، ومن ثم النظرية الرسمية، التى تتناول تاريخ الفكر الاقتصادى بوجه خاص، كمرحلتين منفصلتين تمام الانفصال بل ومتناقضتين، أى أرى أن ثمة قطيعة معرفية، لا تواصل كما يُلقّن للطلاب، تمت بعد صدور المجلد الثانى من كتاب "رأس المال" الذى أنجزه ماركس، وراجعه فريدريك إنجلز عام 1885 فى هامبورج. وبمقتضاها تمت عملية منظمة مؤسسياً أدارت النظر من حقل الإنتاج إلى حقل مختلف تمام الاختلاف هو حقل التداول، أى نقل الإهتمام من المصنع إلى السوق، وإنما إبتداءً من إرساء دعائم لفن جديد من فنون تسيير الاقتصاد، كما يُطلِق عليه سمير أمين (أطروحة باريس 1958، التراكم على الصعيد العالمى) "فن تسيير"، يستلهم وجوده من قشور الفكر الكلاسيكى لدى سميث وريكاردو، ويدّعى نسبته إليه! وعلى وجه خاص تكمن أهمية إستدعاء أصول عِلم الاقتصاد السياسى كما وضعه مؤسسوه كى نفهم من خلال أدواته مجريات الأمور على صعيد النظام الاقتصادى الرأسمالى العالمى المعاصر؛ فى تفسير المرحلة الصاعدة للأجزاء المتخلفة؛ ومن ثم تفسير أداء المرحلة الهابطة للأجزاء المتقدمة، لأن ذلك هو بالفعل ما يحدث على صعيد التطور الاجتماعى والاقتصادى بل والسياسى على مستوى العالم بأكمله؛ حيث تأخذ الأن بعض الدول فى مرحلة الصعود، وتأخذ أخرى فى مرحلة الهبوط، وما كل ما يظهر على السطح من تمكاسك وقوة تلك الاقتصاديات الآخذة فى الهبوط إلا مسكنات تُخدر الوضع الحالى وتسعى بكل قوتها إلى تثبيته قدر المستطاع. ولذلك ولأن الأجزاء المتخلفة هى فى مرحلة تطور مرت به منذ عدة قرون الأجزاء المتقدمة، أى أن تلك الأجزاء المتخلفة تحياً فعلياً من الناحية الإنتاجية/التاريخية فى القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وهى تلك الأزمنة التى شهدت نضج عِلم الاقتصاد السياسى، فإنه بعث إحياء ذلك العِلم من مرقده كى نستخدم أدواته الفكرية من أجل فهم ما يحدث الآن من صعود البلدان المتخلفة (وطبعاً من أجل فهم تأخرها عدة قرون على هذا النحو) ومن أجل أيضاً فهم ما يحدث الآن من هبوط البُلدان المتقدمة (وطبعاً من أجل فهم تقدمها عدة قرون على هذا النحو) ولن يكون كل ذلك إلا من خلال (قانون القيمة) كما ناقشه سميث، وريكاردو، وماركس.
الخطوة الفكرية الأولى: الهيكل(5) والجغرافيا
مقدمة
يمكن القول بأن الفترة 2000- 2004 (وهى إنتقائية لكَونها مُتاحة نسبياً ومتفقة أرقامها تقريباً فى معظم المصادر التى رجعت إليها) للرصد الإحصائى والتحليل مِن خلال أدوات الاقتصاد الكلى؛ وصولاً إلى معاينة الهيكل الاقتصادى السودانى, نقول بأنه يُمكن القول بأن تلك الفترة قد شَهِدت, طبقاً للأرقام الرسمية التى يَتعين معها الحذر لأمرين: أولهما: إعتناقها المتوسط الذى يُخفى أكثر مما يُظهر, وثانيهما: أنها صادرة عن مؤسسة (الحُكم) فى السودان والمنظمات الدولية التى يَستعين بها رأس المال إستقداماً أو إستبعاداً، كما نقول دوماً، مِن أجل مصالحه العابرة للقارات. نقول شهدت تلك الفترة إستقراراً نسبياً فى الأداء الاقتصادى بوجه عام, حيث تحققت مُعدلات نمو موجبة (تبعاً لأرقام مؤسسة الحكم السودانية والمنظمات الدولية المعنية) إذ بَلغت مُعدلات النمو تلك (فى المتوسط) حوالي 6.6% (كى تنخفض إلى 4,2 مع أرقام 2009) وقد تَناغم هذا النمو مع دخول النفط بشكل قوى فى هيكل الإنتاج مع إرتفاع أسعاره العالمية، كما أن تطورت نسبة مساهمته فى الناتج المحلى الإجمالى لتصــل إلى ما يقارب مِن 11% فى عام 2004، كذلك تنامت الاستثمارات الخارجية المباشرة التى تُمثل حـوالى 7.5% من الناتــج المحلى الإجمالى، وتُقدِر الأرقام الرسمية والدولية مُعدل نمو الناتج المحلى الإجمالى بحوالى 7.2% فى العام2004، ويمكن إرجاع هذا النمو إلى النمو الحاصل فى مجموعة من القطاعات أهمها:القطاع الصناعى(ويشمل الصناعات التحويلية) إذ إزدادت فى 2004 نسبة مساهمته فى الناتج المحلى الإجمالى بنحو(25,4%) بالنسبة للقطاع الصناعى، ونحو 8,2 بالنسبة للصناعات
مساهمة القطاعات فى الناتج المحلى الإجمالى خلال الفترة 2000-2004
البند (%) من الناتج المحلى الإجمالى 2000 2001 2002 2003 2004
(1) القطاع الزراعي 46 45.6 46.0 45.6 44.5
الزراعة المروية 12 12.4 12.7 12.4 11.9
الزراعة المطرية الآلية 1 1.1 1.2 2.2 2.8
الزراعة المطرية التقليدية 8 6.2 8.1 7.3 7.1
الثروة الحيوانية 22 21.7 20.9 20.8 19.8
الغابات 2 2.1 2.0 3.0 3.0
(2) القطاع الصناعي 21 22.8 22.1 24.1 25.4
التعدين والنفط 8 8.7 9.1 9.6 10.8
الصناعات التحويلة 7 7.9 7.9 8.2 8.2
الكهرباء والمياه 2 1.7 1.7 1.6 1.6
البناء والتشييد 5 4.5 4.4 4.7 4.8
(3) قطاع الخدمات 22 31.6 20.9 30.2 30.1
الخدمات الحكومية 6 6.0 5.9 5.7 6.0
خدمات أخرى 26 25.6 25 24.5 24.1
المصدر: وزارة المالية والاقتصاد الوطنى – الادارة العامة للسياسات الاقتصادية والبرامج
---------------------
(5) إعتمدت فى سبيل إستعراض الهيكل الاقتصادى السودانى على التقارير الآتية:
CIA- The world fact book (2002) (2003) (2004) (2005) Human Development Report (2003) (2004) Report of the World Social Situation (2008) World Development (2001) World Economic Outlook (2002) (2003)
- التقرير السودانى السنوى الخامس (2004)
- تقرير بنك السودان المركزى (2005)؛ (2008) و(2009)
- التقرير الاستيراتيجى الأفريقى، مركز البحوث الأفريقية. الطبعة الأولى، جامعة القاهرة 2006-2007
بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية الآتية:
(www.mof.gov.sd/arabic/socialeconomy_program.htm) (www.Aljazeera.net) (www.Arabo.com) http://www.Coptichistory.org)) ((www.Islamstory.com) (www.Sudan.gov.sd) (www.Sunanews.net
التحويلية، كما إزدادت مساهمة قطاع الغابات بنحو 3,0% من إجمالى الناتج المحلى. أيضاً قطاع الخدمات والذى شهد طفرة بأن يحقق نحو 30,1% بعد أن كان 22% فى 2000.
ومِن جهة أخرى، فإن: الجفاف...الحروب الأهلية...التصحر...أعمال العنف...التدهور المستمر، وبخاصة فى الأقاليم البعيدة، كبحر الغزال، وأعالى النيل, ربما هى الرموز السحرية المتعين إستخدامها لفهم العديد مِن المظاهر المتعلقة بالتركيبات السكانية فى السودان ولكن منظوراً إليها, على الأقل وفقاً للمراحل المنهجية, مِن جهة السكان كقوة عمل؛ والأرقام تَعكس مجموعة مِن الحقائق التى تَشكلت على أرض الواقع؛ فطبقاً لإحصاء سكانى, صادر فى عام 2002 عوَل عليه التقرير السودانى السنوى الخامس(وهو مِن ضمن قائمة المصادر التى نستند إليها بشكل رئيسى) فإن الذكور يُشكلون نحو 50.3% مِن إجمالى السكان، والإناث نحو 49.7% كما أن السكان فى المدينة يُشكلون 32% مِن جملة سكان الولايات الشمالية، بينما يُشكل سكان الريف 65% ومجموعات البدو الرحل حوالى 3% فقط، وهذا يعنى أن حوالى 65% على الأقل من السكان (البالغ عددهم 39,1 مليون نسمة؛ طبقاً لأرقام 2008) لا يزال يعيش فى الريف.
ولا يَعكس الارتفاع فى عدد سُكان المدينة نمواً حقيقياً بقدر ما يَعكس تدفق الملايين مِن النازحين مِن الأرياف هرباً مِن الفقر أو الحرب أو الاضطهاد الدينى أو العرقى، الأمر الذى يعنى عبئاً مضافاً على عاتق الريف لإطعام العدد المتزايد مِن السكان فى المدينة. هذا وقد بلغت نسبة من هم تحت خط الفقر 40%.
وإن الأرقام تَعكس مِن جهة أخرى أن حوالى 46.6% مِن السكان هم مِن الفئات العمرية الأقل مِن 14سنة, والفئة الأقل مِن 5 سنوات وحدها تُشكل حوالى 17% مِن السكان. وإذا أضفنا الى ذلك الفئة العمرية 60 عاماً فما فوق، فإن هذه الوضعية,لا شك, تستصحب عدة أزمات على صعيد المجتمع، وبصفة خاصة تواجه الحكومة من جهة الخدمات العامة (صحة، تعليم، أمن،. . . .) وأيضاً حين توزيع الناتج القومى!
وطبقاً لإحصاء يَعود إلى عام 1993 (وهو المتوفر، ويمكن أن نسترشد به) فإن حجم القوى العاملة يُقدر بنحو 34% مِن إجمالى السكان بمُعدل نمو أقل مِن مُعدل نمو السكان؛ وحسب أرقام مؤسسة الحكم فى السودان فإن إجمالى القوة العاملة يُقدر بنحو 28% مِن السكان فى عام 1998 (2.7مليون فى المدينة, وحوالى 5.7 مليون فى المناطق الريفية) وذلك يُشير الى أن 68% (بلغ 80% مع أرقام 2009) مِن القوى العاملة تعمل فى مجالات الزراعة والرعى والنشاطات المرتبطة بهما, أما البقية فتعمل فى نشاطات صناعية مرتبطة بالزراعة، أو الخدمات. مفاد ذلك أن الصراع هنا يأخذ شكل الصراع بين الملكية العقارية الكبيرة وبين المزارعين والعمال الزراعيين.
وتشير الأرقام إلى إرتفاع مُعدل البطالة مِن 17% عام 1996 إلى 18% عام 1999, وهذه الأرقام(وهى المتاحة) لا تَعكس الحقيقة، فى تصورى،وذلك لضعف الإحصاءات الحكومية ولعدم تضمّنها البطالة المستترة فى القطاع الزراعى، وفى القطاع الحضرى على السواء.
أما متوسط نصيب الفرد مِن الدخل القومى فهو يُقدر, طبقاً لأرقام 2004, بحوالى 370 دولار فى العام؛ أى حوالى دولار واحد فى اليوم، وهو ما يُعادل مستوى الكفاف حسب مؤشرات الأمم المتحدة ويَقل كثيراً عن متوسط سبعينات وثمانينات القرن الماضى إذ تراوح هذا النصيب مِن إجمالى الدخل القومى ما بين 400 وبين 500 دولار.
(1) الهيكل الإقتصادى
(أ) القطاع الزراعى
وهو القطاع المهيمن، ويُعد مِن أهم القطاعات إذ يُوظف نحو 80% مِن قوة العمل (أرقام 2009) ويُساهم بنحو44,5% من إجمالى الناتج المحلى (إنخفض بشدة كى يُسجل نحو 32,1% وفقاً لأرقام 2009) وكما سنرى بالتفصيل عبر خطواتنا الفكرية أن النظام البيئى يتباين فى السودان بثراء بين سافنا غنية فى أقصى الجنوب إلى بيئة صحراوية وشبه صحراوية فى أقصى الشمال، وتبعاً لتباين المناخ يتباين الإنتاج المادى للبشر فى الإقليم السودانى ككُل؛ إذ تَبلغ مساحة السودان حوالى 600 مليون فدان تُغطى البيئة الصحراوية وشبه الصحراوية حوالى 49% مِن حجم المساحة الكلية ويبلغ إجمالى الأراضى القابلة للزراعة حوالى 200 مليون فدان, المزروع منها حالياً أقل مِن 35% (أرقام عام 2009) يُضاف إلى ذلك مساحات الغابات البالغة 220 مليون فدان والمساحات غير القابلة للزراعة حوالى 180 مليون فدان. أما عن مساهمة القطاع فى الناتج المحلى الإجمالى فقد تراجع هذا القطاع فى العام 2004 كى تصل مساهمته إلى 44.5% ولكى تنخفض إنخفاضاً عنيفاَ، طبقا لأرقام 2009، لتُمثل فقط 32,1% من إجمالى الناتج المحلى؛ وذلك إنما يَرجع إلى الإنخفاض الذى طرأ على المساحة المحصودة مِن بعض المحاصيل الرئيسية كالقطن وزهرة الشمس، وتناقص مساهمة الثروة الحيوانية التي تأثرت سلباً بالصراعات وبالاوضاع الأمنية المرتبكة فى إقليم دارفور.
وفى سبيل إستيفاء التصور العام لهذا القطاع، فيمكننا القول بأن القطاع الزراعى السودانى إنما يعكس بشكل نموذجى واضح ظاهرة التخلف من جميع جوانبها على صعيدى تخلف قوى الإنتاج وتخلف علاقاته، ولنلق النظرة على هذا القطاع بشكل أكثر وضوحاً، بتتبع مظاهر تخلفه التاريخى: ضعف البنية التحتية (الطرق... الرى... المياه... الأوعية التخزينية...) وهو الأمر الذى يأتى متضافراً مع تعميق الانفصال المستمر بين الريف (بكُل خصوصياته الاجتماعية) وبين المدينة (بكُل تناقضاتها) على نحو متساوق مع تخلف الاستغلال على صعيد النظم الإنتاجية المهيمنة، وعلى صعيد علاقات الإنتاج السائدة؛ بما يُحقق ضخاً مستمراً للفائض إلى خارج مسام الاقتصاد القومى السودانى, أضف إلى ذلك تَدهور الغطاء النباتى بسبب القطع الجائر الذى إنعكس سلباً على التربة ومعدلات هطول الأمطار بمناطق الزراعة المطرية؛ بيد أن هذا الغطاء قد أخذ، طبقاً لكلام مؤسسة الحكم السودانية، فى الآونة الأخيرة يَسترد عافيته إلى حد ما بفعل معدلات الأمطار الوفيرة فى السنوات الأخيرة؛ مما أدى إلى تَحسن نسبة الإنبات الطبيعى لبذور الأشجار والشجيرات مع تكثيف الحماية والتشجير والذى أتى بالتوازى مع إرتفاع معدلات الوعى بأهمية الأشجار وحمايتها نتيجة لحملات التوعية والبرامج الإرشادية بقيادة رأس المال الدولى، الساعى دوماً للبحث عن المواد الأولية والبدائل، فى نفس الوقت.
وبمناسبة البدائل(6) تلك. وبمناسبة الحديث عن القطاع الزراعى فى الهيكل الاقتصادى السودانى كإقتصاد يُمثل أحد الأجزاء المتخلفة مِن الاقتصاد الرأسمالى الدولى المعاصر؛ فإنه يُمكن القول بأنه ومنذ بداية الستينات مِن القرن الماضى وفى ظل الثورة العلمية والتكنولوجية والتدويل المستمر للإنتاج؛ فقد تلاحقت الظواهر المتناقضة فى المجال الزراعى, فمِن جانب، حدث تطـور كبير فى أساليب الزراعــة, بحيث تَضَاعف الناتـــج المادى الزراعى فى السبعينات أكثر مِن مرتين.
---------------------
(6) أنظر فى شرح واف: فؤاد مرسى، الرأسمالية تجدد نفسها ( الكويت: عالم المعرفة 1990، العدد 147)
ومِن جانب آخر فقد تزايد نقص الغذاء فى أغلبية البلدان النامية فى الوقت الذى تضاعف عدم المساواة فى توزيع موارد الزراعة بين الدول. وبفضل مُنجزات الهندسة الوراثية المتلاحقة والتقنية الهائلة فى ميدان الزراعة التى سُميت بالزراعة الكثيفة والتى تزامنت مع تدفق رأس المال، وعُززت بسلطان الدولة ودعمها المستمر فى الأجزاء المتقدمة مِن الاقتصاد الرأسمالى الدولى المعاصر, نجد أنفسنا بصدد ظاهرة تُسهم وبفاعلية فى تغيير النمط الراهن لتقسيم العمل الدولى فى الإنتاج الزراعى على الصعيد العالمى, وهو الأمر الذى أفضى فى النهاية وبعد التطورات التي حدثت فى الستينات ثم السبعينات إلى البدء فى عملية إعادة نشر الزراعة عالمياً ونقل قطاعات منها مِن الجنوب الى الشمال وهى العملية التى أخذت فى التشكل مع مطلع الثمانينات مِن القرن الماضى؛ فمن المعروف، على سبيل المثال، أن حبوب الكاكاو تُنتَج فى كُل مِن أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، وهى مُكوِن هام(إضافة إلى إستخدامها فى التجارة العالمية للشيكولاته) فى المنتجات الدوائية وصناعة أدوات التجميل باهظة الأثمان فى الغالب؛ وبدلاً مِن إستيرادها يجرى الآن البحث(وقد نَجح فعلاً)عن إمكانية تخليق نوعية أرقى منها معملياً, كذا الحال وكما سنرى أدناه بصدد الأصماغ العربية الآخذة فى التدهور كماً وكيفاً.
(1) الغابات
تُعتبر الغابات مورداً طبيعياً ثرياً ومتعدداً, وتُغطى تلك الغابات أكثر مِن 120 مليون فدان مِن مساحة السودان الكلية وتلعب دوراً متعاظماً فى حماية الأراضى الزراعية وبخاصة فى إقليم دارفور، وكردفان، كما تلعب دوراً هاماً فى حماية مناطق الزراعة جنوب النيل الأبيض، والقضارف والنيل الأزرق.
وتُعتبر الغابات مأوً للحياة البرية والتى يُعتبر السودان مِن أهم مصادرها؛ فمحميات الدندر، على الحدود السودانية الإثيوبية، والردوم الواقعة جنوبى دارفور تُعتبر مصادر لأنواع مِن الحيوانات ذات العائد الاقتصادى كالأفيال والنمور، والتى أخذت أعدادها فى التناقص، وبصفة خاصة الأسود فى دارفور؛ نتيجة العدوان المنظَم على الطبيعة والتهديد المستمر للحياة البيولوجية بالصيد والقنص الجائر فى سبيل الحصول على العاج أو الجلود، التى كانت لوقت قريب تطرح فى السوق العالمى, كسلعة باهظة الثمن, وتتهافت عليها الصفوة, وقد خفت حدة هذا الطلب على العاج والجلود تماشياً، كذلك، مع حملات حماية حقوق الحيوان فى المجتمعات الغربية. ويُسهم قطاع الغابات بحوالى3% مِن الناتج المحلى الإجمالى، وتُرسخ الغابات قواعد العمل التقليدية (وتسودها علاقات أقرب إلى السخرة أو إلى القُنونَة) لدى سكان الريف (المنهِك والمأجور غالباً عيناً) خاصة فى مناطق الزراعة التقليدية، كذلك تُعتبر الغابات المرعى الطبيعى والدائم للثروة الحيوانية فى البلاد؛ حيث توفر حوالى 70% مِن الغذاء للحيوانات.
(2) الصمغ العربى
يُعتبر الصمغ العربى أحد المنتجات الرئيسية للقطاع الغابى فى السودان، وتُشرف على العملية الإنتاجية (هيئة حكومية) وهى الهيئة القومية للغابات، وذلك بمتابعة الإنتاج وتجميعه الذى يُباع مُباشرة لشركة الصمغ العربى المحدودة(تأسست فى عام 1969 على يد حوالى خمسة آلاف مِن المساهمين السودانيين، بالإضافة إلى وزارة المالية السودانية التى تملك 30% مِن رأس مال الشركة) وعلى حين يتوقف دور الهيئة القومية للغابات فى السودان، كجهة حكومية، عند الإشراف والتجميع, تَنهض شركة الصمغ العربى بعملية التسويق بتعامل مباشر مع السوق الدولية. وقد بَلَغت جُملة مًشتريات شركة الصمغ العربى مِن الهيئة القومية للغابات (التى تملكها الحكومة. حكومة مَن؟) حوالى 15.864 طن وشملت حوالى 7.953 طن مِن الهشاب(7) و7911 طن مِن الطلح، وتُعد الصحراء بيئته الطبيعية، فى عام 2004 مقابل 15838 طن فى عام 2003 بنسبة زيادة قدرها نحو 0.2% وقد بلغت جملة صادر الشركة مِن الصمغ العربى حوالى 13.994 طن فى عام 2004 مقابل 30.285 طن فى عام 2003 بنسبة نقصان 53%. حيث بلغت جُملة الكميات المصدَرة مِن صمغ الهشاب حوالى 9.364 طن، وهى تُعادل حوالى 66.9 % مِن صادرات الصمغ العربى أما صمغ الطلح فقد بلغت الكمية المصدَرة منه حوالى 4.630 طن أى ما يُعادل حوالى 33.1% مِن جُملة الصادر. وبتصورى أن الحديث عن إنتاج الصمغ العربى والتجارة فيه لا يمكن بدون الوعى بعدة أمور:
- إنخفاض مستوى الاستهلاك العالمى فى ظل ظهور البدائل الصناعية, إذ كان حوالى 60 ألف طن فى الستينات إنخفض الآن إلى حوالى 40 ألف طن نتيجة لتلك البدائل الصناعية.
- المنافسة الخارجية؛ حيث زادت حصص الدول الأفريقية الاخرى المنتِجة (وكذلك التى كانت غير منتِجة!) والمعروفة بتجارة وإنتاج الصمغ العربى مثل (تشاد، ونيجيريا، وإثيوبيا وإريتريا) بِفعل تدخل رأس المال الدولى؛ حفاظاً على إنهيار ثمنه العالمى المستمر.
- الأسعار المنخفضة التى يعرضها المصنعون السودانيون المحليون لمنتجاتهم بالخارج؛ عِلماً بأن السوق الخارجى للصمغ كَسلعة دولية إنما يُسيطر عليه عدد محدود مِن الشركات مما يُشكل نوعاً مِن المضاربة الخاسرة غالباً وضغطاً على أسعار الصادر مِن تلك السلعـة. أضف إلى ذلك التهريب والضرائب والرسوم: الاتحادية والولائية والمحلية.
- إنخراط السودان فى معاهدات دولية تضع مواصفات قياسية جديدة للمادة الخام؛ ولم تكن تلك المعاهدات ولا المواصفات القياسية الجديدة فى صالح السودان إطلاقاً؛ إذ وقْع السودان على إتفاقيات فى صالح الدول المنتِجة للأصماغ الأقل جودة؛ الأمر الذى طُرحت معه كُل الأمور على نحو معكوس؛ وربما غير مسبوق على صعيد التبادل الدولى، والذى هو بالأساس غير متكافىء. والمقصد المباشر مِن وراء ذلك هو كسر الميزة النسبية التى تَتَمتع بها السودان فى التبادل على الصعيد الدولى. وهو الأمر الذي يسعى رأس المال الدولى إلى تحقيقه دوماً عبر سلسلة طويلة ومتصلة ومُنظمة مِن عمليات خَلق بؤر التوتر وإيجاد دائم للبدائل والحفاظ على إنهيار أسعار المواد الأولية، ومنها الصمغ العربى؛ المركَب الرئيسى فى المشروبات الغازية التى تنتجها كبرى الشركات العابرة للقارات.
والآن وبعد تَوتر العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، المستهلك الأكبر، الأمر الذى أدى إلى إنخفاض عائدات الصمغ مِن (19 مليون) دولار فى عام 2005 ، بعد أن حقق (53 مليون) دولار فى عام 2002. وبعد أن بات حصاد الصمغ العربى فى غرب السودان أمراً أكثر صعوبة، إن لم يكن مستحيلاً. فالأسر التى إضطرت للنزوح بسبب النزاع المستعر فى إقليم دارفور تقطع أشجار الهشاب بغرض إستخدامها كحطب للوقود، وبعد إنخفاض المقابل المدفوع مِن قِبــل الحكومــة للمزارعين إلى أرقام هزليـــة، بعد كُل ذلك فلا شك فى أن الصمــغ العربى السودانى المستَثنَى فى إتفاقيات الحظر الدولية المفروضة على الخرطوم؛ لأهميته الكبرى للأجزاء المتقدمة مِن الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر. لا شك أنه فى خطر!!
---------------------
(7) شجرة الهشاب هى شجرة طولها حوالى 4-7 متر وتعيش حوالى 25-30 سنة، تنتج الشجرة الصمغ بعد أن يقوم السكان المحليون بإجراء عملية (طق الصمغ) وذلك بخدش لُحاء الشجرة بألة حادة مخصصة لهذا الغرض، تقوم الشجرة بعدها بفرز الصمغ عبر هذه الفتحات وتُنتِج الشجرة الواحدة مِن 200 إلى 300 جرام مِن الصمغ.

(3) الثروة الحيوانية
ساهم قطاع الثروة الحيوانية بحوالى 19.8% فى إجمالى ناتج القطاع الزراعى، وذلك فى السنة الأخيرة مِن سنوات الفحص، بجانب مساهمته فى تحقيق الأمن الغذائى السودانى بتوفير اللحوم الحمراء والدواجن والأسماك والألبان. الأمر الذى يجعلنا نتعقب النمو فى حجم القطيع القومى السودانى: إذ شهدت الفترة محل التحليل؛ نمواً فى القطيع القومى وإستقراراً فى حجمه مع الرعاية البيطرية التى شملتها حملات التطعيم والتقصى الحقلى للأمراض ووفرة الدواء البيطرى العلاجى (الذى جلبه الرأسمال الدولى) لدى شركات القطاع الخاص، الأمر الذى ساهم فى الحد مِن الوبائيات عبر الوحدات البيطرية المتحركة، والممولة مِن الرأسمال الدولى كذلك، فى سبيل ضمان سلامة وجودة الثروة الحيوانية المصدرة إلى الأجزاء المتقدمة، إذ تعد السودان بالنسبة لتلك الأجزاء مزرعة كبيرة! فالإرتفاع الذى شهده القطاع إنما يعزى بالضرورة إلى الرأسمال الدولى، وكما سنرى فالسودان يستورد غذائه! وقد زادت أعداد القطيع مِن 133.6 مليون رأس فى عام 2003 إلى 135.9 مليون رأس فى عام 2004 بزيادة قدرها 0.2% وحافظ إنتاج اللحوم الحمراء على مستواه مِن 1663 ألف طن فى عام 2003 إلى 1672 ألف طن فى عام 2004 بنسبة 0.5% وقد ساهمت الثروة الحيوانية فى سد إحتياجات البلاد (طبقاً لأرقام مؤسسة الحكم)مِن اللحوم الحمراء والألبان ومشتقاتها بجانب منتجات الدواجن والأسماك؛ إذ بلغ الصادر مِن الحيوانات الحية خلال عام 2004 حوالى 750 رأس مِن الأبقار فقط (وترجع تلك الضألة إلى الأهمية الشديدة للابقار فى الذهنية السودانية، وبخاصة فى الجنوب) و1595723رأس مِن الضأن و95066 رأس مِن الماعز و117044 رأس مِن الابل، بينما بلغت صادرات اللحوم حوالى 5661.9 طن.
(4) إعادة إنتاج التخلف فى القطاع الزراعى
فى الواقع فإن هذا القطاع حاله حال باقى القطاعات، فإنه يعكس جميع مظاهر إعادة إنتاج التخلف، على النحو التالى:
(أ) عدم إجراء مسح شامل للثروة الحيوانية منذ عام 1975- 1976 والذى تم إجراؤه عن طريق المسح الجوى (العشوائى والبدائى) والذى لم يتم التدقيق فى بياناته. بالإضافة إلى تدهور المراعى الطبيعية وإنكماشها وعدم توافر مياه الشرب الصالحة للحيوان. وإندلاع نيران الحروب من أجلها بين القبائل المتناحرة، وبين القبائل وبين السلطة المركزية. وهو الأمر الذى يتضافر مع مشاكل حيازة الأراضى وغياب سياسات تنظيم إستخداماتها, وما يَستصحب ذلك مِن إثارة إشكالية الصراعات القبلية وبسط النفوذ(على الأرض بما فيها وبمَن عليها) فى مرحلة أولى؛ كى تطرح فى مرحلة أولى، مكرر، إشكالية الصراع بين الطبقات المكونة للقبيلة ذاتها.
(ب) انتشار الأمراض المستوطنة والوافدة والتاريخ المرضى للجنوب السودانى زاخر بالمأسى بعد تدمير الانعزال الصحى الطبيعى مع أول تعارف مع الرأسمال الدولى. الأمر الذى تساوق مع إستمرار وجود الآفات الزراعية والأمراض الحيوانية.
(ج) ضعف آليات ومصادر التمويل الوطنية مع إرتفاع كلفة التمويل وقصر مدته وإقتصاره على تغطية عمليات الإنتاج على الإنتاج مِن أجل التصدير. أى مِن أجل السوق العالمى؛ وبالتبع الاندماج المباشر فى منظومة الأسعار الدولية والتبادل غير المتكافىء.
(د) إرتفاع تكلفة الإنتاج، مع إرتفاع نسبة الفائض، إضافة إلي الأعباء الضريبية السائدة على المدخلات وتعدد الرسوم (ضرائب العبور) والجبايات على حركة الحيوان. كُل ذلك مِن جهة، ومِن جهة أخرى: إنخفاض أسعار بعض المنتجات الزراعية، مما يَنعكس سلباً على قرار الإنتاج فى ذاته. وكذلك إرتفاع تكاليف وسائل الإنتاج، وإنخفاض مُعدلات مستوى الميكنة الزراعية. وعدم توفر التقاوى والبذور المحسنة والمبيدات بالشكل الكافى. مع إستمرار الضعف فى البُنىَ الخدمية والتسويقية للنشاط الزراعى. أضف إلى ذلك إنعدام الإرتباط بين القطاعات الاقتصادية. أضف إلى ذلك ضعف تنظيم الأسواق، وضعف القدرة على تطويرها، وإنعدام آلية التنسيق بين الجهات الحكومية المعنية وذات الصلة بالثروة الحيوانية (المراعى، المياه، البحوث... إلخ)
(هـ) تأثير الوضع الأمنى المرتبك فى دارفور؛ حيث تَتَواجد بإقليم دارفور أكثر مِن خُمس الثروة الحيوانية فى السودان.
(ب) القطاع الصناعى
يُمكن القول طبقاً للأرقام (الحكومية والدولية) المعلَنة بكونه قد شهد مُعدل نمو إيجابى بلغ 13% فى العام 2004 مقارنة بمُعدل قدره 10.5% فى عام 2003 وقد تولد ذلك بصورة خاصة مِن النمو الذى تحقق فى قطاعات التعدين والصناعة التحويلية والبناء والتشييد والكهرباء، وهو النمو الذى يرجع، لا إلى تنمية مستقلة، وإنما إلى المزيد مِن سيطرة الرأسمال الدولى على هياكل تلك الشركات العاملة فى تلك الحقول الصناعية, وقد إرتفعت مساهمة القطاع الصناعى فى الناتج المحلى الإجمالى إلى حوالى 25.4% عام 2004 مقارنة بنسبة قدرها 24.1% عام 2003. ( 29,4% مع أرقام 2009)
ويشمَل القطاع الصناعى كُلا مِن الصناعات التحويلية، والكهرباء، والتعدين، والتشييد والبناء. وتشمل القطاعات الفرعية التالية: الصناعات الغذائية، والغزل و النسيج، ومنتجات الجلود، والصناعات الكيماوية، وصناعة مواد البناء، والأخشاب والمواد الخشبية والأثاثات، والصناعات الهندسية، والطباعة والتغليف والورق والمنتجات الورقية، والصناعات المعدنية الأساسية، والصناعات التعدينية غير الأساسية، وصناعة الآليات والمعدات، وصناعات تحويلية أخرى, ونقتصر على بيان أهمها على النحو التالى:
(1) صناعة السكر
تبلغ الطاقة الإنتاجية لمصانع السكر فى السودان مجتمعة نحو 655 ألف طن تمثل شركة سكر كِنانة نسبة 45.8% منها أى أكثر مِن 300 ألف طن، وقد شهدت صناعة السكر نمواً مضطرداً خلال المواسم 1999- 2000و2003- 2004 حيث بلغت جُملة إنتاج السكر للموسم 2003- 2004 حوالى 755 ألف طن مقارنةً بحوالى 728 ألف طن للموسم 2002- 2003 بنسبة زيادة بلغت حوالى 4% أَنتجت منها شركة سكر كِنانة حوالى 398 ألف طن فى موسم 2002-2003 مقارنةً بحوالى 428 ألف طن فى موسم 2003- 2004 بنسبة زيادة بلغت 7% وذلك نسبة إلى ارتفاع الإنتاجية.
كما بَلغ إنتاج الشركة السودانية لإنتاج السكر حوالى 327 ألف طن فى موسم 2003- 2004 مقارنةً بحوالى 330 الف طن للموسم 2002-2003 بنسبة نقصان بلغت 1% .
تأسست الشركة فى 1975، وبدأت نشاطها الإنتاجى فى 1981، وتقوم بزراعة قصب السكر وتصنيعه لإنتاج السكر الأبيض المكرر، بالإضافة إلى عدد من المنتجات الأخرى مثل المولاس والعسل، ويسهم فى الشركة كل من: حكومة جمهورية السودان (35,33%) الهيئة العامة للاستثمار/الكويت (30,64%) حكومة المملكة العربية السعودية (10,97%) الشركة العربية للاستثمار(6,99%) مصرف التنمية الصناعية (5,69%) الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعى (5,59%) مجموعة البنوك التجارية السودانية (4,47%) شركة الخليج للأسماك (0,16%) شركة نيشو إيواى (0,16%) .
(2) صناعة الأسمنت
تُعتبر صناعة الأسمنت مِن الصناعات الهامة والرئيسية حيث يَتَركز الإنتاج بمصنع عطبرة الذى تم إنشائه عام 1947 كقطاع خاص وذلك بشركة مساهمة برؤوس أموال أغلبها أجنبية. وفى عام 1970 تم تأميمه وضمه إلى مؤسسات القطاع العام الصناعى. ثم صدر قرار جمهورى عام 1983 بتحويله إلى شركه خاصة سميت"شركة ماسيبو للأسمنت".
وفى أواخر العام 2002 تمت "خصخصة" الشركة وتم بيعها للشركة الأفريقية للتنمية والاستثمار، ومقرها دبى ويملكها سليمان الراجحى، وصالح كامل، وإبراهيم الأفندى. وفى أواخر العام 2003 تم بيع الشركة الأفريقية للتنمية والاستثمار، لسليمان الراجحى؛ ومِن ثم ألت الشركة إليه.
كما يُوجد إلى جوار مصنع عطبرة، مصنع ربك وقد بلغت جُملة إنتاج المصنعين حوالى 170 الف طن، 199 ألف طن، 205 ألف طن، 265 ألف طن للأعوام 2001، 2002، 2003، 2004 على التوالى، هذا وقد شَهدت الأعوام الأخيرة التالية على أعوام حقل التحليل سعى الرأسمال الدولى لرفع إنتاجية المصانع مع البدء فى تنفيذ برامج تأهيل مصنع عطبرة.
وتشير التقارير الرسمية إلى أن تلك الصناعة تواجهها العديد من المشاكل والمعوقات والتى تَتَعلق بضعف آليات النقل البرى والمناولة بميناء بورسودان وبُطء وتعثر الواردات مِن قطع غيار ومُدخلات الإنتاج عبر ميناء بورسودان ومطار الخرطوم ذى الإمكانات الضعيفة.
(3) الصناعة الدوائية
هى مِن الصناعات التى لا تَتَمكن مِن تلبية إحتياجات الشعب السودانى المحلية إلا فى بعض الأنواع مِن الأدوية التقليدية، أو التى سَمَحت الشركات الرأسمالية العملاقة بإمكانية إنتاجها محلياً. وتبلغ كلفة إستخدام السودان للدواء فى العام (250) مليون دولار أى ما يُمثل (3%) مِن جملة إستخدام الدواء فى العالم حيث يَبلُغ إستخدام الفرد نحو (4) دولارات فى العام.
(4) الغزل والنسيج
نتيجة للهشاشة الهيكلية وضعف القدرات التنافسية فى الأسواق العالمية وإرتفاع تكلفة الإنتاج؛ فقد ظل الإنتاج فى قطاع الغزل والنسيج فى تدنٍ مُستَمر, عاكساً صورة واضحة لتخلف نُظم الاستغلال فى الأجزاء المتخلفة مِن الاقتصاد الرأسمالى الدولى, فبعد مرحلة طويلة مِن النسج اليدوى، دخلت صناعة النسيج فى مرحلة ثانية بإنشاء مصنع النسيج السودانى بالخرطوم عام 1961 بتمويل أمريكى، كما تم إنشاء شركة الخرطوم للغزل والنسيج وكان المصنعان بمثابة المتكفل الرئيسى بكساء الشعب السودانى بنسبة كبيرة جداً مِن الأقمشة الشعبية والدمورية والدبلان والملايات المطبوعة وغيرها مِن الأقمشة. تم بيع المصنعين لشركة كويتية. وتوقف إنتاجهما قبل تطبيق الخطة الخمسية 1970-1975 والتى شملت إنشاء المصانع الحالية للغزل والنسيج بالقطاعين العام والخاص، وقُدرت التكلفة الإجمالية لهذه المصانع بمبلغ 3 مليار دولار كتكلفة إنشائية آنذاك، وتبلغ الطاقة التصميمية لهذه المصانع 60 ألف طن مِن الغزول و350 مليون متر فى العام، وكانت تؤمن الاكتفاء الذاتى مِن الأقمشة الشعبية، وأغلب هذه المصانع اليوم متوقف والذى يَعمل منها لا تتعدى إنتاجيته 5% على الأكثر.
(5) النفط
يُسيطر على هذا القطاع "كونسرتيوم" مكوَن مِن شركات (صينية 40% وماليزية 30% وكندية 25% ، إضافة إلى الحكومة السودانية 5%) بعد إنسحاب شركة "شيفرون" فى العام 1984، التى كانت تملك حقوق امتياز الاستخراج منذ عام 1974(فى أثناء حكم جعفر النميرى) التى حفرت 90 بئراً فى مساحة قدرها 42 مليون هكتار.بلغ إجمالى إنتاج النفط السودانى نحو 105 مليون برميل خلال العام 2004، وبلغ نصيب الحكومة منه حوالى 74.9 مليون برميل بنسبة 71% مِن إجمالى الخام المنتَج. بعد أن كان الإنتاج الكلى مِن الخام خلال العام 2003 حوالى 95.7 مليون برميل، وكان نصيب الحكومة منه 62.1 مليون برميل بنسبة 65% مِن إجمالى الإنتاج. وتُعزى الزيادة الملحوظة من 62,1 مليون برميل إلى 74,9 مليون برميل فى نصيب الحكومة خلال العام 2004 إلى الارتفاع فى حجم الإنتاج الكلى مِن الخام وأسعاره، حيث بلغ متوسط الإنتاج اليومى حوالى 287 ألف برميل مقابل متوسط يومى 263 ألف برميل خلال العام 2003. إضافة إلى الارتفاع الكبير فى الأسعار العالمية خلال العام 2004، وهو ما كان له الأثر فى توزيع الأنصبة. ولقد زادت عائدات صادر النفط الخام فى عام 2004 بنسبة قدرها 53% أما البنزين فقد زاد بنسبة قدرها 70% والغاز المخلوط بنسبة 100% بينما إنخفض الغاز الطبيعى بنسبة قدرها 43% مقارنة بالعام 2003 وتحتل صادرات النفط المرتبة الأولى فى هيكل الصادرات إذ يُمثل 78% مِن إجمالى الصادرات خلال العام 2004 .الأمر الذى يُذكْرنا بتاريخ طويل مِن السلعة الواحدة ويستدعى إلى الذهنية جدلية الصراع بين الربح الذى تحصله الشركات الإمبريالية، وبين الريع الذى تتحصل عليه الحكومة المركزية. كما يستدعى الوعى بمدى الاعتماد فى تجديد إنتاج النفط، بوجه خاص، على وسائل الإنتاج والتقنية المنتَجة فى الخارج من خلال قيمة زائدة منتجة فى الداخل بعد تحويلها إلى الشكل النقدى فى سبيل إستيراد تلك الوسائل وباقى السلع الغذائية والرأسمالية كثيفة رأس المال والتكنولوجيا. وقد بلغ إجمالى العائد المقدر مِن الكميات المصدرة لصالح الحكومة خلال العام 2004 نحو 1876.0 مليون دولار أمريكى، والجدول أدناه يوضح حجم كل من الناتج اليومى والناتج الكلى وكذلك نصيب الحكومة من الجهة الكمية والجهة النسبية، وذلك خلال شهور العام 2004.
الإنتاج الكلى من النفط خلال العام 2004برميل
الشهر الإنتاج اليومى الإنتاج الكلى نصيب الحكومة
الكمية النسبة
يناير 262.205.0 8.128.355 5.905.193 73%
فبراير 276.730.0 8.025.170 5.590.209 70%
مارس 273.225.0 8.469.975 6.203.880 73%
أبريل 274.209.4 8.226.282 6.024.819 73%
مايو 276.697.0 8.577.607 6.109.627 71%
يونيو 291.647.0 8.749.410 6.349.880 73%
يوليو 296.932.0 9.204.892 6.344.825 69%
أغسطس 315.117.0 9.768.627 6.982.955 71%
سبتنمبر 307.945.5 9.238.365 6.719.018 73%
أكتوبر 298.676.0 9.258.956 6.661.908 68%
نوفمبر 280.020.0 8.400.600 5.795.974 69%
ديسمبر 292.498.0 9.067.438 6.298.417 69%
الإجمالي 287000 105.115.677 74.986.705 71%
المصدر: وزارة المالية والاقتصاد الوطنى – الادارة العامة للسياسات الاقتصادية والبرامج
ويُمكن ملاحظة النمو الكبير الذى طرأ على أداء صادر خام النفط خلال العام 2004 مقارنة بالعام 2003 ويرجع هذا إلى: إرتفاع نصيب الحكومة مِن الكميات المصدَرة مِن 42.2 مليون برميل فى عام 2003 إلى 50.8 مليون برميل فى عام 2004 بمعدل نمو بلغ 20%. والواقع أن نصيب الحكومة لا شك رقمياً أنه زاد ولكن تلك الزيادة ليست نتاج صراع جدلى مع الشركات المستثمرة بقدر ما هى نتاج طبيعى للزيادة المضطردة فى إنتاج الزيت نفسه.
ويُمكننا هنا إضافة سبباً آخر وهو إرتفاع مستوى الأسعار العالمية، آنذاك، مِن 27.8 دولار أمريكى للبرميل فى المتوسط فى عام 2003 إلى 38.6 دولار أمريكى للبرميل. وطبقاً لأرقام حديثة نسبياً فإنه يُمكن القول بأن الاقتصاد السودانى وحتى النصف الثانى مِن عام 2008 شهد زيادة ملحوظة فى إنتاج النفط، تلك الزيادة تزامنت مع إرتفاع سعر النفط العالمى، كما أن شهد هذا القطاع تدفقات كبيرة مِن الاستثمار الأجنبى المباشر. ولقد بدأت السودان بتصدير النفط الخام فى الربع الأخير مِن عام 1999. وبموجب المادة رقم (191) من الدستور الانتقالى(8)، تم الاتفاق على إنشاء المفوضية القومية للبترول، كما تم الاتفاق على تكوينها على النحو التالى:
1- رئيس الجمهورية، ورئيس حكومة جنوب السودان رئيسان مشتركان.
2- أربعة أعضاء دائمون يمثلون الحكومة القومية.
3- أربعة أعضاء يمثلون حكومة الجنوب.
4- ما لا يزيد عن ثلاثة أعضاء غير دائمين يمثلون الولاية أو الولايات التى سيجرى فيها إستثمار البترول.
وطبقاً لنص الفقرة (3) من نفس المادة، فإن إختصاصات المفوضية تم تحديدها كما يلى:
- وضع السياسة العامة والموجهات المتعلقة بتنمية وإدارة قطاع البترول.
- رصد وتقويم تنفيذ السياسات المذكورة فى الفقرة (1) من نفس المادة، والتى تنص على:
- التأكد من أنها تخدم مصالح الشعب السودانى.
- وضع إستراتيجيات وبرامج قطاع البترول.
- التفاوض حول عقود إستكشاف وإستثمار البترول.
- إعداد لوائحها وإجراءاتها الداخلية.
---------------------
(8) أنظر فى نصوص الدستور الانتقالى والقوانين المعمول بها فى الاقليم السودانى، بوجه عام، وكذلك نصوص المعاهدات والإتفاقيات: ممدوح عبد المنعم، السودان. مع ملحق نص الاتفاقيات كاملة، الأهرام للنشر والتوزيع. القاهرة 2011. وبمناسبة الحديث عن القواعد القانونية التى شرعها النظام من أجل تنظيم إنتاج النفط وتداوله، يمكننا القول، وإضافة لما أوردناه بالمتن، أن النفط وإن كان بمثابة ثروة ونعمة لبعض الشعوب، فهو فى السودان وبالاً ونقمة؛ فعلى الرغم من الحروب والصراعات العرقية الضروس بين الجنوبيين فقد كانوا معارضين جميعاً أشد المعارضة لإستغلال الأجانب للنفط الجنوبى(ستيت بتروليوم/كندا، أراكيس/كندا، تليسمان/كندا، الشركة الوطنية الصينية للتنمية النفطية، بتروناس كاريجالى/ماليزيا، فيدش المحدودة/ الهند، وهى أحد فروع شركة النفط والغاز الهندية،شركة لندن/بريطانية، شركة بترول الخليج/قطر) لمصلحة عرب الشمال، المحميين بمليشيات جنوبية وقوات الدفاع الشعبى والجيش، ويشرح "كولينز" الموقف بقوله:"عندما بدأت القوات المسلحة السودانية وميليشيات البقارة عملياتهم النظامية لاخلاء السكان من تلك المناطق فى غرب النيل المخصصة لحفر آبار النفط فى 2001، وجدت المساعدة فى هذا من العمال الصينيين المسلحين و"المجاهدين" من العرب الأفغان. فقد إجتاحوا المنطقة يحرقون القرى ويقتلون السكان ويستولون على قطعان كبيرة من الماشية، قبل خوض إشتباكات بالأسلحة النارية مع الحركة الشعبية. وبعد تطهير الأرض مما عليها تم تأمين المنطقة وخفارتها بدوريات من البول نوير بقيادة "باولينو ماتيب" الذى أصبح الآن برتبة لواء فى الجيش، وميليشياته المستقلة التى تدفع لها الحكومة السودانية، واستأجرتها فيما بعد شركة النفط الوطنية الصينية وشركة بتروناس لأعمال الحراسة الأمنية. وقامت شركات النفط بتشييد طرق صالحة للإستخدام فى كل الاجواء، ومدارج لهبوط الطائرات استخدمتها القوات المسلحة السودانية بحرية للهجوم على المستوطنات المدنية ومعسكرات اللاجئين فى دائرة أخذت تتوسع بإستمرار حول حقول النفط". أنظر: تاريخ السودان الحديث، ترجمة:د. مصطفى الجمال، القاهرة: المركز القومى للترجمة؛2010، ص281) ويُعلق مترجم الكتاب الاستاذ مصطفى مجدى الجمال على هذا النص فى هامش (ص281) بقوله :" نلاحظ أن المؤلف يذكر وقائع خطيرة كهذه دون ذكر مصادر محددة مما يدعو إلى ضرورة أخذها بجانب كبير من الحذر". ومن جانبنا فلن ننشغل هنا بسرد الأدلة التى يريدها المترجم ونحيل بشأنها إلى ما ذكرناه بالمتن ونكتفى هنا بذكر مجموعة من التقارير الصادرة عن مؤسسات دولية، أعتقد أنها محل ثقة نسبية من المجتمع الدولى، على الرغم من إمبرياليتها المفرطة فى الغالب من الأحيان، فلقد ظهرت آنذاك تقارير الإدانة من قبل كل من: منظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس واتش، وكريستيان أيد، والعديد من منظمات الاغاثة العاملة فى إطار عملية شريان الحيـــاة فى السودان كما ظهر التقـــرير الشهير للحكومة الكندية وإسمه "تقرير هاركر"، وكلها تدين المذابح التى تورطت فيها الخرطوم بشكل فاضح. ولقد رجع "كولينز" على ما أعتقد إلى غالبية تلك التقارير، كما يتضح من أسلوبه وإستشهاداته.
وطبقاً لبروتوكول "نيفاشا" لإقتسام الثروة، فقد قنن الدستور الانتقالى فى المادة(194) عملية إقتسام ثروة الجنوب، وهو ما فقده الشمال بعد الإنفصال، على النحو التالى:
أ- ينشأ حساب إستقرار إيرادات البترول وتورد فيه صافى إيرادات البترول الحكومى التى يتم تحصيلها من مبيعات الصادر الفعلية فوق السعر القياسى المقرر الذى يجدد سنوياً ضمن الموازنة القومية.
ب - يخصص 2% على الأقل من عائدات البترول للولايات المنتجة للبترول حسب الكمية المنتجة فى الولاية.
ج - بعد الدفع لحساب إستقرار إيرادات البترول والولايات المنتجة يخصص لحكومة جنوب السودان إبتداءً من أول الفترة قبل الانتقالية (1/1/2005) 50% من صافى عائد البترول المستخرج من آبار البترول المنتجة فى جنوب السودان وتخصص نسبة 50% المتبقية للحكومة القومية وولايات شمال السودان.
(6) الكهرباء
شهد التوليد الكهربائى خلال الفترة المعنية نمواً مضطرداً حيث وصل التوليد الكهربائى الكُلى حوالى 3279.9 جيجا واط/ ساعة فى عام 2003 منها حوالى 3074.1 جيجا واط/ساعة داخل الشبكة وحوالى 205.8 جيجا واط /ساعة خارج الشبكة. وإرتفع التوليد إلى حوالى 3794.7 جيجا واط/ ساعة فى عـــام 2004 بزيادة قدرهـا 15.7% مقارنـــة بعام 2003 منها حوالى 3505.9 جيجا واط/ساعة داخل الشبكة وحوالى 288.8 جيجا واط/ساعة خارج الشبكة. وبلغ إستهلاك الكهرباء للعام 2004 حوالى 2496.2 جيجا واط/ساعة بنسبة زيادة بلغت 8% عن العام 2003 والذى بلغ حوالى 2391.6 جيجا واط/ساعة. وترجع هذه الزيادة إلى زيادة الاستهلاك فى القطاعين السكنى والصناعى. وعادة ما يتم حصر أزمات قطاع الكهرباء فى أمرين: أولهما ضعف تمويل صناعات قطاع الكهرباء. ثانيهما إتساع الاقليم السودانى؛ الأمر الذى يزيد من تكلفة صناعة الكهرباء مِن جهتى التجديدات الطويلة للشبكة والتوليد عند الأطراف البعيدة. ووفقاً لأرقام حديثة نسبيا ًيُمكن أن نَذكُر أن: الإنتاج بلغ 4341 بليون كيلو واط (2007) والاستهلاك: 3438كيلو واط (2007)
(7) التعدين
تقوم الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية فى السودان بإجراء البحث والتنقيب (لاحظ: البحث والتنقيب,لا الاستخراج)عن المعادن كما تقوم بإعداد الخرائط الجيولوجية (بمعاونة الخبراء الأجانب بالطبع) وهذا القطاع بطبيعة تكونه التاريخى تُهمين عليه الشركات الدولية العملاقة على الصعيد العالمى وهو مِن تلك الوجهة يُثير التساؤلات حول مَن الذى يَستأثر بناتج الأرض؟والسؤال له وجاهته مِن جهة أنه يُثير بالتوازى عدة أسئلة جوهرية, وربما حساسة, مِن قبيل مَن هو صاحب الأرض؟ ومَن هو صاحب الدولة؟ ومَن هو صاحب الشركة المستًخرِجة لما فى بطن الأرض السودانية؟ وهل تلك هى حقاً اللحظة التاريخية التي يَطفو فيها على السطح، كما الشأن فى فنزويلا، ونيجيريا، وغيرهما. . . وإن كان مِن زاوية مختلفة نسبياً، الصراع بين الريع (كظاهرة تاريخية) وبين الربح (كظاهرة تاريخية مقابلة)؟
(ج) القطاع الخدمى
ويستوعب هذا القطاع نحو 7 % من القوة العاملة، كان 13% فى العام 1998 وقد تَمكن هذا القطاع مِن تحقيق مُعدل نمو بلغ نحو 6.6% ، ونسبة مساهمة فى الناتج المحلى الاجمالى قدرها 30.1% عام 2004؛ ولكى يَرتفع ليُحقق مساهمة قدرها 38,5 % مع أرقام 2009، ويرجع ذلك، كما يَتردد فى دوائر الحكم، إلى بعض النمو الحاصل فى القطاعات الخدمية مثل النقل والاتصالات والخدمات الاقتصادية الأخرى، وتنحصر جل الخدمات التى تستحوذ على الإنفاق الحكومى على المرافق العامة فى الشمال، فى حين يعانى الجنوب من أزمات متصلة فى المرافق الاجتماعية إبتداءً من التعليم والصحة ومروراً بخدمات النقل والطرق والجسور وإنتهاءً بخدمات السكن والأمن، وبالنسبة إلى الأخيرة، أى خدمة الأمن، فإن السلطة المركزية توجه جل نفقاتها فى الشمال من أجل ترسيخ وجودها هى شخصياً وفرض هيمنتها. تاركة الجنوب فى صراعه وإنفلاته الأمنى!
(1) الطرق والجسور
لا ريب فى أن قطاع الطرق والجسور يؤدى دوراً هاماً فى عملية التنمية الاقتصادية (على الأقل كما تطرح نفسها فى مرحلة التعليم الأساسى) حيث أنه يربط مراكز الإنتاج بتجمعات الاستهلاك وموانئ التصدير ويساعد على تنمية (وإن كانت تنمية غير متوازنة كقانون رأسمالى عام) المناطق التى تَمُر بها الطرق, ويَشمل هذا القطاع الطرق القومية العابرة لأكثر مِن ولاية والممولة تمويلاً غالباً تمويلاً أجنبياً بيد أن شُح الموارد (كما يتردد فى لغة الخطاب الرسمية) إضافة إلى الأبعاد الأمنية للرأسمال الدولى، يقفان عائقاً أمام ربط أقاليم السودان ربطاً حديثاً مِن خلال شبكة طرق تَتَكفل بذلك.
(2) النقل والاتصالات
ويَضم قطاع النقل فى السودان كُل مِن: هيئة السكة الحديد وهيئة النقل النهرى وهيئة الموانى البحرية وشركة الخطوط البحرية السودانية وشركة الخطوط الجوية السودانية وهيئة النقل البرى. ويُمكن القول بأن هذا القطاع الجزئى إنما يُكرس، أيضاً، جميع مظاهر إعادة إنتاج التخلف، فوسائل النقل ذاتها متهالكة، والطرق غير معبدة، والمطارات تفتقد التنظيم، وكذلك الموانىء، أضف إلى ذلك عدم فاعلية القطاع فى ربط أجزاء الإقليم.
(أ) الشركة السودانية للاتصالات(سوداتل)
إستمرت الشركة السودانية للاتصالات (سوداتل) فى تحسين وتطوير خدماتها منذ تأسيسها فى عام 1993. وصارت مِن أكبر الحقول الاستثمارية فى السودان وأُدرجت أسهمها بالأسواق المالية الدولية, كما تُعتبر أسهمها الاكثر تداولاً فى سوق الخرطوم للأوراق المالية منذ العام 1997. كما تم إدراجها فى سوق البحرين للأوراق المالية فى 6/11/2000، وسوق أبى ظبى للأوراق المالية فى 31/3/2003. وبجانب خدمات الهاتف تقوم الشركه بتقديم خدمات المعلومات الأخرى مثل خدمات شبكة الإنترنت والدوائر المؤجرة والتجارة الإكترونية...إلخ. ويَشهد حقل الاتصالات صراعاً جدلياً بين قوى الرأسمال الدولى فى سبيل السيطرة على الجديد فى عالم التكنولوجيا, الأمر الذى يَعنى، كما ذكرنا سلفاً، أن تطور المجتمع السودانى، وجميع المجتمعات، مِن تلك الوجهة إنما يَرتبط بمدى التطور الحاصل فى الصراع الإجتماعى مِن أجل الحصول على الجديد فى مجال التكنولوجيا وليس مرتبطاً بالتطور الحاصل فى مجال التكنولوجيا نفسها, أى العكس تماماً لما هو سائد, على الأقل, فى الفكر الأكاديمى... والفكر الأكاديمى، كما قال أستاذنا الدكتور محمد دويدار، ليس بالضرورة هو الفكر الصحيح.
(ب) مشروع الكيبل البحرى شرق وجنوب افريقيا ( EASSy )
تأسس "الكيبل البحرى شرق وجنوب أفريقيا" من خلال شراكة بين مجموعة دول شرق وجنوب افريقيا منها السودان، جيبوتى، الصومال،كينيا، أوغندا،موزمبيق،جزر القمر، مدغشقر، وجنوب أفريقيا. وقد تم تنفيذه عبر شركة "الكاتل" الفرنسية. تم تشغيل الكيبل فى يوم 1/8/2010 ويهدف هذا المشروع إلى توفير الربط البينى بين إحدى وعشرين دولة أفريقية، بالإضافة إلى ربط هذه الدول مع باقى دول العالم. كما سيتم تزويد هذه الدول المستفيدة من هذا المشروع بخدمة إنترنت ذات جودة عالية.وتعتبر سوداتل ثالث أكبر مالك فى هذا المشروع والذي يمتد من بورتسودان حتى جنوب أفريقيا بطول 11 ألف كيلو .
بيانات وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية
ومِن جهة أخرى مُكملة للاستعراض الرقمى والإحصائى السالف عاليه، فإنه يَجدر بنا السير خطوات أكثر تقدماً فى سبيل إختبار صحتها النسبية، بمعاينتها، وتحديثها، فى ضوء تقرير وكالة الإستخبارات الأمريكية (CIA) والذى جاء بموقعها الالكترونى(*) ، والذى جاء فيه:
الناتج المحلى الإجمالى (تعادل القوة الشرائية): 92 بليون دولار أمريكى (2009 )
الناتج المحلى الإجمالى (سعر الصرف الرسمى) : 54 بليون دولار أمريكى
الناتج المحلى الإجمالى ( معدل النمو الحقيقى) : 4,2 % (2009)
الناتج المحلى الإجمالى/ للفرد (تعادل القوة الشرائية): 2300 دولار ( 2009)
الناتج المحلى الإجمالى -- التكوين حسب القطاع: (2009)
الزراعة : 32,1 %
الصناعة : 29,4 %
الخدمات : 38,5 %
القوى العاملة : 12 مليون(2007)
القوى العاملة وفقاً للهيكل :
الزراعة : 80 % (2009)
الصناعة : 7 % (2009)
الخدمات: 13 % (1998)
معدل البطالة : 18,7% (2002)
السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر: 40%(2004)
الاستثمار (الإجمالى الثابت): 20,7 % من الناتج المحلى الإجمالى (2009 تخمين)
الدين العام:
103,7 % من الناتج المحلى الإجمالى (2009)
100 % من الناتج المحلى الإجمالى (2008)
معدل التضخم (أسعار المستهلك) : 11,2 % (2009)
المخزون النقدى: 62.56 مليار دولار (31 ديسمبر 2008)
المخزون من أشباه النقود : 42.64 مليار دولار (31 ديسمبر 2008)
الزراعة: القطن والفول السودانى، والذرة الرفيعة والدخن ، القمح ، الصمغ ، وقصب السكر ، والكسافا (التابيوكا) والمانجو، والبابايا، والموز، والبطاطا الحلوة ، والسمسم ؛ والاغنام والماشية.
الصناعات : النفط ، وحلج القطن، والمنسوجات، والأسمنت، والزيوت الصالحة للأكل ، والسكر والصابون، والأحذية، والمواد الصيدلانية ، والأسلحة.
معدل نمو الإنتاج الصناعى: 3,2% (2009)
النفط -- الإنتاج : 486700 برميل / يوم (2009)
نفط -- إستهلاك : 84000 برميل/يوم (2009)
---------------------
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook (*)
النفط -- الصادرات : 303800 برميل/يوم(2007)
نفط -- إحتياطيات: 68 بليون برميل(1يناير2009)
الغاز الطبيعى -- الإنتاج : (0) متر مكعب (تقديرات 2008)
الغاز الطبيعى -- الاستهلاك : (0)متر مكعب (تقديرات 2008)
الغاز الطبيعى -- الاحتياطيات المؤكدة: 8495 مليار متر مكعب (يناير 2009)
الصادرات: 7.56 مليار دولار (2009) 11,60 مليار دولار (2008)
الصادرات -- السلع: النفط، ومنتجاته، والقطن والسمسم والفول السودانى، والثروة الحيوانية، والصمغ العربى، والسكر.
صادرات -- أهم الشركاء: الصين 58,29% ، اليابان 14.7 %، 8,83 % اندونيسيا والهند 4,86% (2009)
الواردات : 8,253 مليار دولار (2009)
الواردات -- السلع: المواد الغذائية والسلع المصنعة ، والسلع الرأسمالية، والسلع الاستهلاكية، ومعدات التكرير والنقل والأدوية والكيماويات والمنسوجات والقمح.
الواردات -- أهم الشركاء: الصين 21,87 % ، المملكة العربية السعودية 7.22 % ، مصر 6,1 % ، 5,53 % الهند الإمارات العربية المتحدة 5،3 %(2009)
الاحتياطيات من النقد الأجنبى والذهب: 879 مليون دولار (2009)
الدين الخارجى: 36,27 مليار دولار (2009)
أسعار صرف العملات: جنيه سودانى (جنيه) لكل دولار أمريكى: 2.34 (2009) ، 2.1 (2008) ، 2.06 (2007) ، 2.172 (2006) ، 2.4361 (2005)
الحد الأدنى للأجر: 124 جنيه سودانى (00,37 دولار أمريكى/طبقاً للبنك المركزى السودانى فى فبراير 2011)
.
التفاوت فى الدخل بين المناطق فى السودان (بالدولار الأمريكى)
المنطقة الدخل 1967/1968 الدخل 1982/1983
الخرطوم 236 283
الوسطى (بما فى ذلك النيل الأزرق) 183 201
الشرقية (بما فى ذلك جنوب كردفان) 180 195
كردفان 153 164
المنطقة الشمالية 124 130
دارفور 98 102
الانحراف المعيارى 44,5 57
المصدر: محمود ممدانى، دارفور: منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب، ترجمة عمر سعيد الأيوبى؛ مراجعة منى جهمى (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010) ، ص208
وعلى تلك البيانات يمكننا إبراز الملاحظات الآتية:
- تهيمن الزراعة على مجمل الهيكل الاقتصادى، ومع ذلك يظهر فى بند الواردات أن السودان تستورد الغذاء، وعلى رأسها القمح.
- نصف الشعب، تقريباَ، فقير. وتلتهم الديون كل الناتج المحلى بنسبة 100%.
- ظاهرة التفاوت فى الدخول، تضرب بجذورها فى الماضى، بما يعكس الإهمال القديم من قبل السلطة المركزية لباقى الأجزاء وبصفة خاصة الجنوب.
- كما الحال بالنسبة لجميع الدول الريعية تقريباً بوجه عام والأجزاء المتخلفة بوجه خاص، تتسرب القيمة الزائدة المنتَجة بداخل الاقتصاد القومى إلى الخارج فى سبيل شراء السلع التى لا يُنتجها الاقتصاد القومى، وعلى وجه الخصوص السلع التى تستخدم فى سبيل إنتاج النفط.
- تسرب فى العام 2009، مثلاً، نحو مليار دولار إلى خارج الاقتصاد قيمة الفارق بين الصادرات والواردات. ولقد سبق وأن ذكرنا إن طرحنا الرئيسى يبدأ من حيث فهم وتحليل نمط الإنتاج الرأسمالى كنمط لإنتاج سلع وخدمات من أجل السوق. وليس ذلك فقط وإنما كنمط لإنتاج القيمة الزائدة، وطالما كانت (أليات) إنتاج تلك القيمة الزائدة ضعيفة، بغض النظر عن كل شىء أخلاقى، عُدّ الاقتصاد ضعيف ومتخلف بالتبعية لتدهور تلك الأليات، فى حين يُصبح هذا الاقتصاد قوياً إذ ما كانت تلك (الأليات) قوية، بما يلزم ويكفى لتخفيض معدل إنتاج القيمة الزائدة، وعلامات قوتها تتبدى فى النظر إلى (حجم، وقيمة) ونضيف هنا: ونوع، المنتَجات التى تُمثل إجمالى الناتج القومى.
ولنعُد إلى مثلنا التقليدى الذى ضربناه من البداية؛ فإذ ما إفترضنا؛ لإعتبارات التبسيط، ان السودان بدأ سنة إنتاجية معينة بـ (30 مليار) وحدة، بواقع (10مليار) للزراعة و(10مليار) للصناعة و(10مليار ) للخدمات، وتوزع تلك الوحدات بداخل كل قطاع وفقاً لما يلى: (5 أدوات الإنتاج) + (3 مواد إنتاج) + (2 قوة عمل) فإنه فى نهاية الفترة السنة محل التحليل وبإفتراض أن معدل القيمة الزائدة 100% سيكون لدى السودان (6 مليار وحدة زائدة) ومن ثم يصير لدينا 36 مليار وحدة، موزعين كالاتى: (30 مليار) أصل المبلغ المبدوء به الإنتاج، و(6 مليار) قيمة زائدة، بإفتراض أنها تبلغ 100%، فوفقاً للبيانات المتاحة لن يقوم السودان بإستخدام (6 مليار) قيمة زائدة فى سبيل التراكم الرأسمالى المطلوب للخروج من حلقة التخلف، إذ سيقوم بضخ تلك القيمة الزائدة فى مسام الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى الذى يعتمد عليها فى المواد الغذائية والسلع المصنعة، ومعدات التكرير والنقل والأدوية والكيماويات والمنسوجات والقمح. وأدوات الإنتاج بوجه عام؛ أضف إلى ذلك بعض المظاهر الأخرى التى تُعتنق على أساس مِن كونها التخلف بعينه، وما هى سوى مظاهر، كبدائية أساليب الإنتاج وأدواته مثلاً.
معنى ذلك ان القيمة الزائدة المحققة إجتماعياً خلال فترة زمنية معينة لا يستفيد بها المجتمع المنتِج لها، وانما تستفيد به الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى، الأمر الذى يدعونا إلى تكوين الوعى بشأن الاطار العام والشروط الموضوعية التى تحكم ظاهرة تسرب القيمة الزائدة التى ينتجها المجتمع، ومن ثم يتعين أن نكون الوعى بشأن البعد الجغرافى، وهو ما يعنى الإنتقال إلى الجزء الثانى من خطوتنا الفكرية والتى سننشغل فيها بفحص الكُل الجغرافى.
هكذا ننتهى مِن الجزء الأول مِن خطوتنا الفكرية الأولى، بإتمامنا التعرف على مُجمل الهيكل الاقتصادى، وصولاً إلى تكوين الوعى حول "الاقتصاد" فى السودان، مِن حيث هيمنة الزراعة عليه، إذ يُعد الاقتصاد السودانى إقتصاداً زراعياً مِن الدرجة الأولى، وتخلفه وتبعيته وبدائيته خصائص جوهرية واضحة، لا لغلبة قطاع الزراعة على القطاعات الأخرى، وإنما لارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن فى أليات إنتاجها؛ بما من شأنه السماح لنمط الإنتاج السائد وعلاقاته بتسرب القيمة الزائدة مِن الريف إلى المدينة، فى مرحلة أولى، ثم مِن داخل السودان إلى خارجها، فى مرحلة ثانية، على نحو لا يَسمح بتراكم رأسمالى يوظَف بداخل الاقتصاد السودانى، ويتبدى ذلك فى هيمنة الزراعة، والفلاحة وما يتصل بهما، على مُجمل النشاط الاقتصادى فى المجتمع، وذلك دون إرتباط ما بين قطاع الزراعة هذا وبين القطاع الصناعى تحديداً، الأمر الذى يَجعل السودان أحد المتخصصين فى إمداد الأجزاء الأخرى (والمتقدمة بصفة خاصة) بالمواد الأولية المحمَلة بقيمة زائدة، مِن نفط وصمغ وقطن تحديداً، بالإضافة إلى الثروة الحيوانية. تلك السلع حينما يجرى تصديرها؛ لتغذية صناعات فى بلدان أخرى أكثر تعقيداً وتطوراً فى الغالب، فإنما تتم مِن خلال عملية مُنظمة للتبادل غير المتكافىء، محملة بقيمة زائدة. عمل مُكدس.
(2) الجغرافيا :
يَحتل السودان الجزء الشمالى الشرقى مِن قارة أفريقيا. بين دائرتى4 و 22 شمال خط الاستواء وخطى الطول 22 و 38 ويمتد طول الحدود البحرية على ساحل البحر الأحمر إلى حوالى 670 كلم، وتحده دولتان عربيتان هما مصر وليبيا و7 دول أفريقية : تشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية، وأوغندا، وكينيا، وإثيوبيا، وإريتريا، ولقد ساعد هذا الموقع الوسطى السودان كى يكون المعبر الرئيسى بين شمال إفريقيا العربى وجنوبها الأفريقى.
ولقد كان الإقليم حتى منتصف القرن التاسع عشر، الممر الرئيسى لقوافل الحجاج إلى أماكن الحج فى الشرق العربى، وكذلك الممر الرئيسى للتجار مِن غرب إفريقيا إلى شرقها.
الموقع الجغرافى والحدود السياسية قبل إنفصال الجنوب

http://www.kermaonline.com/vb/showthread.phpt=11660
تَبلُغ مساحة السودان حوالى 2.5 مليون كلم مربع، وهو بذلك أحد أكبر الدول العربية والأفريقية؛ كما يأتى فى المرتبة الحادية عشرة بين بُلدان العالم الأكبر مساحة. ونتيجة لكبر المساحة هذه تباينت بيئات السودان وتنوعت ثرواته وموارده الطبيعية، كما تعددت أجناس سكانه وأعراقهم وثقافاتهم، وستكون تلك الحقيقة التاريخية محوراً رئيسياً فى مجرى تحليلنا؛ من جهة تكوين الوعى بصدد دمج عدة قبائل وأعراق وثقافات وديانات مُختلفة (عربية عاربة، ومستعربة، وإثيوبية، ومسيحية، وإسلامية، ووثنية) ومتناقضة، ومتنافرة أحياناً، فى قطعة جغرافية واحدة وتحويطها بسياج إستعمارى يُفرض، بعدما إفترض دون وعى أو سبب، إمكانية إندماج تلك الأعراق والقبائل فى بعضها البعض، بتنازل كُل منها عن قدر مِن سيادته ونفوذه وعاداته ودياناته وثقافاته للآخر! ومِن قبله تنازل عن كُل ذلك للمستعمِر! سيكون مِن العسير للغاية مُحاولة فهم إشكاليات الإنفصال والصراعات القبلية بعيداً عن فهم تاريخية ترسيم الحدود الاستعمارية. الحدود التى وضعت قبائل وديانات وأعراق وثقافات مختلفة، لا رابط فعلى بينهم، فى قفص صيد كبير! انها الحدود التى صنعت الوطن الزائف، وإن موقع السودان، إضافة إلى كونه من أسباب الثراء مِن جهة الموارد الطبيعية، فإنه سيكون وبالاً على السودان؛ مِن جهة أخرى، إذ سيجعله أحد محاور التنافس الاستعمارى القديم فى أفريقيا. ولن يَختلف الأمر كثيراً مع "الاستعمار المنهجى الحديث" إذ لم يَزل السودان يُمثل أحد أطماع الاستعمار الحديث، خاصة بعد أن أخذت موارد العالم الطبيعية فى التناقص الشديد، وأصبحت مشكلة الغذاء فى المستقبل هاجساً يؤرق العالم الرأسمالى المعاصر، بشقيه المتقدم والمتخلف.
نهر النيل(9)
يَتميز نهر النيل وروافده بموارد مائية هائلة تُغطى حوالى 25000 كلم مربع ويُقدر الإيراد السنوى لنهر النيل بحوالى 58.9 مليار متر مكعب يُساهم فيه النيل الأزرق بحوالى 58.9%،
والنيل يلعب دوراً حيوياً فى حياة السكان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفى علاقات السودان الخارجية خاصة مع دول حوض النيل.
تُستغل مياه النيل وروافده فى الرى وتوليد الكهرباء مِن خزانات الرصيرص وسنار وخشم القربة وفى الملاحة وصيد الأسماك، وبموجب إتفاقية مياه النيل لعام 1959(التى جاءت فى غير مصلحة السودان) فقد مُنحت مصر55,5 مليار متر مكعب سنوياً مِن مياه النيل، والسودان 18.5 مليار متر! والنيل كذلك مِن جهة أخرى يُعد أهم ظاهرة جيمورفولوجية (أى العِلم الذى يدرس شكل الأرض، والتغيرات التى تطرأ عليه لتبيان التاريخ الجيولوجى) فى السودان ويمتد حوالى 1700 كلم مِن الجنوب إلى الشمال، كما يُغطى حوض النيل وروافده فى السودان حوالى 2.5 مليون هكتار.
التربة
وتتكون سهول السودان مِن أنواع مختلفة مِن التربة أهمها:
(أ) التربة الرملية فى إقليم الصحراء وشبه الصحراء فى شمال وغرب السودان وهى تربة هشة قليلة الخصوبة تُستغل فى زراعة الدخن والفول السودانى والسمسم، كما تُعتبر من المراعى الهامة للإبل والضأن والماعز.
(ب) التربة الطينية فى أواسط وشرق السودان، وهى تُمثل أهم مناطق زراعة القطن. ومعظم إنتاج السودان مِن الذرة، الذى يُعد المحصول الغذائى الرئيسى، كما ذكرنا سلفاً، يتم فوق هذه التربة .
(ج) مجموعة التربات الحديدية الحمراء فى جنوب السودان، وتَتَميز بإنخفاض خصوبتها. لذلك فإن نَمط الزراعة المتنقلة ظل أكثر نُظم إستخدام الأرض مُلائمة لهذه التربة.
(د) مجموعة التربات الرسوبية السلتية على ضفاف الأنهار والأودية ودلتا طوكر والقاش وتَتَميز هذه التربات بخصوبتها العالية لتجددها السنوى.
---------------------
(9) أنظر: صلاح الدين الشامى، نهر النيل: دراسة جغرافية تحليلية (الإسكندرية: منشأة المعارف، 1995)
(هـ) التربة البركانية الخصبة فى جبل مرة.
وبالإضافة لمنظومة النيل؛ يَزخر السودان بالعديد مِن البحيرات الداخلية والأودية الموسمية التى تلعب دوراً هاماً فى حياة السكان الاقتصادية، خاصة فى شرق البلاد وغربها. ويُقدر مخزون المياه الجوفية بحوالى 9000 مليار متراً مكعباً تَتَوزع بين حوضين جوفيين. يستغل السودان حاليًا حوالى 2 مليار متر مكعب مِن المياه الجوفية لأغراض الرى والاستخدامات المدنية.
ويُعتبَر البحر الأحمر منفذ السودان الملاحى إلى العالم الخارجى (يعنى الانفصال حتمية مرور الجنوب فى أرض الشمال، وصولاً إلى البحر) وبه موانىء "بورسودان" و"سواكن" و"أوسيف" بالإضافة إلى مراسى أخرى صغيرة متعددة. ويمُلك السودان ثروة هائلة مِن الأسماك؛ إذ فى الإمكان إنتاج أكثر مِن 140.000 طن سنوياً منها 35.000 طن مِن البحر الأحمر و100.000 طن مِن نهر النيل وفروعه، و5.500 طن مِن بحيرة النوبة.
ووفقاً للتقسيم، تبعاً للأقاليم الجغرافية، فيُمكن تصنيف الأقاليم السودانية على النحو التالى:
(أ) المنطقة الصحراوية: وهى تَقع شمال خط عرض 16 وتُقدر بحوالى 29% مِن المساحة الكلية ويندر فيها هطول الأمطار، وتنحصر الزراعة على جانبى النيل برفع المياه بالطلمبات ورى الحياض وإستخدام محدود للمياه الجوفية. وتسود زراعة النخيل، والقمح، والبقوليات، والخضر، والفاكهة، والتوابل.
(ب) المنطقة شبة الصحراوية: وهى تمتد بين خطى 14و16 شمالاً وتُقدر بنحو 20% مِن المساحة الكلية، وتتميز بالغطاء النباتى الضعيف، كما تتسم بتقلبات الأمطار مما يعرضها لموجات مِن الجفاف والتصحر، وتصلح لمرعى القطعان المتحركة.
(ج) منطقة السافنا خفيفة الأمطار بالأراضى الرملية: وتقع بين خطى عرض 12و14 درجة شمالاً، وتتفاوت كمية الأمطار فيها، وتغطى حوالى 13% من المساحة الكلية للبلاد، وتتعرض، عادة تلك المنطقة، لموجات مِن الجفاف والتصحر، ويتكون الغطاء النباتى مِن النباتات الرعوية الحولية والمعمرة وبعض الأشجار، كما تَسود فيها الزراعة التقليدية المروية بمياه المطر.
(د) منطقة السافنا متوسطة الأمطار بالأراضى الطينية: وتمتد بين خطى 10و12 درجة شمالاً لتشمل السهول الطينية الوسطى فى مساحة تقدر بنحو 14% مِن المساحة الكلية، وتتفاوت الأمطار فيها بين 400و880 ملم، وتُمَارس فيها الزراعة المطرية الآلية والزراعة التقليدية والإنتاج الغابى، وبصفة خاصة: الصمغ العربى.
(هـ) منطقة السافنا غزيرة الأمطار: تمتد بين خطى 4 و 10 درجة شمالاً وتشكل 14% تقريباً مِن المساحة الكلية وتتفاوت الأمطار فيها مابين 800 و 1500 ملم، ويمكن القول بأن تلك المنطقة بها مساحات واسعة لغابات أشجار الأخشاب القيمة كالماهوجنى، ومساحات رعوية كبيرة وأراضى تصلح للتوسع الزراعى.
(و) المناطق البيئية المتميزة: وتشمل جبل مرة، والأماتونج، والدونكوتانا، وهضبة الالوم التى تصلح لزراعة البن والشاى، وغيرها مِن المحاصيل الاستراتيجية، وتشمل أيضاً حوض نهر النيل ومنطقة السدود.
وبوجه عام، تُقدر المساحة الصالحة للزراعة فى السودان بحوالى200 مليون فدان (84 مليون هكتار)، والمستغل مِنها حالياً 40 مليون فدان يروى منها 4 مليون فدان بالرى الصناعى، و36 مليون فدان بمياه المطر.
النظم البيئة بالسودان
البيان المساحة بالفدان النسبة من إجمالي المساحة
البيئة الصحراوية 181 30%
شبة الصحراء 115.7 19.3%
السافنا الرملية 77.6 13%
السافنا الطينية 85.5 14.3%
السافنا مرتفعة الأمطار 81 13.5%
الفيضانات والسدود 57.7 9.6%
مناطق جبلية 1.5 0.3%
الجملة 600 100%
المصدر: وزارة المالية والاقتصاد الوطنى – الإدارة العامة للسياسات الاقتصادية والبرامج.
وبالنسبة للمُناخ: فالسودان يَسوده المناخ المدارى، والذى يَتميز بإرتفاع درجات الحرارة مُعظم أيام السنة، والتدرج مِن جاف جداً فى أقصى الشمال إلى شبه الرَطب فى أقصى الجنوب.وتَصل درجات الحرارة أقصى مُعدلاتها فى فصل الصيف حيث يَصل المعدل اليومى فى شهرى مايو ويونيو إلى أكثر مِن43 درجة مئوية، تقريباً، فى شمال السودان وإلى حوالى 34 فى الجنوب. وتنخفض درجات الحرارة خلال فترة الصيف فى شهرى يوليو وأغسطس بمعدل مِن 5:8 درجة، بسبب هطول الأمطار. وتصل درجات الحرارة إلى أدنى مُعدلاتها فى شهرى ديسمبر ويناير. ويقتصر هطول الأمطار على فصل الصيف. وتسود سمات الصحراء فى أقصى الشمال حيث يَقل المطر السنوى 50 ملم وتزيد كمية الأمطار وكذلك طول المطر الزراعى تدريجياً نحو الجنوب حيث يصل المتوسط السنوى للأمطار 1400 ملم وطول الموسم الزراعى فى أقصى الجنوب. ويعتبر هطول الأمطار المتقطع وتكرار موجات الجفاف التى تتفاوت فى طولها وحدتها خاصة فى الأجزاء الوسطى والشمالية، أحد الخصائص المناخية الهامة فى السودان. ولقد كانت أقصى موجات الجفاف فى القرن الحالى هو جفاف الساحل (1968-1974) وجفاف (1983-1985) والذى إتخذ بعداً مأساوياً وإمتدت آثاره لتشمل البيئة الطبيعية والبنيات الاقتصادية والاجتماعية.
وأخيراً نذكر أنه وطبقاً لنص المادة رقم (108) مِن الدستور السودانى 1998 تُقسم جمهورية السودان إلى ولايات ولكُل ولاية عاصمة؛ وذلك على النحو التالى:
ولاية أعالى النيل وعاصمتها ملكال.
ولاية البحر الأحمر وعاصمتها بورسودان.
ولاية بحر الجبل وعاصمتها جوبا.
ولاية البحيرات وعاصمتها رمبيك.
ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدنى.
ولاية جونقلى وعاصمتها ملكال.
ولاية جنوب دارفور وعاصمتها نيالا.
ولاية جنوب كردفان وعاصمتها كادقلى.
ولاية الخرطوم وعاصمتها الخرطوم.
ولاية سنار وعاصمتها سنجة.
ولاية شرق الاستوائية وعاصمتها كبويتا.
ولاية شمال بحر الغزال وعاصمتها أويل.
ولاية شمال دارفور وعاصمتها الفاشر.
ولاية شمال كردفان وعاصمتها الابيض.
ولاية الولاية الشمالية وعاصمتها دنقلا.
ولاية غرب الاستوائية وعاصمتها يامبيو.
ولاية غرب بحر الغزال وعاصمتها واو.
ولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة.
ولاية غرب كردفان وعاصمتها الفولة.
ولاية القضارف "سنار" وعاصمتها القضارف.
ولاية كسلا وعاصمتها كسلا.
ولاية نهر النيل وعاصمتها الدامر.
ولاية النيل الأبيض وعاصمتها ربك.
ولاية النيل الأزرق وعاصمتها الدمازين.
ولاية واراب وعاصمتها واراب.
ولاية الوحدة وعاصمتها بانتيو.
الولايات السودانية وحدودها

http://www.sudanesehome.com/forum/showthread
ولكُل ولاية والٍ يَنتخبه الشعب لمدة أربع سنوات، وذلك بعد ترشيح رئيس الجمهورية، طبقا لنص المادة رقم (56) من دستور(1998) ومسئولية الوالى فردية (م 61 ف 4) ويُسأل مباشرةً أمام رئيس الجمهورية (م 62) ويَقوم الوالى مَقام رئيس الجمهورية، كما يَقوم الوزير الولائى مَقام الوزير الاتحادى، كما تَسرى على كُل مجلس ولاية ذات الأحكام الدستورية السارية على المجلس الوطنى (م 98).
الأرض
وبشأن أرض السودان، فأراضى السودان: عبارة عن سهل رسوبى مُنبسط قليل الانحدار تَتَخلله مُرتفعات تُغطى أقل مِن 5 % مِن مساحته الكلية:
- أهمها جبال الأماتنوج فى الجنوب ( مع الحدود الأوغندية، وقد أعلن البيان الرئاسى أن "جون قرنق" مات نتيجة إصطدام المروحية التى كان على متنها بجبال الأماتنوج) وتلال البحر الأحمر فى الشرق.
- جبال النوبة فى جنوب كردفان. فى عام 2002طالب سكان منطقة جبال النوبة فى السودان بحكم ذاتى فى منطقتهم لمدة 6 سنوات يتقرر بعدها مصير المنطقة بين الانفصال أو البقاء ضمن حدود السودان مثل ما تم الاتفاق عليه فى هذا الشأن بالنسبة لسكان الجنوب)
- جبل الميدوب: الذى يبلغ إرتفاع جبل ميدوب حوالى 6,000 قدم ويَعيش فيه مجموعات بدوية أو شبه بدوية تَعتمد فى حياتها على تربية الابل وهم يتجهون بإبلهم جنوباً وصولاً إلى الوديان العظيمة لـغربى دارفور مثل وادى أزوم، ووادى بارى حيث تتوفر المياه فى مواسم الجفاف، كما يرتحلون شمالاً الى التربة الرملية حيث تنمو بعد سقوط الأمطار فى المنطقة المعروفة بـ الجزو، أنواع مِن العشب جيدة تستمر مُخضرة حتى شهر ديسمبر، وتُمثل هذه المنطقة بيئة صالحة لرعى الإبل دون الحاجة لمياه إضافية.
- جبل مرة: وهو يَقع جنوب غرب السودان فى ولاية غرب دارفور، ويَمتد مئات الأميال مِن كاس جنوباً إلى ضواحى الفاشر شمالاً، ماراً بدار زغاوة" أقصى شمال دارفور" وُيغطى مساحة 12,800 كم، ويُعد ثانى أعلى قمة فى السودان حيث يَبلغ إرتفاعه 10,000 قدم فوق مستوى سطح البحر، ويَتكون مِن سلسلة مِن المرتفعات بطول 240 كلم وعرض 80 كم2، تتخللها الشلالات والبحيرات البركانية.
وكانت أرض السودان الخصبة، المترامية الأطراف على نحو لا يتوافر فى جميع الأقطار العربية، دائماً ما تُترك بلا زراعة، إذ أن الاشتغال بالزراعة كان فى الضمير الجمعى عملاً خاصاً بالعبيد فقط، الأمر الذى قد يُبرر ربما من زاوية ما الحاجة إلى العبيد وإعتماد العملية الإنتاجية على عملهم غالباً، كما كان من الأسباب الرئيسية كذلك، وهو سبب تقنى، تخلف أساليب الإنتاج وتأخر تقنية الأدوات والألات التى يمكن من خلالها زراعة تلك المساحات الشاسعة من الأرض الخصبة الوفيرة الإنتاج. إلا أن تدخل الاستعمار الراغب فى المنتجات الزراعية على اختلاف أنواعها، ثم بسط الحكومة المركزية هيمنتها، بعد ذلك، على الأرض، وإستقدام بعض وسائل الإنتاج التى يُمكن إعتبارها حديثة، إستصحب نوعاً ما من تقنين الإستخدام فى ضوء علاقة تبادل غير متكافئة بين الريف وبين المدينة، إذ تعتبر المدينة بوابة الوصول، فى الغالب إلى السوق العالمى لمختلف المنتجات المرتبطة بالأرض من زراعات إلى ماشية وأغنام تحتل بشأنها السودان مركز مهم فى حجم التجارة العالمية.
ولم تكن الأرض جميعها ذات طبيعة قانونية واحدة، إذ تنوعت صور الحيازة والملكية، وإنما ظلت الأرض فى مجموعها، فى عهد الحكم المصرى، ملكاً للحكومة، وهى التى تملك الحق فى التوزيع كمياً وكيفياً، على من تراه من المشايخ والقادة العسكريين، ومهندسى البحث عن المعادن، والأثرياء الراغبين فى زراعة مساحات من الأرض البور، كذلك وجدت أراضى الأوقاف التى أوقفت لخدمة المساجد والمدارس، إذ قام المسجد آنذاك مقام المؤسسة التعليمية، وهو يلعب نفس الدور، وحتى الان فى بعض أجزاء الشمال. بالإضافة إلى ذلك، وهذا مهم، وجدت أراضى الحكومة، وهى تلك الأرض التى إحتكرتها الحكومة لنفسها وقامت بإستصلاحها وزراعتها لحسابها الخاص، ببعض المحاصيل الزراعية كالنيلة وقصب السكر والقطن، فالنيلة كما هو معروف كانت فى أيام محمد على، خاضعة للاحتكار الحكومى، وأما قصب السكر والقطن فكانا من المحاصيل التصديرية الهامة، سواء فى مصر أو السودان، ومن ثم كان من المتعين إخضاع بعض الأراضى للإشراف الحكومى المباشر؛ ضماناً لاستمرار عملية تصدير تلك المنتجات إلى الخارج، فى إطار علاقة تبادل غير متكافئة وإنما لصالح حكومة محمد على المركزية، التى ترتكز على السيطرة على"القيمة الزائدة المنتجة داخلياً"بإستخدام تلك القيمة (من خلال التفاعل مع السوق الدولية) فى سبيل بناء دولة إستعمارية توسعية فى طريقها للسيطرة على شروط تجديد إنتاجها وبناء قوتها على الصعيد الاقتصادى والسياسى والعسكرى، وهو الأمر الذى إستصحب بالضرورة تحويل الاقتصاد السودانى إلى إقتصاد زراعى متطور يتم الاعتماد عليه فى سبيل تحقيق تلك الأهداف، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بإعادة طرح فكرة العمل الزراعى كأحد سبل التنمية فى المجتمع، فأصبحت مصر بالنسبة إلى السودان مركزاً هاماً للتعليم، فكان يوفد إليها المئات من السودانيين كى يتعلموا فنون الزراعة وأصول الفلاحة، ثم يعودوا إلى بلادهم لنقل تلك العلوم وتطبيقها فى مجال الزراعة السودانية، وقد تلاقت نية الحكومة المركزية فى مصر فى تنمية الاقتصاد السودانى على نحو زراعى متطور مع رغبة شعبية فى نفس الغرض التنموى الذى يفضى فى النهاية إلى إحداث نقلة نوعية فى مجمل الهيكل الاقتصادى السودانى. فلما أدرك السودانيون، وفقاً لاغلب الأراء المثالية، أن محمد على، قد قرر على أرض الواقع جعل الاقتصاد الزراعى إقتصاداً زراعياً متطوراً، بادر بعض المشايخ من تلقاء أنفسهم فى تقديم الطلبات للحكومة فى مصر يلتمسون السماح لأبنائهم بالسفر إلى مصر لتلقينهم فنون الزراعة، ولم تتوقف الحكومة عند حدود التعليم، وإنما تعدى الأمر ذلك إلى تقديم البذور للمزارع السودانى بأسعار رخيصة، مع تحصيل أثمان تلك البذور عقب جنى المحصول، بالإضافة إلى إستخدام الحكومة المركزية فى مصر السياسات الضريبية فى سبيل التشجيع على الزراعة، وبصفة خاصة فى عهد خورشيد باشا، والذى عمل على إعادة الفارين إلى الأرض، وترغيب الهاجرين لها بالرجوع إليها وزراعتها، وهو ما يضمن تنفيذ السياسة العامة للحكومة المركزية فى القاهرة.
نعود إلى الأرض، وبصفة خاصة أرض الجنوب: ثمة نقطة أعتقد فى أهميتها كذلك فى مجرى التحليل كما سنرى، فلم يتعرف المجتمع الجنوبى على الملكية الفردية، وقبل أن تبسط الحكومة المركزية سطوتها على الأرض، لم يكن للأرض مالك سوى القبيلة التى تحيا فوقها، إذ كانت الملكية المشاعية هى الشكل الوحيد لملكية الأرض، وحينما ظهر الاستعمار والحكومة المركزية، لم يكن ليُفتت تلك الملكيات المشاعية وإنما ينظمها لضمان إنسياب الفائض، بما يتضمنه من قيمة زائدة، نحو الخارج، مع الظهور بمظهر المالك الشكلى للأرض، وبصفة خاصة فى الجنوب. وقد كان لتلك الصورة من صور الملكية القائمة على الشيوع الفضل الرئيسى، بتقديرى، فى عدم تكون طبقة كبار ملاك الأراضى، على الأقل فى الجنوب وبصفة أخص القبائل المستقرة (البقارة فى معظمها) فى أقصى الجنوب. والأرض السودانية ليست جميعها ذات طبيعة جغرافية واحدة، ولا تروى جميعها بطريقة واحدة، وذات أبعاد مترامية، الأمر الذى مثل صعوبة كبيرة لمحمد على، فى حصر الأراضى وتقسيمها؛ فقد وجدت أراضى الجروف، وهى التى تقع على ضفاف النيل وتعتمد على مياه النيل بعد الفيضان فى الرى، كما وجدت أرض الجزائر وهى التى يغمرها الفيضان ويتم زرعها عقب إنحساره، أيضاً أراضى المتره وهى الأرض التى تروى من خلال السواقى التى تُقام على حفرة واسعة من الأرض يتسرب إليها ماء النيل، ثم هناك الأراضى المطيرة والتى تعتمد على مياه الأمطار وتكون تلك الأراضى فى الغالب الأعم بعيدة عن مجرى نهر النيل أو أحد فروعه.
بعد عرضنا خطوتنا الفكرية الأولى، بجزأيها، ومعالم "إقتصاد" البلد مِن جهة، وجغرافيته مِن جهة أخرى، وهى المعالم التى تُمكننا، ولو مرحلياً، مِن إستيعاب السودان كأحد الأجزاء التابعة والمتخلفة مِن الاقتصاد الرأسمالى العالمى، فمِن الواضح بإستقراء الأرقام والإحصائيات المذكورة أعلاه، أن الاقتصاد السودانى إقتصاد هش، زراعى متخلف، متآكل الهيكل، تابع بكُل ما تَفرضه وتعنيه الكلمة؛ لا تقيم قطاعاته الاقتصادية فيما بينها أى نوع مِن المبادلات، أضف إلى ذلك قيام السودان بإستيراد الطعام، على الرغم مِن إعتباره مِن أكبر الدول العربية من جهة الهيكل الزراعى، الأمر الذى يجعلنا نفتش فى التاريخ للبحث فى جذور هذا التخلف وأليات تجديد إنتاجه بالانتقال إلى خطوتنا الفكرية الثانية والتى سننشغل فيها "بالكل التاريخى".
الخطوة الفكرية الثانية: الكل التاريخى
سنعمد هنا إلى تجاوز الحديث، الموسع، عن الكُل الأقدم (فهو لا يعنينى مباشرة) إبتداءً مِن حضارة "الكرمة" والتى إنتشرت أثارها مِن منطقة دنقلة شمالاً وحتى جزيرة أرجو جنوباً، وحضارة "كوش" التى إمتدت مِن 1580 و 750 ق.م، وحضارة "مروى" (الأصول التاريخية للرق فى السودان) وبعد مروى حقبة لا يُعرف، كما فى كل الكتب التى رجعنا إليها، عن أخبارها إلا معلومات ضئيلة، حيث حَكم البلاد مجموعات سكانية لم يَتمكن علماء الآثار، كما يُقال كذلك، مِن معرفة إنتمائها العرقى، ويسمونها المجموعة الحضارية، ويَمتد عصر هذه المجموعة مِن سقوط "مروى" فى القرن الرابع الميلادى إلى ظهور المسيحية فى السودان فى القرن السادس الميلادى وسيادة مذهب "اليعاقبة" والمذهب "الملكانى"، ثم مواجهة التوسع الإسلامى على يد صلاح الدين الأيوبى، وستكون إتفاقية البقط (التى تم توقيعها فى العام 652بين عبد الله بن أبى السرح، حاكم مصر فى زمن الخليفة عثمان بن عفان وبين قليدروث، ملك النوبة) مِن قبيل الحكايات التى تروى للبرهنة على الاجتياح الإسلامى العربى للمجتمعات المستقلة، وللتدليل على ترسيخ الإسلام، من خلال خلفائه، لثقافة الاسترقاق.
إن تجاوزنا الحديث عن تلك المراحل التاريخية، المهمة بلاشك والجوهرية، إنما يرجع إلى الرغبة فى الولوج مُباشرة فى درس الهيكل(المتعين دراسته) وليس(التاريخ) الذى بَرع فيه البعض، أو تستروا به، بدعوى الحديث فى الاقتصاد السياسى، إستكمالاً لمسيرة الابتذال، والهزل العِلمى. والأبحاث التافهة. إن إهتمامنا بالتاريخ، فى حقل عِلم الاقتصاد السياسى، يَتعين أن يقف عند الحدود التى تبلورت عندها الظاهرة المتعين فهمها، وهكذا أفهم معنى"ما هو تاريخى" فى عِلم الاقتصاد السياسى. ولذا يتعين البدء مِن أول عدوانية للرأسمال الأجنبى (أجنبى عن الوطن) على الاقتصاد المعاشى بكامل خصوصيته فى السودان، تلك العدوانية التى تَمثلت فى: السيادة العثمانية المصرية على السودان فى الفترة من العام(1821) وحتى الاحتلال البريطانى لمصر فى العام (1882) وهى الفترة التى كانت فيها مصر تحت السيادة العثمانية، وعملت فيها الدولة العثمانية على توسيع نفوذها بالتوسع جنوباً، بالتعاون مع حاكم مصر محمد على، الباحث عن الذهب والرقيق (الجنود) وهو الأمر(أى تجارة الرقيق) الذى تم تجريمه، شكلياً، مع الاستعمار الأوروبى لمصر، والذى إمتد إلى السودان، مع عدم غياب الدور المصرى؛ إذ ظل الدور المصرى قائماً ولكنه كان محدوداً وشكلياً.
1- القرن التاسع عشر(10)
قبل أن ننتقل إلى تكوين الوعى التاريخى، ثمة ملحوظتين يتعين إبرازهما، الأولى: وهى تلك المتعلقة بالمنظور الحدودى للسودان، فقد جرت العادة، دون أدنى مراجعة، حتى بات من الأمور المستقرة؛ تناول السودان ككل، على أساس الحدود الاستعمارية، التى تم ترسيمها بعد الاجتياح الاستعمارى للسودان، بدء من الهجمة الاستعمارية التركية المصرية، وإنتهاءً بالهجمة المصرية البريطانية، ومن ثم سيُصبح صحيحاً لدى البعض، وما هو بصحيح، النظر إلى الأجزاء المختلفة وبصفة خاصة فى الجنوب كأجزاء متمردة وخارجة عن سلطان الدولة، على الرغــم من انها لم تكن لتخضع لتلك السلطــة فى يوم من الأيام قبل تلك الهجمـــات الاستعمارية
---------------------
(10) أنظر، على سبيل المثال، فى تفصيل تلك المرحلة التاريخية: نعوم شقير، تاريخ السودان، تحقيق: محمد إبراهيم أبو سليم (بيروت: دار الجيل،1981) وأنظر كذلك: أحمد أحمد الحته، تاريخ مصر الاقتصادى فى القرن التاسع عشر، ط3 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1958) وأيضاً: محمد صبرى، تاريخ مصر من محمد على إلى العصر الحديث (القاهرة، مكتبة مدبولى، 1996) محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث، (الخرطوم: مركز عبد الكريم ميرغنى ، 2002).
وترسيم الحدود وفقاً لمصالح رأس المال الغربى فى تحركاته المقسِمَة للقارة الأفريقية. وإنى أود أن أقول ان الحكى التاريخى يتعين أن يكون على هدى من فهم مدى الاستقلالية التاريخية لتلك الأجزاء المكونة للسودان قبل الاستعمار، ومن ثم فهم مدى الإدماج القسرى لتلك الأجزاء فى كيان واحد غير متجانس على الإطلاق وإنما متناحر ومتصارع، ودوماً يتم إستغـــلال هذا التناحــــر وذلك الصراع من أجل حفاظ الحكومـــــة المركزية على وجودها من خلال الاستفادة بتلك الصراعات بل ومحاولات تأجيجها. فحينما يمر بنا أن الحكومة أخضعت دارفور مثلاً، يجب الوعى بأنها أخضعتها إبتداءً من عملية توسع إمبريالى، وليس كأحد الأجزاء السودانية الخارجة على الحاكم، أو متمردة على السلطة كما يُقال. فأنا لا أفهم معنى كلمة "تمرد" التى كانت تستخدم فى زمن الاستعمار، وبصراحة لم نستطع حمل النفس على فهم الكلمة ذاتها بعد الاستقلال. والآن بصفة خاصة.
أما الملحوظة الثانية: فهى المتعلقة بتكوين الوعى بشأن تاريخ مصر(11)الحديث إبتداءً من الحملة الفرنسية؛ لان تاريخ السودان عادة ما يُقرأ إبتداء من تاريخ مصر، وهذا خطأ شائع ولكن لا مناص فى ضوء الندرة الشديدة للتأريخ إبتداءَ من تاريخ السودان نفسه؛ ويمكننا القول بأن المجتمع المصرى، بتركيبته الاجتماعية بكُل خصوصيتها، لم يكن ليتعرف فى فترة تاريخية مبكرة على السوق الرأسمالية الدولية فى توسعها المستمر؛ إلا من خلال الحملة الفرنسية، والتى مثلت أول تُعارف، عدائى رسمى وواضح، فيما بين المجتمع المصرى، وبين الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، وتحوله إلى أرض معارك ضارية بين قوى العالم الرأسمالى آنذاك، فقد جاء بونابرت إلى مصر فى أول يوليو1798، وإستولى على القاهرة بعد إنتصاره على جيوش المماليك، ولكن القوى الإمبريالية الأخرى أى بريطانيا، لم تجعل الأيام تمر حتى تمكن نيلسون من القضاء على الجيش الفرنسى فى إبى قير، وإستمر هذا الصراع بين قوى الرأسمال الدولى، من أجل فرض الهيمنة على سوق المواد الخام، والموقع الاستراتيجى، ولم ينته، ظاهرياً، إلا بإعلان إنتهاء الحماية البريطانية على مصر فى عام 1922.
وإذ يكون من أهداف الحملة الفرنسية تعويض الخسائر الفادحة التى لحقتها فى حربها الاستعمارية مع إنجلترا، مع ضرورة توفير الغذاء بعد إزدياد السكان وبصفة خاصة فى الجنوب، بتحويل مصر إلى مزرعة هائلة، تمد الصناعات الفرنسية بما يلزمها، بالإضافة إلى جعلها منطلقاً إستراتيجياً فى البحر المتوسط، فإنه يتعين إتخاذ عدة إجراءات تخص إجراء المسح الشامل للأراض المصرية ودرسها بمن عليها، وهو الأمر الذى تحقق عملاً من خلال:
---------------------
(11) لتكوين الوعى حول التكون التاريخى لظاهرة التخلف الاجتماعى والاقتصادى فى مصى فى تطورها عبر الزمن، بغية تكوين الموقف الرافض من سطحية النظرية الرسمية التى ترى التخلف حالة آنية وربما صدفوية، وتهمل إثارة تحققه كعملية اجتماعية عبر الزمن، ولا تتوقف عند إحصاءات الفقراء والمرض، أنظر: محمد دويدار، الاقتصاد المصرى بين التخلف والتطوير (الإسكندرية: دار الجامعات المصرية، 1978) أيضاً محمد دويدار، المشكلة الزراعية والتطور الرأسمالى فى مصر (قضايا فكرية. القاهرة، 1990) ولإستكمال التصور النظرى لخط سير الإقتصاد المصرى بعد إدماجه الكلى فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر: أنظر كذلك: محمد دويدار، الحركة العامة للاقتصاد المصرى فى نصف قرن رؤية إستيراتيجية (القاهرة: إصدارات سطور الجديدة، 2010) أيضاً: أحمد صابر سعد، تحول التكوين المصرى من النمط الأسيوى إلى النمط الرأسمالى (بيروت: دار الحداثة، 2001) أيضاً أحمد الحته، تاريخ مصر الاقتصادى فى القرن التاسع عشر (القاهرة: مطبعة المصرى، 1967) أيضاً: رؤف عباس حامد، النظام الاجتماع فى مصر فى ظل الملكيات الزراعية الكبيرة (الإسكندرية: دار الفكر الحديث، 1973) ولتكوين تصور موسوعى لما قبل الحملة فإنه يتعين الرجوع إلى: عبد الرحمن الجبرتى، عجائب الآثار فى التراجم والأخبار ( القاهرة: لجنة البيان العربى، 1960) وأيضاً: عبد الرحمن الجبرتى، وحسن العطار، مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس، تدقيق: أحمد عبده على (القاهرة: مكتبة الآداب، 1998) ولتكوين نفس الوعى بعد الحملة الفرنسية يتعين الرجوع إلى: عبد الرحمن الرافعى، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر، أيضاً: بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية، مصر 1760- 1840، ترجمة: محروس سليمان، ومراجعة: رؤوف عباس (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،1999) كما وأن هناك ثمة دراسة جيدة قامت بها فاطمة علم الدين عبد الواحد، تناولت فيها أحوال طبقة العمال الزراعيين الذين كان يُطلق عليهم فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لفظ "الأجرية" أنظر: فاطمة عَلم الدين عبد الواحد، تاريخ العمال الزراعيين فى مصر 1914 – 1952 ( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997)
وصف مصر، كمجموعة من الأبحاث الاستعمارية، وهو الأمر كذلك الذى إستلزم عدة أفكار وإجراءات تخص تنظيم الملكية والإدارة ونظم الضرائب؛ بما يحقق السيطرة على الفائض، ويكفل تعبئته (تسربه) نحو الخارج. وإذ ما حاولنا رسم صورة كلية للوضع على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى حين هجوم رأس المال الاستعمارى يمكن أن نلحظ أنه فى سياق الزراعة والعمل الزراعى، كان إستخلاص ريع الأرض من الفلاحين يعتمد على الحكومة المركزية، وليس على الوجود الإقطاعى. كما يُلَقن للطلاب، وكان إستمرار الإنتاج فى هذا النظام يرتكز على التعاون النشط من جانب أغنياء الفلاحين، والذى يتعين عليهم توفير وكفالة إحتياجات الزراعة، وربما معيشة المزارع نفسه، مع الاستئثار بالفائض. وكان قطـــاع التجـــارة مقتصراً نسبياً على القاهرة دون باقى الأســـواق فى مصر، كما قام هذا القطاع منذ أيام الأيوبين وحتى مطلع القرن السابع عشر، بوظائف التوزيع والتمويل للطبقة الحاكمــة، والتى تمثلت فى نُخبة المماليك، من جهة، وأثرياء التجــــار من جهة أخرى.
وإذ تنطلق الثورة الصناعية فى غرب أوروبا، تأخذ قيمة الأرض فى الارتفاع، فهى تمد المصانع بمواد العمل، كما زادت المنافسة فى قطاع التجارة خصوصاً بعد وصول التجار الأوربيين، والتجار السوريين المسيحييين، والذين قاموا بدور الوكيل للرأسمالية الفرنسية، وكان عام 1760، عام تولى على بك الكبير مشيخة البلد، أى حكم مصر، علامة فارقة على طريق الصراع من أجل الفائض، كى تبدأ مقدمات تأهيل المجتمع لتلقى أول عدوانية مباشرة للرأسمال الأوروبى على يد الحملة الفرنسية، التى لم تتمكن من الاستمرار العسكرى أكثر من ثلاث سنوات، لكى يتولى محمد على حكم مصر، وتبدأ إذ ذاك سلسلة طويلة، من الاحتكاك والتفاعل مع السوق الرأسمالية الناشئة فى بعدها العالمى. فإذ يتولى محمد على الحكم فى عام 1805، فإنه يحصر أهدافه فى أمرين محددين بدقة: أولهما: إبادة الطبقة الإقطاعة المهيمنة على الأرض، والتى تمثلت فى المماليك، بصفة خاصة. ثانيهما: تصفية الإقطاع نفسه، وقد نجح محمد على، فى تحقيق كلا الهدفين فى زمن قصير، إذ حقق هدفه الأول فى مذبحة القلعة والثانى من خلال مجموعة من الإجراءات التى تمكنت من ضرب النظام الإقطاعى ذاته.
وإذ يحصر محمد على، أهدافه على هذا النحو، محققاً إياها، فقد عرف النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديداً فى الفترة من (1811 حتى 1840) تجربة للدولة فى مصر، تهدف، إقتصادياً إلى بناء إقتصاد سلعى مُستقل فى إطار السوق الرأسمالية فى صيرورتها نحو العالمية. يتم ذلك عن طريق إعادة تنظيم النشاط الزراعى، على نحو يُمَكِن من تعبئة الفائض الزراعى، الذى يُستخدم مباشرة، أو على نحو غير مباشر، من خلال التجارة الدولية، فى تحقيق نوعاً من البناء الصناعى، بما يعنى الإنتاج إبتداءً من طلب السوق، والسوق الدولية على وجه التحديد. وكانت الدولة، فى هذا الوقت تُهيّمن على ملكية الأرض، ولم يَعد الأمر يتعلق بمجرد إستقطاع الجزية من الإنتاج. فقد كانت السمة الجديدة هى(إحتكار الدولة للإنتاج) هذا إضافة إلى إحتكارها لتحديد الأثمان داخلياً وخارجياً، بما يحوى بين طياته فك الروابط التى قد يصنعها السوق الرأسمالى العالمى. إن هذا الاحتكار الذى فُرض إبتداءً من 1808 على الحبوب، سوف يمتد فيما بعد ليشمل جميع المنتجات القابلة للتصدير، فى محاولة للسيطرة على شروط تجدد الإنتاج، وخلق نوعاً ما من الاستقلالية المستندة إلى فك الروابط وعزل الأثمان، وقد نجحت التجربة حتى كادت أن تُهدد المصالح الأوروبية (التى هى متناقضة بطبيعة الحال) على صعيد السوق الرأسمالية العالمية، وبصفةٍ خاصة تهديد رأس المال البريطانى فى شرق البحر المتوسط، الأمر الذى قاد إلى التدخل العسكرى ضد مصر إبتداءً من 1840. وتوقيع معاهدة لندن، بين الدولة العثمانية وكل من روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا، ثم إنضمت فرنسا، لكى يُقضى على تلك المحاولة، وهى الأولى ونتمنى أن لا تكون الأخيرة من نوعها، التى سعت نحو بناء الاقتصاد المصرى المستقل فى إطار السوق العالمى.
وعلى الرغم من أن العدوان الإمبريالى العسكرى ضد مصر قد حقق أهدافه؛ وقضى على فكرتى الاستقلالية الاقتصادية والتوسع الاستعمارى، إلا أن محاولة السيطرة على تجديد الإنتاج وخلق تلك الاستقلالية تجاه الاقتصاديات الرأسمالية الكبرى، ونجاح تلك المحاولة إلى حد ما؛ قد ساهمت بفاعلية فى تهيئة وتسريع إدماج الاقتصاد المصرى فى السوق العالمية وإنما كإقتصاد تابع، بعد أن كان مستعمَر، كى يخضع لسيطرة رأس المال البريطانى، الذى سَينشَغِل بإجراءات إلغاء الاحتكار الذى فرضته الدولة فى عهد محمد على، الأمر الذى سوف يَستتبع إعادة النظر إلى الأرض، بجعلها سلعة يُمكن طرحا فى مجال التداول بيعاً وشراءً ورهناً وإيجاراً، أى إخضاع الأرض لمنظومة قانونية تنتمى إلى أحكام القانون المدنى.
من هنا يَبدأ الرأسمال الأجنبى فى التغلغل، أساساً فى شكله المالى، فى مجالات البنية الأساسية للخدمات والتجارة، الأمر الذى يُؤدى إلى فقدان المجتمع للسيطرة على شُروط تجديد إنتاجهِ، على الأقل من جهة الأرض التى صارت محلاً للتداول من خلال الرأسمال الأوروبى. ويتعمق تغلغل الرأسمال المالى الدولى فى الاقتصاد المصرى، بعد إتجاه الدولة إليه كمقترضة فى عهدى سعيد وإسماعيل.(12)
يشهد القرن التاسع عشر إذاً فى مجموعه، إتجاهاً عاماً لحركة الاقتصاد المصرى كإقتصاد فى طريقه لأن يكون إقتصاداً رأسمالياً فى إطار عملية لتراكم الرأسمال، بفعل الإنتاج من أجل السوق الدولية، وتوليد القيمة الزائدة، فى إطار من التعامل مع الأرض كسلعة تَخضع لجميع التصرفات القانونية الناقلة للملكية. يبدأ التراكم ذاتياً، بل مستقلاً، ثم يتحول، كما يقول أستاذنا الدكتور محمد دويدار(13) مع العدوانية المباشرة لرأس المال الدولى، البريطانى تحديداً فيما بعد، إلى نوع من التراكم الرأسمالى الذى يهدف إلى تعبئة (تسرب) جُل الفائض الاقتصادى نحو الأجزاء المتبوعة، المستعمِرة، الرأسمالية المتقدمة. بعد أن أصبح الإنتاج ليس من أجل الإشباع المباشر، أو الاكتفاء الذاتى، أو التصدير من أجل التراكم، وإنما من أجل حاجة الاقتصاد المستعمِر. معنى ما سبق أن تطور الاقتصاد المصرى، وتخلفه "التاريخى" الذى تُهمله النظرية الرسمية، ونمو الطبقات الحاكمة كان دائماً فى ركاب الرأسمالية الإمبريالية، التى تمكنت من إنتزاع فائض القيمة، والفائض العينى، بطريقتين:الطريقة الأولى: إستعمارية/عسكرية، إبتداءً من الحملة الفرنسية، وإنتهاءً بالاحتلال البريطانى.أما الطريقة الثانية: فهى، وعقب إستقلال المستعمرات، بخلق طبقة حاكمة موالية داخل البلد(وهى غالباً التى تلقت تعليمها فى عواصم البلدان الاستعمارية) تكفل إستمرار إتمام عملية تسرب المواد الأولية نحو الخارج. وفى المقابل توفر لها الرأسمالية الإمبريالية، مع غض بصر متعمَد عن مظاهر الفساد المستشرى، مع تدعيم مستمر فى سبيل ترسيخ الوجود السياسى، وإكسابه الشرعية (المزيفة عادةً) طالما ضمنت تلك الطبقات الحاكمة، البورجوازية فى الغالب، إنسياب المواد الأولية نحو الأجزاء المتقدمة.
إبتداءً من هاتين الملاحظتن يمكن أن نتقدم لبحث الوضع فى السودان مع أول عدوانية للرأسمال على الاقتصاد المعاشى فى السودان بكل خصوصيته الإجتماعية، والتى تمثلت مع أول حملات محمد على، إلى الجنوب وفتح السودان ضمن مشروع توسعى إمبريالى، إذ يُمكن القول بأن السودان تم غزوه بثلاثة جيوش على فترات متقاربة (فى الفترة من 1820 وحتى 1823)
---------------------
(12) بلغ الدين العام عند وفاة سعيد 11,160,000 جنيهاً إنجليزياً، وليبلغ فى عهد إسماعيل سنة 1876 ما مقداره 126,354,360 جنيهاً إنجليزياً. أنظر: عبد الرحمن الرافعى، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر، عصر إسماعيل، الجزء الأول، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، ص187.
(13) دويدار، الاقتصاد المصرى بين التخلف والتطوير، ص214.
فهناك حملة إسماعيل باشا، ثم حملة إبراهيم التى بلغت حدود قبائل الدنكا فى الجنوب، ثم حملة صهر محمد على باشا، أى محمد بك الدفتر دار، وتظل الحملة التى قادها إسماعيل باشا، هى الأهم والأشهر تاريخياً، إذ فى منتصف عام 1821 تمكن إسماعيل باشا، قائد الحملة، من فرض سيطرته العسكرية على أجــــزاء واسعة من الأراضى السودانية (بربر، وشندى، وسنار) وذلك بمساعدة من الشايقية وهى واحدة من أهم القبائل المكونة للجعليين الذين أحكموا سيطرتهم على مجمل المساحات المتأخمة لنهر النيل، من شماله حيث الدناقلة إلى جنوبه حيث البقارة- رعاة البقر، ومن المعروف تاريخياً أن الشايقية قد إرتبطوا برجال الإدارة المصرية منذ عام 1821، وذلك عقب هزيمتهم بصعوبة بالغة على يد حملة إسماعيل باشا، فلم يستسلم الشايقية إلا بعد حرب ضروس. وكان لوقوع صفية إبنة صبير أحد ملوكهم فى أسر إسماعيل، وإكرامها وإرجاعــها إلى أبيها الملك صبير الأثر الواضح فى إنشــاء العلاقـــــة بين الشايقية وبين الإدارة المصرية، فقد كان لتلك الواقعة الدور الرئيسى فى دخول صبير تحت لواء الإدارة المصرية وتبعه فى ذلك باقى الشايقية، والذين أصبحوا منذ ذلك الوقت منضوين تحت لواء الجيش المصرى وإشتركوا فى غزو سلطنة الفونج وفتح الجزيرة، كما منحتهم الإدارة المصرية مساحات من الأراضى قرب مصب النيل الأزرق، وقد ظل الشايقية على ولائهم لنظام محمد على بعد أن ضمن لهم هذا الولاء الهيمنة على الأرض وبسط النفوذ الحربى، حتى وبعد أن إشتد إعصار المهدية الجامح، كما سنرى، وسقوط الخرطوم فى يناير 1885.
لم تكن فترة إسماعيل باشا، قائد الحملة، من الفترات الطيبة بالنسبة للسودان وبصفة خاصة بالنسبة للفونج، فقد مارست الإدارة المصرية سياساتها الضريبة على نحو قاسى أدى إلى إنهاك الناس وهجرتهم وتركهم لأراضيهم وبيوتهم، الأمر الذى أفضى فى المنتهى إلى ثورة عارمة أودت بحياة إسماعيل باشا، ولم تكن أحداث تلك الثورة لتمر بتهدئة الثوار والسماع إليهم وإصلاح النظام الضريبى، وإنما أصدر محمد على قراره بقمع الثورة وأمر بتحرك الجيش (والشايقيون ضمنه) بقيادة الدفتردار؛ لتدمير تلك الأجزاء التى ثارت وقتلت إبنه إسماعيل، وبمرور الوقت، وبعد قمع الثوار، أدرك محمد على ان السودان لا يمكن حكمها من المركز فى القاهرة، وإنما يجب تعيين حاكم عام، قوى، لها يتولى أمرها، إذ كانت السنوات من 1821 وحتى 1826 سنوات مرتبكة فى حكم السودان، تخللها إنشاء الخرطوم سنة 1825.
أ- الحاكم العام
وبالفعل قرر محمد على تولية خورشيد باشا الذى إستأنف سياسة سلفه عثمان بك الإصلاحية والتى تهدف إلى ضمان إنسياب القيمة الزائدة المنتجة محلياً إلى القاهرة، إذ عمل خورشيد باشا منذ توليه منصبه كحاكم عام للسودان على إعادة الهدوء إلى الأرض وتشجيع مَن هجرها على العودة إليها فقد قام خورشيد باشا بوضع نظاماً ضريباً يُشجع على الرجوع إلى الأرض، وهو الأمر الذى يعنى من الوجهة الثانية تنشيط حركة الاتجار فى العبيد لأن السادة لا يعملون بالفلاحة والنشاط الزراعى بوجه عام، بل العبيد هم فقط الذين يقومون بتلك الأعمال، فمعنى الرجوع إلى الأرض أن يتم تنشيط تلقائى لتجارة العبيد؛ لأن ركود تلك التجارة إنما يعنى ضعف الإنتاج الزراعى وربما توقفه، وتوقف الإنتاج الذى يتم ضخه إلى الخارج عن طريق الإدارة المركزية فى القاهرة إنما يعنى زعزعة المركز الذى تسعى الإدارة إلى إحتلاله فى تقسيم العمل على الصعيد الدولى. ومن ثم فقد قام خورشيد باشا نفسه بقيادة مجموعة من حملات القنص فى أعالى النيل وعلى طول حدود أثيوبيا فى الفترة من 1827 وحتى 1833.
تعاقب على منصب الحكم العام بعد خورشيد عدد آخر، ولكن الضعف كان هو السمة السائدة فيهم جميعاً، فبعد خورشيد باشا تولى المنصب أحمد باشا أبو ودان الذى كان بمثابة صورة مهزوزة ليس إلا لمؤسسة الحكم المصرى فى السودان، فلم يكن فى مخيلته إتمام المشروع التوسعى، وكان معظم همه محاولات يائسة وبائسة فى السيطرة على حركات (التمرد!) وبعد وفاة أبو ودان فى 1843، شهد السودان حالة من الفوضى، بعبارة أدق المزيد من الفوضى، فبالإضافة لحالة الفوضى التى كانت تشهدها السودان فقد مات محمد على، وخلفه إبن أخيه عباس الأول ومع تولى عباس الحكم فى القاهرة تردت الأوضاع وساءت إلى أقصى الحدود وأصبح السودان مكان المغضوب عليهم من رجال الإدارة فى القاهرة، ولم يكن فى ذهن عباس على الإطلاق المحافظة على فتوحات جده محمد على، ومن ثم لم يكن لديه أى تصور عن أى شكل من أشكال التوسع.
ب- المديريات الخمس
بعد وفاة عباس الأول فى عام 1854، تولى الحُكم فى القاهرة الخديوى سعيد باشا وقد قرر إصلاح ما أفسده سلفه عباس الأول، وفيما يتعلق بالسودان فقد ذهب إليها فى يناير عام 1857، وإنزعج من الوضع البائس التى تعيشه السودان، فقرر إعادة تنظيمها بتقريره تقسيمها إلى خمس مديريات: سنار، وكردفان، والتاكه، وبربر، ودنقله. ثم أصدر منشوره الإصلاحى القاضى بنزاهة القضاء، وتخفيف عبء الضريبة، ومحاولة القضاء على السخرة. وفى آواخر حكمه عين موسى باشا حكمداراً عاماً للسودان، والذى على يديه، كحاكم غير مطعون فيه تاريخياً، نشطت الفتوحات جنوباً حتى إمتدت إلى منابع نهر النيل فى ألبرت وفيكتوريا، بيد أن تلك الفترة كذلك شهدت تطوراً ملحوظاً فى تجارة العبيد وتكون مؤسسات تمتلك السند الشرعى لتلك التجارة وترى أن محاولة التحريم مناقض للشريعة، وأن أية محاولة للتجريم إنما هى تدخل غير مشروع من قبل السلطة فى تجارة مشروعة، ولا يمكن القول بأن سعيد قد تمكن ولو جزئياً من القضاء على تلك التجارة، إذ يتعين إنتظار مجىء إسماعيل باشا كخديوى لمصر، فى سنة 1863، كى نبدأ فى الحديث عن حرب شعواء ضد المؤسسة التى كونها أمراء الرق، والتى صارت طبقة مهيمنة وذات تنظيمات وتركيبات معقدة، إستطاعت أن تفرض نفوذها فى شرق بحر الجبل وبحر الغزال وبصفة خاصة غرب بحر الغزال، حيث كون الزبير بن رحمة كما سنرى حالاً، إمبراطورية لتلك التجارة، للدرجة التى تنازلت معها الإدارة المصرية عن سلطانها فى إقليم بحر الغزال، وإعتبرته حاكماً له، إعترافاً منها رسمياً بمقدار السلطة والهيمنة التى بلغتها أحد وأهم الشخصيات التى تُلهم سيرتها تتبع التاريخ الموازى للسودان الحديث. إنه الزبير رحمة ولسوف نتحدث عنه فى موضعه، بعد قليل.
ج- عصر إسماعيل باشا
بعد وفاة سعيد تولى إسماعيل باشا الحُكم فى القاهرة، ويمكننا القول بأنه من الحكام الذين يثيرون الجدل؛ ففى عصره شهدت مصر نقلة نوعية كبيرة وتطوراً إجتماعياً بارزاً ، تمثل فى إتمام حفر قناة السويس، وإجراء إصلاحات شاملة على الصعيد الإدارى والقضائى، كما تغيرت معالم القاهرة والإسكندرية فصارتا أشبه بالمدن والعواصم فى أوروبا وبصفة خاصة فرنسا، أيضاً قام إسماعيل باشا بمد وتوسيع شبكة المواصلات والبريد، كما تم إنشاء العديد من معامل السكر، ومصانع النسيج، ووسع نطاق المطبعة الأميرية، كما جدد إرسال البعثات العلمية، وأنشأ الجمعية الجغرافية المصرية، ودار الكتب المصرية، كما شهد عصره ظهور الصحافة الحرة حيث أصدر يعقوب صنوع، وهو يهودى مصرى، بالإتفاق مع جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده جريدة "أبو نظارة" فى سنة 1877 لإنتقاد أعمال إسماعيل نفسه بعبارات تُكتب باللغة المحكية، كما أسس تقلا وأخوه بشارة تقلا جريدة "الأهرام" فى سنة 1876، وأصدر إبراهيم اللقانى "مرآة الشرق" فى أوائل 1879، وأنشا ميخائيل عبد السيد جريدة "الوطن" فى أواخر 1877، إلى غير ذلك من مظاهر النهضة، ولا نغفل بالطبع تسببه، بالإستدانة، فى وضع الاستعمار البريطانى فى حالة تأهب كى ينقض على البلاد!
أعاد إسماعيل تسليح الجيش مكوناً جيشاً قوياً إستعان به فى إعادة الروح إلى المشروع التوسعى الاستعمارى الذى بدأه محمد على، فقد إستعان بالجيش والأسطول التجارى فى خطة توسع شاملة فى الجنوب فأرسل فى 1868 حكمدار السودان إسماعيل باشا أيوب قائداً لجيش قام بإحتلال أعالى النيل ودارفور، وكلف فى 1869 صمويل بيكر بتوسيع الامبراطورية فى الجنوب والقضاء على تجارة الرقيق، وتولى المهمة، تحديدا حكم المديرية الاستوائية بعد ذلك إنجليزى آخر هو تشارلز جوردون، والذى تمكن من إخماد التمرد فى دارفور، وإعادة الهدوء الى الحدود الإثيوبية بعد أن فشل غزوها، كما إستطاع الى حد ما من تقليص حجم تجارة العبيد فى الجنوب.
ولم تكن إصلاحات إسماعيل وعمله المتواصل على تطوير المجتمع، دون إهتمام بالدائنين الأوربيين، إنجلترا وفرنسا، لم تكن إلا خطوة على طريق الإقصاء، إذ أصدر السلطان فى إسطنبول قرار عزله فى 1879، ولما علم جوردون أن إسماعيل تم عزله قام على الفور بتقديم إستقالته، الأمر الذى بدا أعلاناً لتراجع الدور المصرى فى السودان، وربما إنتهائه؛ إذ نهضت المهدية معلنة عن نفسها كحركة دينية ثورية هدفها إعادة صياغة الوعى الدينى وتصحيح الأوضاع بالتصدى للفساد الفقهى الذى جاء به الغزو العثمانى، ومن ثم التصدى، كذلك، للوجود الأجنبى وبصفة خاصة فى الشمال.
د- محمد المهدى
بعد ستين عاما مِن الحكم التركى للبلاد، قام محمد المهدى لمحاربة الأتراك مدعياً بأنه المهدى المنتَظر، ووقعت أولى معاركه مع الجيش التركى بقرية الجزيرة أبا عام 1881 واستطاع بعد معارك عديدة أن يُسيطر على الخرطوم عاصمة البلاد فى يناير 1885 (وقتل جوردون، الحاكم العام) وبعد شهور قليلة مات المهدى ودُفن بمدينة أم درمان، كى يَتولى الحكم بعده خليفته عبد الله التعايشى، وسط معارضة واسعة مِن أنصار المهدى وأهله الذين رأوا فى شخصاً غير مناسب طبقياً، لكن التعايشى تمكن بمزيد مِن العنف مِن إحكام قبضته على البلاد، وإتسمت فترة حكمِه بالاضطراب والعنف والقلاقل.
ولم يكن مَقتل جوردون، ليمر دون إن يشتعل الموقف فى بريطانيا العظمى والمطالبة بالانتقام؛ وبالفعل تم إرسال حملة قوامها 10 ألف جندى مصرى، وبقيادة الضابط الإنجليزى كتشنر وبمباركة اللورد كرومر المعتمد السامى البريطانى بالقاهرة تحرك الجيش نحو السودان ولم يلق أى معارضة تُذكَر، وكانت أولى معاركه الحقيقية مع جيش المهدى هى معركة (كرارى) التى إنتصر فيها الجيش المصرى، عام 1889، ولكن بعد أمجاد وأساطير، يحكيها البعض، عن الصمود والشجاعة والتفانى فى الدفاع عن الوطن!
وفى عام1899 تم توقيع إتفاقية الحكم الثنائى بين بريطانيا ومصر، وتم بموجبها إعلان إلغاء سيادة الدولة العثمانية فى السودان. وفى عام 1924 تم اغتيال السير لى ستاك حاكم عام السودان فى شارع أبى الفداء بالقاهرة، فبدأت الأزمة بين الحكومة المصرية والبريطانية، إذ حملت لندن الحكومة المصرية مسؤولية الاغتيال؛ وترتب على ذلك إخراج الجيش المصرى مِن السودان. ومما زاد تعقد الوضع هو تضامن عدد مِن الضباط السودانيين مع المصريين وإندلعت فى البلاد ما سُمى بثورة 24 بقيادة "على عبد اللطيف" وآخرون. تم إخماد الثورة وقتل قادتها وأسر على عبد اللطيف، ثم نفيه لاحقاً إلى مصر.
هـ - الحركة المهدية
فى مارس 1881، وعلى أرض جزيرة "أبا" (150 ميلاً جنوب الخرطوم) جاءت محمد أحمد بن عبد الله الرؤيا لمرات عديدة والتى إختاره فيها النبى (صلى الله عليه وسلم) ليكون المهدى المنتظر. وفى أول الأمر أسرّ بأمر هذه الرؤية لصفيه عبد الله بن محمد طرشان، ثم لحلقة صغيرة من تلاميذه، قبل أن ينطلق إلى "الأبيض" العاصمة التركية- المصرية لكردفان، وهناك أعلن على الملأ أنه المهدى المنتظر، ودعا الأعيان والناس فى عاطفة جياشة إلى نبذ هذا العالم من أجل عهد جديد سيأتى للتقوى والعدل. وقد اجتذبت دعوته هذه وشخصيته الكاريزمية أنصاراً كثيرين أدوا له يمين البيعة سراً. وبعد عودته إلى أبا، بعث برسائل إلى الزعماء السودانيين فى الشمال يزف فيها إليهم نبأ أنه حقاً المهدى المنتظر.
وبتأمل أحوال المجتمع السودانى خلال تلك الفترة، والتى ظهرت فيها الحركة المهدية، فمن الممكن أن ندرك الأسباب الحقيقية وراء إنتشار دعوى المهدى وما إتصل بها من الطرق الصوفية، فقد عُرف المجتمع السودانى بالتدين الشديد منذ العهود السابقة، كما شهد السودان كثيراً من الحروب والصراعات الدامية والتى تركت آثاراً عميقة فى نفوس الناس، وهو الأمر الذى دفعهم للبحث عن الخلاص، لينقذهم من حالات الضعف واليأس، فكان الأمل فى المهدى الذى بشر أتباعه بثواب الآخرة للمحرومين وسوء العاقبة للباحثين عن متاع الدنيا الزائلة.(14)
كان محمد أحمد عبد الله من دنقله وحين جاهر بكونه المهدى المنتظر؛ كان فى الأربعين من عمره، وقد إشتهر بين الناس بالفقه والورع، وذلك منذ إنخراطه فى الطريقة الصوفية السمانيّة التى رأى أنها قد أصبحت دنيوية للغاية، فتركها إلى جزيرة أبا حيث عاش حياة الزهد والتعبد، ولذا تم إعتباره من الاصلاحيين (المجددين) وقد منح نفسه ثلاثة ألقاب إسلامية فهو الإمام، وخليفة رسول الله، والمهدى المنتظر. وبفضل الانتصارات الساحقة المتتالية التى أحرزها المهدى وأتباعه على قوات الترك الجهادية المكروهة؛ والمزودين بالبنادق والمدافع؛ ترسخت الدعوى المهدية (الأنصار) وتمكنت من الانتشار وضم العديد من الرجال المتدينين وتجار الرقيق والعرب(البقارة). وبالنسبة لرجال الدين والفقهاء الذين حازوا على نفوذ كبير فى الريف السودانى، فقد كانوا منذ زمن طويل يستهجنون الحالة التى بلغها الإسلام، وخصوا بذلك الإسلام التقليدى الذى جاء به الأتراك وإعتبروه نوعاً من الزندقة. وقد وجد هؤلاء الآن الفرصة مواتية لتنقية الإسلام فى السودان؛ بإعتبار أن المهدى حينما تكلم عن الفساد والحكم الفاسد فقد كان يعنى الفساد الفقهى لا السياسى.
وهناك جماعة ثانية أيدت المهدى وهى الجماعة التى ضمت المنخرطين بشكل أو بآخر فى تجارة الرقيق. وكان معظمهم من الجعليين، أو مثل المهدى نفسه من الدناقلة الذين فقدوا أرباحهم، بعد أن أعلن رسمياً إلغاء الرق، والآن أصبح من الممكن لهم إخفاء بواعثهم الاقتصــادية والسياسية وراء إصلاح إسـلامى يتغاضى، عن الرق. كما تمثلت جماعـــة ثالثة فى
---------------------
(14) ثمة دراسة جيدة، فى سبيل تكوين الوعى بشأن الحركة وبنائها الداخلى، وهى التى أنجزتها هدى مكاوى، بعنوان: البناء الاجتماعى للمهدية فى السودان (القاهرة: مكتبة مدبولى، 2006) وفى سبيل تكوين تصور ورؤية أكثر إتساعاً بشأن الكيفية التى قام فكر النهضة من خلالها بلعب دور الراية الأيديولوجية، وصياغة تركيبتها الداخلية كأيديولوجية وطنية على صعيد العالم العربى؛ وبصفة خاصة فى مصر(الثورة العرابية) وإمتداد تأثيرات هذا الفكر بموازة التأثيرات الأوروبية إلى إيران (ثورة المشروطة 1905-1911) ثم المهدى فى السودان، ثم لاحقاً إبن باديس فى الجزائر.....، وكل ذلك فى مجرى الصراع ضد الهيمنة الإقطاعية العثمانية والكولونيالية البريطانية والفرنسية، أنظر: فالح عبد الجبار، بنية الوعى الدينى والتطور الرأسمالى، دراسات أولية (دمشق: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية فى العالم العربى، 1990).
البدو البقارة بكردفان ودارفور، وقد كانوا أقوى الجماعات التى عُدت من أنصار المهدى. وإذ تُصبح الحركة المهدية أمراً واقعاً وإذ يُصبح التمرد حالة سائدة؛ تُقرر بريطانيا بعد تردد الموافقة على فكرة أن يقوم الخديو بتعبئة حملة مصرية من عشرة آلاف جندى تحت قيادة ضابط بريطانى فى الجيش الهندى هو الكولونيل وليم هيكس، بيد أن الخلاف قد دب بينه وبين معاونيه من المصريين، وتمكن الأنصار من إبادة الحملة تقريباً عند سواكن جنوب الأبيض. وإذ تمر الأيام وتترسخ الدعوى المهدية كما تبرز أوجه المصلحة والتناقض بين التشكيلات البشرية المنخرطة بداخلها، حتى يظهر جوردون تارة أخرى على الساحة حاكما عاماً، كى يُقتل وتتحول مدينة الخرطوم فى الساعات الأولى من صباح 26 يناير 1885 إلى أنقاض بعد أن أبيدت الحامية المصرية، وأعلن الأنصار عن أنفسهم بمنتهى القوة. ولم تمض أيام كثيرة عقب الاستيلاء على الخرطوم حتى مات المهدى؛ ليخلفه عبد الله التعايشى، الذى كان عليه أن يواجه صعوبات عديدة، منها إحتواء الأعداء الداخليين، ومنها مشكلات الحدود الشرقية مع إثيوبيا. ولم تمض كذلك سنون كثيرة على وفاة المهدى حتى تفسخ الأنصار ودب فى صفوفهم الاختلاف والعداء، الأمر الذى ساعد على إنتهاء الدولة المهدية، ففى الأول من سبتمبر 1898 أقام كتشنر معسكره على الضفة الغربية من النيل أسفل سهل كرارى. وفى فجر اليوم التالى إقتحم حوالى ستين ألفاً من الأنصار الأسلاك الشائكة (فى بسالة نادرة، كما يقول روبرت كولينز) فى مواجهة قصفات مدافع مكسيم الفتاكة، فضلاً عن وابل الطلقات من الزوارق المسلحة.(15) وحينما بدأ الضعف على الأنصار أصدر كتشنر أوامره بالتحرك، فتقدمت الفرق البريطانية- المصرية دون توقف، ومع الصباح المتأخر كانت المعركة قد إكتملت، حيث قُتِل من الأنصار ما يزيد على أحد عشر ألف مقاتل، بالإضافة إلى ستة عشر ألفاً آخرين لحقت بهم إصابات خطيرة، فى حين بلغت خسائر الفرق البريطانية والمصرية والسودانية مجتمعة أقل من 50 قتيلاً، وعندما أدرك الخليفة أن هذا ليس يومه توارى عن الأنظار فى غرب السودان الشاسع. وعبر كتشنر وحملته النيل باتجاه القصر المدمر فى الخرطوم لاقامة قداس تذكارى للقائد تشارلز جورج جوردون. وهكذا إنتهت الدولة المهدية فى السودان. ولكنها تركت خلفها تاريخاً لا يمحى بسهولة.(16)
يبقى أن نشير إلى أن المهدية فى سبيل إقامة دولتها أباحت سبى المسلمين المتنكرين لدعوتها بعد أن قررت أن إنكار المهدية والكفر سواء، ويُسترق بحد السيف كُل مَن لم يهده الله إلى الإسلام مِن غير المسلمين أو يُنكر الاعتراف بالمهدى المنتظر، مسلماً كان أم غير مسلم. وبهذا إتجهت المهدية بالجهاد وسبى الحرب إتجاهاً غاية فى التطرف المبكر، أضف إلى ذلك الأحكام التى أصدرها المهدى والتى لا تُنبىء إلا عن ثيوقراطية وإمعان فى فرض السطوة المتسربلة سربال الدين، ومن ضمن تلك الأحكام: الحبس والزجر بعد الضرب 80 جلدة لمن سب والده واستهزأ به ولم ينته. و80 جلدة لأى شخص حر يسب شخص آخر، وقد جعلها الإمام المهدى، كما تقول الدكتورة هدى مكاوى، فى بادىء الأمر 100 جلدة، ثم نزل بها إلى 80 جلدة بعد أن استقرت المهدية فى السودان. أضف إلى ذلك: الضرب 27 سوطاً لمن تكشف وجهها من النساء الأنصاريات. والضرب 27 سوطاً لمن ترفع صوتها، والضرب 80 سوطاً، وحبس 7 أيام لمن يشرب الدخان والتنباك. إلى آخر الأحكام التى شرعها المهدى.(17) ومع تمكن المهدية من فرض هيمنتها الكاملة على الشمال، لم تنجح فى تحقيق سيطرة تامة على الجنوب، إذ توقفت سيطرتها جنوباً عند مناطق فى بحر الغزال وأعالى النيل.(18)
---------------------
(15) أنظر: وبرت كولنز، ، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: مصطفى مجدى الجمال (القاهرة:المركز القومى للترجمة، 2010) ص 358 (16) أنظر: روبرت كولنز، المصدر نفسه، ص445 (17) أنظر: مكى الطيب شبيكة، السودان والثورة المهدية (الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1978) (18) مكى، المصدر نفسه، ص121.
وبوجه عام فإن أكثر ما يتذكره الجنوبيون مِن المهدية هو سعيها لفرض وإطلاق العنان مِن جديد لتجارة الرقيق. تلك النظرة السلبية للمهدية لدى أهل الجنوب سبقها فترة تَوَسم الجنوبيون فيها الخير، وحسبوا أن المهدية جاءت كى تُنقذهم مِن عسف الأتراك!
و- الزبير بن رحمة
فى هذه المرحلة التاريخية، تحديداً الفترة من 1856 وحتى 1913، ظهرت، فى تصورى، أهم شخصية سودانيــة فى القرن التاســـع عشـر، إنه الزبير بن رحمـــة، وسبب إختيارى العــام 1856يرجع إلى أنه تاريخ أول ظهور للزبير بن رحمــة على الساحة السودانية، تحديداً ساحــة الجنوب، وبحر الغزال على وجه الدقة.
إذ فى هذا التاريخ، تحديداً 14/9/1856 إلتحق الزبير بالعمل عند على بن عمورى، أحد أشهر التجار آنذاك، فى رحلاته التجارية ما بين الخرطوم وبين بحر الغزال، ولم يكن هذا الالتحاق إلا رغبة من الزبير، كما يروى المؤرخون(19) فى مرافقة إبن عمه محمد بن عبد القادر، الذى ألحق من قبل نفسه بخدمة القوافل المتجهة جنوباً.
لم يجل بذهن الزبير أن تلك الرحلة، ستمثل له مرحلة جديدة من حياته إذ سيتخطى دور التاجر، إلى تقلد دور الزعيم (الشعبى، والرسمى كذلك) بعد أن مثلت الرحلة الأولى تلك بداية سلسلة طويلة ومتصلة من رحلات الجنوب، تلك الرحلات التى تعكس بوضوح طبيعة الصراعات الجدلية بين القبائل، إذ كانت الصراعات والغزوات والحروب هى مميزات نمط الحياة، وبصفة خاصة فى الجنوب، فقد كانت القوافل دائماً محل نهب من القبائل المختلفة، الأمر الذى يعنى، فى المقابل، تأهب القوافل وضرورة إستعدادها الجيد لاعمال السطو تلك التى قد تمارسها معهم أحد قبائل الجنوب، وبالفعل، بزغ نجم الزبير بن رحمة كشخصية كاريزمية قادرة على خوض المعارك والإنتصار فيها، من خلال قيادة مقتدرة على إتخاذ القرار الصائب الحكيم، فتمكن من أن يجمع حوله العديد من الأتباع والمريدين، حتى بلغ جيشه أعداد تمكنه من أن يحل دور الدولة المصرية فيما بعد فى إخضاع الجنوب، وبصفة خاصة قبائل الفور
وقد كانت نواة هذا الجيش (500) فرداً من المحكوم عليهم بالإعدام، وكذلك من العبيد الفارين من أسيادهم.
وحينما إشتدت الحركة المهدية وفرضت هيمنها كان إسم الزبير(والذى جعلته الحكومة المصرية رهن الإعتقال فى القاهرة) من أهم الأسماء التى طرحت آنذاك للتعامل، بأى طريقة، مع المهدى وحركته، إلا أن السلطة المركزية فى القاهرة خشيت إرساله إلى السودان كيلا يتحالف مع المهدية بدلاً من القضاء عليها.
وعادة ما يُقدم الزبير ولد رحمة، تاريخياً، إما كأشهر نخاس فى القارة الأفريقية آنذاك، أو محارب شجاع يمقت تلك التجارة، ولكل إتجاه براهينه التى لا تعنينا، إذ كُل ما يعنينا، مع وجود براهين النفى والاثبات، أن الجنوب السودانى كان معقل القنص البشرى وتصديره إلى مصر أو مختلف الأنحاء فى أوروبا.
---------------------
(19) عز الدين إسماعيل، الزبير باشا ودوره فى السودان (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998) ، ص157

وقد كان الرق موجوداً فى السودان قبل دخول محمد على، وكان السودان يصدر الرقيق إلى مصر وبلاد العرب قبل أن تدخل الجيوش المصرية، كما مثلت تلك التجارة إقتصاداً كامل المعالم، وشكلت نظاماً إجتماعياً، كما سنرى، فقد كان العمل فى الحقول ورعاية الماشية من إختصاص العبيد وليس السادة (العرب)
ز- القوات البريطانية فى السودان
وحينما أخذت دولة محمد على فى الضعف والتفكك وتحول الوجود المصرى إلى شكل خارجى ليس إلا، فقد كانت الأتاوى الجائرة والضرائب الباهظة سبباً مباشراً لقيام الثورات ضد الحكم المصرى العثمانى فى السودان، ففى عام 1881نَجح المهدى فى ثورته، وطرد الجيش المصرى العثمانى، وأقام حكومة سودانية وطنية، وإستمرت الدولة المهدية مِن1889 حتى 1898 وحققت وحدة نسبية للسودان، بما فى ذلك منطقة الجنوب. وبدخول القوات البريطانية إلى السودان بأوامر مِن اللورد كرومر المعتَمد البريطانى فى مصر إنهارت الدولة المهدية، بمعاونة الجيش المصرى فى ظل حكومة الخديوى، حيث كان الوجود المصرى إسمياً وشكلياً، والوجود الإنجليزى، كثانى عدوانية مباشرة لرأس المال الأجنبى بعد عدوانية دولة محمد على، كان هو الحاكم الفعلى فهو الذى يَحكم البلاد ويَنهب ثرواتها ومقدراتها. وفى عام 1899 وقعت مصر وبريطانيا، كما ذكرنا، إتفاقية ثنائية بينهما لحكم السودان، وفى ظل الاستعمار الإنجليزى للسودان المصحوب بإدارات مصرية، تَمكنت، مرة ثانية، الحركة المهدية مِن تحريك مشاعر المواطنين وإثارة نقمتهم ضد الإنجليز، وحثهم على الثورة، ومِن أهم تلك الثورات ثورة الـ24 التى قامت عام 1924 وشملت أغلب البلاد، وفى عام 1936 وقِعَت إتفاقية بين مصر وبريطانيا تُكرس إتفاقية عام 1899 التى حكمت بريطانيا مِن خلالها السودان بإدارة مصرية، وإستمر الشعب السودانى (فى المركز) فى حراكه الاجتماعى الرافض للاستعمار، والذى تلاقى مع تحول ذهنية الاستعمار نفسه مِن إستعمار عسكرى دموى، إلى إستعمار منهجى ثقافى، أقوى فى إمتصاص الموارد، وأجدى لاطباق التبعية؛ بعد أن نجحت فى تشكيل طبقة موالية من أبناء السودان نفسه، ففى 19/12/1955، أعلن إسماعيل الأزهرى (1901-1969) زعيم الحزب الاتحادى مِن داخل البرلمان السودانى، إستقلال السودان.
2- الحركات الوطنية فى السودان
ويُمكن القول بأن الحركات الوطنية التى نمت كانت تحمل سمات ملفتة للنظر، فلقد إنقسم السوانيون إلى (إستقلاليين) يُريدون الاستقلال عن مصر والانضمام إلى دول التاج البريطانى، وإلى (إتحاديين) يريدون وحدة وادى النيل ودولة واحدة تحت التاج المصرى. وبما أن السودان قد شكلته الطائفية على نحو أو آخر، فإنها سارعت، أى تلك الطائفية، كى تُشارك فى الوضع الجديد؛ فقامت طائفة الأنصار برئاسة عبد الرحمن المهدى بإحتضان الأحزاب الاستقلاية وعلى رأسها حزب الأمة (رئيسه الحالى: الصادق المهدى) وقامت طائفة الختمية بزعامة على الميرغنى، بإحتضان الأحزاب الاتحادية وعلى رأسها حِزب الأشقاء (فيما بعد: الوطنى الاتحادى، ثم الاتحادى الديمقراطى، وكان الأزهرى أول من تولى رئاسته).
ويمكن القول، كذلك، أن مؤتمر الخريجين، الذى تلا قيام نوادى الخريجين كان من أبرز الأحداث الاجتماعية والسياسية التى شهدها السودان فى الأعوام الممتدة ما بين 1936– 1948؛ فقد تزعم هذا المؤتمر الحركة الوطنية الجديدة وبث بذور الوعى الاجتماعى والسياسى وإتخذ مِن قضية نشر التعليم قناعاً باشر من خلاله عملية التوعية السياسية من أجل الاستقلال. وكان للاساتذة الدور البارز فى توجيه الفكر السودانى لا مِن حيث التعليم فحسب بل مِن حيث خلق النشاط الأدبى والذى تمثل فى ظهور الصحافة الأدبية فى السودان والتى مِن خلالها نادت هذه الطبقة الجديدة بتحرير الفكر السودانى مِن قيود العادات المتأخرة والتقليدية الفاسدة وأوهام الخرافات التى ليست من الدين فى شىء ودعت إلى إقامة وحدة وطنية على أساس مِن التفكير الاجتماعى الحديث البعيد عن الولاء للتقليديين الغارقين فى خصوماتهم المحلية الموروثة، وفى سبيل تحقيق هذه الأهداف عمدت إلى أساليب النضال السرية والعلنية، وكانت نوادى الخريجين متعددة النشاطات.
وكان نادى أم درمان رأسها المتوج بحكم وجوده فى العاصمة وبحكم الصلات الواسعة التى أقامها مع مفكرى البلدان العربية والأجنبية فكان مركزاً لمحاضرات المستشرقين الأجانب، والسياسيين والنقاد العرب، وملتقى رجال الفكر والأدب مِن السودانيين والمصريين ومنبراً للنثر والشعر فى مختلف المناسبات، ومنه ظهر قادة الرأى السودانى فى الصحافة والأدب والسياسة أمثال محمد أحمد محجوب، وعبد الحليم محمد، ومحمد يوسف مصطفى، ومعاوية محمد، وعلى نور، وغيرهم ممن كان لهم طابع واضح فى التفكير السودانى منذ بداية الثلاثينات حتى عهد الاستقلال.
نقول: منذ نوادى الخريجين، ومروراً بـ مؤتمر الخريجين كانت الحركة السياسية السودانية منقسمة إلى ثلاثة أقسام: القسمان الكبيران إتجه كل منهما إلى طائفة مِن الطوائف الكبيرة (الختمية، الأنصار) وكان لكُل منهما إتجاه سياسى إما (الوحدة مع مصر) وبدرجات متفاوتة بين الوحدة والاتحاد، والاتحاد الأسمى، وإما الاستقلال، وبدرجات متفاوتة كذلك (إستقلال تحت التاج البريطانى) أو ضمن (التعاون البريطانى) أما القسم الثالث، فكان يرى الاستقلال التام عن مصر، وكذلك عن التاج البريطانى، وبعد أن بدأ النشاط السياسى لمؤتمر الخريجين، ظهرت الانقسامات بصورة كبيرة وتدريجياً بدأت الحركات السياسية والاحزاب تنشأ بعيداً عن المؤتمر حتى أفرغت المؤتمر مِن عضويته ومِن ثم مضمونه، إلى أن إغلق أبوابه نهائياً فى 1953.
وفى 4 نوفمبر 1945 أُعلن عن قيام حزب إستقلالى آخر وهو الحزب الجمهورى، وبميلاد هذا الحزب نشأت علاقة جديدة بين الاحزاب والمستعمِر؛ لأن الحزب قرر الإتجاه إتجاها لا يعرف الدبلوماسية ولا يعرف إلا أن تحرير الوطن لا يكون سوى بالاتجاه إلى الجهاد، ومن ثم توجه الحزب إتجاهاً "جهاديا"، الأمر الذى إستلزم المواجهات الدامية بين الأحزاب الوطنية والاستعمار البريطانى، وظهرمحمود محمد طه كمناضل ثورى، وأول معتَقَل سياسى، بعدها بدأ الناس يألفون التوجهات"الجهادية" ضد الإستعمار، وبدأت حملات الاعتقالات التى طالت رجال المؤتمر والأحزاب فيما بعد.
ولخشية إنجلترا مِن إنفراد مصر بالسودان، بعد أن وعدت بمنح المستعمرات إستقلالها عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد لعبت دوراً مهماً فى سبيل ترسيخ مفهوم وأهمية الاستقلال، ونجحت، طبقاً للروايات السائدة، فى إستقطاب الرئيس الراحل إسماعيل الأزهرى وفى عام 1952 حدث الإنقلاب العسكرى على الملكية فى مصر، إيذاناً بإعادة رسم الخريطة السياسية فى كُل المنطقة.
وفى أول يناير عام 1956 قرر جمال عبد الناصر، إستقلال السودان. وعلى الفور أَعلن إسماعيل الأزهرى، بيان الاستقلال السياسى الرسمى. كى تَسقط السودان فى بئر، أعمق، مِن التدهور على يد الحكام المتتابعين وفى مقدمتهم الرئيس السابق جعفر نميرى (1930- 2009) والرئيس الحالى عمر البشير إبتداءً مِن قيام الجنرال إبراهيم عبود، بالانقلاب العسكرى ضد الحكومة المدنية المنتَخبة فى مطلع عام 1958، ثم إندلاع ثورة أكتوبر عام 1964، التى أطاحت به، وتشكيل حكومة وطنية برئاسة الصادق المهدى. بعد ذلك بخمس سنوات تم الانقلاب العسكرى الذى قاده جعفر النميرى فيما عُرف بثورة مايو 1969، حيث حَكم السودان منذ عام 1969 حتى عام 1985 بالحديد والنار فى ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية التى طبقها طوال هذه الفترة، الأمر الذى معه قام عبد الرحمن سوار الذهب، بإنقلاب عسكرى عليه، أنهى حكمه العسكرى العرفى للبلاد.
وبعد فترة وجيزة لا تتعدى العام، تنازل الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، فى واقعة غير مسبوقة على مستوى العالم العربى، مِن محيطه إلى خليجه، عن السلطة لحكومة مدنية ترأسها زعيم الحركة المهدية فى السودان الصادق المهدى، إستمرت فى مهامها كحكومة مدنية إلى حين قيام عمر حسن أحمد البشير، بالانقلاب العسكرى فى عام 1989، وإعلان قيام حكومة إنقاذ وطنى، والتى عَجزت عن إيقاف الحرب الأهلية طوال عقد التسعينات مِن القرن العشرين(20) وفى ظل هذه الحكومة أيضاً (حكومة البشير) إندلعت أسوأ الحروب، فقد إشتعل الصراع، وتفاقمت الأزمة فى إقليم دارفور(المضمومة إلى السودان عام 1917، بعد أن كانت سلطنة مستقلة، وتلك ملحوظة غاية فى الأهمية فى مجرى التحليل) وأدت إلى حدوث إنشقاقات جديد ونشوء حركات عسكرية مُسلحة ضد الحكومة السودانية (القاطنة الشمال) مع مطلع عام 2004، والتى كان أخرها الاضطرابات التي عمت بعض المدن السودانية، وبالذات فى الجنوب والعاصمة الخرطوم، بعد مقتل جون قرنق، زعيم الجنوب. وبعد جهد كبير، وتدخل الرأسمال الدولى، تم توقيع إتفاق سلام مع الحركة الانفصالية الجنوبية فى ديسمبر 2004، يَقضى بإعطاء مهلة مُدتها 6 سنوات تبدأ منذ توقيع الاتفاق، يشترك الجنوبيون خلالها فى السلطة، ثم يجرى إستفتـاء شعبى فى المناطــــق الجنوبية فى نهاية مدة السنوات الست المقررة فى الاتفاق، يُقـــرَر خلاله مستقبل الجنوب بالانفصال عن الدولة الأم، أم بإبقائه مع الدولة الاتحادية بحكم ذاتى موسع. ولقد كان الانفصال هو القرار الذى إتخذه الجنوب. وهو ما سنناقشه فى حينه بعد قليل.
الآن وقد إنتهينا مِن خطوتنا الفكرية الثانية بتكوين الوعى حول الكُل التاريخى، وصولاً إلى الآنى على الصعيد الاجتماعى والسياسى، إبتداءً مِن عدوانية الاستعمار المصرى وقانون حركته الذى يدور حول السوق والتبادل، الساعى خلف الذهب والعبيد، ومروراً بالعدوانية المباشرة للرأسمال البريطانى (وفرض المحصول الواحد) وإنتهاءً بالسقوط فى بحار الجوع والفقر والمرض، والقمع الفكرى. فيتعين أن نسير خطوتنا الفكرية الثالثة ببحث التكوين الاجتماعى ذاته، وإنما إبتداءً مِن تكونه التاريخى وبُعده الجغرافى السابق التعامل معهما، وصولاً كذلك إلى الآنى، وإنما بهدف محدد منذ البداية يتعلق بالبحث فى خط سير القيمة الزائدة التى أنتجها المجتمع السودانى خلال فترة زمنية معينة، فإنتقالنا إلى بحث التكوين الاجتماعى إبتداءاً من الوعى بالكل الاقتصادى والكل التاريخى إنما يتعين أن يكون بهدف البحث عن مسار القيمة الزائدة التى أنتجها المجتمع السودانى فى فترة زمنية محددة.
---------------------
(20) حصدت الحرب الأهلية فى جنوب السودان (1955-1972 و1983-2003) ما يزيد عن مليونى قتيل، وأعداداً أخرى لا تحصى مِن الجرحى والمعوقين، وكان نصيب الهجرات الداخلية الناجمة عنها ضعف أعداد القتلى، فقد تَشرد، على الأقل، أربعة ملايين سودانى وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم. أما مَن ضاقت بهم الحياة فى الوطن وقرروا النزوح إلى البلدان المجاورة، فقد بلغ عددهم 420 ألف لاجئ. هذا العدد الكبير مِن القتلى والجرحى والمهجرين لم يكن فقط مجرد إحصائية؛ وإنما خَلَق ضغائن وعداوات كثيرة، وتسبب فى مشكلات إقتصادية، وإجتماعية سلبية لم يَعهدها المجتمع السودانى بهذه الكثرة مِن قبل، منها تزايد الأنشطة الخارجة عن القانون مثل السطو العصابى على الماشية، وتهريب العاج والذهب والأحجار شبه الكريمة، وإختزان السلع لبيعها فى الأسواق السوداء، وإنتشار تجارة الأسلحة بين المليشيات. أنظر للمزيد من التفاصيل: سيد أحمد العقيد، دارفور والحق المر (القاهرة : الدار العربية للنشر والتوزيع، 2007)
الخطوة الفكرية الثالثة : التكوين الاجتماعى فى تطوره عبر الزمن
يبدأ التاريخ السياسى المعاصر للسودان بإنشاء كيانين: مملكة الفونج، وعاصمتها سنار، وسلطنة دار فور وعاصمتها الفاشر. أُنشِئت الأولى فى عام 1504 والأخيرة فى عام 1650. إشترك الكيانان من الناحية المؤسسية بالعديد من المزايا مع الممالك الآخرى، مثل مملكة وداى فى ما يُعرف اليوم بالتشاد، ومملكة كانم ومملكة بورنو، شمال شرق بحيرة تشاد(21)عبر السفانا الأفريقية السهلية، التى تمتد من البحر الأحمر فى الشرق إلى نهر السنغال فى الغرب؛ ودول مثل أوغندا وبونيورو- كيتارا فى الجنوب. ويشير المؤرخون المعاصرون، كما يقول الدكتور محمود ممدانى، إلى هذه الكيانات بإسم الدول السودانية.(22)
1- الصراع على الأرض
أياَ يكن، فإن الأرض هى محل الصراع والاقتتال، وبصفة خاصة فى أجزاء الغرب، وهو الأمر الذى يدفعنا إلى فحص المسألة، مسألة الأرض، بالرجوع قليلاً إلى ما قبل عام 1821، فبإلقاء النظر على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، فى سياق التطور التاريخى، قبل 1821، نستطيع أن نستخلص مجموعة من الملاحظات بشأن الأرض، أهم تلك الملاحظات أن الأرض دائماً ما كانت محل تملك إقطاعى للحاكم ففى النوبة السفلى خضعت الارض للقانون العثمانى الذى يقضى بملكية السلطان لجميع الأراضى الداخلة فى حدود السلطنة، وليس للفلاح سوى حق إنتفاع يقوم فى مقابله بدفع ضريبة إلى الحاكم الذى تقع الأرض بداخل دائرة نفوذه، وأما دنقله فقد كانت خاضعة للسيادة السنارية ولنظامها الاقتصادى الذى تقوم فيه ملكية الأرض على النظام القبلى الذى كان سائداً فى النوبة العليا، ومضمون هذا النظام، والذى نشأ وسط ممالك صغيرة، انه كان قائماً على أنقاض الممالك والدويلات المسيحية أو الوثنية التى كان نظام ملكية الأرض فيها يستند أساساً على النظام الإقطاعى المطلق، حيث كان رئيس الدولة أو المملكة هو المالك لجميع الأراضى فيما عدا الأراضى الموقوفة على المعابد، وما أن أتت الهجرات العربية وحدث شىء من التطور فى حياة المجتمع إلا وأصبحت الأرض توزع على الجماعة ويقوم أفرادها باستغلالها فى مقابل قيامهم بدفع الُجعل لشيخ القبيلة أو زعيم الدار.(23)
وفى حوض النيل الأزرق وأرض الجزيرة كان الإقطاع أيضاً هو الأسلوب المهيمن فى علاقات الملكية، وعادة ما يتم التمييز بين ثلاثة أنواع من هذه الاقطاعات فى الأراضى التى خضعت خضوعاً مباشراً للفونج، الأول ويسمى بالإقطـاع العسكرى الذى خُصص لقادة الجيش ليكون معاشهم ومعاش جنودهم منها، إذ لم يكن لهؤلاء القادة العسكريين مرتبات ثابتة، وقد كان لهؤلاء القادة فى زمن السلطنة السنارية مجموعة من المقاطعات الممنوحة لهم مع بقاء الملكية للسلطان، وبالإضافة إلى الأرض كان للقادة نصيب محدد فى غنائم الغزوات التى يقومون بشنها على الزنوج. والنــوع الثانى مـن الإقطـــاعات فيمكن تسميته بالإقطـاع الدينى، إذ حرص ملوك
---------------------
(21) للتفاصيل التاريخية الدقيقة بشأن هذه الممالك، أنظر العمل الفكرى الموسوعى الذى أنتجه منتظم اليونسكو: تاريخ أفريقيا العام، المجلد الرابع، أفريقيا من القرن الثانى عشر إلى القرن السادس عشر، إشراف ج.ت. نيانى. اللجنة العلمية الدولية لتحرير تاريخ أفريقيا العام (القاهرة: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، "د.ت")

(22) راجع: محمود ممدانى، دارفور- منقذون وناجون- السياسة والحرب على الإرهاب، ترجمة: عمر سعيد الأيوبى، مراجعة: منى جهمى (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،2010)

(23) حمدنا الله مصطفى، التطور الاقتصادى والاجتماعى فى السودان 1841- 1881(القاهرة: دار المعارف،1985) ص38-49
الفونج على تدعيم ملكهم دينياً وثقافياً فأظهروا إحترامهم لعلماء المسلمين، وهيأوا للمتصوفة مُناخاً طيباً فى البلاد فجاؤا إلى سنار، ومنح هؤلاء العلماء إقطاعات معفاة من الضرائب أو أية إلتزامات أخرى. أما النوع الثالث من هذه الاقطاعات فكان خاصاً بالأفراد العاديين، إذ يقوم مشايخ القرى بتوزيع الأراضى على المزارعين لقاء ضريبة تُحدد حسب المحصول، وكان هناك مندوبون عن السلطان مكلفين بتسوية الحساب مع المشايخ وتسلُم مستحقات السلطان. ولقد كان من حق صاحب الإقطاع تأجير الأرض وتوريثها من بعده لذريته، بيد أن إنتقال الحق على هذا النحو إنما يشترط أن يتم من خلال الموافقة عليه من قبل السلطة المركزية التى هى المالكة الأصلية للأرض.
2- القاعدة السكانية المتنوعة
ولقد إستند البناء الاجتماعى فى السودان وإنما منذ النشاة الاستعمارية، على قاعدة سكانية متنوعة قوامها القبيلة، فمن بجا فى الشرق على ساحل البحر الأحمر، إلى نوبيين فى الشمال، فقبائل عربية على طول نهر النيل، وقبائل أخرى متفرقة فى أرجاء الإقليم، إلى مجموعات سكانية زنجية وعربية بدارفور وكردفان، وزنجية خالصة فى الجنوب. تشكل البناء الاجتماعى.
أهم المراكز المدنية فى السودان

http://www.sudanesehome.com/forum
ويمكن، بتقديرى، إعتبار المجتمع السودانى فى مجموعه مجتمعاً من الرعاة، إذ كان الرعى هو الحرفة الأساسية لغالبية السكان، على إختلاف الأنواع التى يتم من خلالها ذلك النشاط الاقتصادى فى المجتمع، فهناك الرعى اليومى، كما أن هناك الرعى الموسمى، وساعدت تلك الحرفة التى هيمنت على مجمل النشاط على التقارب والتفاعل، وكذلك إندلاع حروب ليس لها نهاية ما بين القبائل والأعراق المختلفة، إذ كان التحرك والانتقال من بقعة إلى أخرى هو السمة البارزة فى حياة رعاة السودان بحثاً عن الماء والكلأ، على العكس من الذين يشتغلون بالنشاط الزراعى، كالنوبيين مثلاً، حيث الاستقرار بجانب الأرض هو الشرط الأساسى فى سبيل إتمام تلك العملية الإنتاجية القائمة على النشاط الزراعى.
ولم يكن بالأمر الهين أن يتطور المجتمع السودانى وإقتصاده فى المرحلة السابقة على السلطة المركزية على يد الاحتلال المصرى، ثم المصرى/البريطانى؛ فقد كان الشكل البدائى للتنظيم الاجتماعى يلفظ تماماً أى تطور يلحق به خارج نطاق القبيلة، ومن ثم كان التفكك السياسى والإدارى، وبمعنى أدق عدم وجود ترابط سياسى وإدارى، هو الحال المسيطر على مجمل الوضع الاجتماعى قبل خضوع المجتمع لإدارة واحدة منذ عام 1821، فلما خضعت أصبح لهذه الإدارة الجديدة سياسة إقتصادية تستمد نظمها وقوانينها من مثيلتها فى مصر، وتعتمد بالأساس على إستغلال الموارد الهائلة فى المجتمع، وتتضح هذه السياسة بجلاء شديد، كما يشير الدكتور حمدنا الله مصطفى، فى خطاب محمد على، إلى بعض المشايخ والزعماء السودانيين، نقلاً من المحفوظ بدار الوثائق القومية بالقلعة، فى القاهرة، حيث قال محمد على:" إنه لا ينقصكم شيئاً لكى تنجحوا فلديكم الأراضى الواسعة، كما عندكم الكثير من الماشية والغابات الشاسعة، وشعبكم كثير العدد كما أن رجالكم أقوياء أشداء ونساءكم كثيرات الولادة. وقد كنتم حتى هذا الوقت بدون مرشد يقودكم ويأخذ بيدكم، ولكن ها هو جاءكم هذا المرشد، وهذا المرشد هو أنا فأطيعونى وإعملوا بنصائحى وحسب إرشاداتى، وسوف أقودكم إلى المدنية وأجلب لكم الرخاء. . إن مصر ليست بالإقليم الواسع المترامى الأطراف ولكنها بفضل العمل والصناعة وبفضل نشاط سكانها أصبحت عظيمة وسوف تصبح أغنى من ذى قبل، وهذا أيضاً معروف عن كافة البلاد الأخرى. وإذا صرفنا النظر عن مشارق السودان ومغاربه وإكتفينا بجزيرة سنار، لرأينا أنها من جهة الرقعة (أكثر من عشرة أضعاف مساحة مصر!) ولكنها لا تُنتِج شيئاً، لأن سكانها كسالى لا يميلون إلى العمل. وإن الإنسان إذا توانى ولم يسع لن ينال المقصود. ضعوا فى رؤسكم جيداً انكم بدون عمل لا تستطيعون أن تحصلوا على شىء. . . . " (24)
ووفقاً للتصنيف الاستعمارى البريطانى، والذى تعامل مع الجنوب كأمتداد طبيعى للمستعمرات البريطانية فى شرق القارة، كما تعامل مع الشمال كإمتداد طبيعى لمصر. فقد تم تقسيم المجتمع السودانى(عقب ترسيم حدوده الاستعمارية) إلى خمس طبقات متميزة:
- الطبقة الأولى: وتَضم، بالضرورة، المستعمِر، أصحاب الجنسية البريطانية.
- ويَحتل أصحاب الجنسيات الأوروبية الأخرى، العاملين فى السودان المرتبة التالية مباشرة.
- أما أصحاب الجنسية المصرية والجوالى الشرقية الأخرى، فيأتون فى الترتيب الطبقى الثالث.
- ثم، فى الطبقة الرابعة، سكان النهر، ويُعرفون بإسم الجلابة الشماليين. وكانوا الطبقة الأولى مِن السكان السودانين.
- وأخيراً الأهالى، وهم الطبقة الثانية مِن سكان السودان ويُمثلون الطبقة الخامسة.
3- التصنيف الطبقى بعد الاستقلال
وبينما قَدم التصنيف الاستعمارى الطبقات الثلاث الأولى(بريطانى، أوروبى، مصرى وشرقى) فى التعامل والوظائف فقد قام، فى نفس الوقت، بقسمة السودان إلى شطرين(فى الواقع طبقتين) هما جلابة الشمال، مِن جهة، وباقى الشعب مِن جهة أخرى. ولم تَتَغير تلك الطبقية فى السودان بَعد الخروج الشكلّىّ للاستعمار البريطانى فى 1956، فلم تزل الطبقية مُهيمنة تحت ظِلال القمع والقهر والجوع والفقر والمرض، ولئن حَدث التعديل على النحو التالى:
---------------------
(24) حمدنا الله مصطفى، المصدر نفسه، ص76-98
الطبقة الأولى: الشماليون، ويُمثلون نحو (4%) مِن إجمالى السكان، وهم مَن بيدهم السلطة والثروة ويديرون الدولة ويتحكمون فى الطبقات الأخرى، وهم جلابة الشمال (أسهموا بدور فعال فى نقل الكثير من المناطق الجغرافية السودانية مِن الاقتصاد المعاشى إلى إقتصاد السوق) فى التصنيف الاستعمارى البريطانى، إذ يُسيطر الشماليون (كطبقات تابعة للرأسمال الدولى) على دواوين الحكم وإدارة المؤسسات بالدولة، وللتعاون الذى حدث بين جلابة الشمال والاحتلال البريطانى؛ فقد تكفل الاحتلال بتأهيلهم وتعليمهم هم وأبناءهم. وتم تسليم الأمر إليهم بموجب مؤتمر جوبا عام 1947.
يلى جلابة الشمال أو النخبة أهل الصفوة، الجاليات الشرقية، ويُطلق عليهم (الحلب) وهم يُشاركون الطبقة الأولى فى الهيمنة على الثروة. ويبلغ نسبة الحلب 1% مِن نسبة السكان، وهم ذوى البشرة البيضاء فى الغالب. وهم المسيطرُون على التجارة الإجمالية فى السودان، ويُديرون المصارف، وشركات التصدير والاستيراد. وتُعتبر الحلب طبقة غاية فى الثراء، وتَجد صعوبة بالغة فى الانسجام مع باقى طبقات الشعب. ويُمثل الأقباط المصريون والسوريون الغالبية فيهم.
يَلى الجلابة والحلب، العرب السود أو الأفارقة مِن ذوى الأصول العربية، كَطبقة ثالثة، وتَبلغ نسبة العرب السود أو الافارقة مِن ذوى الأصول العربية نحو 20% مِن سكان السودان وهم مِن ذوى البشرة السمراء فى الغالب. والعِرق الزنجى ما يميزهم. ومُعظمهم رعاة إبل أو أبقار وأغنام، ويعيشون على هامش المجتمع السودانى، إذ يعيشون فى وضع إجتماعى وإقتصادى بدائى متخلف. وينتشرون فى الأقاليم الطرفية فى السهول الغربية والوسطى وفى الشرق، ولا يشاركون فى الدولة السلطة أو الثروة بشىء على الإطلاق، وغالبية العرب يعيشون بدو فى الشرق، فى حالة رفض للدولة، ومع ذلك فقد تم إستخدامهم كجنود مرتزقة فى حرب الإبادة ضد الجنوب، كما إستخدمتهم الدولة فى حربها فى إقليم دارفور، فالعرب السود، كما تردد الألة الإعلامية، يُمثلون القسم الغالب مِن مرتزقة "الجنجويد" المتهمين بإرتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية فى السكان الأصليين.
وفى الطبقة الرابعة. يأتى الزنج المسلمون، وهم مِن السكان الأصليين مِن ذوى الثقافة العربية. ويَبلغ نسبة الزنج المسلمين 50% وعلى الرغم مِن غالبيتهم العددية فهم يتميزون بالجهل والفقر الشديدين، ويتشاركون مع العرب السود فى طريقة التدين والتمازج العرقى. ويتصف الإسلام السودانى ببعد صوفى إمتزج بالطرق الدينية المتعددة ذات الصلة بغرب إفريقيا، وتُعد تلك الطبقة مِن أكثر الطبقات ليس فقط تميزاً فى الفقر والجهل، وإنما فى الاضطهاد والفصل العنصرى، كأحد مظاهر الصراع الطبقى، كذلك.
الوزن النسبى للقبائل فى السودان
البند البيان
عدد القبائل 570 قبيلة
اللغة المكتوبة والمنطوقة 144 لغة
القبائل العربية، أو من أصول عربية 39 %
القبائل الجنوبية أو من أصول افريقية 30%
قبائل البجة 12%
قبائل النوبة 15%
المسلمون 60%
المسيحيون 10%
أصحاب الديانات الأفريقية 30%
http://www.sudanradio.info
وفى نهاية التراتبية الاجتماعية يأتى الزنج من غير المسلمين وهم كذلك مِن السكان الأصليين. ويمثلون نحو (25%) مِن السكان، وغالبيتهم يَسكنون الغابات الجنوبية والجبال الوسطى. وبوجه عام يُشكل الزنوج مِن المسلمين وغير المسلمين الأغلبية السكانية. ولا يُمكن تبرئة (الزنج المسلمون) مِن التعاون مع جلابة الشمال فى حرب الخمسين عاماً ضد الجنوب، ولربما كانت هناك خطة سرية مِن الطبقة الأولى وتشاركها بقية الطبقات فى إبادة الطبقة الخامسة ومحوها مِن الوجود، هكذا يَعتقد الزنوج غير المسلمين فى الشطر الجنوبى. إذ تعتبر الطبقة الخامسة طبقة منبوذة إجتماعياً، ولا يَربط بينها وبين الطبقة الأولى أى رابط، مما دفع بذلك الشطر الجنوبى إلى الانفصال!!
4- التصنيف القبلى
ومِن جهة التصنيف القبلى(25)؛ فإن تِسع مجموعات قبلية تَنحصر بداخلها التشكيلات الاجتماعية:
- مجموعة قبائل البجا فى الشرق.
- مجموعة القبائل النوبية فى أقصى الشمال.
- مجموعة القبائل العربية فى الوسط والنيل الأبيض وجزء مِن الإقليم الشمالى.
- مجموعة قبائل كردفان فى الغرب.
- مجموعة قبائل الفور فى الغرب (100% يدينون بالإسلام) .
- مجموعة قبائل المابات والانقاسنا جنوب النيل الأزرق.
- ومجموعة القبائل النوباوية فى النصف الاسفل لوسط السودان (تابعة إدارياً لاقليم كردفان)
- مجموعة القبائل النيلية الجنوبية (دينكا، شُلك، نوير) فى الجنوب.
- مجموعة القبائل الزنجية الجنوبية فى الجنوب.
البجا
ويُعد"البجا"من أقدم المجموعات البشرية التى سكنت الأرض، لا الأرض السودانية فقط، وإنما الأرض قاطبة، وهم يشغلون الأراضى الواقعة بين البحر الأحمر شرقاً وبين نهر عطبره ثم النيل غرباً، ومن المنحدرات الشمالية للهضبة الحبشية جنوباً إلى نهاية حدود محافظة أسوان فى الوقت الحاضر شمالاً.
وينقسم البجا إلى أربعة أقسام رئيسية، ويمكن أن نطلق على كل قسم منها إسم قبيلة وهى: "البشاريون" فى الشمال، و"الأمرار"، و"الهدندوة" فى الجنوب، وأخيراً نجد القسم الرابع من البجا ويسمى "بنى عامر" فى الجنوب الشرقى حيث تمتد أوطانهم من طوكر فى الشمال إلى داخل حدود أرتريا جنوباً.
---------------------
(25) إعتمدت فى سبيل تكوين الوعى بشأن التشكيلات القبلية فى السودان على كل من: روبرت كولنز، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: الدكتور مصطفى مجدى الجمال (القاهرة: المركز القومى للترجمة، 2010 ). أيضاً: محمد عوض محمد، السودان الشمالى: سكانه وقبائله (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1951) أيضاً: محمد معتصم سيد، جنوب السودان فى مائة عام (القاهرة: مطبعة نهضة مصر. 1972) أيضاً: محمد إبراهيم بكر، تاريخ السودان القديم (القاهرة: دار المعارف، 1987) محمد عوض محمد، الشعوب والسلالات الأفريقية، سلسلة دراسات إفريقية (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة،1965) كذلك: نعوم شقير، تاريخ السودان، تحقيق وتقديم: محمد إبراهيم أبو سليم (بيروت: دار الجيل، 1981) أيضاً: حمدنا الله مصطفى، التطور الاقتصادى والاجتماعى فى السودان (1841- 1881) المرجع السابق.
النوبيون
سكن النوبيون الأراضى المتأخمة مع نهر النيل، من شمال أسوان حالياً إلى بلدتى "الدبة"، و" كورتى"، ويعتبرهم الجغرافيون من الشعوب النهرية التى تلتزم وادى النيل إلتزاماً شديداً، وذلك بسبب إشتغالهم بالزراعة من جهة، ولأن الصحراء المتاخمة للنهر شرقاً وغرباً قد أرغمت النوبيين منذ زمن طويل أن يظلوا ملتزمين للنهر وللمساحات القليلة الصالحة للزراعة، والتى تحف نهر النيل.
القبائل العربية
إنتقل العرب من شبه الجزيرة العربية عبر البحر الأحمر شرقاً، أو من مصر شمالاً، منذ الحكم الطولونى، بنفس التقسيم المشهور: العرب "العاربة" والعرب "المستعربة"، أو"القحطانيون" و"العدنانيون"، إذ مثَل "الجعليون" القسم العدنانى، ومثلت القبائل"الجهنية" القسم القحطانى، بالإضافة إلى "الكواهلة".
(أ) الجعليون
تُعتبر قبيلة الجعليين من أكبر القبائل العربية فى السودان والتى وصلت إلى السودان فى بدايات القرن السادس وقد إستوطنت نهر النيل فى المنطقة التى تقع شمال الخرطوم من الشلال السادس "السبلوقة". وتعتبر مدينة "شندى" عاصمتهم التاريخية وكذلك مدينة المتمة. وقد إشتهر أفراد هذه القبيلة بأنهم كانوا يمتهنون الزراعة والتجارة وهذه الأخيرة قادتهم إلى الهجرة داخل السودان نفسه. وقد إنتشروا فى كل مدن السودان ولا تجد، تقريباً، مدينة فى السودان تخلوا من الجعليين. وتمتد أرض هذه المجموعة الكبيرة من القبائل العربية من دنقلة فى الشمال إلى أراضى"الدنكا" فى الجنوب، وقد فرضت تلك القبائل نفوذها، على الوادى بأكمله، إلا فى أطرافه الشمالية حيث "الدناقلة"، وفى الجنوب حيث "البقارة"ـ وينتسب "الجعليون" إلى إبراهيم الملقب بـ"جعل" وهو تبعاً للمرويات التاريخية إبن سعد بن فضل بن عبد الله بن عباس عم النبى(ص) أى أن الجعليين ينتسبون وفقاً لذلك إلى الأصل الهاشمى، ولذلك فإنهم يسمون أحياناً بالمجموعة العباسية، وتشتمل "الجعلية" على مجموعة قبائل(26)، منها: القبيلة التى إخذت الأسم"الجعليين" وهى الأكبر حجماً أرضاً وسكاناً، كما توجد: "الميرفاب" ويسكنون فى الشمال من عطبرة حول "بربر". وأيضاً:" الرباطاب" و" المناصير"، و" الشايقية"، و" الجوابرة" .
(ب) الجهنيون(27)
وهم المجموعة الثانية الكبيرة من القبائل العربية فى السودان، وترجع القبائل الجهنية فى السودان نسبها إلى عبد الله الجهنى الصحابى، ولا تتركز المجموعة "الجهنية" فى السودان فى منطقة واحدة، مثل "الجعليين" الذين تركزوا فى الإقليم النهرى، بل إنتشرت تلك المجموعات فى الشرق وفى الغرب، وربما يعود ذلك إلى أن هجراتهم كانت متفرقة زماناً ومكاناً.
---------------------
(26) للتفاصيل بصدد تاريخ هذه القبائل، وتكوينها الاجتماعى أنظر: حمدنا الله مصطفى، المرجع السابق (ص87-98)

(27) أنظر: محمد عوض محمد، الشعوب والسلالات الأفريقية، سلسلة دراسات أفريقية (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1965) ص 214- 221، وكذلك: حمدنا الله مصطفى، المرجع السابق، ص338

ويتوزع"الجهنيون" بين ثلاث مجموعات: الأولى: "مجموعة رفاعة"، والثانية: "مجموعة فزازة"، والثالثة: وتضم: "الدويحية"، و"المسلمية"، و"البقارة"، و"المحاميد"، و"الكبابيش"، و"المغاربة"، و" الماهـرية". ويتركز "الجهنيون الغربيون" فى"كردفان" بعكس "دارفــور" التىيقل عددهم فيها، وهم ينقسمون إلى قسمين كبيرين: رعاة الابل فى الشمال، مثل "الكبابيش"، وهؤلاء هم "الإبالة"، أما القسم الكبير الثانى، فهم رعاة الأبقار، ويسمون بـ" البقارة"، وهذا الإسم لا يطلق إلا عليهم على الرغم من عدم إنفرادهم بتلك الحرفة، ومن أشهر قبائل "البقارة" فى "كردفان" "بنو سليم" على النيل الابيض، و"أولاد حميد" وفرع من "الهبانية" و"الحوازمة"، ثم" المسيرية" وأخيراً "الحمر" فى الركن الجنوبى الغربى من كردفان.
أما الجزء الذى يعيش فى "دارفور" فيتمثل فى: الرزيقات، والهبانية، والتعايشة، وبنى هلبة، وبنى خزام. وكثيراً ما حدث تصادم بين "البقارة" وبين سلطنة دارفور، الامر الذى أنهكهم مع الوقت، ويبدو أن الحياة التى تعيشها قبيلة البقارة جعلت هذا الصدام أمراً حتمياً لأنهم أثناء فصل الجفاف فى آواخر الشتاء ينزحون بماشيتهم نحو الجنوب للصيد، ويهاجمون "الزنوج" ويخطفون ماشيتهم، وفى فصل المطر يتجهون نحو الشمال هرباً بقطعانهم من الذباب والمستنقعات إلى المرتفعات الشمالية الجافة، والتى يقول الدارفوريون أنها ملك لهم، ومن ثم كان القتال هو السبيل الوحيد للحسم.
البقارة
قبيلة سودانية كبيرة مشهورة برعى البقر وتُطلَق اللفظة على رعاة البقر عامة وان لم يكونوا من قبيلة البقارة وفروعها ولكنها مخصصة بالقبائل الجهنية فى غرب السودان التى ترعى البقر ومعظمهم فى "كردفان" و"دار فور" وينتسبون إلى جهينة ومعظمهم ينتسب إلى جُنيّد بن أحمد بن بابكر بن العباس من الجعليين الذين هاجروا إلى "كردفان". ومن ثم فهناك "بقارة كردفان" وهناك "بقارة دارفور".
(جـ) الكواهلة(28)
وهى من المجموعات الصغيرة فى السودان إذا ما قورنت بالمجموعة العباسية أو الجهنية، وهذه المجموعة تُنسَب فى أُصولها إلى كاهل بن أسد بن خزيمة، فهم بذلك يعدون من عرب الشمال إلا أنهم منفصلون عن المجموعة الجعلية فى النسب، وقد نزلوا فى وقت متقدم على السواحل السودانية على البحر الأحمر ما بين "عيذاب" و"سواكن"، وإختلطوا بالبجه وتعلموا لغتهم وصاهروهم وإندمجوا فيهم بحيث لم يعد لهم وجود فى أقاليم البجه كوحدة قبلية مستقلة، وهم بذلك قد حملوا النسب العربى للبجه، وهناك بطون أخرى من بنى كاهل إنتقلت من شرقى السودان إلى أقاليم عطبرة والنيل الأزرق، وأخرى إلى النيل الأبيض تسمى بـ"الكواهلة" وأحياناً بـ"الحسانية والحسينات".
قبائل إقليم سواحل البحر الاحمر(29)
ويُقصد بهذه المجموعات على وجه التحديد جماعات "السومال" و"الدناكل" و"الجالا"، وتبدأ أراضى "السومال" من المجرى الأسفل لنهر تانا وتتجه نحو خليج عدن، وأكثر تلك
---------------------
(28) أنظر: عوض (ص214) ومصطفى (ص338)
(29) أنظر: عوض، (ص235- 236) ومصطفى (ص339- 344)
الأراضى يقع فى الوقت الراهن فى الأرض الصومالية، كما أن بعضاً منهم يعيش فى الجزء الجنوبى الشرقى من أرتريا فى منطقة أوجادين، ويعبر فى بعض الأحيان عن "السومال" بقبائل أولاد عيسى، وتُعد قبيلة "الدناكل" جزءً من القبائل الواقعة جنوبى "هرر"، وهناك مئات الأقسام الصغيرة لتلك القبائل المنتشرة فى هذه المناطق.
ويبلغ حالياً عدد السكان، فى إقليم سواحل البحر الأحمر، ثلاثة ملايين نسمة، ويتركزون فى المنطقة الجنوبية والشريط الحدودى مع أرتريا، والجزء الجنوبى من ساحل البحر الأحمر، وترتفع معدلات التركز السكانى فى أربع مدن هى: "القضارف"، و"كسلا"، و"بورتسودان"، و"حلفا الجديدة". ويُعتبر سكان المنطقة الساحلية والشريط الحدودى الاكثر نشاطاً وتورطاً فى النزاع فى شرق السودان، من بقية السكان، كما سنرى. و توجد فى الإقليم حوالى سبع قبائل رئيسية، بعضها قبائل عربية توجد فى الجزء الداخلى، بينما غير العربية توجد على الشريط الحدودى وساحل البحر الأحمر الجنوبى.
وأبرز القبائل غير العربية تتمثل فى "البجا"، و"الهدوندوه"، و"الخاسة"، أما القبائل العربية فتتمثل فى "بنى عامر"، و"الرشايدة"، و"البطاحين"، و"البشاريين". و جميع سكان الإقليم مسلمون، ويدينون بالولاء التام لطائفة الختمية التى يتزعمها الميرغنى، وتعتبر مدينة "كسلا" بمثابة المركز الروحى والدينى لها. ويتحدث 50% من سكان الإقليم بلهجاتهم المحلية، ويتحدثون باللغة العربية كلغة ثانية، وقد أدى هذا التباين اللغوى إلى بعض الاحتكاكات والعنف الرمزى الثقافى بين سكان الساحل والشريط الحدودى الذى تغلب عليهم اللهجات، وبين سكان الجزء الجنوبى، والداخلى الذين يتحدثون العربية.(30)
قبائل الجنوب :
وسنقتصر هنا على أهمهم وأشهرهم.
الدنكا
الدنكا هم أكبر المجموعة النيلية، والمجموعة النيلية عموماً جاءت من سفوح الهضبة الأثيوبية وإستقروا فى الجزء الجنوبى من منطقة "البيبور" الحالية وكونوا حلقات حول الأنهار، وقد قسم النيليون إلى قسمين نيليين ونيليين حاميين، والدينكا نيلييون وهم أكبر المجموعات النيلية عدداً وإنتشاراً، وقال البعض إنهم ثانى أكبر قبيلة بإفريقيا بعد "الماساى" فى كينيا وهم يمثلون عُشر مجموع سكان السودان و 50,4% من سكان الجنوب.
ومن الجهة الاقتصادية فقد تنوعت النشاطات التى يمارسها الدنكا وإن ظل الرعى هو النشاط السائد فقد عرفت الدنكا صيد الأسماك كحرفة، وصهر الحديد أيضاً وهى مهنة منتشرة بشكل واسع بين قطاعات كبيرة من الدنكا حيث "عشائر الحدادين" فى الجنوب الشرقى من بحر الغزال، للدرجة التى بلغت حدود إبتكار لعملة حديدية توَافق عليها المجتمع فى عمليات التبادل، وتظل الماشية على وجه العموم هى قوام إقتصاد الدنكا، وبصفة خاصة البقر، فهى مقياس ثروتهم وفخرهم وعزهم ومصدر سعادتهم وعماد مركزهم الاجتماعى، وبها تدفع المهور والديات.
-------------------
(30) أنظر: عوض، المرجع السابق(ص302)
الشُلك
هى أقل المجموعات تعداداً، وتعيش فى شريط على الضفة الغربية للنيل الأبيض من "كاكا" فى الشمال إلى بحيرة "نو" فى الجنوب وقبيلة الشلك ذات نظام سياسى مركزى تحت قيادة ملك أو سلطان يطلقون عليه لقب "الريث" ويجمع الريث بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية فى صيغة مشابهة للتقاليد المصرية الفرعونية القديمة. ويقوم "الريث" بتفويض بعض سلطاته أحياناً إلى العمد والمشايخ الذين يمثلونه فى الدوائر العشائرية الخاضعة لهم، ويتوج "الريث" فى إحتفال كبير تنتهى مراسمه فى فشودة عاصمة المملكة وتنظم طقوسه حدود المملكة كلها.
النوير
قبائل نيلية وينتمون مع الدنكا إلى أصل وجد واحد، وهم ثانى أكبر المجموعة النيلية، إذ يحتلون المرتبة الثانية بعد الدنكا من حيث التعداد السكانى، ثم يليهم الشلك، وأساطير النوير شبه المقدسة لديهم تحكى أن جدهم الاكبر "لانجور" قد عبر النيل الأبيض عند منطقة "فاشودة" ، ثم سار بهم إلى شرق ملكال حيث إستقر بهم المقام هناك وهم ينحدرون أصلاً من الجد "أبينو ينق" شقيق "دينج" وهو جد الدنكا والنوير فى كل أنحاء السودان ويتحدثون بلهجة واحدة وأسلوبهم فى الحياة واحد ويعتقدون أن تاريخهم يبدأ من منطقة "ليج" المقدسة لديهم، حيث شهدت هذه المنطقة نشأة جميع فصائل النوير ثم تفرقوا منها إلى جميع مناطقهم الحالية ثم نزحوا غرباً حتى إستقروا بمنطقة "ميوم"، ثم إتجهوا شرقاً فسار كثير منهم إلى "أكوبوا"، و"واط"، و"الناصر"، و"ميورد"، و"إيود". ومن فروع النوير هناك "ليك" و"جكناج" بمحافظة "ربكونة" و"نوير جقى" و"اروك و"ادوار" و"نونق" بمحافظة "اللير" وهناك فروع شتى للنوير بمركز "فنجاك" ويمتدون إلى داخل الحدود الأثيوبية (31)
توزيع قبائل الجنوب

http://www.sudanesehome.com/forum
--------------------
(31) أنظر: http://ar.wikipedia.org/wiki
5- ملاحظات حول التكوين الاجتماعى السودانى فى تطوره عبر الزمن
وعلى ما سبق وفى هذا السياق يتعين الوعى بما يلى:
- عاش السودان، وحتى إمتداد الإدارة المصرية إليه فى العام 1820، دون حكومة أو إدارة مركزية موحدة، تفرض هيمنتها على الأجزاء المختلفة والمكونة للاقليم ككل.
- قامت سلطنة "سنار" فى السودان الشرقى، وإمتد نفوذها من دنقله شمالاً إلى "فيزوجلى" جنوباً، ومن سواحل البحر الأحمر شرقاً إلى النيل الأبيض وحدود كردفان غرباً. ولقد إنضوت تحت لواء سلطنة "سنار" منذ القرن السادس عشر الممالك والمشيخات الإسلامية فى حوض النيل الأزرق. وقد ظلت هذه السلطنة الوطنية قائمة حتى أخذ الضعف يدب فى كيانها فى آواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
- فى نفس الفترة ظهرت سلطنة عظيمة، هى سلطنة "الفونج"، ولقد تسربل تاريخ هذه السلطنة بالغموض والبعض يُرجع ذلك إلى ندرة المصادر الوطنية، وأخرون يعزون ذلك إلى صمت المصادر العربية المعاصرة عن تلك السلطنة، ويُمكن القول بأن أصل"الفونج"لايزال يُشكِّل إشكالية رئيسية فى تاريخ السودان. وبتلك المثابة تم طرح العديد من النظريات، والتى تفترض رجوع أصل "الفونج" إلى واحدة من ثلاثة : إما بلاد الحبشة (أثيوبيا) وإما بلاد "برونو" الواقعة حول بحيرة تشاد، وإما بلاد "الُشُلك" على النيل الأبيض.
- قامت فى غرب السودان سلطنة "دارفور" التى عاصرت السلطنة "السنارية" ويرجع الفضل فى تأسيسها، وفقاً لإجماع المؤرخين وعلماء السلالات، إلى العناصر العربية الأصل التى هاجرت من شمال غرب أفريقيا إلى هذا الإقليم، حيث إختلطت بجماعات الفور الزنجية القاطنة هناك. بلغت سلطنة "دارفور" أوج عظمتها فى القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر.
- جرت عادة سلاطين "الفور" على القيام بالحملات العسكرية على المقاطعات الزنجية المجاورة على شكل غزوات لأغراض إقتصادية كان أهمها الحصول على الرقيق وغير ذلك من السلع والغلات ذات القيمة التجارية، عملية نهب منظمة إذاً. إرتكز البنيان السياسى والاقتصادى لسلطنة "دارفور" على تجارة موسعة للعبيد. ولقد ظلت "دارفور" تتمتع بكامل إستقلالها حتى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حتى تم إخضاعها للإدارة المصرية عام 1874 على يد "الزبير رحمة" (32) فى عهد الخديوى إسماعيل.
---------------------
(32) كتب عز الدين إسماعيل"... وفى الثالث والعشرين من أكتوبر سنة 1874 بدأت حملة الزبير لإحتلال دارفور تقترب من نهايتها، ففى هذا اليوم خرج من قلعة دارا على رأس جيش قوامه سبعة آلاف رجل، بعد أن تحطمت على أسوارها أمواج المهاجمين الذين ساقهم السلطان إبراهيم لطرده منها، وقد خرج جيش الزبير ليقتفى أثر جيش السلطان إبراهيم وليكتب فى سجل معاركه معه معركة أخرى...وقد أشرقت شمس يوم الخامس والعشرين من اكتوبر سنة 1874 لتشهد السلطان إبراهيم وهو يبدأ هجومه على جيش الزبير احدى عشرة قذيفة من مدافعه على مواقع جيش الزبير لم يعبأ بها، ومضى الزبير على رأس جيشه قاصداً موقع القلب من قوات السلطان، فلم يلبث أن تخلى السلطان عن مدافعه... وحمى وطيس القتال ، ولم يكد يمضى وقت قليل من بدء المعركة حتى تخاذلت ميمنة وميسرة قوات السلطان ومضت متقهقرة إلى الوراء...وقد إعترف الزبير نفسه بشجاعة السلطان وإستبسال جيشه فى القتال... حتى خر قتيلاً هو ومن معه من الفرسان ومنهم الكثير من أولاده وأشراف دولته، فكان هذا إيذاناً بإنتهاء المعركة التى إنجلت عن نصر مبين لجيش الزبير كان لهزيمة سلطان دارفور ومقتله أثره فى أن يخلو الطريق أمام الزبير لدخول العاصمة الفاشر، وليبرهن مرة أخرى أمام التاريخ فتحه لدارفور بنفسه... فى الثالث والعشرين من رمضان سنة 1291 هـ الموافق الثالث من نوفمبر سنة 1874 دخل الزبير على رأس جيشه مدينة الفاشر منتصراً ..." راجع: عز الدين إسماعيل، الزبير باشا ودوره فى السودان فى عصر الحكم المصرى، المرجع السابق، ص 158- 160.
- قامت فى غرب السودان مملكة "تقلى" فى المرتفعات التى عُرفت بإسمها شمال شرق منطقة الجبال التى تقطنها قبائل "النوبة" فى الركن الجنوبى من إقليم كردفان.
- ومملكة "تقلى" وإن لم تصل إلى ما وصلت إليه سلطنة "الفونج" أو سلطنة "الفور" من إتساع الرقعة وعِظم النفوذ إلا أنه كان لها من الأنظمة والتقاليد الموروثة فى الحكم والإدارة، إلى جانب قوة مركزها التجارى وعلى وجه الخصوص تجارة الرقيق، ما ضمن لها البقاء قروناً من الزمن.
- إلى جانب تلك الممالك والسلطنات، دخلت بعض أجزاء السودان تحت النفوذ التركى إبتداءً من القرن السادس عشر تمثلت فى شمال النوبة.
- كذلك تمكن الأمراء المماليك، بعد أن زالت دولتهم نهائياً فى مصر على يد محمد على، من دخول السودان الشمالى والسيطرة على "دنقله" وما حولها فترة من الزمن.
ولكى تكتمل الصورة نسبياً يتعين أن نشير إلى أن هناك حالة (تُمثل نقطة مركزية فى مجرى التحليل) مِن الاحتقان التاريخى (تدعمها الثقافة القبلية، والنزعة الطائفية) لا يُمكن أبد التعامى عنها، تلك الحالة التى تُمثل الانعكاس القوى والمباشر للإرث العبودى، "المعنوى" وفقاً لتعبير منصور خالد، على أقل تقدير، لكُل مِن الشمال، كأسياد قناصين، والجنوب، كعبيد مقتَنَصين، وليس فى تلك التصنيفة أى نوع مِن الاختزال للتاريخ، فثقافة الرق والعبودية والاسترقاق، مِن جهة، لم تزل ترسم الصورة الاجتماعية الكلية، بين شمال(سيد) وجنوب(عبد) بين (أبيض) وبين (أسود) ومِن جهة أخرى فالحفاظ على نهر النيل وجريانه مِن الجنوب إلى الشمال، كان الأساس الذى إرتكز عليه الاستعمار فى عدم تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، والأن "النفط"، فإذا كان العرب والزنوج تقاتلوا فى الماضى حول المراعى، فإنهم اليوم يتقاتلون مِن أجل النفط المتمثل فى احتياطيات تصل إلى ثلاثة مليارات برميل، يقع أغلبها فى منطقة حدودية مُتنازع عليها بين الشمال والجنوب؛ والسؤال الان، وبعد الانفصال أيضاً، هو: هل ستترك حكومة الشمال(إنفاق عسكرى 3 بليون دولار فى عام 2000- ونحو 112500 جندى) نقول هل تترك حكومة الشمال الجنوب كى يذهب بنفطه؟ 60% مِن إجمالى نفط السودان، 15% فى دارفور(33).
6- الصراع فى الشرق
إن الصراع ليس فى الجنوب، والغرب، فحسب، وإنما، وإستكمالاً للصورة العامة، ينبغى توجيه البصر ناحية الشــرق. وسيُمكننا القـــول بأن ما بين الصراعات الاجتماعيـــة الملتهبة فى
---------------------
(33) على سبيل المثال، أوردت وكالة أنباء ( (BBCفى 18/6/2011 الخبر التالى:" إتهم الجيش الشعبى لتحرير السودان حكومة الخرطوم بقصف إحدى القرى فى ولاية "الوحدة" الغنية بالنفط فى جنوب السودان. ويأتى هذا الاتهام من قِبل جيش جنوب السودان وسط تصاعد التوتر، مع قرب الاعلان الرسمى لإستقلال الجنوب عن السودان الشهر المقبل. وأعلن المتحدث بإسم الجيش الشعبى "فيليب آجواير" مقتل 3 أشخاص فى الغارة. يُذكر أن أكثر من مائة ألف شخص قد فروا من القتال الذى إندلع مؤخراً على الجانب الشمالى من الحدود، وفقاً للأمم المتحدة. وخلّف النزاع بين الشمال والجنوب نحو مليون ونصف مليون قتيل على مدى عقدين من الزمان. وإنتهت الحرب بإتفاقية سلام أجرى بموجبها إستفتاء بين الجنوبيين على الانفصال عن الشمال. ووافق نحو 99% ممن تم إستفتاؤهم على إنفصال الجنوب الذى تتركز فيه معظم حقول النفط السودانية. وأعلن الرئيس السودانى عمر البشير قبوله مسبقاً بالنتيجة مهما كانت. إلا أن قواته قامت الشهر الماضى بالاستيلاء على مدينة أبيى المتنازع عليها مع الجنوب، كما جرت مؤخراً إشتباكات فى ولاية جنوب كردفان الواقعة فى الشمال لكنها تضم جاليات عديدة مؤيدة للجنوب. وصرح آجواير لوكالة الصحافة الفرنسية بأن قصف ولاية الوحدة كان تمهيداً للاستيلاء على حقول النفط فى المنطقة."
http://www.bbc.co.uk/arabic/middle.
مُجمَل الإقليم السودانى، وبين الصراع فى القرن الأفريقى، يبرز الصراع الجدلى كذلك فى الشرق، ويمكننا النظر إلى عدة أطراف رئيسية تلعب الأدوار الحاسمة فى هذا الصراع الشرس والذى لا يَقل فى ضراوته عن الذى يَحدث فى الجنوب، وفى دار فور؛ فلقد بلغت الأحوال غير الإنسانية فى الإقليم، مثله مثل باقى الأقاليم، مبلغاً إنفجارياً بعد سنوات طوال من الاهمال والنسيان والتهميش، فالنظام المركزى فى العاصمة يحتكر السلطة والثروة، ولا يكون لباقى الأجزاء المكونة للإقليم سوى الفتات . . . والمهانة!!
فهناك" مؤتمر البجا" وهو تنظيم عسكرى مسلح يقوم على إعتبارات عرقية وثقافية إثنية، وهو يمثل على وجه التحديد قبائل البجا، والتى تشكل نحو 35% من سكان الإقليم، ويعد مؤتمر البجا التنظيم المسلح الرئيسى فى الإقليم، الأمر الذى أهله للتفاوض الناجح مع النظام وإجباره على شروطه، وهو الذى تبلور فى إتفاق سلام شرق السودان، فى أسمرا فى 14/10/2006، والذى إعترف بموجبه النظام فى الخرطوم بحق الشرق فى ثروات البلاد وإعادة النظر إليه كأحد أجزاء السودان الذى يتعين أن يأخذ حقه فى التعليم والصحة والأمن والعدل...إلخ، وفى نفس الوقت يوفر نظام "أسمرا" الدعم والحماية الدائمة "لمؤتمر البجا" الذى تتمركز معاقله بداخل أراضيه، وفى المقابل يُقدم المؤتمر خدمات لنظام إريتريا يتعلق بالتقارير الدورية عن تحركات المعرضة المسلحة الإريترية المنتشرة على طول الحدود الشرقية.
وعقب الحملة المسلحة التى شنها الجيش النظامى السودانى على الشرق، تحديداً على قبيلة "الرشايدة"، بزعم السيطرة على عصابات تهريب السلاح التى تُهدد إستقرار البلاد؛ فقد تكون الطرف الثانى من أطراف الصراع، وهو تنظيم(الأسود الحرة) وهو تنظيم عسكرى مسلح أيضاً يتكون بشكل رئيسى من أفراد قبيلة الرشايدة.
وإلى جانب "مؤتمر البجا" و"الأسود الحرة"، فهناك: إسرائيل، والولايات المتحدة، وإريتريا؛ فالبنسبة لإسرائيل فقد عمل الكيان الصهيونى، ومنذ وقت طويل، على ترسيخ وجوده فى أفريقيا بوجه عام، وقد إنتهج سياسات التغلغل فى بؤر التوتر بل وخلق الشروط الموضوعية لتخليق هذا التوتر بين القوى الاجتماعية المتناحرة، وتُعد إريتريا من أهم المراكز الصهيونية فى أفريقيا، إذ تقوم الصهيونية بتركيز وجودها من خلال إقامة قاعدتين عسكريتين تتمكن من خلالهما من بسط رقابتها على مضيق باب المندب، كما تمتلىء المؤسسات الإريترية بعشرات الخبراء الصهاينة، كما تقوم إسرائيل بتقديم الدعم لحركات المعارضة السودانية عن طريق الحكومة الإرتيرية، إذ عن طريق المطارات والموانىء الإريترية تدخل شحنات السلاح إلى قوى المعارضة السودانية وبصفة خاصة فى الشرق.
وهناك، رابعاً، أمريكا والتى تربطها العديد من الاتفاقيات على إختلاف أنواعها مع إريتريا، ولا يقل إهتمام الولايات المتحدة الأمريكية عن الاهتمام الصهيونى بإريتريا والتى تُمثل، بحال أو بآخر، مدخلاً إستراتيجياً ملكياً للتغلغل فى القارة الأفريقية. ومن ثم ضمان السيطرة على النفط والماس والمادة الأولية، وليس ذلك كل ما فى الأمر، إذ الذى يعنينا هو منهجية فهم هذه السيطرة.
أما بالنسبة لـ إريتريا؛ فهى تلعب الدور الرئيسى كوسيط فى نقل شحنات السلاح المقدَم من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى قوى المعارضة فى الشرق من أجل تأجيج الصراع، وقد كانت المدفعية الإريترية الثقيلة هى الغطاء الرئيسى لقوى المعارضة فى صراعها مع النظام فى الخرطوم؛ وهو الأمر الذى من نتائجه الطبيعية توتر العلاقات الإريترية السودانية على الصعيد السياسى.
وبالإضافة إلى هذه الأطراف، وبالإضافة إلى حركة" قوى الريف السودانى" فقد أُعلن فى 2007، عن إنشاء حركة معارضة جديدة، أطلقت على نفسها:الحركة الشعبية لتحرير شرق السودان".
ولقد عبر أحد أبناء الشرق عن مُجمل الوضع الاجتماعى الراهن بقوله:" ولايات دارفور الثلاث يحكمها الان أبناء دارفور ونحن كم نملك فى ولاياتنا وحكوماتها الثلاث حكومة ولاية القضارف كمثال لا يوجد فيها شخص واحد من أبناء الشرق ولا حتى الذين يدافعون عن الحزب الحاكم الأن ليس لهم وزن ولا يعيرهم حزبهم قيمة مع العلم إن قاعدة الحزب الحاكم فى الولاية هى من أبناء الشرق وقد فاز بهم وبأصواتهم وقد شهدنا المبايعة المهزلة التى رتبت للوالى بإسم البنى عامر والمبالغ الكبيرة التى دُفعت لتمويل حملته وقد ذهب كل ذلك العمل هباء منثوراً بعد الفوز، هل إخواننا فى حكومات دارفور هم مؤتمر وطنى درجة أولى وإخوتنا من أبناء شرق السودان درجة ثانية فى المؤتمر الوطنى ولهذا تلتزم الحكومة بإشراكهم فى الحكم وتحرم هؤلاء ولا تُقيم لهم وزناً رغم الوطنية والقومية التى يتشدقون بها؟ دارفور لها خمس وزراراء فى وزارات سيادية؛ فكم نملك نحن أبناء الشرق مقارنة بهم ولو أنه لا توجد مقارنة أصلاً. ومع هذا يتهمنا البعض بالعنصرية وهم من كرس لها وأسس بنيانها . . . .".
الأجزاء المنسية والصراع المستعر
وبعد الاستقلال لم تنتبه، بمعنى آخر لم تُرد النخبة الحاكمة، كما قال منصور خالد، بل ولم ترد النخبة المفكرة كذلك، التعرض لفض الإشكال التاريخى، وتصفيته مِن محتواه المتأجج والعدائى، والنتيجة إستمرار العلاقة الطبقية بين الأسياد (الشمال) وبين العبيد (الجنوب) ولم تزل تلك الوضعية محل إعتبار؛ فلا يستطيع الجنوبى التخلى عن صورة جده (العبد) فى بلاط (السيد الشمالى) وعندما بدأ الجنوبيون يطالبون ببعض حقوق المواطنة، بإعتبار أن ذلك مِن قبيل الحق المشروع، لم تجد الخرطوم فى تلك المطالب إلا تعدياً صارخاً على خصوصيات الشمال(كصفوة) بل تعدياً على حق الشمال التاريخى فى أن يُقرر بمفرده مصير السودان بأكمله، وفى ظل تلك الثقافة الشمالية الاستعلائية، وإدعاء إمتلاك ناصية الحقيقة الاجتماعية والدينية كذلك، تبلور رد فعل الجنوب فى التمسك الصارم بخصائصه الثقافية ودياناته المحلية وعاداته الموروثة. مِن المهم فهم دور الحدود الاستعمارية فى جمع عدة تشكيلات إجتماعية مختلفة ومتنافرة أحياناً فى حيز جغرافى واحد. كما يَكون على درجة مُعيَّنة مِن الأهمية فى مجرى الرصد والتحليل الوعى بالصراعات المسلحة التى تقودها قوى نشأت ونمت فى إطار مِن الكراهية والدموية وصنمية العقيدة، إذ هناك جيش الرب، والجيش الشعبى لتحرير السودان، أضف:"العدل والسلام، المقر فى بريطانيا" ولا يُمكن غض البصر عن الحزام الفرنكفونى، إبتداءً مِن تشاد، ومرورا بالنيجر، ومالى، وإنتهاءً بالسنغال، الذى لن تَتَخلى عنه فرنسا بسهولة، ولذا قامت بإستقطاب عبد الواحد نور" حركة تحرير السودان"، فى مقابل إستقطاب بريطانيا" خليل إبراهيم"، ومِن جهة لا تُغفَل كذلك هناك الولايات المتحدة التى تَمد جسور التعاون مع الحركات الانفصالية.
القوى الاجتماعية المتصارعة
وعلى ذلك سيمُسى من العبث الجلى البحث فى المسألة السودانية بدون تكوين الوعى الناقد بصدد القوى الاجتماعية الفاعلة، ومن ثم يكون معيباً البحث الذى يقتصر على البحث فى التكوين القبلى، ويختزل فيه، وبلا وعى، الصراعات الطبقية، بإعتبار أن الصراعات الراهنة هى صراعات قبلية، ومن ثم تصبح هامشية الحركات المتصارعة التى تُعبّر عن قوى إجتماعية فاعلة ومؤثرة فى مجرى أوضاع الصراع الراهن، وهو الأمر الذى نرفضه جملة وتفصيلاً؛ إذ نرى أهمية حاسمة فى مجرى التحليل لــ(فك) ما هو قبلى عن ما هو طبقى، ولذلك كان من الضرورة المنهجية البحث فى أهم القوى وأكبرها تأثيراً، والتى تتمثل فى: الجيش الشعبى لتحرير السودان وحركته، والتجمع العربى، والجنجويد. وحركة تحرير السودان، والعدل والمساواة، وأخيراً جيش الرب وحركته والذى سنسعى من خلال بحثنا فيهما إلى فهم وتحليل مجمل القوى الاجتماعية، والقيام بترسيم أولى لحدود علاقاتها الجدلية. وسنبدأ بالجيش الشعبى لتحرير السودان. دون أن ننسى بالطبع ما سبق وأن ذكرناه بشأن الصراع المحتدم فى الشرق، وعناصره المتناحرة.
حركة/الجيش الشعبى لتحرير السودان
حادثتان يمكننا البدء بهما لفهم ما كان وما سوف يكون من صراع بين الشمال وبين الجنوب، فمع بدايات عام 1980 شهد المجتمع الجنوبى مجموعة من الإجراءات المستفزة، ففى شهر فبراير من ذلك العام تم تطبيق"قانون المجلس التنفيذى العالى والمجلس الإقليمى"والذى أصدره الرئيس"جعفر النميرى"وعلى أساسه تم حل مجلس الشعب الإقليمى لجنوب السودان والمجلس التنفيذى العالى، والذى كان برئاسة الفريق "جوزيف لاقو". حل هذا القانون عملياً محل "قانون الحكم الذاتى للمديريات الجنوبية" والذى كان يُعرف بإسم إتفاقية "أديس أبابا" الموقعة فى 1972(34) وذلك بالتصادم مع النصوص الدستورية المنظِمة لكيفية إجراء مثل تلك التعديلات التشريعية.
لم تخل المناقشات التى دارت كذلك حول هذا القانون الجديد من إستفزاز لمشاعر وعقليات الجنوب، فبينما كان البرلمان يُناقش "القانون" لتقسيم شمال السودان إلى ستة أقاليم فقد تم إرفاق خريطة مع القانون لتوضيح حدود الاقاليم الجديدة، بيد أن تلك الخريطة ضمت، عن عمد وتجاهل، أجزاءً من الجنوب إلى الشمال، مما أثار غضب الجنوبيين وأدى إلى إندلاع إحتجاجات عارمة شارك فيها جميع فئات الشعب، ولم يتم إحتواء الموقف إلا بعد أن تم الرجوع عن الحدود التى تضمنتها الخريطة، والابقاء على الحدود كما هى وفقاً لإتفاقية "أديس أبابا" بين الشمال وبين الجنوب، لكن، وكما يقول "لام أكول"، بالرغم من أن هذا الحل كان مرضياً للجنوبيين إلا أن الحادثة فى حد ذاتها أسهمت فى غرس مزيد من الشك بين شطرى البلاد. ولم تكن مشكلة الحدود هى المشكلة الوحيدة التى تفجرت فى أوائل الثمانينات من القرن الماضى والتى أثارت الشكوك فى نفوس الجنوبيين، إذ أن فى العام التالى، أى عام 1982، تفجرت مشكلة أخرى، وهى المتعلقة بموقع مصفاة النفط الثانية فى البلاد والتى ستقوم بتصفية النفط الذى تم إكتشافه فى "بانتيو" فى جنوب السودان. كان الجنوبيون يروا أن المصفاة يجب بناؤها فى "بانتيو" حيث تم إكتشاف النفط ولكن حكومة الخرطوم كانت لها رأياً مختلفاً إذ أرادت أن تكون فى "كوستى" فى الشمال. وإن بناء مصفاة إنما يعنى إمتصاص بطالة وإرتفاع مستوى المعيشة إلى حد ما، وهو الأمر الذى لم يرده نظام الخرطوم لشعب الجنوب على ما يبدو، إستكمالاً، كما تردد، للمسيرة التاريخية للنظرة الاستعلائية من قبل الشمال إلى الجنوب!
---------------------
(34) اتفاقية أديس أبابا، هى إتفاقية وقعت، فى عام 1972، بين حكومة الخرطوم وقادة التمرد فى جنوب السودان فى أديس أبابا. وكانت عبارة عن سلسلة من التنازلات المتبادلة، التى كانت تهدف لاسترضاء قادة التمرد فى جنوب السودان بعد الحرب الأهلية السودانية الأولى التى كانت باهظة لحكومة الخرطوم. فقد تم منح الاستقلال الذاتى لجنوب السودان. وقد تلاها عقد من السلام النسبى. هذا ولقد أقرت الإتفاقية الحكم الذاتى للاقليم الجنوبى كإقليم واحد مكون من ثلاث ولايات، وبموجب الإتفاقية دمجت قوات حركة "الانانيا" الانفصالية فى صفوف الجيش السودانى. وقد أدت الإتفاقية إلى إنهاء الحرب مؤقتاً، وفى 1983 ألغيت الإتفاقية بالإرادة المنفردة من قِبل رئيس السودان، آنذاك، جعفر نميرى، عندما فرض الشريعة الإسلامية، كما رآها فقهاء سلطته، على كامل البلاد. ويقول روبرت كولينز فى هذا الصدد :" وبشكل مفاجىء أعلن الرئيس نميرى فى 5 يونيو 1983 عبر التلفزة الوطنية وفى فترة ذروة المشاهدة، أمره الجمهورى رقم (1) بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم: أعالى النيل، وبحر الغزال، والاستوائية؛ بثلاث عواصم هى: واو، وجوبا، وملكال. وفى الحقيقة أن الاحكام القاطعة فى مرسومه قد قضت على ما تبقى من اتفاقية أديس أبابا 1972 التى أسست للحكم الذاتى الإقليمى فى الجنوب. . . . وهكذا فإن نميرى قد ألقى، بشكل درامى وبحسابات باردة، باتفاقية أديس أبابا فى سلة مهملات التاريخ "أنظر: كولينز، تاريخ السودان الحديث، المرجع السابق، ص166- 167.
لم تجد الإحتجاجات تلك المرة، وأصر الرئيس نميرى على موقفه، مما قاد الحكومة الإقليمية إلى الرضوخ بل ومحاولة إقناع باقى الشعب فى الجنوب بقبول الوضع الحالى، إلا أن الجماهير لم تقابل تلك المحاولات إلا بالسخرية من الطرفين فى الشمال ولديهم كذلك فى الجنوب.(35)
من الممكن إعتبار هاتين الحادثتين نقطة بدء فى سبيل فهم مدى إرتباك العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين الشمال وبين الجنوب، إذ بات من الواضح أن إتفاقية "أديس أبابا"هى محل تطبيق إنتقائى وإختيارى من قبل نظام نميرى، بل ويزداد الأمر تعقيداً حينما يساهم فى خرق نصوص تلك الإتفاقية مسؤلون فى الحكومة الإقليمية نفسها فى الجنوب. ولقد كان لقيام نميرى بإلغاء إتفاقية "أديس أبابا"، الأثر الهائل فى إندلاع الثورة فى الجنوب المشتعل أصلاً، ولذا قام نميرى، فى 1983، بإرسال العقيد "جون قرنق" لإخماد تلك الثورة.
وما أن وصل "قرنق" إلى الجنوب، الذى ينتمى إليه بالأساس، إلا وإنضم إلى قوات التمرد، وصار قائدهم الأعلى، وإستخدم لغة خطاب يسارية راديكالية لإستقدام مساعدة موسكو، ولكن لم يُعلن الانفصال إذ كان كل ما يطلبه الجنوب(كما يطلب الشرق) معاملتهم كمواطنين لهم حقوق فى الثروة ولهم حقوق الإنسان فى وطنهم. وعندئذ أعلنت الحركة عن نفسها بشقيها الدبلوماسى ممثلاً فى الحركة الشعبية لتحرير السودان، والعسكرى المسلح ممثلاً فى الجيش الشعبى لتحرير السودان. ومنذ ذلك الوقت أصبح ذلك التنظيم بجناحيه الدبلوماسى والعسكرى هو المتحدث الرسمى بإسم الجنوب وهو الذى من ثم يقوم بالتفاوض مع الحكومة فى الخرطوم، وهو الذى يقرر، وقرر، الانفصال.
ويمكن من خلال التدقيق فى كتابات واحد من أهم زعماء الجيش والحركة، وهو "لام أكول" (36) أن نستخلص مجموعة من الأفكار والعناصر والذى على أساسهما يمكننا تكوين الوعى حول تلك الحركة الاجتماعية، فإن أهم ما يُميز حركة/جيش تحرير السودان هو: القسوة والبطش والتضحية عادة بالمدنيين فى الحروب المستعرة (عملية شريان الحياة والممرات الأمنة. ص140- 150) وكذلك تميزت الحركة/الجيش بإنعدام التنظيم وبصفة خاصة على الصعيد الإدارى(ص92،118) بالإضافة إلى الخلافات الداخلية المستمرة وسيادة القرارات العشوائية(ص110، 113) ولعل أخطر ما قد لاحظته فى كتابات "لام أكول"، وبصفة خاصة فى "الثورة الشعبية لتحرير السودان" أن الحركة/الجيش يعانيان من عدم ولاء بعض الفصائل المنضوية تحت لوائهما(ص112، 176، 195)
التجمع العربى
ملك ملوك أفريقيا، وإمام المسلمين، وعميد الحكام العرب، وأمين القومية العربية، وغيرها من الألقاب، لم يقم الرئيس الليبى معمر القذافى بإبتكارها أمس، وإنما أصابه هوسها منذ سنين، تحديداً عقب الانقلاب الذى قاده ضد الملك السنوسى، فلم يبخل القذافى على نفسه بالألقاب العصابية الرنانة، كما لم تبخل عليه فى المقابل الظروف المحيطة، كما سنرى. فلقد قام النميرى فى السودان بإصلاح العلاقة السياسية المتدهورة، آنذاك، بين الخرطــوم وبين ندجامينا،
---------------------
(35) لام أكول، الثورة الشعبية لتحرير السودان، ترجمة: إسماعيل آدم وبشرى آدم (القاهرة: مكتبة مدبولى، 2009)، ص 15

(36) أكول، السابق.
ومن ثم تغير الموقف الرسمى المعلَن من قِبل الخرطوم من قوى المعارضة التشادية، فبعد أن كانت مؤيَّدة على طول الخط من قِبل حزب الأمة والأخوان المسلمين فى السودان، بحسبان أن تلك القوى، كما تم تسويقه إعلامياً، إنما كانت تُحارب بإسم العروبة والإسلام التى يريد الآفارقة المسيحيون فى تشاد طمسهما، فقد أصبحت الأن قوات التمرد التشادية، بعد تحسن العلاقات ما بين الخرطوم وبين ندجامينا، خطراً على البلدين معاً السودان وتشاد، ومن ثم ستكون ليبيا أفضل مَن تلتجىء إليه قواد التمرد، إذ فى الوقت نفسه كانت تشاد محور إهتمام القذافى، كخطوة أولى فى سبيل مخططه لإقامة "الحزام العربى"، فى مواجهة "الحزام الزنجى" عبر أفريقيا، فقام القذافى فى 1975 بضم قطاع "أوزو" فى شمال تشاد، وفى 1979 دخلت القوات الليبية ندجامينا، كى يُعلِن القذافى فى 1981 الوحدة بين ليبيا وتشاد. بيد أن تلك الوحدة لم تستمر وكانت فاشلة قبل تحقيقها بالأساس.
وفى الوقت الذى كان يحتضن فيه القذافى غالبية الحركات الانفصالية والمتمردة والمعارضة(37)فى الدول الحدودية ، كانت الولايات المتحدة وفرنسا تساند وبقوة النظامين السودانى والتشادى الأول بقيادة جعفر النميرى، والثانى بقيادة "حسين حبرى". وحينما أُقصى "حسين حبرى" فى الفترة من 1981 حتى 1983 لم يجد سوى الانسحاب إلى دارفور كى يُعيد تسليح جيشه وينظم صفوفه بمعاونة من النظام السودانى، وهو الأمر الذى حدث فعلاً فى 1985 ورجع "حسين حبرى" رئيساً للبلاد، مما أغضب القذافى على الرغم من مكائده، وعلى الرغم من دولارات النفط. إلا أن الرياح أتت بما تشتهى سفن القذافى وإنما فى السودان، فقد أُقصى العدو فى الخرطوم، جعفر النميرى، وصار لزاماً على طرابلس، وفى مقابل دولارات النفط، تدارك المواقف وتسارع فوراً بتجسير العلاقات مع النظام الجديد فى الخرطوم، كى يُسمح لقوات القذافى بإستخدام القواعد العسكرية فى دارفور ومن ثم الإقتراب أكثر من العاصمة التشادية ندجامينا.
ومع أوائل الثمانينات من القرن الماضى، بدت اللغة الاستعلائية تفرض نفسها فى دارفور من قِبل العرب، الذين قرروا بفعل المساندة اليبيبة إنهاء حكم "الزرقة" بدعوى أن تلك القبيلة قد حكمت دارفور أكثر من اللازم وأن الوقت آن لتداول السلطة مع عرب دارفور، وجاءت نتيجة الانتخابات كى تُفجر صراعاً وحشياً من خصائصه الرئيسية أنه لا ينتهى بموت المتصارعين!!
ثمة نقطة هامة هنا فى مجرى البحث، قبل إستكمال السرد، هى أن الصراع الاثنى، قبل تورط النظام، فى دارفور تطور حول محورين رئيسيين: شمالى/جنوبى(أى بين إبالة الشمال وبين القبائل المستقرة فى الجنوب) والآخر جنوبى/جنوبى (أى بين قبائل بقارة الجنوب التى تألب بعضها على بعض، بيد أن وسائل الإعلام العالمية رأت فى تسويق المحور الأول أكثر تشويقاً وإثارة لأنه يشير إلى صراع عرقى بين العرب وبين الأفارقة، ولذا كان القتال بين هذين الفريقين المتصارعين هو الذى يتصدر الإعلام اليومى، فى مقابل الاهمال العمدى للمحور الثانى المتعلق بالصراع ما بين القبائل الجنوبية نفسها.
--------------------
(37) "حيث كان القذافى يحلم بدولة عربية تمتطى الصحراء، حيث كان، بفضل أموال النفط، مشغولاً فى تكييف أدواته. وكانت تتضمن الفيالق الإسلامية التى كانت تجند البدو من موريتانيا إلى السودان؛ ومنظمة الدعوة الإسلامية التى كانت ترعى المؤسسات الخيرية والدعوة؛ ورعاية الجبهة الوطنية السودانية المعارضة التى كانت تتضمن الإخوان المسلمين والأنصار، وهم الجناح العسكرى للأمة. وإضافة إلى ذلك، كان القذافى يستضيف جمّة من حركات المعارضة العربية، التى كانت تُعرف شعبياً بإسم "التجمع العربى" موفراً لها التدريب العسكرى فى كفرا فى جنوب شرق البلاد . . . ." أنظر: جولى فلينت، وألكس دى فال، تاريخ حرب وإبادة دارفور (بيروت. شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2008)، ص80
وإستكمالاً نقول: وإذ يتحالف "التجمع العربى"مع النظام فى طرابلس، فقد كان من المتعين أن تُعلن المليشيات المسلحة فى دارفور تحالفها مع النظام فى ندجامينا، وإذ تمر الأيام حتى يعتلى الإسلاميون السلطة فى الخرطوم، يقوم القذافى بإعلان السيادة العربية الإسلامية ورفض ما عداها، ويوجب، كإمام للمسلمين، على الخرطوم إخضاع الأقاليم المتمردة وعلى رأسها دارفور للشريعة الإسلامية، والتأكيد على سمو العرق العربى فى مقابل باقى الاثنيات الدارفورية. ومن ثم إمتلأت نشرات الأخبار والتقارير بأخبار بحور الدم فى دارفور ما بين العرب الفور وبين المليشيات المسلحة، وهو الأمر الذى بدا كتمهيد تقنى وأيديولوجى، لظهور تنظيم لا يقل تأثيراً وفعالية فى مجرى وقائع الصراع الاجتماعى، وهو تنظيم "الجنجويد" أى الجن الراكب على جواد، دلالة على الرعب والهلع الذى تنشره هذه الجماعات المسلحة بين سكان القرى أينما حلت.
الجنجويد
وإن نفس المشكلة التى تواجه الباحث عادة فى عناصر المسألة السودانية وهى تلك المتعلقة بالغموض تارة والتضليل الإعلامى تارة أخرى، تواجهنا حين ذهابنا للتعرف على واحد من أهم القوى الاجتماعية الفاعلة فى الصراع الراهن، إنه "الجنجويد" إذ يصعب أن تجد إتفاقاً بين الباحثين على رأى فى المسألة المتعلقة بالتنظيم، أو تأريخ يتتبع نشأة التنظيم وعناصره ولحظات قوته وضعفه، وتحلفاته وعداءاته، وإن كانت وجهات نظر، أقربها، بتصورى، إلى الصواب وإنما النسبى، وهى تلك التى تؤرخ للجنجويد إبتداءً من الحرب التشادية/التشادية فى الثمانينات من القرن الماضى، إذ لجئت القوتان المتصارعتان إلى تجنيد ميلشيات تدعم حرب كل واحدة منها تجاه الأخرى، وقد صارت تلك الميلشيات فيما بعد هى الجنجويد. وتوجد كذلك مروية أخرى، ربما تتماس مع مجموعة المساهمات المقدَمة وهى تلك التى ترى أن الحكومة السودانية(38) قد لجأت خلال حربها ضد متمردى الجنوب إلى تسليح القبائل العربية فى دارفور لصد هجمات الحركة/الجيش الشعبى لتحرير السودان، بقيادة جون قرنق. ولما جاءت حكومة الإنقاذ إرتكب حسن الترابى زعيم الحركة الإسلامية أخطاء فادحة إنعكست على الأوضاع فى دارفور ومن هذه الاخطاء إثارة النعرات الجهوية، على حد تعبير الدكتور زكى البحيرى(39)، فى نشاط الحركة حيث إعتمد على قبائل غرب السودان، وإستخدمها كوقود لهذا النشاط، وبصفة خاصة وأن الجفاف والعوز قد ضرب عرب دارفور، وكان إستخدام الخرطوم للميلشيات القبلية من قبيل الانتهازية السافرة، فهم كانوا هناك، وكانوا يمتلكون السلاح كما يمتلكون المهارات القتالية، ولكى ينجح الترابى فى إثارة هذه النعرات ضد "قرنق" رفع راية الجهاد فى حرب الجنوب، وأقدم على فتح الحدود للمسلمين المهاجرين من دول غرب ووسط إفريقيا بدعوى أن "ديار المسلمين بلا أبواب" كما أعلن فى الوقت نفسه أن المال مقابل الإسلام؛ الأمر الذى سارعت المرتزقة معه فى الانضمام إلى قوات الترابى، والتى منها تكونت ميلشيات الجنجويد، التى نشأت فى حقل الطبقية وليس الدين أو العرق كما يروج.فالعرب فى الشمال وهم، فى الواقع، النُخب الحاكمة (المالكة للثروة والسلطة) لن يجدوا أفضل من الدين"كما يرونه هم" لإكسابهم شرعية الحكـم والتصرف فى مجمل الإقليم، ومن هنا فإن "شريعة الجهـــــاد "ضد
---------------------
(38) يذكر زكى البحيرى: ان محمد سليم العوا بعد زيارته لدارفور والسودان، قال:" أن التقرير الذى صدر فى 20 يونيو 2004 عن علاقة الحكومة السودانية بالجنجويد هو تقرير غير موثق، إننى لم أر وثيقة واحدة تؤكد ما جاء به ... لا يعقل أن تأتى رسائل من واشنطن أو نيو يورك باعتبارها وثائق لا تقبل الشك... ليس حقيقياً أن الحكومة أسست الجنجويد". زكى البحيرى، مشكلة دارفور، أصول الأزمة وتداعيات المحكمة الجنائية (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب،2010 ) ص133.

(39) البحيرى، السابق، ص 131-132
المتمردين إنما تقتضى بسط الهيمنة على هؤلاء "الخوارج" كما يكون تمردهم هذا فى ذاته هو تمرد على الإسلام. هكذا سوَقت حكومة الخرطوم الصراع، إلا أن الطبقية (فى الصراع شمال/جنوب) بين شمال غنى (النخب، السادة، مَن يملكون) وبين جنوب فقير (المهمشون، العبيد، مَن لا يملكون) هى نقطة البدء، بتصورى، للفهم الصحيح. وتكون مليشيات الجنجويد ببساطة شديدة هى: مجموعات من المرتزقة التى إستخدمتهم الحكومة (النخبة) فى الخرطوم من أجل بسط هيمنتها على العناصر المتمردة (التى تمثل طبقة مهمشة اجتماعية وفقيرة إقتصادياً ذات إرث تاريخى غير لطيف إنسانياً) وبصفة خاصة فى الغرب. ومن ثم لا محل للاستغراب على الإطلاق إذ ما نقلت لنا وسائل الإعلام أن القذافى، على سبيل المثال، يستخدم المرتزقة فى حربه ضد شعبه، أو أن البشير، فى حربه القادمة(40)سوف يستخدمهم، إذ أن جوع وفقر ومرض تلك المنطقة من العالم جعل القتل ليس من أجل المال فقط وإنما من أجل شربة ماء وقطعة خبز!! بعد أن ضاع الأهل وتفتت الأوطان!!
حركة تحرير السودان
وهى الحركة الرئيسية فى دارفور، كونها فى 2001 عبد الواحد نور، وهو ينتمى إلى التيار اليسارى، كما أنه منذ أن كان طالباً فى كلية الحقوق عضواً نشيطاً فى الحزب الشيوعى السودانى، وهى حركة تتخذ مثلها مثل سائر الحركات من العرقية والإثنية غطاءً كثيفاً لجميع أنشطتها ضد النظام وضد الميليشيات التى كونها النظام، دون الذهاب مباشرة إلى مكمن الأزمة فى الصراع الطبقى الذى تمتطيه العديد من مظاهر الصراع العرقى والقبلى، وبعد أن تم التوقيع على إتفاقية"جوبا" إنفصلت مجموعة من الفصائل الباحثة عن مصلحتها والمكاسب المالية التى من الممكن أن تعود إليها أثر مفاوضاتها المهادنة مع النظام فى الخرطوم، إذ إنفصلت عن الحركة، عدة حركات أهمها: تنظيم الوحدة، والقوى الثورية الموحدة، والتنظيم الديموقراطى الوحدوى، بالإضافة إلى فصيل أحمد عبد الشافع.
العدل والمساواة
من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار جاء د. خليل إبراهيم كى يُعلِن، من لندن، قيامه بتأسيس وإنطلاق حركة ثورية، وليست من مطالبها الانفصـال، وإنما أيضاً نفس اللحن وإن كان
---------------------
(40) وهو الأمر الذى لا نستبعده على الإطلاق، بل قد سبق وأن تساءلنا فى المتن عما إذا كان الشمال سيترك الجنوب يمضى بنفطه؟ ففى 25/6/2011 أعلنت وسائل الإعلام أن الرئيس السودانى عمر البشير أكد أنه لا يستبعد إحتمال نشوب حرب بين شمال السودان وجنوبه، وقال البشير فى مقابلة مع وكالة أنباء الصين الجديدة"شينخوا": "إن إحتمال الحرب وارد للأسف، ومن جانبنا فنحن ملتزمون وحريصون على السلام، ومن أجله قبلنا تقسيم السودان إلى دولتين، ولكن إذا كانت إرتباطات إخواننا فى الحركة الشعبية تدفعهم لخلق المشاكل فسيكونون الخاسرين، وقد جربوا ذلك فى أيبى وجنوب كردفان . . إن المورد الأساسى الوحيد بالنسبة للجنوب هو النفط، وأى مغامرة للحرب بين الشمال والجنوب ستؤدى قطعاً لتعطيل النفط، ولا يمكن للجنوب تصدير النفط عبر السودان للحصول على موارد لمحاربتنا". . وإتهم البشير الحركة الشعبية بتعطيل عملية ترسيم الحدود بين شمال وجنوب السودان، وقال: إن الحركة بسلوكها عطلت عمل لجنة ترسيم الحدود وحتى الآن لم ترسم الحدود حتى المتفق حولها ونسبتها 80%وشدد البشير على أهمية التوصل إلى حل نهائى لمشكلة منطقة ابيى المتنازع عليها بين شمال وجنوب السودان، وقال: " إن محاولات حرمان قبيلة المسيرية من المشاركة فى استفتاء ابيى، وهى صاحبة حق اصيل، هى التى عطلت جهود مساعى الاتفاق حول ابيى ... لقد أدت تجاوزات الحركة الشعبية الأخيرة ودفعها بقوات كبيرة إلى منطقة ابيى إلى تصاعد المشكلة، لأن سلوك الحركة كان تجاوزا لاتفاق السلام وبروتوكول ابيى الموقع بين الطرفين، وهو ما ادى للصراع الأخير وأرجع البشير . . .الصراع التاريخى بين شمال وجنوب السودان إلى "الاستعمار البريطانى" وإتهمه بخلق تناقضات فى المجتمع السودانى وزرع الكراهية بين شطرى السودان وأشار الرئيس السودانى إلى أن حالة السودان مختلفة عن بقية الدول الأفريقية، وقد حاول الاستعمار تنصير شمال السودان وعندما فشل أصدر قانون المناطق المقفولة التى قفلت جنوب السودان ومنطقة جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وأضاف: وانشئ الاستعمار حزاماً عازلاً بين الشمال والجنوب بعرض 10 كيلو مترات وتم حرق كل المدن والقرى الموجودة داخل هذا الحزام، وتم تهجير المسلمين إلى الشمال وغير المسلمين إلى الجنوب..."
arabic.news.cn/big/2011-06/23/c_13946567.htm
بألات مختلفة، فمن حزب المؤتمر، وحكومة الإنقاذ، والجبهة القومية الإسلامية، إلى العلمانية اليسارية العنصرية، تتلخص الرحلة الفكرية لمؤسس الحركة خليل إبراهيم، فبعد أن كان أحد كوادر حزب المؤتمر، ووزيراً للصحة فى حكومة الانقاذ، أصبح، بعد زيارة لبولندا ومقابلة مع الدكتور شريف حرير(41)، من أهم المناهضين للنظام فى الخرطوم، وقام فى 1999 بإصدار كتابه "الكتاب الأسود" والذى إحتوى على تقويم (عرقى) للوظائف والمناصب العليا فى السودان حيث بيّن أن العناصر الشمالية هى التى تُسيطر على السلطة فى البلاد، وأن أبناء أغلب المناطق الأخرى وفى مقدمتهم دارفور مهمَشون، وقد بيّن أيضاً أن 800 من أصل 887 وظيفة قيادية فى الحكومة المركزية يشغلها موظفون شماليون.(42) كما إستخدم نفس اللغة السائدة التى تخفى ما هو طبقى فى ما هو عرقى، فلم يكلف الدكتور خليل إبراهيم نفسه عناء الذهاب إلى ما هو أبعد من التصفية العرقية التى لا تُمثل سوى الغطاء الإعلامى للصراعات الطبقية الضاربة بجذورها فى قلب هذا المجتمع منذ أول عدوانية لرأس المال البريطانى/المصرى على الأجزاء المختلفة، ودمجها (بكل تناقضاتها وصراعاتها وطبقيتها) فى كيان واحد غير متجانس على الإطلاق. ولذلك كان السبب الذى هو وراء شغل أبناء الشمال لـ 800 وظيفة من أصل 887 إنما يتحصل، لدى خليل إبراهيم، وكل من يتحدث لغته من باقى الفصائل المتناحرة، فى التفضيلات العرقية والعنصرية السافرة، دون أن يدرى أو يدرون أن تلك التفضيلات ما هى سوى المظهر الذى تُجسد الصراعات الطبقية نفسها من خلاله على أرض الواقع السودانى شرقاً، وغرباً وجنوباً بشكل خاص.
جيش الرب
حتى الأن كنا نتحدث عن القبائل والتركيبة الاجتماعية وربما تاريخ كل منها، وكذلك إلى الأن لم نعالج الكُل الاجتماعى إلا من خلال فعل السرد الخطى، ولقد كان ذلك مقصوداً، كتمهيد من داخل النص، لفهم (فى مرحلة تالية) الصراع الجدلى لا الخطى بين القوى الاجتماعية المتناحرة، وبصفة خاصة فى الغرب وفى الجنوب، وإن رصد وتحليل حركة/جيش الرب وعلاقتهما، المتناقضة المرتبكة، مع السلطة المركزية فى الخرطوم ليعكسان، بتصورى، صورةً واضحةً للصراع الراهن فى الجنوب تحديداً. وسنجعله مدخلاً لإستيعاب مقولة (الصراع الطبقى فى السودان) وهو فى الواقع صراع بين طبقتين رئيسيتين: شمال غنى، وأطراف، شرق وغرب وجنوب، فقيرة! أى انه الصراع فى شكله البدائى والتقليدى، بيد أن تقديمه العرقى من قبل المؤسسة الإعلامية كصراع دموى إثنى كان له التأثير الحاسم، وبصفة خاصة حينما يكون العرب أحد أطراف الصراع، وبصفة أخص بعد تلك المهزلة الإنسانية فى11سبتمبر2001.
بداية، المعلوم من الجغرافيا ومن التاريخ بالضرورة أن جميع قبائل أفريقيا تقريباً هى قبائل قطّع أوصالها ترسيم الحدود الاستعمارى على الخريطة دون أى إعتبار للحياة المشتركة والتاريخ المشترك والألم المشترك والفرح المشترك لملايين البشر الذين يجمعهم وطن واحد، ومعتقد واحد، وتاريخ واحد، وثقافة واحدة. فنجد على سبيل المثال "الدنكا" مقطعة الأوصال بداخل كينيا وأوغندا، وأطراف أثيوبيا.
---------------------
(41) الدكتور شريف حرير كان من أوائل الذين أثاروا الجدل حول دارفور، وإنضم إلى التجمع الوطنى الديموقراطى لقرابة العشر سنوات، و الأن هو مسؤول العلاقات الخارجية والتفاوض فى حركة تحرير السودان.

(42) مشار إليه لدى: البحيرى، مشكلة دارفور، ص129.
الغربية وبالطبع السودان، وكذلك "الازندى" الممتدة حتى الكونغو، أما عن باقى القبائل الأفريقية فالأمر ربما أفدح، فقبائل"الهوسا" على سبيل المثال تم تقطيع أوصالها بين نيجريا، والنيجر، وغانا، وتشاد، وكوت ديفوار، أما قبيلة "الفولا" كمثل آخر فتفتيتها لا يقل جسامة وسخافة فهى موزعة بين غينيا، ونيجيريا، والكاميرون، والسنغال، وسيراليون، وبنين، وتشاد، وغانا، وتوجو،....وهكذا باقى قبائل أفريقيا، ومن هنا سيكون من اليسير فهم إشكالية الانفصال، وتكوين الوعى بشأن العلاقات الجدلية بين القوى الاجتماعية المتصارعة على أرض الجنوب تحديداً (والذى صار بفعل فاعل سودانياً!) الأمر الذى يجعل التحرر من الوطن الزائف مسألة وجودية.
لقد برزت حركة "جيش الرب"، أو"حركة الروح القدس"،أو"لاكونيا 2" وكلها أسماء لتنظيم واحد وفقاً لتطور الحركة نفسها على الصعيد الاجتماعى، إلى أن تم الاستقرار أخيراً على إسم "جيش الرب للمقاومة" كحركة معارضة للنظام الأوغندى من قبائل"الاشولى"عام 1986، وهو نفس العام الذى إستولى فيه الرئيس يورى موسيفينى على السلطة فى كمبالا. وإستندت الحركة، على ما تستند عليه غالبية الحركات الثورية المناهضة للنظام الحاكم، وكان الادعاء هنا هو إدانه تهميش ونسيان الاجزاء الشمالية فى أوغندا(43)
قادت الحملة على نظام موسيفينى من البدايات الأولى أليس لاكونيا والتى إشتهرت فى أول عهدها بالروحانية وبمهارات فى علاج المرضى، وهذا بحال أو بآخر من الأمور الشائعة فى أفريقيا والمهيمنة على مجمل الحياة اليومية للإنسان الأفريقى كما هو معروف، وقد أعلنت "أليس" أنها تتلقى تعاليمها من السماء كى تقوم بتطهير قبيلة الاشولى من الرجس، والشرور، ومحاربة السحرة. ولم تستغرق أليس لاكونيا فى دعوتها الروحية وقتاً طويلاً حتى حولتها إلى حركة سياسية مسلحة تدعو للإطاحة بحكم الرئيس موسيفينى إذ نجحت فى نفس العام 1986 فى حشد أعداداً كبيرة من المؤيدين وشنت حملات حربية واسعة النطاق، إلا أن الأيام أثبتت أن التنظيم بحاجة إلى المزيد من الثوار والسلاح، ثم أنه فى حاجة أيضاً إلى زعيم بعد أن ماتت أليس لاكونيا.
تولى القيادة، بعد وفاة أليس واحد من أقربائها، وهو "جوزيف كونى" الذى سيتولى مقاليد الزعامة الروحية والعسكرية معاً. وكما سيحتل، فيما بعد، أحد الخانات المتقدمة فى قائمة الإرهابيين على الصعيد العالمى الذين يهددون السلم والامن الدوليين وفقاً للمنظور الامريكى.
يبدأ الظهور الرئيسى لجيش الرب على الأرض السودانية، المشتعلة بالأساس، مع النصف الأول من تسعينات القرن الماضى، تحديداً فى الفترة من 1993 و1994، وهو الظهور الذى باركه، آنذاك، النظام فى الخرطوم بقيادة الرئيس عمر البشير، فالصفقات الكلاسيكية جاهزة؛ أن يسمح النظام فى الخرطوم للتمرد الأوغندى (جيش الرب) بإستخدام الأرض السودانية وإعتبارها ملجأً آمناً إذ ما أُتخذ القرار بالتقهقر أو بالانسحاب، وإعادة التعبئة، وفى المقابل فعلى جيش الرب أن يشترك مع الجيش النظامى السودانى فى سحق التمرد فى الجنوب، ليس ذلك فقط وإنما شملت الصفقة الاتفاق على سحق العدو المشترك وهو قوات الدفاع الشعبية الأوغندية، التى باتت تؤرق النظام فى الخرطوم بعد توتر العلاقات بينها وبين كمبالا.
---------------------
(43) "فى عام 2006 كان هناك 60% من مدارس الإقليم الشمالى غير عاملة، حارمة نحو 250 ألف طفل من أى نوع من أنواع التعليم، وهناك 95% من سكان الشمال يعيشون فى فقر مدقع مقارنة بمعدل الفقر على صعيد البلاد البالغ 37%" أنظر: ماركيه شوميروس، جيش الرب للمقاومة فى السودان، مشروع مسح الأسلحة الصغيرة (جنيف: المعهد العالى للدراسات الدولية، 2007) ص24.
والجدير بالذكر أن تلك التحالفات/الصراعات العابرة للحدود بين الأنظمة الحاكمة وبين الحركات الثورية المسلحة تعد من خصائص الصراع الدائر فى تلك المنطقة من العالم، فمثلاً وإضافة إلى الأمثلة العديدة التى سنراها لاحقاً، نذكر هذا التحالف ما بين النظام الأثيوبى وبين الجيش الشعبى لتحرير السودان فى مواجهة التحالف بين النظام السودانى وبين المتمردين (الويانى) وهكذا، والأمثلة عديدة. صراعات مسلحة تنطلق من أرضية الصراع بين الطبقات المكونة للتنظيم الاجتماعى الذى إنشطر (بالإضافة إلى الصراعات الداخلية كما سنرى) إلى قسم غنى وقسم فقير.
فالجيش الشعبى لتحرير السودان فى الجنوب يريد إقتسام الثروة والسلطة لأن الجنوب (كمركز للطبقات المهمشة) ببساطة شديدة فقير ومنسى، وفى المقابل الجيش النظامى السودانى يريد الحفاظ على الوضع الطبقى الراهن لمصلحة النخب الحاكمة فى العاصمة، وبصفة خاصة وحينما تكون القوات المسلحة هى الحاكمة على أرض الواقع، ولذا فلا ضير من التحالفات التى تحقق الأهداف، ونفس التحليل يصدق بشأن باقى التحالفات التى تتخذ شكلاً عسكرياً أو سياسياً، وهى فى واقعها تعبير صارخ عن صراع العوز والهيمنة.
ولنعد لجيش الرب، لم يظهر جيش الرب من البداية كتنظيم أيديولوجى، على الرغم من نشأته المرتَكِزة على تعاليم التوراة والتلمود والوصايا العشر، ولم يترك له نظام كامبالا أى مساحة لتقديم نفسه كتنظيم له أهداف وبرنامج.
لم يستمر هذا الحال كثيراً من الغموض والتجهيل حتى بلغت المجازر التى إرتكبها الجيش السودانى فى المدنيين فى حربه ضد قوات الدفاع الشعبى الأوغندية، وكذلك ما إرتكبته الأخيرة ضد المدنيين أيضاً فى حربها المفتوحة مع الجيش النظامى، حدوداً لم يعد من الممكن المضى فى إخفائها عن المجتمع الدولى أكثر من ذلك، وحينئذ قدم جيش الرب نفسه كمعارضة مضطهدة من قبل نظام فاسد فى بلده، وأن المذابح التى تُرتكب على الحدود السودانية الأوغندية والاستوائية إنما هى بفعل القوتين المسلحتين المتناحرتين الجيش السودانى وقوات الدفاع الشعبى الأوغندية.
إلا أن تركيز الضوء على تلك المنطقة الملتهبة أدى بالضرورة إلى تركيز الضوء على جيش الرب، وحينئذ فقط إستطاع المجتمع الدولى أن يجد إجابات عن أسئلة حائرة تتعلق بمرتكبى المذابح الجماعية وخطف الأطفال وتجنيدهم، فلقد كان لجيش الرب الدور الحاسم فى تلك الجرائم، وهى الجرائم التى أحرجت النظام السودانى نفسه، إلا أن النظام فى الخرطوم كان يجد فى وجود جيش الرب فى السودان قوة مساعدة فى حربه ضد الجيش الشعبى لتحرير السودان من جهة وضد قوات الدفاع الشعبى الأوغندية، وهى قوات تابعة للنظام الأوغندى، من جهة أخرى؛ أى أنه وجد فى الحرب بالوكالة ما من شأنه ضرب عصفورين بحجر واحد! "وفى حال إشتباك جيش الرب للمقاومة مع الجيش الشعبى لتحرير السودان، وفقاً لماركيه شوميروس، يقوم مقاتلوا جيش الرب للمقاومة كما هو معهود منهم بالهجوم أولاً ثم تليهم القوات المسلحة السودانية بهجوم ثان، لقد إشتركت القوات المسلحة السودانية فى معظم المعارك التى خاضها جيش الرب للمقاومة مع الجيش الشعبى لتحرير السودان، وغالباً ما كانت القوات المسلحة السودانية تستخدم فى إشتراكها هذا الدبابات وفى بعض الأحيان طائرات أنطونوف.(44)
---------------------
(44) نقلاً عن: ماركيه شوميروس، جيش الرب للمقاومة فى السودان، المرجع السابق، ص34

عملية القبضة الحديدية
ولم تكن الأخبار الاتية إلى واشنطن من السودان جيدة بوجه عام، بل كانت مفزعة، الأمر الذى جعل واشنطن تُعلن السودان دولة إرهابية، ولم يكن أمام نظام الخرطوم سوى البحث عن أى مخرج يمكنه من إسترضاء الرأى العام العالمى، فما كان منه إلا التوقيع على إتفاقية "نيروبى" فى عام 1999، بينه وبين أوغندا، وبمقتضاها لا يجوز لإى من الدولتين القيام بإيواء العناصر المتمردة، الأمر الذى فك الارتباط، ظاهرياً، ما بين نظام الخرطوم وجيش الرب من جهة، وبين الجيش الشعبى لتحرير السودان ونظام كمبالا من جهة أخرى، كما تضمنت الاتفاقية السماح للقوات المسلحة الأوغندية بالدخول إلى الأراضى السودانية لسحق جيش الرب المتمرد.
وفعلاً شهدت الأرض السودانية بحوراً هائلة من دم المدنيين العُزل فى شرق الاستوائية إضافة إلى مئات القتلى من كل جانب من جانبى الصراع المستعر، وتلك العمليات الحربية الانتقامية التى مارستها القوات المسلحة الأوغندية ضد جيش الرب للمقاومة هى التى أُطلِق عليها "عملية القبضة الحديدية".
بيد أن نظام الخرطوم لم يكن، بتصورى، صادقاً تماماً فى التوقيع على الاتفاقية حينما أدمج غالبية جيش الرب فى الجنجويد، وإستمرت الحروب والإبادة كما إستمر الإرهاب ، حتى كانت مفاوضات جوبا بين جيش الرب وبين القوات المسلحة الأوغندية وبين الجيش الشعبى لتحرير السودان فى 14/7/2006.
جدلية العوز/الهيمنة
ذكرنا سلفاً أننا ننشغل بجيش الرب إبتداءً من إنشغالنا بالصراع الطبقى فى السودان، وإن نظرة لحقل عمليات جيش الرب فى السودان، قبل أن ينتقل إلى الكونغو، وبصفة خاصة شرق الاستوائية، من الممكن لها أن تقوم بتأييد وجه نظرنا بشأن تلك الحروب المفتوحة؛ وأنها تتخذ أشكالاً عسكرية وهى تعبر تعبيراً صارخاً عن (جدلية العوز/الهيمنة) وأنها فى جوهرها صراعات طبقية بين مَن يملكون وبين مَن لا يملكون، أغنياء فى المركز وفقراء فى الاطراف، وهى صراعات(مغلفة بلغة خطاب عرقى وإثنى).
فلقد وجدَ المدنيون أنفسهم، فى شرق الاستوائية بمفردها، وسط صراعات قوى: جيش الرب للمقاومة (LAR/M) وقوات الدفاع الشعبى الأوغندية (UPDF) والجيش الشعبى لتحرير السودان (SPLM/A) والقوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدفاع عن الاستوائية (EDF) وحركة(45)إستقلال جنوب السودان (SSIM) وكلها (تقاتل بعضها) تحت مسميات مختلفة، وأهداف مختلفة، وإنما الذى يتم تسويقه على صعيد الإعلام العالمى هو حروب الإبادة العرقية بمجرد أن يوجد (عرب) وذلك كله على الرغم من أن الصراعات الدائرة لا يمكن الوعى بها وعياً ناقداً وخلاقاً إلا إبتداءً من الوعى بالصراع الطبقى بداخل التنظيم الاجتماعى، فما هو السياق الطبقى فى تلك الحروب؟
---------------------
(45) "فعندما إنشق الجيش الشعبى لتحرير السودان فى عام 1991 تحركت المجموعة المعروفة بإسم حركة/ الجيش الشعبى لتحرير السودان- المتحد، التى يقودها ريك ماشار إلى شرق الاستوائية ووقعت فى عام 1992 إتفاقية تعاون مع الحكومة السودانية، ثم إنفصل ماشار لاحقاً عن الجيش الشعبى لتحرير السودان ليشكل فى عام 1994 حركة إستقلال جنوب السودان التى إصطفت من ثم مع قوات دفاع الاستوائية، ومن بعد مع جيش الرب للمقاومة." أنظر: شوميروس، المرجع السابق، ص 33
يجدر بنا، أولاً، أن نذكر أمرين على درجة من الأهمية، أولهما: القوات المسلحة الأوغندية إنما كانت تستمد قوتها من قوة جيش الرب نفسه ! إذ إن الذريعة لزيادة تمويل الجيش جاهزة لمجابهة هذا العدو القوى الذى يُهدد أمن وآمان البلاد، ولن يجد النظام أفضل من ذلك للمزيد من التمويل متعدد الجنسية!
والأمر الثانى هو ان الإبقاء على نار الحرب مشتعلة بات فى حد ذاته جزءً من تجارة مربحة للقوات المسلحة الأوغندية التى مارست سلطات إحتكارية على المناطق التى تحتوى على الماس والذهب، بالإضافة إلى التجارة الدولية فى الأخشاب عبر جمهورية الكونغو الديموقراطية. بما يعنى ذلك من تخريب وتدمير لمئات القرى، وقتل وتشريد الآلاف من البشر فى السودان وأوغندا والكونغو.
ولنرجع إلى السؤال: أين السياق الطبقى فى تلك الحروب المفتوحة؟ على الرغم من كون الموضع الصحيح لتقديم طريقة إجابة على هذا السؤال هو فى الخطوة الفكرية التالية، المعنية بتحليل الصراع الاجتماعى الراهن؛ إلا أننا سوف نثبت ها هنا بعض الخطوط العريضة التى تُحدد الإجابة وتُمهد لها فيما بعد، على النحو التالى:
أولا: إن العناصر المتناحرة، على إختلاف مسمياتها وتوجهاتها، كما رأينا تتمثل تقريباً فى ست حركات رئيسية، وعلى الرغم من العسكرة التى تغلفها، إلا أنها تظل حركات إجتماعية عاكسة لواقع إجتماعى متدهور، ووضع إقتصادى مترد. والجدول أدناه يوضح حجم التفاوت الصارخ ما بين الشمال وبين الجنوب. الأمر الذى يشير إلى (جدلية العوز/الهيمنة) بوضوح.
ثانيا: الثروة والاستئثار بها من قبل حفنة رجال يسكنون القصور فى العاصمة، هو العنوان الأمثل للبدء فى فهم أولى للحركات المتمردة. ثم فهم تال، من هذا المنظور، لذلك الإصرار على قمع المتمردين وسحقهم. والجدولان أدناه يوضحان مقدار الإهمال الذى يُعانيه الجنوب، وتهميشه، بكل ما به من صراعات. بما يحتوى ذلك على إشارة ثانية (لجدلية العوز والهيمنة) .
التفاوت الاجتماعى والاقتصادى ما بين الشمال وبين الجنوب
البند الشمال الجنوب
معدل إنتشار الفقر (%) من السكان 46,5 85,6
إنتشار سوء التغذية (%) 31,8 78
نسبة من هم تحت الحد الأدنى من إستهلاك الطاقة الغذائية (%) 28 76
إجمالى نسبة الإلتحاق بالتعليم الإبتدائى (%) 71,1 48
معدل معرفة القراءة والكتابة للبالغين (%) 77,5 28,7
نسبة الفتيات إلى البنين فى التعليم الإبتدائى (%) 53,9 0,7
حصة المرأة فى العمالة فى القطاعات غير الزراعية (%) 59 0
معدل وفيات الأطفال (لكل 1000) 102 381
معدل وفيات الرضع (لكل 1000) 31 71
الوصول إلى مرافق الصرف الصحى، والمياه الصالحة للشرب (%) 39,9 6
www.sd.undp.org/mdg_fact.htm

التحويلات الاتحادية إلى الولايات الشمالية
السنة 2000 2001 2002 2003 2004 2005 2006
بالمليون دولار 80,36 231,62 287,67 408,18 561,38 829,49 254,01
المصدر: ممدانى، دارفور، دارفور: منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب، ص208.



التحويلات الاتحادية إلى الولايات كنسبة من إجمالى التحويلات
الولاية 2000 2001 2002 2003 2004 2005 2006
شمال دارفور 6,4 6,3 5,1 5,2 5,5 5,7 4,7
جنوب دارفور 5,3 4,5 4,2 4,6 4,5 4,6 4,4
غرب دارفور 4,7 4,0 2,9 2,9 4,0 3,1 2,7
دارفور الكبرى 16,3 14,7 12,3 12,7 14,7 13,5 11,8
الخرطوم 6,4 19,4 23,2 24,2 19,7 20,1 14,5
الجزيرة 22,9 16,9 18,0 16,6 16,9 18,0 14,5
أخرى 54,5 49,4 46,5 46,5 47,1 48,5 59,7
المصدر: ممدانى، دارفور: منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب، ص208.
ثالثاً: تسيطر النزعة العنصرية، كتعبير عن الصراعات الطبقية، على جُل العناصر المتصارعة، ولن يكون أمام العرق(الطبقة) المهمَل سوى القتال من أجل الثروة والسلطة. ومن ثم الدخول فى تحالفات تمكنه من ذلك الهدف، أيا ما كان الحلفاء، فنظام الخرطوم، مثلاً، حينما يتحالف مع جيش الرب للمقامة، يتجاهل مذابح وفظائع هذا التنظيم التى يفعلها أينما حل، المهم أنه يتصدى بالوكالة للأعداء.
رابعاً: وإذ تسيطر النزعة العنصرية، ذات الأساس والبناء الطبقى، على نحو أو آخر على مجمل خطاب جُل الفصائل والقوى المتناحرة، فلن يكون أمام هؤلاء المهمَشين سوى التمسك الشديد بالموروث التاريخى والثقافى والدينى والقتال الضارى من أجل هذا الموروث فى مواجهة قوى يرون أنها تهدف إلى طمسه، وإزالة ثقافتهم وكيانهم الاجتماعى نفسه من على الخريطة الرسمية للبلاد.
خامساً: الواقع يقول أن هناك مستفيدين، إقتصادياً، من الحروب الضروس الدائرة، إما بالإرتزاق من الجانب الغنى، والقتال وكالة عنه، وإنما بالدخول فى صفقات مهادنة معه.
سادساً: يسود السودان نمط الإنتاج المعاشى أى الإنتاج من أجل إعادة تجديد حياة المنتِج بالتوازى مع الإنتاج من أجل السوق، فالمنتِج، وبصفة خاصة فى الجنوب، يعلم أنه من الحتمى عليه أن يحافظ بالعمل على تجديد إنتاج نفسه بأن يوفر لنفسه المأكل والملبس والمشرب والمسكن، لأن النظام الحاكم لن يقوم بتوفير ذلك، وهنا يتبدى المستوى الثانى من الصراع. فهو (صراع جنوب/جنوب) وهو بحكم طبيعته التاريخية والواقعية على الأرض والماء والكلأ، المعزَز غالباً بلغة الخطاب العنصرية، حينما يشتبك (العرب) والعرب فقط، إذ نجد الألة الإعلامية الغربية وبما أتيت من قوة لا تسوق، وبمنتهى الضخامة المطلقة، سوى الصراعات الدموية التى يكون العرب أحد أطرافها، والجدول أدناه يوضح تاريخ الصراع وأسبابه بين القبائل فى الغرب، وهو (صراع جنوب/جنوب) فى الفترة من 1932 وحتى 1999.
تاريخ الصراع وأسبابه بين القبائل فى الغرب فى الفترة من 1932 وحتى 1999
مسلسل الجماعات القبلية السنة سبب الصراع الرئيسى
1 الكبابيش والكواحلة وبرتى وميدوب 1932 الرعى وحقوق الماء
2 الكبابيش وميدوب والزيدية 1957 الرعى وحقوق الماء
3 الرزيقات البقارة والمعالية 1968 السياسة والإدارة
4 الرزيقات البقارة والمعالية والدنكا 1975 الرعى وحقوق الماء
5 بنو هلبة والزيادية والمهرية 1976 الرعى وحقوق الماء
6 الرزيقات الشمالية (الإبالة) والداجو 1976 الرعى وحقوق الماء
7 الرزيقات الشمالية والبرجو 1978 الرعى وحقوق الماء
8 الرزيقات الشمالية والفور 1980 الرعى وحقوق الماء
9 الكبابيش والبرتى والزيادية 1981 الرعى وحقوق الماء
10 الرزيقات الشمالية والدنكا 1981 الرعى وحقوق الماء
11 الكبابيش والكواحلة وبرتى وميدوب 1982 الرعى وحقوق الماء
12 الرزيقات والمسيرية 1983 الرعى وحقوق الماء
13 الكبابيش وبرتى وميدوب 1984 الرعى وحقوق الماء
14 الرزيقات والمسيرية 1984 الرعى وحقوق الماء
15 الجمير والفلاتا 1987 الحدود الإدارية
16 الكبابيش والكواحلة وبرتى ميدوب 1987 الرعى وحقوق الماء
17 الفور والبديات 1989 الرعى وإنتهاك الحدود
18 العرب والفور 1989 الحدود القبلية
19 الزغاوة والجمير 1990 الحدود القبلية
20 الزغاوة والجمير 1990 الأرض
21 التعايشة والجمير 1990 الرعى وحقوق الماء
22 البرجو والرزيقات 1990 الأرض
23 الزغاوة والمراتيب 1991 الرعى وحقوق الماء
24 الزغاوة وبنو حسين 1991 الرعى وحقوق الماء
25 الزغاوة مقابل البرقيد 1991 الرعى وحقوق الماء
26 الزغاوة والبرقيد 1991 الرعى وحقوق الماء
27 الزغاوة والبرقيد 1991 الأرض
28 الفور والترجوم 1991 الأرض
29 الزغاوة والعرب 1994 الرعى وحقوق الماء
30 زغاوة السودان مقابل زغاوة تشاد 1994 السلطة والسياسة
31 المساليت والعرب 1996 الرعى والإدارة
32 الزغاوة والرزيقات 1997 الرعى وحقوق الماء
33 الكبابيش العرب وميدوب 1997 الرعى وحقوق الماء
34 المساليت والعرب 1998 الرعى وحقوق الماء
35 الزغاوة والجمير 1999 الرعى والإدارة
بتصرف يسير عن: ممدانى، المصدر نفسه، ص285 – 286.
ويتضح من الجدول أعلاه، أنه قبل أواسط الثمانينات، كانت معظم الصراعات فى دارفور تقع بين الجيران، وأشرسها وأشدها فتكاً كان محلياً، ويضم جانبين فقط عادة: المعالية والرزيقات فى عام 1968، والرزيقات البقارة والمعالية والدنكا بين عامى 1972 و1974، وبنو الهلبة والمهرية بين عامى 1975 و1977، وما إلى هنالك. وكانت الصراعات غير متوالية ومتدنية الحدة، وسويت جميعها عن طريق الوساطة التقليدية بين شيوخ ورؤساء القبائل، بينما شكل صراع العرب والفور(1987-1989) بل وكل الصراعات التى يكون أحد أطرافها من العرب، مادة إعلامية ثرية كما ذكرنا لأنها تحتوى على إمكانية تسويق حروب الابادة إلى جوار المذابح اليومية.
سابعاً: بدأ الصراع فى دارفور فى أواسط الثمانينات كحرب أهلية، طبقية، عرفت بإسم الحرب بين العرب والفور، إذ إجتمعت كل القبائل العربية للمرة الأولى تحت راية واحدة تدعى "التجمع العربى". وقد توقف الصراع فجأة عندما أطيح بالحكومة المنتَخبة فى الخرطوم، وإعتبر قادة الانقلاب الإسلامى فشل الحكومة فى وقف القتال فى دارفور واحداً من أسباب عديدة لتحركهم. فقد إستمرت حرب (1987-1989) بين العرب والفور على الرغم من مؤتمرات المصالحة العديدة التى عقدت لإخمادها.
ثامناً: لم تصبح الحكومة طرفاً فى الصراع إلا بعد عام 1989، عبر مبادرة حاولت معالجة السبب الأساسى للصراع. وعندما فشلت المبادرة تورطت الحكومة فى الصراع الذى إندلع على نطاق واسع وبلغ مستوى جديداً من المواجهة بين المساليت(المسلمون جداً) وبين القبائل العربية فى عام 1995، وإستعر الصراع ثانية فى عام 2002-2003، عندما تطورت صلات نشيطة بين القوات المناوئة للحكومة فى دارفور وبين المعارضة المنظمة فى المركز. وقد تشكلت هذه العلاقات عبر مبادرتين منفصلتين: واحدة إرتبط فيها المتمردون المحليون (جيش تحرير السودان) بالمعارضة الجنوبية (جيش تحرير شعب السودان(46)) والأخرى يرى د. محمود ممدانى(47)وحده، حركة العدل والمساواة كإمتداد طبيعى للمعارضة الإسلامية فى المركز (حزب المؤتمر الشعبى بقيادة حسن الترابى) على الرغم من أن جميع الشواهد واقعياً وأيديولوجياً تفيد غير ذلك، وأن تنظيم العدل والمساوة يقف موقف الخصم بالنسبة لجبهة حسن الترابى على الأقل من الوجه الأيديولوجية.















---------------------
(46) من الواضح مقدار التداخل ما بين الحركات المتصارعة، ولذا تجنبت من البداية منهج الفصل، إذ جرت العادة على درس الصراع فى السودان على مستويات قطاعية منفصلة، إذ يدرس الصراع فى الغرب بمعزل عن الصراع فى الجنوب، ويدرس الصراع فى الجنوب بمعزل عن الصراع فى الغرب، ويُدرَس الاثنان دون وعى بالصراع فى الشرق، وهكذا... مما يؤدى إلى تشويش الوعى أو بالأحرى تقطيع أوصال الفهم. ويحول دون رؤية التطور الديالكتيكى للمجتمع ككلّ، وإنما غير متجانس، عبر الزمن.

(47) ممدانى، المرجع السابق، ص282.
الخطوة الفكرية الرابعة: الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن
وإذ ننتهى مِن خطوتنا الفكرية الثالثة، بعد أن عاينا الهيكل الاقتصادى، وتعرفنا على الكُل الجغرافى، والتاريخى، وصولاً إلى التعرف على التشكيلات السكانية والاجتماعية وعلاقاتها المتناقضة، فإن الطريق الأن يبدو مُمهداً نحو تكوين الوعى بشأن حقيقة وطبيعة الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان، ومآله، وهو الذى يمكن تحقيقه من خلال الخطوط الفكرية الآتية، وإنما بهدف الوصول إلى حقيقة تطور المجتمع السودانى ديالكتيكياً، والوصول كذلك إلى حقيقة تخلفه الاقتصادى والاجتماعى، إذ لا يملك سوى أدوات إنتاج بدائية لم تسمح بعد إلا بظهور الصراع الطبقى، وليس الرأسمالى بين قوى الإنتاج الذى أعتبره حتى الأن صراعاً خافياً فى السودان ويَعلوه الصراع الطبقى المغلَف بالعنصرية العرقية، وبالطبع دون إلتفات بعض الباحثين لطبيعة الصراعات الداخلية بداخل الفصيل الواحد، أياً ما كان نوعه قبلى، عشائرى، تنظيم سياسى...،إلخ؛ إذ يتم النظر إلى القبيلة ككتلة صماء تُصارع كتلة صماء أخرى، ولذلك فإننى أدناه أفترض إمكانية دراسة الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان من خلال الخط المنهجى الذى يتكون من الخطوط الفكرية الآتية:
- يتبدى الصراع فى السودان على مستويين: (شمال/جنوب) و(جنوب/ جنوب) والمستوى الأخير هو أساساً صراع بين القبائل التى (تمتلك) داراً وتلك التى (لا تمتلكها) وإن الخط الفكرى المنشغل بطبيعة الصراع على المستويين إنما يوجب الوعى: بالصراع ما بين الشمال والجنوب. وبالصراع ما بين الجنوب الجنوب. وبالصراعات الداخلية بداخل الشمال. وبالصراعات الداخلية بداخل الجنوب.
- لا يمكن فهم الصراع، من الأساس، دون الوعى بفكرة (القفص الكبير) الذى وُضِعت بداخله أعراق وثقافات وديانات مختلفة تمام الاختلاف ثم أُطلِقَ على هذا القفص الكبير إسم (السودان).
- لا يتطور المجتمع تطوراً خطياً، وإنما يتبدى التطور الديالكتيكى للمجتمع السودانى بالنظر إلى طبيعة الحركات المتصارعة وأدائها اليومى عبر الزمن، إذ تتطور هذه الحركات وتُطور معها المجتمع ككل من خلال أداءات يومية لمصالح متناقضة، ويمكن رؤية تلك الأداءات المتناقضة من خلال الأداء اليومى كما ذكرت عبر الزمن فى: الكر والفر، الإقدام والإحجام، الهجوم والدفاع، النصر والهزيمة، العداء والمصالحة، التحالف والانفصال، فهذا التناقض، ومفرزاته، هما اللذان يدفعان المجتمع نحو التغير، أياً ما كان نوع التغيّر، ولقد رأينا: جيش السودان/جيش الرب (ضد) القوات الشعبية الأوغندية/الجيش الشعبى لتحرير السودان، الجنجويد (ضد) الأفارقة فى دارفور/جيش السودان/ جيش الرب/جيش تحرير السودان، إريتريا /مؤتمر البجا (ضد) المعارضة الإريترية/ الجيش السودانى، وهكذا... ولم يزل الصراع والتطور مستمرين.
- تبدأ العملية التاريخية الدامجة للسودان فى الكُل الرأسمالى على الصعيد العالمى، وتهيئته كمصدر للقيمة الزائدة، ومن ثم فقد شروط تجديد إنتاجه، مع أول اتصال فعلى مع قانون الحركة الحاكم لألية عمل النظام الرأسمالى (ن - ق ع -"قوة عمل"+ و أ"وسائل إنتاج"- س- Δ ن) على يد عدوانية رأسمال دولة محمد على، ومن بعدها بريطانيا، الشارعة، آنذاك، فى الدخول فى عملية التركيم الرأسمالى والتى تستلزم: (ن) و (ق ع) و ( و أ). الأمر الذى جعل السودان هدفاً رئيسياً من أجل الاستحواذ على مصادر هذا التراكم: المعادن، والعبيد، والغذاء. الأمر الذى استصحب ضمان ولاء نخبة معينة يتم صنعها تضمن إستمرار تدفق القيمة الزائدة مع المعادن والخام والغذاء حتى بعد الخروج من البلد، كما إستصحب تقسيم المجتمع إلى أجزاء غنية وأجزاء فقيرة.
- ودون أن ننسى الصراع فى الشرق، يتطور المجتمع السودانى من خلال الصراع على صعيدين: الشمال/الجنوب، والجنوب/الجنوب. والأخير مفهوم، فهو، كقاعدة عامة، من أجل الماء والكلأ. أما الأول فهو من أجل بسط نفوذ وهيمنة الشمال على الجنوب الغنى بطبيعة حاله، وبصفة خاصة عقب تفجر النفط.
- إن ظهور الثروة النفطية فى أرض السودان، بالتحديد فى الجنوب، إنما يوجب إستدعاء منهجية فهم ترتكز على الوعى بكون النفط كسلعة قادرة على نوع ما من التركيم الرأسمالى وفقاً لشروط معينة، إنما يعنى تبلور الصراع، ربما المسلح كقاعدة عامة، فى سبيل الاستحواذ على الريع من جهة، والربح من جهة أخرى، وأهم ما يعنى حكومة الشمال هو الإطباق على الاثنين، على حين أن الكل الجنوبى فى حالة من الصراع الجدلى المستمر، بما لا يمكن معه الكلام عن جنوب واحد يسمح له بالتنمية من خلال النفط. وإن كان من المحتمل أن تتغير تلك الوضعية عقب إعلان دولة الجنوب المستقلة. جوبا.
- الصراع الذى يتم تسويقه من خلال وسائل الإعلام الغربية، وبالإضافة إلى قيام تلك الوسائل بخلق الوعى العالمى بأن الإبادة الجماعية التى تمارسها القوى العربية فى دارفور إنما تستلزم التدخل الدولى وفرض العقوبات على نظام الخرطوم، بالإضافة إلى ذلك فإن الحديث عن الصراع دائماً ما يسير فى اتجاه واحد ويصدر عن توجه فكرى أحادى، إذ يتم التعامل مع كل طرف من أطراف الصراع ككتلة واحدة لا تناقض فى أجزائها المكونة لها، إغفالاً لكون كل طرف من الأطراف المتصارعة إنما يتكون هو الآخر من تراتبية تصنف مَن ينتمون إليه، فالقبائل على سبيل المثال ليست كلاً واحداً، وإنما بكل قبيلة تراتبية تشكل قوامها وتحدد أطر تطورها على الصعيد الاجتماعى، بدءاً من القائد الأعلى أو الشيخ أو الرئيس ومالكى الثروة وإنتهاءً بصغار الخدم. تلك الطبقية الداخلية يكون لها دوراً هاماً فى العديد من المسائل المتعلقة بقرار الحرب والمصالحة، والهجوم،....إلخ. وهذا دون أن نذكر الانقسامات ما بين القبيلة الواحدة إلى عدة قبائل، وهى الأخرى بينها صراعات، بيد أنها بعيدة عن تسليط الضوء الإعلامى فى الغالب الأعم، وإنما الرجوع إلى الجدول الذى أوردناه سلفاً والمنشغل ببيان تاريخ الصراع وأسبابه بين القبائل فى الغرب فى الفترة من 1932 وحتى 1999، إنما يشرح لنا مدى الصراع أيضاً ما بين القبائل المنتمية إلى عرق واحد وربما قبيلة أكبر واحدة. فمثلاً هناك :
الصراع بين الرزيقات والمعالية ( قبيلتين عربيتين)
الصراع بين بنى هلبة والزيادية والمعالية (قبيلتين عربيتين)
الصراع بين بنى هلبة والرزيقات الشمالية ( قبيلتين عربيتين)
الصراع بين الرزيقات والمسيرية ( قبيلتين عربيتين)
الصراع بين القمر والفلاتة ( قبيلتين غير عربيتين)
الصراع بين الزغاوة و القمر (قبيلتين غير عربيتين)
الصراع بين الزغاوة والمراتيب ( قبيلتين غير عربيتين)
الصراع بين الزغاوة والبرقيد ( قبيلتين غير عربيتين)
الصراع بين الزغاوة السودانية والزغاوة التشادية ( قبيلتين غير عربيتين)
فأين الصراع العرقى؟ إن الصراع على الأرض، ولم تدخر الحكومة أى وسع لتأجيجه بسحب الأراضى وإعادة توزيعها فى أقاليم تعتمد بالأساس على التراتبية القبلية وحكم الأعراف السائدة إبتداءً من التمركز فى الأرض، وبصفة خاصة بقارة الجنوب، والمساليت الذين برعوا فى الزراعة وبصفة خاصة الفاكهة بشكل باهر، ولذا سيكون أى اعتداء على الأرض هو اعتداء على وجودهم الاجتماعى ذاته.
- إن تلك الانشقاقات الداخلية التى تكون بين قوى الجنوب بوجه عام لا تتكون بين عشية وضحاها، وإنما هى نتاج تفاعل ديالكتيكى ما بين الرغبة فى الثروة، بما يعنى ذلك معادة للاقوى المهيمن، وما بين الرغبة فى حماية هذا الاقوى والأكثر عدداً، وهذا هو القانون العام لجميع الانقسامات والتطورات على أرض الواقع، وبصفة خاصة جداً بداخل القبائل.
- وإن وأوضح مثل على تطور المجتمعات من خلال التفاعل الديالكتيكى إنقسام السودان نفسه، فقد أسفر النزاع الممتد عبر سنوات بين الشمال وبين الجنوب إلى نشؤ دولتين لهما خصائص الدولة الأولى(السودان) وخصائص تُخلقها كل دولة بمعرفتها من خلال الحراك الاجتماعى بداخلها وتفاعل عناصرها الداخلية، ومع الزمن يتم دمج الخصائص القديمة فى الخصائص الجديدة فى كيان يمثل خصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص شمال السودان(العربى) فى الشمال، وخصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص جنوب السودان(الزنج/الأفارقة) فى الجنوب.
- السودان دولة، أو هكذا صارت بفعل التدخل الاستعمارى، ذات موارد هائلة، وتتركز معظمها فى الجنوب، ومعنى إنفصال الجنوب، حرمان الشمال من تلك الموارد فى مقدمتها النفط، فى حين يحرم الشمال من الوصول السهل إلى المنافذ إلى العالم بحراً، فلا بد من المرور فى أرض الشمال، وإما تكبد مشقة مسافات بعيدة عبر الأراضى الإريترية، أو الإثيوبية، وصولاً إلى البحر الأحمر، ومنه إلى العالم الخارجى.
- بسبب فقد السودان لشروط تجديد إنتاجه، فهو يعتمد، كأحد الأجزاء المتخلفة، على ما يحدث خارجه فى الأجزاء المتقدمة، التى تتحكم فى مصيره. وما السلطة التى تدعى حب الشعب، والتضحية من أجله، وتسعى إلى أن تستمد من عدوانية الإمبريالية قوة دعائية لدى الشارع السودانى، إلا أهم وسائل تسرب القيمة الزائدة إلى خارج المسام، بما يعنى المزيد من التبعية والتخلف.
- وبدلاً من طرح الأزمة طرحاً منضبطاً يبدأ من حيث فهم قانون الصراع الطبقى، ودور رأس المال آنياً فى تأجيج الصراع، أصبح الطرح، وهو الأسهل لدى الفكر العاجز، إبتداءً من الصراع العرقى، والذى لا يُعبر سوى عن مظهر سطحى لحقيقة الصراع الراهن.
- يهيمن على المسرح الاجتماعى الاقتصاد المعاشى أى الإنتاج من أجل الحياة، والقليل من أجل السوق، مثل بعض المنسوجات و"المراكيب" أى الأحذية وهى عادة رديئة الصنع فى دارفور مثلاً، إلا أن سائر مناطق النزاع والتوتر تظل مناطق ذات إقتصاد معاشى. ما عدا بعض الأماكن التى شهدت إستثماراً أجنبياً مباشراً فى بعض المجالات والتى أبرزها الزراعة وما يتعلق بها من تربية الماشية وصناعات الألبان. مع مراعاة أن جل المصانع، وكل المؤسسات العامة والسيادية والوزارات، والأجهزة القومية، وكل المصارف وكل الشركات تقع فى الخرطوم حيث السلطة والثروة.
- يكون الاقتصاد المعاشى الذى يُهيمن على مجمل الحركة الاجتماعية هو أفضل ما يمكن بالنسبة للنظام فى العاصمة، فهو الذى يمكنه من تعبئة الفائض نحو المدينة ثم من المدينة إلى الخارج ومن ثم تسرب القيمة الزائدة، ثم الدولارات الأمريكية، ثم الأسلحة، ثم الحروب المفتوحة.
- يتبدى الاطار العام للاقتصاد المعاشى والذى من خلاله يُعبء الفائض (الزراعى) نحو المدينة، ثم إلى الخارج، محملاً بالقيمة الزائدة، فى أن السودان ليس لها أدنى علاقة بالتصنيع، وإنما ينشط القانون العام للرأسمالية (ن - ق ع -"قوة عمل"+و أ"وسائل إنتاج"- س- Δ ن) فى حقل الزراعة ويكون على الفلاح أو العامل الزراعى بعد أن يستقطع من المحصول ما يكفى لتجديد إنتاج نفسه، أن يدفع بالفائض إلى النظام عن طريق علاقة تعاقدية غير متكافئة، إذ غالباً ما تنصب فى صالح الطرف الاقوى. الحكومة.
- فكما رأينا حينما ناقشنا مجمل الوضع الاقتصادى أن السودان دولة زراعية بالدرجة الأولى، وبالنسبة إلى وسائل الإنتاج المستخدمة فى حقل الزراعة السودانية فهى جميعها أدوات أجنبية الصنع لا يشارك السودان فى أى مرحلة من مراحل تصنيعها على الاطلاق، اللهم بعض الأدوات البدائية التاريخية التى لم يزل الفلاح يستخدمها بنفس الطريقة القديمة، وهى الأخرى فى طريقها إلى التقلص والاختفاء مع ميكنة الزراعة. بما يعنى الأخذ فى التطور بخفض معدلات إنتاج القيمة الزائدة، وتسريع أليات إنتاجها، وهذا التطور لا يمثل طفرة يتميز بها السودان عن غيره، أو دولة ما أخرى عن غيرها، وإنما هو الصفة السائدة للنظام الرأسمالى العالمى المعاصرـ الذى يعمل بإستمرار على تثوير عملية الإنتاج، وبصفة خاصة وسائل الإنتاج. وما يؤكد وجهة نظرنا هذه هو إنشاء مدينة "جياد" الصناعية(48) على بعد 50 كم من الخرطوم، وهى المدينة التى تتوسم فيها الخرطوم أن تقوم بإدخال السودان عالم التصنيع.
نضيف هنا ان الفلاح السودانى لا يتعامل مع السوق الدولية بشكل مباشر، وإنما يقوم بتعبئة المنتَج بما يحويه من قيمة زائدة، بالكيفية التى سبق لنا شرحها فى مثلنا التقليدى، إلى المدينة، ومن المدينة تنطلق السلعة إلى السوق الدولية. وهو الأمر الذى يحدث تماماً بالنسبة لنصيب الحكومة من النفط قبل إعلان الانفصال، والجدول أدناه يوضح حجم التسرب بالكيفية السابق شرحها؛ بالفارق الحسابى ما بين الصادرات والواردات، مع مراعاة أن الزيادة فى قيمة الصادرات لم تكن نتيجة نمو صناعى وإنما نتاج نمو فى حجم صادرات النفط.
الميزان التجاري خلال الفترة 2000-2004مليون دولار أمريكى
البيان 2000 2001 2002 2003 2004
الصادرات 1806.7 1698.7 1949.1 2542.2 3777.8
الواردات 1552.7 2300.9 2446.4 2881.9 4075.0
الميزان التجارى 254.0 602.2 497.3 339.7 297.2
المصدر: بنك السودان
---------------------
(48) لا يتعين على المرء فى أحسن حالاته الذهنية أن يعتبر تلك المدينة الصناعية طفرة فى الاقتصاد السودانى ونقلة حضارية نحو الاقتصاديات الرأسمالية الصاعدة، ربما تكون تلك المدينة بمصانعها تنهض بدور أساسى فى تخفيض معدلات إنتاج القيمة الزائدة بفعل نشر الألة، إلا إن هناك ثمة حقيقة مهمة قال بها د.فؤاد مرسى منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهى أن نقل الصناعات إلى الأجزاء المتخلفة لا يعنى إلحاقها بالأجزاء المتقدمة؛ وإنما يكون الغرض فى النهاية هو مصلحة الرأسمالية العالمية وليس مصلحة البلاد المتخلفة التى تستثمر فيها، فالمدينة الصناعية "أجياد" مثلاً إنما تنتج الاسرة الطبية وكراسى وترابيزات المدارس، وتجمع أبواب السيارات، وبعض الصناعات المعتمدة على الالومنيوم، بالإضافة إلى البتروكيمياء، وهى الصناعت تحديداً التى يلفظها الاستثمار الأجنبى بداخل الاجزاء المتخلفة، وإنما إبتداءً من هيمنته على جميع المراحل الاستثمارية وألياتها فى سبيل إعادة ضخ قيمة الناتج فى الاقتصاد الأم، فقد كتب د. فؤاد مرسى:" الصورة المألوفة والمعروفة للاستثمارات الأجنبية هى صورة تصدير رأس المال من بلد رأسمالى متقدم إلى بلد متخلف، حيث يستثمر فى مشروعات إستخراج أو إنتاج لخامات معدنية أو زراعية، توضع فى خدمتها بعض المرافق الأخرى الضرورية لإستخراجها أو إنتاجها كالبنوك والطرق والمواصلات على أن يتم تصدير الخامات إلى البلد الرأسمالى المتقدم حيث يعاد تشكيلها بالصناعة إلى منتجات تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الخامات، وعندئذ يترك للبلد المتخلف أن يشترى من الخارج بدخله الضئيل الناتج من بيع خاماته قليلاً من المنتجات الصناعية المستوردة ... إن التصنيع يتم عندئذ بشكل ناقص فالرأسمالية العالمية إنما تريد فى الواقع أن تتخلى لأسباب اقتصادية عن بعض الصناعات الثانوية غير الديناميكية، إما لأنه بسيطة تكنولوجياً، وإما لأنها تحتاج إلى أيد عاملة وفيرة، وإما لانها صناعات تلوث البيئة، فقد ثبت مثلاً ان تكلفة القضاء على التلوث أعلى من تكلفة إستيراد منتجات تلك الصناعات الملوثة للبيئة، من هنا تقبل الرأسمالية العالمية أن تنقل إلى البلدان النامية صناعات مثل السيارات وبعض الصناعات البتروكيمائية، بالإضافة إلى صناعة المنسوجات والملابس والصناعات الجلدية" أنظر: فؤاد مرسى، هذا الانفتاح الاقتصادى (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1976) ، ص88
تلك الملاحظات التى تُمثل الخط المنهجى العام الذى نقترحه إنما ندعى فائدتها فى سبيل الإجابة على ما تثيره المسألة السودانية من أسئلة وإشكاليات، ومِن جانبنا، فسنترك الإجابات للمزيد من الحوار، بغية إثراءه، إذ لم نهدف، كما أعلنا منذ البدء، أننا لا نهدف إطلاقاً إلى تقديم إجابة، إن ما نقدمه هو طريق للإجابة، الطريق الذى يمكن لسالكه أن يكتشف المزيد من الإشكاليات الثرية فى مضمونها والقادرة على تكوين الذهنية المتجاوزة التى تملك التعامل مع الواقع لا بغرض تفسيره وإنما بغرض تغييره. رفضاً للانتحار الجماعى، بقيادة نظام عالمى همجى، وبحثاً عن مشروع حضارى لمستقبل آمن. انه المشروع الحضارى الذى قوامه السيطرة على تسرب القيمة التى ينتجها المجتمع مع أجل إستخدامها فى الداخل، فى سبيل بناء إقتصاد قومى قادر على التنمية المستقلة المعتمدة على الذات فى مواجهة إمبريالية وحشية. والأن من المهم منهجياً فهم ما بعد الانفصال.
1- ما بعد الانفصال
من المفارقات أن البعض من الذين تباكوا، ولم أكن منهم، على إنفصال الجنوب عن الشمال (لاحظ إنفصال عن الشمال وليس عن السودان وتلك هى اللغة السائدة بوجه عام) وقاموا بإعطاء دروس فى الوطنية والقومية، حينما بات أمامهم الانفصال حقيقة لا مهرب منها، إذ لا يرضى الجنوب بحاكمية الشمال، ولم يرفض الانفصال من الجنوب سوى 1% مقابل 99%، نقول ان هؤلاء قد قاموا بعمل الدراسات الموسعة التى تتعلق بأثر هذا الانفصال على الشمال(فقط) دون إعتناء بحثى علمى بالجزء الثانى الذى إنفصل عن الوطن بتصورهم وكأنه ذهب بصراعاته غير مأسوف عليه، فلقد أراح وإستراح من منظورهم، والقائمة طويلة(43) ولكن لن ننشغل هنا بمناقشة إشكالية الانفصال فى ذاته؛ إذ ما يعنينا منها هو الاثر الذى تُنتِجَهُ فى الشمال وفى الجنوب.
2- أثر إنفصال الجنوب فى الشمال
من الأمور التى كانت واضحة للعيان أن الانفصال كان متوتراً صحبته ولم تزل عمليات عسكرية وإنفلات أمنى كبير فى كل من الجزئين، وهو الأمر الذى سينعكس لا شك على الأوضاع الداخلية فى كل من بلد الشمال وبلد الجنوب، وفى ضوء ذلك تظل هناك حزمة من الافتراضات يمكن البصر إلى مستقبل الشمال من خلالها فى المستقبل، والتى تتلخص فيما يلى:
(أ) لن تجد المعارضة المتربصة،كالعادة، فرصة أفضل من تلك، فقد فشل النظام الحاكم بقيادة البشير فى منع الانفصال، وتلك فرصة مدهشة بالنسبة للمعارضة لإدانة الجبهة الحاكمة أمام الرأى العـام الشعبى بداخـــل الســودان.الأمر الذى يســـرع من وتيرة الاستقطــاب السياسى بين
---------------------
(43) وللإنصاف فمن المساهمات الجادة؛ إضافة إلى العديد من الدراسات التى تناولت أثر الانفصال على الجانبين، كانت للدكتور جمال على زهران، التداعيات الإقليمية لانفصال جنوب السودان وآفاق المستقبل، مجلة الغدير. العدد 54( ربيع 2011)
ومن المآخذ على هذه الدراسة أن الدكتور جمال لم يتحر الدقة حينما تناول دور الاتحاد الأفريقى فى الأزمة السودانية وبصفة خاصة فى الجنوب، وذهب إلى القول:" ويتضح أن الدور الأفريقى فى التعاطى مع أزمة الجنوب منذ إندلاع الحرب الأهلية وحتى التوصل إلى إتفاقية عام 2005، وإلى الانتهاء من الاستفتاء لصالح إنفصال الجنوب، وإلى الإعلان الرسمى للدولة الجنوبية فى تموز/يوليو القادم، هو دور فعال أكثر من الدور العربى والإسلامى . . ." (ص89). والواقع أن الاتحاد الأفريقى تم تهميشه تماماً من قبل الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، بل كان الاتحاد نفسه هدفاً للأطراف المتصارعة، فخلال النصف الثانى من عام 2005 حاول العديد من الفصائل المتمردة قتل جنود الاتحاد الأفريقى أو إختطافهم، ووفقاً للمنظمة الدولية للاجئين، اختطف مجموعة متمردة منشقة نحو 40 جندياً من بعثة الاتحاد الأفريقى فى غرب دارفور، وقتل أربعة جنود نيجيريين تابعين لبعثة الاتحاد الأفريقى، وإثنان من المتعاقدين المدنيين معها. أنظر فى تفصيل تهميش هذا الاتحاد وإخفاء أى دور له على صعيد الأزمة، ممدانى، دارفور: منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب، ص 61- 68.
المعارضة وحزب المؤتمر الحاكم.
(ب) بات من الواضح بعد إنفصال الجنوب أن هناك ثمة أجزاء أخرى تعانى من نظام الخرطوم، ومن ثم سيكون من لوازم الأمر إزدياد الضغوط الدولية على السودان، فى مجالات التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية ورعاية حقوق الإنسان وتحقيق بنود إتفاقيات السلام وغيرها، وذلك بقصد الضغط على الحكومة حتى تستجيب لمطالب الشرق وأهل دارفور وولايتى جنوب كردفان والنيل الأزرق أو يتغير النظام.
(ج) خروج نصيب حكومة السودان من عائدات نفط الجنوب، والتى تساوى حالياً حوالى نحو 80% من كل عائدات النفط، وهو الأمر الذى لا شك سيستتبع هبوطا إنخفاضاً حاداً فى النفقة العامة والتى هى متدنية بالأساس، والتوقف عن الوفاء بالالتزامات الدولية، وبصفة خاصة وأن تحمل المديونية الدولية وتوزيع نسبتها بين البلدين محل إشكالات معقدة. وهو ما يعنى، من ضمن ما يعنى، عدم إمكانية حصول الشمال على قروض جديدة.
(د) سيؤدى كل ذلك، بتصورى، إلى الدفع بالنظام الحاكم إلى محاولة إعادة فرض هيمنته على الجنوب، وبصفة خاصة أماكن النفط، وإنما بطريقة أخرى، لا تقل عسكرية بطبيعة الحال، بخلق بؤر التوتر واختلاق سبُل عديدة للنزاع تتيح له مساحة التدخل العسكرى وبصفة خاصة فى "إبيى"، التى عادة ما يُقرن إسمها بعبارة "الغنية بالنفط" .
(هـ) لن تكون زيادة نفقات التسليح، والدخول فى حروب(دولية) مفتوحة مع الجنوب، فى مصلحة نظام الخرطوم، إذ سيكون توقف الاستثمارات الأجنبية المباشرة هو الأمثل لجميع المستثمرين على إختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم.
(و) مع تردى الوضع الاقتصادى والخلل الطارىء فى الميزانية الاتحادية، فلن تجد الخرطوم سوى زيادة الضرائب والرسوم الجمركية، وهى الزيادة التى لن تصاحبها زيادة فى الأجور بلاشك، وهذا يعنى زيادة العبء الحياتى اليومى على الطبقات المتوسطة والضعيفة التى ظلت تعانى لسنوات من الضائقة المعيشية، ولم تتحسن أحوالُها حتى بعد تدفق عائدات النفط، وسيُفضى ذلك إلى المزيد من الاضطرابات السياسية.
(ز) أعتقد أن إنفصال الجنوب قد يغرى الشرق، كما يغرى الغرب، ودارفور تحديداً بالانفصال كذلك. الأمر الذى ينتهى بالخرطوم إلى عاصمة لدولة حبيسة.
3- أثر إنفصال الجنوب فى الجنوب نفسه
الانفصال كان رغبة أكيدة لدى شعب الجنوب، ووافق عليه (99%) من هذا الشعب، لما؟ الإجابة على السؤال تحتوى الإجابة على سؤال مواز يتعلق بأثر إنفصال الجنوب على الجنوب نفسه:
(أ) من الأسباب الرئيسية الدافعة للانفصال كما شهدنا تلك الأوضاع الاقتصادية المتردية التى يُعانى منها شعب الجنوب، على الرغم من أن الثروة تستخرج من أراضيه. وعلى ذلك يرى الجنوب أن من مصلحته، بالانفصال، السيطرة المنفردة على ما فى باطن الأرض من ثروة فى سبيل تنمية ونهضة شاملة، وبصفة خاصة وأن إسرائيل والولايات المتحدة من أهم الحلفاء الراغبين فى تقديم كل ما يلزم من أجل تينك النهضة فى مقابل النفط.
(ب) الأمر الذى قد يشير إلى إمكانية إضافة دولة ريعية أخرى إلى قائمة الدول الريعية، مع إختلاف يتبدى فى الصعوبة الشديدة التى سيجدها أى نظام ديكتاتورى فى الجنوب يسعى للسيطرة على الحكم، فالجنوب مسيّس ومسلح وتاريخه هو تاريخ الحرب، فالحراك الاجتماعى فى الجنوب يدور فى فلك الحرب؛ وما تحتويها من تناقضات.
(ج) فى ظلال توحيد مختلف عناصر شعب الجنوب وقبائله (دنكا، شُلك، نوير، آزاندى،...إلخ) فى كيان سياسى متطور يجمع فيما بينهم، فربما تنبىء الأيام عن الحد من الصراعات الداخلية على الماء والكلأ، وتبلور نوع آخر من الصراع على صعيد مختلف يتبدى حينما تنجح قوى إجتماعية معينة فى فرض سيطرتها على أرض الواقع على باقى القوى الاجتماعية.
السودان بعد إنفصال الجنوب

khalidassad.blogspot.com
مما سبق يتضح لنا إن الصراع الذى تم تسويقه عالمياً من قبل المؤسسة الإعلامية الغربية ليس صراعاً عرقياً، وإنما هو فى حقيقته صراع بين طبقات متفاوتة الحظوظ من الثروة والسلطة، وما الاشتباكات المسلحة إلا المظهر السياسى لهذا الصراع. الصراع الذى تكون قاعدته الاقتصادية مرتكزة على أليات تجديد إنتاج التخلف، ولا يأخذ المجتمع فى التطور والتغير إلا من خلال الصراع الجدلى على مستويين:
المستوى الطبقى: الذى يتجسد فى جدلية (حرمان الطبقات الأشد فقراً من السلطة والثروة بالتناقض مع تمتع الطبقات الأشد ثراءً بكل السلطة والثروة) وقد تُنتِج هذه الجدلية بعضاً من تنازل الطبقات الأعلى عن بعض السلطات، كما صرح البشير مؤخراً فى 28/6/2011 بأن منصب نائب الرئيس سيكون من حق دارفور بعد الانفصال، وقد كان رد دارفور جاهزاً فالمسألة ليست متعلقة بموقع نائب رئيس وإنما هى أكبر من ذلك وتتعلق بالثروة والسلطة وإنما إبتداءً من إرادة تعاقدية حرة بين نظام الخرطوم وبين أهل دارفور.
المستوى الاقتصادى: الذى يتجسد فى جدلية (إرتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن فى أليات إنتاجها) وقد تُنتِج هذه الجدلية أيضاً بعضاً من التطوير فى حقل الصناعة والزراعة ونحوهما، كما تبدى ذلك نسبياً فى المدينة الصناعية "إجياد". ويرتبط بجدلية المستوى الاقتصادى على الصعيد الاقتصاد الكلى جدلية أخرى تتعلق بتسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى خارج الاقتصاد القومى، ويتبدى ذلك بوضوح شديد حين النظر إلى جدول الصادرات والواردات بعد خصم قيمة النفط، وسنجد حينها أن هناك ثمة مليارات تخرج سنوياً من أجل شراء سلع تُنتَج فى الأجزاء المتقدمة فى معظمها. تلك المليارات هى القيمة الزائدة.
وإن التفوق فى المرتبة يكون للمستوى الأول الذى يحدد شكل المستوى الثانى، ومستويات تطوره.
ولكن ماذا نعنى بقولنا :" جدلية إرتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن فى أليات إنتاجها" ؟ إنما نعنى تجدد إنتاج التخلف فى أبهى صوره، فشروط تجدد الإنتاج فى الاقتصاد القومى، ونقصد هنا السودان تحديداً، إنما تعتمد على ما يحدث خارج الاقتصاد القومى. إنما تعتمد على توجهات وقرارات الرأسمال الدولى، وأهم ما يميز الاقتصاد السودانى، مثل كل الأجزاء المتخلفة، هو الاعتماد على مواد عمل، وأحياناً مواد عمل، أجنبية الصنع؛ صنعت غالباً فى الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى، أو من الأجزاء الرأسمالية الصاعدة، ويحدث التناقض هنا حينما يحرص الرأسمال على الابقاء معدلات مرتفعة للقيمة الزائدة (سر حياته) وفى الوقت ذاته فهو يسعى، وربما جاهداً، من أجل تثوير وسائل الانتاج، وبصفة خاصة إحلال الألة محل العمل الإنسانى، اى أنه يسعى للقضاء على سر حياته المتمثل فى القيمة الزائدة التى يستخرجها من قوة العمل. وتلك الجدلية تبسط هيمنتها على جميع الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، ولا سبيل للخروج منها إلا بالسيطرة على شروط تجدد الإنتاج. وبالسيطرة على تسرب القيمة الزائدة التى ينتجها المجتمع إلى خارجه نحو مسام الأجزاء المتقدمة والأجزاء الصاعدة.










أهم المصادر
كتب:
(1) د. أحمد أحمد الحته، تاريخ مصر الاقتصادى فى القرن التاسع عشر، ط3، مكتبة النهضة المصرية. القاهرة 1958.
(2) أ.ج. هوبكنز، التاريخ الاقتصادى لأفريقيا الغربية، ترجمة: أحمد فؤاد بلبع، المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة 1998.
(3) آلان مورهيد، النيل الأزرق، ترجمة: د. نظمى لوقا، دار المعارف. القاهرة 1966.
(4) د. جميل عبيد، المديرية الاستوائية، دار الكتاب العربى للطباعة والنشر، القاهرة 1967.
(5) جولى فلينت، وألكس دى فال، تاريخ حرب وإبادة دارفور، ترجمة: أنطوان باسيل، شركة المطبوعات، بيروت 2008
(6) د. جودة حسنين جودة، العالم العربى، دراسة فى الجغرافيا الاقليمية، المكتب الجامعى، الاسكندرية 1998.
(7) د.حمدنا الله مصطفى حسن، التطور الاقتصادى والاجتماعى فى السودان (1841- 1881) دار المعارف. القاهرة. 1985.
(8) د. حيدر إبراهيم على، المجتمع المدنى والمجتمع التقليدى فى السودان، مركز الدراسات السودانية، 2001.
(9) د. خديجة صفوت، الإسلام السياسى ورأس المال الهارب: السودان نموذجاً، سينا للنشر، القاهرة 1994.
(10) روبرت كولنز، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: د. مصطفى مجدى الجمال، المركز القومى للترجمة. القاهرة 2010 .
(11) د. زاهر رياض، إستعمار أفريقيا، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1965.
(12) د. زكى البحيرى، مشكلة دارفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2010.
(13) د. سمير أمين، التركم على الصعيد العالمى: نقد نظرية التخلف، ترجمة حسن قبيسى. ط2 دار ابن خلدون، بيروت 1987
(14) ----------- ، قانون القيمة والمادية التاريخية، ترجمة صلاح داغر، دار الحداثة، بيروت 1981
(15) سيد أحمد العقيد، دارفور والحق المر، الدار العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 2007.
(16) د.صلاح الدين الشامى، نهر النيل: دراسة جغرافية تحليلية، منشأة المعارف، الإسكندرية 1995.
(17) عبد الرحمن الرافعى، عصر محمد على، الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2009
(18) ----------- ، عصر إسماعيل، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2009
(19) ----------- ، عصر إسماعيل، الجزء الثانى، الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2009
(20) د.عبد العزيز شاهين، الصراع القبلى والسياسى فى مجتمعات حوض النيل، الهيئة المصرية للكتاب. القاهرة 2011
(21) د. عز الدين إسماعيل، الزبير باشا ودوره فى السودان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة1998.
(22) د. فتحى أبو عيانة، مشكلات السكان فى العالم العربى، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1996.
(23) د. كمال موريس شربل، الموسوعة الجغرافية للعالم العربى، دار الجيل، بيروت 1998.
(24) د. فتح الرحمن عبد الله الشيخ، السلطة والثروة فى السودان، دون دار نشر محددة، القاهرة 2006
(25) لام أكول، الثورة الشعبية لتحرير السودان، ترجمة: إسماعيل آدم، و بشرى آدم، مكتبة مدبولى، القاهرة 2009
(26) ماركيه شوميروس، جيش الرب للمقاومة فى السودان، المعهد العالى للدراسات الدولية. جنيف 2007
(27) مبارك على عثمان، السودان: عقد التنمية الضائع، مركز الدراسات السودانية، القاهرة 1993.
(28) د. محمد إبراهيم بكر، تاريخ السودان القديم، دار المعارف، القاهرة 1987.
(29) د. محمد حامد دويدار، الاقتصاد المصرى بين التخلف والتطوير، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 1978
(30) د. محمد معتصم سيد، جنوب السودان فى مائة عام، مطبعة نهضة مصر. القاهرة 1972.
(31) د. محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث، مركز عبد الكريم ميرغنى، الخرطوم، 2002.
(32) د. محمد عوض محمد، السودان الشمالى: سكانه وقبائله، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951.
(33) د. محمد عوض محمد، الشعوب والسلالات الأفريقية، الدار المصرية للتأليف والترجمة. القاهرة. 1965
(34) محمود محمد قلندر، جنوب السودان: مراحل إنهيار الثقة بينه وبين الشمال، دار الفكر، دمشق، 2004.
(35) د. محمود ممدانى، دارفور- منقذون وناجون، السياسة والحرب على الإرهاب. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 2010
(36) د. مكى الطيب شبيكة، السودان والثورة المهدية، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم 1978.
(37) د. منصور خالد، الفجر الكاذب: نميرى وتحريف الشريعة، دار الهلال، القاهرة 1986.
(38) ----------- ، النخبة السودانية وإدمان الفشل، دار الأمين، القاهرة 1993.
(39) مجدى أحمد حسين، مصر والسودان، المركز العربى والإسلامى للدراسات.القاهرة 1997.
(40) ممدوح عبد المنعم، السودان، مع ملحق نص الاتفاقيات كاملة، الأهرام للنشر والتوزيع. القاهرة 2011.
(41) د. نعوم شقير، تاريخ السودان، تحقيق وتقديم: د. محمد إبراهيم أبو سليم، دار الجيل، بيروت 1981.
(42) د. نسيم مقار، الأسس التاريخية للتكامل بين مصر والسودان، الهيئة العامة للكتاب. القاهرة 1985.
(43) د. هدى مكاوى، البناء الاجتماعى للمهدية فى السودان، مكتبة مدبولى، القاهرة 2006.

أهم التقارير والدوريات:
التقرير السودانى السنوى الخامس (2004) تقرير بنك السودان المركزى (2005) (2008) (2009) التقرير الاستيراتيجى الأفريقى، مركز البحوث الأفريقية. الطبعة الأولى، جامعة القاهرة (2006-2007)
CIA- The world fact book (2002) (2003) (2004) (2005) Human Development Report (2003) (2004) Report of the World Social Situation (2008) World Development (2001) World Economic Outlook (2002) (2003)

أهم المواقع الالكترونية:
[www.mof.gov.sd/arabic/socialeconomy_program.htm ]. [www.Aljazeera.net]. [www.Arabo.com]. [www.Coptichistory.org] .[ http://www.Islamstory.com] .[ http://www.Sudan.gov.sd] .[ http://www.Sunanews.net] . [www.bbc.co.uk/arabic/middle]. [www.sudatel.sd/iar/atopic]. [www.brbrnet.net/vb/showthread.php]. [www.alansar.ws/vb/t5913.html]. [www.k4sudan.5u.com]



#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفكر الاقتصادى الكلاسيكى؛ السابق على ماركس
- مخطوطة أولية فى جدلية القيمة الزائدة
- الاقتصاد السياسى فى فكر كارل ماركس
- ماركس المفكر لا الأيديولوجية
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ -
- نظرية جديدة فى جدلية فائض القيمة عند ماركس
- إحياء الفكر العربى. فقر الفكر الثقافى؟ أم فكر الفقر الثقافى؟
- الاقتصاد العالمى المعاصر . . . حينما يقود المخبولون العميان
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (3)
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (4)
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (5)
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (6)
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (7)
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (2)
- الاقتصاد السياسى لتجديد إنتاج التخلف (1)
- خاتمة كتاب الاقتصاد السياسى للتخلف
- مقدمة كتاب الاقتصاد السياسى للتخلف
- ملخص كتاب الاقتصاد السياسى للتخلف
- التكامل الاقتصادى العربى كإمكانية
- تسرب القيمة الزائدة وتجديد إنتاج التخلف


المزيد.....




- مادة غذائية -لذيذة- يمكن أن تساعد على درء خطر الموت المبكر
- شركة EHang تطلق مبيعات التاكسي الطائر (فيديو)
- تقارير: الأميرة كيت تظهر للعلن -سعيدة وبصحة جيدة-
- عالم روسي: الحضارة البشرية على وشك الاختفاء
- محلل يوضح أسباب فشل استخبارات الجيش الأوكراني في العمليات ال ...
- البروفيسور جدانوف يكشف اللعبة السرية الأميركية في الشرق الأو ...
- ملاذ آمن  لقادة حماس
- محور موسكو- طهران- بكين يصبح واقعيًا في البحر
- تونس تغلق معبر رأس جدير الحدودي مع ليبيا لأسباب أمنية
- ?? مباشر: تحذير أممي من وضع غذائي -كارثي- لنصف سكان غزة ومن ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد عادل زكى - الاقتصاد السياسى للصراع فى السودان