أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - الإله: الفرضية الخاطئة















المزيد.....


الإله: الفرضية الخاطئة


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 3819 - 2012 / 8 / 14 - 09:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الإله: الفرضية الخاطئة
(كيف يثبت العلم أنّ الله غير موجود)

فيكتور ستينغر
ترجمة: إبراهيم جركس

مقدّمة
((العلوم لا تحاول التفسير، حتى أنها بالكاد تحاول الترجمة، بل تصنع النماذج بشكل رئيسي. والمقصود بالنموذج التركيب الرياضي الذي، بالإضافة مجموعة من الترجمات اللفظية المحدّدة، يصف الظاهرة المدروسة. فتعليل هذا البناء الرياضي هو مجرّد التوقّع أنّه قابل للتطبيق))
[جون فون نيومان] [1]

وجهة نظر من الجانب
عبر التاريخ الطويل، كانت الحجج المتعلقة بوجود أو عدم وجود الله مقتصرة على كلٍ من الفلسفة واللاهوت. أمّ في الوقت الحالي، وطأ العلم على الخطوط الجانبية وراقب هذه اللعبة بالكلمات بهدوء التي تتقافز في المجال. بغضّ النظر عن حقيقة أنّ العلم قد قلب كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية وأشعل فيها ثورة ووضّح طريقة فهمنا للعالم من حولنا كثيراً، بطريقة ما ظهرت الفكرة وأظهرت أنّ ليس هناك شيء ليقال عن وجود الكائن الأسمى الذي يعبده كلّ البشر كمصدر وحيد للحقيقة.
في كتابه: "صخور العصور Rocks of Ages" الصادر عام 1999، أشار عالم الدراسات القديمة الشهير ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould إلى العلم والدين كـ "عملاقين غير متداخلين"، فالعلم يهتمّ بفهم العالم الطبيعي، في حين أنّ الدين يتعامل مع المسائل الأخلاقية [2]. بأي حال، كما أشار عدد غير قليل من المراجعين، بلغ ذلك إلى إعادة تعريف الدين كفلسفة أخلاقية. في الحقيقة، أغلب الديانات تقوم بأكثر من التنظير الأخلاقي لكنها تقدّم تصريحات أساسية حول الطبيعة، وهي من الأمور التي يملك العلم الحرية المطلقة لتقييمها. علاوة على ذلك، للعلم دور واضح في دراسة الأجسام المادية، ككفن تورين Shroud of Turin، التي قد يكون لها مضامين دينية. و، لا يمكن للعلم أن يبحث في المسائل الأخلاقية، التي تتضمّن بعض التصرّفات الإنسانية التي يمكن ملاحظتها والتي في بعض الأحيان يمكن قياسها؟
في استطلاع للرأي العام سنة 1998، فقط 7% من أعضاء الأكاديمية الأمريكية للعلوم، من نخبة العلماء الأمريكان، قالوا بأنّهم يؤمنون بإله شخصي [3]. وبالرغم من ذلك، معظم العلماء يبدو أنهم يفضّلون كمسألة عملية أنّ العلم يجب أن يبقى صافياً وخالياً من القضايا والمسائل الدينية. ربّما هذه استراتيجية جيدة بالنسبة لأولئك الذين يرغبون بتفادي الصدامات ما بين العلم والدين، والتي قد تقود إلى قبول أقل للعلم، من دون الحاجة لذكر العواقب الأكثر إخافةً _تخفيض التمويل. بأيّ حال، تزعم الأديان ادّعاءات فعلية لا تمتلك أي مناعة خاصّة تحميها من إجراءات الفحص تحت عدسة العقل الباردة والملاحظة الموضوعية.
علاوةً على ذلك، الحجج والبراهين العلمية المقدّمة لإثبات وجود الله، التي هي، حجج قائمة ومستندة على الملاحظة بدل المرجعية، قد تمّ تقديمها منذ أقدم العصور _حتى قبل سنة 77 ق.م على يد ماركوس توليوس شيشرون Marcus Tullius Cicero (توفي عام 43 ق.م) في عمله الهام: "في طبيعة الآلهة De Natura Deorum" [4]. وقد تأثّر به جداً وليم بيلي William Paley (توفّي عام 1805) في كتابه: "اللاهوت الطبيعي أو دلائل على وجود وأسماء للإله مجموعة من الظواهر الطبيعية Natural Theology or Evidences of the Existence and Attributes of the Deity Collected from the Appearance of Nature"، والذي نشر لأول مرة عام 1802 [5]. خلال السنوات القريبة الماضية، بدأ رجال اللاهوت وعلماء الدين بالبحث عن علم لتقديم إثبات على معتقداتهم بوجود كائن أسمى. العديد من الكتب تمّ نشرها تقدّم أوهاماً وأضاليل بأنّ العلم النظري والعلمي يدعمان فكرة وجود الله، وقامت أجهزة الإعلام الشعبية بدورها في نشر وإذاعة هذه النظرة [6]. قليلة جداً هي الكتب والقصص الإعلامية التي تحدّت بشكل مباشر تلك المزاعم. لكن إذا كانت الحجج والبراهين العلمية عن وجود الله قد سمح لها بالدخول في الجدال الثقافي العام، فتلك التي تنفي وجود الله كان لها مكانها المناسب أيضاً.
في كتابي الصادر عام 2003، "هل وجد العلم الله؟ Has Science Found God" كنت قد بحثت بدقّة وبطريقة نقدية في المزاعم التي تقول أنّ هناك دلائل علمية على وجود الله ووجدت أنها غير مناسبة على الإطلاق [7]. وفي الكتاب الحالي، سأمضي إلى أبعد من ذلك وسأناقش أنه وفي هذا الوقت بالذات لأنّ العلم قد قطع مسافة طويلة في تقدّمه وبات قادراً على تقديم إجابة محدّدة بشأن مسألة وجود أو عدم وجود الله آخذاً بعين الاعتبار الصفاّت والنعوت المرتبطة بشكل تقليدي بالإله اليهودي_ المسيحي_ الإسلامي.
أصبح لدينا الآن كمية معتبرة من البيانات التجريبية والكثير من النماذج العلمية الناجحة التي يمكن أن تؤثّر على السؤال حول مسألة وجود الله. وقد حان الوقت للبحث عمّا تخبرنا به تلك البيانات والنماذج حول صلاحية الفرضية الإلهية.
للتأكّد، الإله اليهودي_ المسيحي_ الإسلامي ليس محدّد بشكل جيد. ولا يقتصر الأمر بأنّ كلاً من هذه الديانات الثلاث تنظر نظرة مختلفة إلى الله، بل حتى في الديانة الواحدة هناك اختلاف في النظر إلى إله تلك الديانة _بين رجال الدين والمؤمنين من العامة وكذلك بين الطائفة والأخرى.وسأركّز على تلك الأسماء والنعوت التي يطلقها المؤمنون في كل من تلك الفرق المختلفة على الإله الذي يعبدونه. بعض تلك الأسماء يشترك فيها العديد من الآلهة من الديانات الأخرى غير الديانات الكبرى الثلاث.
أنا أدرك جيداً أنّ رجال الدين المحنّكين قد طوّروا مفاهيم عالية التجريد عن الإله حيث يزعمون بأنها متساوقة مع تعاليم معتقداتهم وأديانهم. فيمكننا دائماً أن نجرّد أي مفهوم ليصبح خارج عالم البحث العلمي. لكنّ هذه الآلهة لن يتمّ الاعتراف بها من قبل المؤمن النموذجي.
في الديانات التوحيدية الثلاث، يظهر الإله ككائن خارق وكلّي القدرة _موجود ما وراء المادة، المكان، والزمان_ ومع أنّ أصل كل ذلك يقابل أحاسيسنا الموصوفة في سياق المادّة، المكان، والزمان. علاوةً على ذلك، هذا الإله ليس هو إله الإلهية deism، الذي خلق العالم ثمّ تركه يسير من تلقاء نفسه، أو إله الحلولية pantheism، الذي حلّ في كل الموجودات. الإله اليهودي_ المسيحي_ الإسلامي هو مشارك لحظة بلحظة في كل حدث يحدث في كل نانو متر مكعّب من الكون، من تفاعل الكواركات داخل نويّات الذرات إلى تطوّر النجوم في أبعد المجرّات. والأكثر من ذلك، الله يستمع إلى كل فكرة ويشارك في كل فعل من أفعال مخلوقاته الخاصّة، جزء دقيق جداً من مادّة منتظمة سمّيت إنسانية تتحرّك بسهولة بالغة فوق سطح حصاة صغيرة تسبخ في الخواء الكوني الواسع.
لذا، عندما أستعمل الاستهلال ج، فعندها أكون أقصد الإله اليهودي_ المسيحي_ الإسلامي. الآلهة الأخرى سأستعمل معها الأحرف الاستهلالية الصغيرة. كما أني سأستخدم الضمائر المذكّرة التقليدية بالإشارة إلى الله. هذا الكتاب عبارة عن تحقيق في الدلائل على وجود الله _وليس جميع الآلهة. يمكن تشبيهه بالتحقيق الفيزيائي التي يتحرّى وجود جزيئة مشحونة معدومة الكتلة، لكن ليس كلّ الجزيئات.
علم الماوراء أو الخارق للطبيعة
ليس هناك إجماع بين فلاسفة العلم حول ماهية الفروقات التي تميّز العلم Science عن العلم الزائف pseudoscience أو اللا علم nonscience، على الرغم من أنّ أغلب العلماء سيقولون أنّ يعرفون العلوم الزائفة عندما يرونها. في هذا الكتاب، سآخذ العلم للإشارة إلى تطبيق الملاحظة الموضوعية عن طريق العين والأداة وبناء النماذج لوصف تلك الملاحظات. هذه النماذج ليست مجرّد تصويرات لتلك الملاحظات، بل هي تستعمل العناصر والعمليات أو الآليات التي تحاول أن تكون عالمية وعامّة وذلك لكي لا يتمّ وصف مجموعة واحدة من الملاحظات بل أيضا كافّة الملاحظات التي تدخل ضمن فئة كبيرة كاحتمال. فهي لا تتطلّب دائماً أن تكون رياضية، كما أشار جون فون نيومان John von Neumann في النقش في هذا الفصل.
قد يكون المثال (الرياضي) الحالي الأوضح يتمثّل في "النموذج القياسي للجزيئات والقوى الأولية standard model of elementary particles and forces" حيث أنّ كلّ أشكال المادّة المألوفة مؤلّفة من ثلاث جزيئات فقط: الكوارك الأعلى up quark، الكوارك الأدنى down quark، والإلكترون. تمّت صياغة هذا النموذج في سبعينات القرن العشرين وبقي حتى وقتنا الحاضر ثابتاً مع كافة الخاصيات المدروسة للمادة التي تمّ تطبيقها داخل أعقد مخابرنا و أكثرها تطوّراً على وجه الأرض وتمّت مشاهدتها في الفضاء من خلال أقوى تلسكوباتنا.
لاحظ أنّ الهدف الرئيسي من النماذج العلمية هو الوصف describe وليس التفسير أو الشرح explain. وهي، يمكن أن يقال عنها أنها صحيحة عندما تؤكّدها جميع ملاحظاتنا، وخصوصاً تلك التي تكذّب النموذج لديها تلك الملاحظات تبيّن أنها عكس ذلك. عادةً تتخّذ هذه العملية لها شكل اختبار الفرضية hypothesis testing، حيث يفترض النموذج كسلسلة من الفرضيات التي يتمّ اختبارها مقابل مجموعة من الاختبارات والملاحظات الصارمة والمسيطر عليها. سواءٌ أكانت العناصر والعمليات التي تصنع نموذجاً ناجحاً ينبغي أخذها كأجزاء جوهرية من الواقع ليس هو السؤال الذي يمكن الإجابة عليه بسهولة بما أننا لا يمكننا أن نعرف مطلقاً أنّه قد يكون من الممكن تكذيب النموذج في المستقبل. بأي حال، عندما يتمّ تكذيب نموذج، عندها يمكن الافتراض بشكل منطقي أنّ تلك العناصر والعمليات الغريبة عن النموذج والتي لا تشكّل جزءاً من نموج آخر، على الأرجح النموذج الناجح لا يشكّل أجزاء حقيقية أو جوهرية من الواقع.
تحليلي سيكون قائماً على فكرة أنّ الله يجب أن يكون قابلاً للقياس والملاحظة عن طريق الأدوات العلمية ببساطة واستناداً على حقيقة أنّه يجب أن يلعب مثل هذا الدور في طريقة عمل الكون وحياة البشر. فالنماذج العلمية الموجودة لا تحتوي أيّ مكان للإله ليعتبر كمكوّن من أجل أن يصف ملاحظات معيّنة. لذلك، إذا كان موجوداً، يجب أن يظهر بمكان ما داخل الثغرات أو الأخطاء التي تتخلّل النماذج العلمية.
بالتأكيد، كان "إله الفجوات God of the gaps" منذ زمن بعيد هو الحجّة الوحيدة على وجود الله. العلم لا يفسّر كل شيء، لذا سيكون هناك دائماً مجال لتفسيرات أخرى ويعتقد المؤمنون _بل حتى أنهم مقتنعون_ أنّ ذلك هو الله. بأي حال، حجّة إله الفجوات بذاتها هي حجّة فاشلة، على الأقل كحجّة علمية، ما لم تكن الظاهرة موضع السؤال غير قابلة للتوضيح والتفسير العلميين في الوقت الحالي بل يمكن إظهارها كتحدّي أبدي للوصف والتفسير الطبيعيين. لا يمكن إظهار الله إلا عن طريق البرهان على أنه ضروري، ويجب أن يكون مثبتاً أنّ العلم غير قادر على تقديم تفسير أو وصف مقبول للظاهرة استناداً على العمليات الطبيعية والمادية فقط.
قد يصدم ذلك القارئ كمطلب مستحيل. كيف لنا أن نعلم أنّ العلم لن يكون قادراً أبداً على تقديم تفسير "طبيعي" لبعض الظواهر الغامضة في الوقت الحالي؟ أنا أقول أنّ هذا ضمن عالم الحقيقة أو الواقع، إذا لم يكن ضمن حدود 100 بالمئة يقيناً، فضمن حدود الشك المعقول. باستخدام الترابط التاريخي بين الطبيعي natural والمادي material، سأقدّم هنا أمثلة افتراضية عن ظاهرة، إذا أمكن ملاحظتها ومراقبتها، لا يمكن أن تكون من أصل مادّي يتجاوز الشكّ العقلاني. بما أنّ الله وحسب جميع الآراء غير مادي، فوجوده سيكون ملاحظاً _فيما وراء الشك العقلاني_ من خلال التحقيق التجريبي الصارم لهذه الظاهرة.
قام بعض العلماء بإطلاق بعض الاعتراضات على الربط ما بين الطبيعي والمادي. فهم يقولون أنّ كافّة الظواهر القابلة للملاحظة "طبيعية"، بالتعريف. آخرون يقولون أنّ أيّ نظرية قابلة للتطبيق يمكن اعتبارها "طبيعية"، بالتعريف. وأنا أفضّل عدم الانغماس في هذه المناظرات الدائرية التي لا تفضي إلى نتيجة حول معاني كلمات لا يبدو أنه سيكون هناك إجماع حول معناها عمّا قريب. لقد ذكرت كيف سأستخدم كلمات مثل "طبيعي" و"خارق للطبيعي"، كمرادف لكلمات مثل "مادي" و"غير مادي". فالخارق للطبيعي لا يمكن إقصاؤه من العلم بالتعريف المجرّد.
أنا أعرّف المادّة كأيّ شيء يصدر عنه ردّ فعل عندما تطبّق عليه فعلاً من نوع ما. إنه عمل فيزيائي بحت. وبكلمة "فعل" فأنا أشير إلى عملية ملاحظة عالمية حيث الجزيئات، كالفوتونات التي يتألّف منها الضوء، تصطدم بالأجسام وترتدّ عنها. القياسات المطبّقة على الجزيئات المرتدّة عن الأجسام إلى أعيننا والحواس الأخرى تقدّم لنا معلومات عن الجسم الذي تتمّ مراقبته يطلق عليها: الكتلة، الحركة والطاقة وهي الخواص التي يمكننا تحديدها في المادة. تلك القياسات موصوفة بنماذج تحتوي عمليات مادية بمعنى الكلمة _القوانين الديناميكية للفيزياء_ كل موضوع للاختبار والتكذيب التجريبيين [8].
العديد من العلماء سيعترضون بأنّ ما وراء الطبيعي أو اللامادي لا يمكن اختبارهما بأي أسلوب مماثل أو مألوف. بالتأكيد، خلال المعارك السياسية الحالية في الولايات المتحدة والتي وضعت العلم ضدّ الجماعات الدينية المحافظة التي ترى أنّ معتقداتها تتهدّد من قبل نظرية التطوّر، فالعلماء البارزون والمنظمات العلمية الدولية قد قامت بتصريحات علنية وقدّمت شهادات في المحاكم بأنّ العلم لا يمكن أن يتعامل إلا مع الأسباب المادية. بهذا وضعوا الكرة في ملعب هؤلاء الذين يحاولون الجدال بأنّ للعلم التزاماً دوغمائياً بالمذهب المادي الذي يمنعه من اعتبار أيّة بدائل أخرى حتى.
في هذا الكتاب، سأبيّن أنّ عدداً من العمليات اللا مادية أو اللا طبيعية المفترضة قابلة للاختبار تجريبياً باستخدام المناهج والطرق العلمية المعيارية. علاوة على ذلك، هذا البحث قد تمّ تنفيذه على يد نخبة من العلماء المحترمين والمرتبطون بمؤسّسات محترمة ولها اعتبارها ونشر في مجلات ودوريات محترمة ولها قيمتها. إذن فالتصريحات العامة لبعض العلماء ومنظّماتهم الدولية الذي قالوا أنّ العلم لا يمتّ بصلة للخارق للطبيعة قد كذّبتهم الحقائق.
تلك حقيقة أنّ العلم بشكل عام يجعل الافتراض يسمّى "بالطبيعية المنهجية methodological naturalism" والتي تشير إلى الاتفاق المفروض ذاتياً الذي يضع الحدود للملاحظة الموضوعية للعالم ويسعى بشكل عام (لكن، كما سنرى لاحقاً، ليس بالضرورة) خلف تفسيرات طبيعية لكافة الظواهر. وغالباً ما يتمّ الخلط بين "الطبيعية المنهجية" وبين "الطبيعية الميتافيزيقية"، والتي تفترض أنّ الواقع بذاته طبيعي بحت، وهو مكوّن من الأجسام المادية فقط. في حين أنه من غير الممكن إنكار أنّ أغلب العلماء الفيزيائيين، على الأقل، يرون أنّ هذه هي الحقيقة، لا يستطيعون إثبات ذلك. علاوةً على ذلك، ليست لهم أي حاجة للمحاولة بما أنّه في النهاية ليس سؤالاً عليماً سهلاً للحكم التجريبي. فإذا كان كذلك، فسيكون عندها في مجال الفيزياء وليس الميتافيزيقا.
في هذا الكتاب سأبيّن أنّ ظواهر طبيعية، مادية معيّنة متضمّنة بفرضية الله. فمراقبة أي ظاهرة من هذه الظواهر سيتعارض مع أي محاولة وصف عقلانية طبيعية أو مادية.
بغضّ النظر عن الأدب الفلسفي والتاريخي خلال القرن الماضي الذي وصف تاريخ العلم كسلسلة من الثورات والانقلابات و"التغيّرات في النماذج Paradigm Shifts" [9]، فالفكرة الجوهرية عن المادّة والعمليات المادية لم تتغيّر منذ زمن نيوتن _بل تطوّرت فقط [10]. أيّ شيء يمكن إظهاره لانتهاك تلك المبادئ، لامتلاك خواص مختلفة عن تلك التي ارتبطت بالمادة منذ أمدٍ بعيد، سيكون ذو أهمية كبيرة أننا _بالرغبة لمصطلح أفضل_ قد نطلق عليها خارقة للطبيعة.
كل ما يمكن أن نقول بالنظر إلى المعرفة العلمية الحالية، هذا الكون الذي نراقبه بحواسنا وأدواتنا العلمية يمكن وصفه في سياق المادة والعمليات الطبيعية المادية فقط. بالتأكيد سيبحث العلماء أولياً عن أيّ تفسير مادي لأي ظاهرة جديدة بما أنّ الاقتصاد في التفكير يستلزم منّا أن نسعى وراء النماذج الأبسط أولاً، تلك النماذج التي تجعل القلّة الجديدة، فرضيات غير مجرّبة. بأيّ حال، هل يجب أن تفشل جميع التفسيرات المادية، فليس هناك أي شيء يوقف عملية الاختبار التجريبية للفرضيات التي تتجاوز فرضيات العلم المادية التقليدية.

فجوات للإله؟
مدركين جيداً بأنّ وجود الله ليس مثبتاً من عدم اكتمال العلم فقط، بعض رجال الدين والعلماء المؤمنين الآن يزعمون أنّهم أماطوا اللثام عن فجوات تتخلّل النظريات العلمية والتي لا يمكن ملؤها إلا بوجود كائن خارق من خارج عالمنا المادي. فهم يصرّحون وبجرأة أنّ العلم لا يمكنه تفسير مثل هذه الظواهر و _علاوةً على ذلك_ لن يستطيع إطلاقاً. "الدلائل" الجديدة مستندة على المزاعم التي تقول أنّ تعقيد الحياة لا يمكن اختصاره والتقليل منه، ولن يحدث ذلك أبداً، إلى عمليات طبيعية (مادية) خالصة. كما أنهم يؤكّدون أنّ الثوابت والقوانين الفيزيائية متناغمة بشكل جيد لدرجة أنه من غير المعقول أن تكون قد وجدت من تلقاء نفسها وبطريقة طبيعية، وأنّ أصل الكون الفيزيائي والقوانين التي تحكمه لا يمكن أن تكون قد "جاءت من العدم" من دون تدخّل أو رعاية ما ورائية. المؤمنون أيضاً يأتون بنتائج من تجارب صارمة مزعومة يقولون بأنهم من خلالها يقدّمون دليلاً تجريبياً عن عالم يقع في ما وراء المادة ولا يمكن تفسيره من خلال العمليات المادية وحدها.
من أجل التقدير وبكفاءة مصداقية هذه المزاعم، يجب أن نكون حذرين لتحديد موقع عبء البرهان بشكل صحيح. ذلك العبء يستقرّ على أكتاف أولئك الذين يؤكّدون أنّ العلم لن يقدر أبداً على تفسير بعض الظواهر بطريقة طبيعية، بمعنى، توصيف الظاهرة من خلال نموذج يتضمّن على عناصر وعمليات مادية فقط. فإذا نجح نموذج علمي معقول في الثبات والتناسق مع كل المعرفة المتوفّرة لدينا، عندها ستسقط الادّعاءات. ذلك النموذج لا يحتاج إلى تقديم إثباتات وبراهين على أنه صحيح، بل يبقى أن نأتي ببراهين تكذّبه وتنفي عنه الصّحّة.
إذا أمكننا في أحد الأيام إيجاد طرق معقولة نملأ من خلالها كافة الثغرات والفجوات التي تتخلّل معرفتنا العلمية، عندها ستسقط كافة الحجّج والادّعاءات التي تشير إلى وجود الله مرة وإلى الأبد. عندها يمكننا الوصول إلى نتيجة أنّ الله لا يحتاج إلى أن نتوصّل إليه في النماذج التي نبنيها لوصف ظاهرة جديرة بالملاحظة من قبل البشر. طبعاً، هذا يبقى الاحتمال مفتوحاً أنّ هناك إلهاً موجوداً تظلّ الحاجة إليه لتفسير ظاهرة خارج عالم أو مجال الملاحظة الإنسانية الحالية. قد نجده في بعثة فضائية مستقبلية، أو من خلال تجربة نجريها في مسرّع عملاق للجسيمات. بأيّ حال، ذلك الإله سوف لن يكون الإله الذي يلعب دوراً محورياً هاماً في حياة البشر. فهذا ليس إلهاً.

استقصاء الدليل ضدّ الله
إنّ تقييم الحجج التي تقول أنّ العلم اكتشف برهاناً على الله هو جزء من عملي، والذي كان قد اكتمل وأنجز على أكمل وجه في كتابي "هل وجد العلم الله؟" وقلقي الأساسي هنا سيكون في تقييم الحجج الأقل ألفةً والتي قدّم من خلالها العلم دلائل ضدّ وجود الله.
العلمية التي سأتّبعها هي المنهج العلمي في اختبار الفرضيات. فوجود الله سيتمّ أخذه كفرضيّة علمية وسيتمّ بحث نتائج تلك الفرضية وفحصها في الملاحظات الموضوعية للعالم من حولنا. سيتم افتراض نماذج متعدّدة حيث لله خواص معيّنة يمكن اختبارها تجريبياً. بمعنى، إذا كان هناك إله موجود يحمل هذه الخواص، عندها لابدّ أن نلاحظ ظواهر معيّنة. وأي فشل في تطبيق اختبار معيّن سيتمّ اعتباره فشلاً أو سقوطاً لذلك النموذج. علاوةً على ذلك، إذا كانت الملاحظات الفعلية كما هو متوقع عند غياب ذلك الإله، عندها يمكن اتخاذه كعلامة أو دليل إضافي ضدّ وجود الله.
حيث يحدث الفشل، ستظلّ هناك حجّة مفادها أنّ هناك إلهاً مخفياً ما زال موجوداً. وفي حين أنّ هذا التصريح صحيح من الناحية المنطقية، فالتاريخ والتجربة العامّة تقدّم لنا عدّة أمثلة حيث، في النهاية، أنّ غياب الدليل قد أصبح دليلاً على الغياب. بشكلٍ عام، عندما لا يكون لدينا دليل أو أي سبب آخر يجعلنا نؤمن بإله من نوع ما، عندها يمكننا أن نكون متأكّدين بأنّ ذلك الإله غير موجود [11]. ليس لدينا أيّ دليل على وجود "بيغ فوت Bigfoot"، رجل الثلج البغيض، ووحش بحيرة نيس Loch Ness Monster، لذا فإننا لا نؤمن بوجودها. إذا لم يكن لدينا دليل أو أيّ سبب آخر للإيمان بالله، عندئذٍ يمكننا أن نكون متأكّدين بأنّ الله غير موجود.
*..........*..........*
الهوامش: المقدّمة
[1] جون فون نيومان، نشرة الجمعية الأمريكية للميكانيكا الحسابية 6، رقم 3.
(September 1993). Online at http://www.usacm.org/Oden s_acceptance_remarks.htm
[2] ستيفن جاي غولد، صخور العصور: العلم والدين في امتلاء الحياة.
Stephen J. Gould, Rock of Ages: Science and Religion in the Fullness of Life (New York: Ballantine, 1999).
[3] إدوارد لارسون ولاري ويتهام "علماء بارزون ما زالوا يرفضون الله"، مجلّة الطبيعة 394
Edward J. Larson and Larry Witham, "Leading Scientists Still Reject God," Nature 394 (1998): 313
[4] ماركوس تولوس شيشرون: في طبيعة الآلهة.
Marcus Tullius Cicero, De Natura Deorum or On the Nature of the Gods, ed. and trans. H. Rackham (New York: Loeb Classical Library, 1933)
[5] وليم بايلي: اللاهوت الطبيعي أو دليل على وجود وخصائص الله مجموعة من الظواهر الطبيعية (London: Halliwell, 1933)
[6] شارون بيغلي: العلم يعثر على الله
Sharon Begley, "Science Finds God," Newsweek, July 20, 1998.
[7] فيكتور ستينغر: هل وجد العلم الله؟ آخر النتائج التي تمّ التوصّل إليها في البحث عن معنى في الكون. راجع الإشارات في نفس المكان للمزاعم الأصلية.
Victor J. Stenger, Has Science Found God? The Latest Results in the Search for Purpose in the Universe (Amherst, NY: Prometheus Books, 2003).
[8] فيكتور ستينغر، الكون القابل للفهم: من أين تأتي قوانين الفيزياء؟. يحتوي على مناقشة كاملة عن طبيعة المادّة وكيانات طبيعية أخرى.
Victor J. Stenger, The Comprehensible Cosmos: Where Do the Laws of Physics Come From? (Amherst, NY: Prometheus Books, 2006).
[9] توماس كون: بنية الثورات العلمية.
Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions (Chicago: University of Chicago Press, 1970).
[10] ستيفن واينبرغ، الثورة التي لم تحصل.
Steven Weinberg, "The Revolution That Didn t Happen," New York Review of Books, October 8, 1998.
[11] كيث بارسونز، الله وعبء البرهان: بلانتينغا، سوينبورن، والدفاع التحليلي عن الإيمان بالله.
Keith Parsons, God and the Burden of Proof: Platinga, Swinburne, and the Analytical Defense of Theism (Amherst, NY: Prometheus Books, 1989).



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيروس الإله [4]
- فيروس الإله [3]
- فيروس الإله [2]
- فيروس الإله: مقدمة
- فيروس الإله [1]
- القرآن في الإسلام (بحث في معصومية القرآن وموثوقيته)
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 3 ترجمة: إبراهيم جركس
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 2
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 12 ترجمة: إبراهيم جركس
- المأزق الأخلاقي للحروب
- القرآن المنحول [1]
- التاريخ النصي للقرآن (أرثر جيفري)
- الله: فيروس عقلي مميت [2]
- الله: فيروس عقلي مميت [1]
- قفشات -أمّ المؤمنين-: هنيئاً لكم
- الفكر الحر في العالم الإسلامي ونظرية صراع الحضارات
- قصة جين الحرية: أميل إيماني
- الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟
- من هم مؤلفو القرآن (4)
- من هم مؤلفو القرآن (3)


المزيد.....




- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - الإله: الفرضية الخاطئة