أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أولفقيه يونس - نارُ السخطِ















المزيد.....

نارُ السخطِ


أولفقيه يونس

الحوار المتمدن-العدد: 3819 - 2012 / 8 / 14 - 02:04
المحور: الادب والفن
    



في السلة المصنوعة من القصب الجاف حملت الأشياء التي ظلت طوال الليل تلملم شتاتها راجية مع نفسها ألا تكون قد نسيت شيئا. لم تعرف عيناها النوم لفرط الأرق الذي تلبسها من رأسها حتى أخمص قدميها .مع الخيوط الأولى لشمس الصباح حملت جسدها المترهل من فوق السرير البالي.كان وجهها شاحبا لا تسري في عروقه نقطة دم واحدة.تحت جفنيها خطوط حفرت شعابها كأنها سراديب مظلمة. على شفتيها كانت تجثم مرارة الأيام وعهر الأقدار.وهي تتسربل في لحافها الذي فقد بياضه لشدة غسيله،رشقت المقتنيات في نظرة فاحصة وهجست:" كل ما يحتاجه هنا..شيء من الأكل والفواكه،ثياب نظيفة،السجائر.."..وأخذت تشق الطريق صوب مزارها اليومي..
عند المدخل،كما هي العادة أبدا،الجلبة تسود المكان وفي الهواء المسموم تتناهى أصوات متشابكة.أناس من جميع الأجناس والفئات .منهم من يبكي في نشيج صارخ،ممزق،معذب. ومنهم من انزوى بعيدا لا يشكو همه لأحد.وهناك آخرون ينتظرون موعد الزيارة مستغلين الفرصة في تقاسم المصائب والويلات.على الرصيف المقابل صف من العربات المتراصة بدقة لباعة الفواكه والورود وما إلى ذلك من حاجيات..يخيل للمرء أنه يميز وسط تلك الفوضى أشياء جاء بها عند الزيارة،يعاد بيعها في عين المكان أمام العيان في تكرار عبثي.جرس يشق الأسماع مانحا الإذن بالدخول لعيادة المرضى..
هوذا كتلة مشوهة من اللحم والدم. على السرير الأبيض البارد كان ممددا.جسده كله يؤلمه.جو الغرفة عابق برائحة المرض والعجز.على جانب السرير طاولة صغيرة عليها ركام من الأدوية وباقة من ورود النرجس جلبها له صديقه البارحة.وكما دأب على ذلك،أشعل سيجارته وهو لم يكد يفرك عينيه من بقايا النعاس العالقة بهما.مع الإحتراق البطيء للسيجارة والموجات الشفافة لدخانها التي كان ينفثها ويرقبها وهي تحلق بعيدا متلاشية في العدم،أخذ يغيب في تأمل صباحي قطعه عليه دخول والدته وهي في كامل نشاطها المعهود.بعد أن حرصت بإصرار على تناوله لفطوره،رتبت الغرفة بعفوية مطلقة لكأنها في منزلها.ثم لثمت جبينه وهي تهمس له:" ما ديرش فبالك أوليدي..اللي بغاها الله هي اللي غاذي تكون..غير أنت وكان ما تبقاش تعذب روحك باطل..خليتليك الراحة..الله يعاونك..".."فين كان هاذ الله ديالكم نهار كنا كنموتو..وفين هاذ العقاب ديالو وهاذ العدل..الله هي السلطة فهاذ الوقت،هي اللي كتسير المصير ديال البشر..الله مات من شحال هاذي أميمتي.."..مع وقع الكلمات أحست بالطعنة تخترق قلبها الهش..لتفتح الجرح الغائر في كهف الذاكرة ..
ذات يوم أخبرها ألا تنتظره على الغذاء لأنه سيكون برفقة سائر رفاقه من المجازين المعطلين في مظاهرة تنديدية بالوضع الذي يتخبطون فيه أمام البرلمان.حينها برقت في ذهنها أنه طيلة الأسابيع الماضية كان يتحدث بغموض عن التنسيق مع الآخرين وعن الإجتماعات التمهيدية وعن الشعارات المتفق عليها.كان مسكونا بتلك الوقفة إلى درجة الجنون الأخرق.في ذلك الصباح خرج والرغبة في تحقيق المطالب تنهش عظامه..
كانت الأعداد غفيرة والصفوف متلاحمة.رُفعت اللافتات عاليا و تفجرت الحناجر بهتافات مدوية.للحظة توهمنا أن كل شيء سيكون على ما يرام وأن النصر لابد أن يكون حليفنا.فبعد هذا التصعيد المتواصل ستذعن الحكومة لمطلبنا الرامي إلى فتح مائدة جدية للحوار والتشاور حول الأوضاع الراهنة..ونحن في غمرة هيجاننا الثوري تسربت جيوش من النمل الأخضر لتحيط بنا من كل حدب وصوب.في لحظة ما بدأت الضربات تنهال علينا كالمطر الغزير،مصحوبة بشلال من الشتائم الجارحة..تفرق الجميع في صخب صارخ.أصيب الكثيرون بجروح متفاوتة الخطورة،وتم إعتقال عدد كبير أيضا..لكن وأنا ذاهل أمام شطط الوضع،تراءت لي وسط الركام البشري زوبعة ملتهبة لكيان بشري.كانت النار تأكل لحمه وهو مزروع في الأرض لا يتحرك.كان رافعا يديه كأنه يبتهل متضرعا لطاقة عليا في السماء..مجذوب خارج طوعه كان .بعد محاولات متعددة طرحناه على الأرض فتهالكت عليه الأيدي والصرخات تبغي إنقاذه من جحيمه الأرضي..حينما وصلنا به المستشفى،حينذاك فقط،وبعد أن وجدوا بقايا من بطاقة هويته..عرفنا أنه..
هذا ما صرح به رفيقه للأم بكلماته الباكية و المحملة بحزن يجمد خلايا الدم..
دخل بكل ثقة وهو مزهو بباقة الورد الناضح بالعبير،ورود النرجس مرة أخرى.أعطاب اليوم المشؤوم لازالت مرسومة فيه.بعد الأسئلة المعتادة عن الأحوال الشخصية والعائلة.خاطبه قائلا بنبرة تقطر بالترقب:
- ما الجديد على الساحة يا رفيقي ؟
- آه ! ما بك لا تريد أن تفرغ رأسك من الهواجس قليلا.." عفا الله عما سلف " ..البلاد كلها بخير.. !
- مهلا..مهلا.. ! أعد عبارتك :" عفا الله...".ما هذه التخريفات !
كان على يقين أنه سيزيد من عمق الجراح إذا ما تكلم،ولكن إصرار المريض حاصره،فأردف يقول:
- قيادتنا الإسلامية الفاضلة،المبجلة،المعصومة من الخطأ، بعد أن قادت حملة كبيرة تحت عنوان "محاربة الفساد" ،عادت لتعلن في تصريح على قناة الجزيرة وأمام مشاهدين من العالم العربي تغيير شعار "محاربة الفساد" بشعار " عفا الله عما سلف"، وهو التصريح الذي لم ينتبه فيه الكثير من المغاربة إلى أن رئيس الحكومة هو الممثل القانوني للدولة المغربية ،الشيء الذي يعني أن الدولة بمجموعها تتخلى عن حقوقها وتتنازل عن تطبيق مبدأ دستوري يسمى مبدأ عدم الإفلات من العقاب .والحق أن قائدنا المقدام قد عودنا دائما على الجديد،فقد سبق له أن رفع أسعار المحروقات ، وهناك مطالب داخل حكومته بتخفيض الأجور..دون أن ننسى يا عزيزي أنه قدم إعتذارا شخصيا لشخص الملك..المغاربة كانوا مهزلة في الأولمبياد المنصرم..الدم المغربي يزهق في العراق ونحن لا نحرك ساكنا.الصحراء تنغل بحرب مرتقبة ..أترى " كول شي هو هاذاك..المغرب زين..والحكومة ديالنا ما مقصراص من شي جهة .."..
- ...
- " عفا الله عما سلف.."..
- إلى الجحيم كل المنافقين الذين يمتصون دماء الوطن الخصب..الخراء عليهم أولئك الخونة اللاعقين لأحذيةالسلطة القحبة..اللعنة على المثقفين المخصيين الذين صاروا عبيدا لسلطان المادة.." تفو على ربهم..الشمايت ولاو رجال فهاذ الوقت..ولايني الذل على الشعب القواد اللي واقف إتفرج فهاذ الحال ..بحال إلى هادشي كيوقع فزحل..."..
تجنبا لفتق مزيد من الأحزان تركه يرتاح قليلا ضاربا له موعدا غذا في نفس الوقت..
وقبل أن يتمخض السواد عن ولادة جديدة للنور،عرفَ أنه مات..كيف ذلك،هو لا يعرف !
على حافة السرير كانت هناك ورقة.على تضاريسها كتبت عبارة:" يلزمنا وقت،وقت طويل،كي نصير كسائر الناس.. !".



#أولفقيه_يونس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس الليل..
- لعنة القدر
- زمنُ الخطِيئة


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أولفقيه يونس - نارُ السخطِ