مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3805 - 2012 / 7 / 31 - 21:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان الرجلان اللذان يواجه واحدهما الاخر مختلفين للغاية. فقد كان احدهما سياسيا ساخرا طموحا, غنيا, مستعدا للقيام بأى شئ من اجل تقدم عمله. وكان الاخر معلما ازدرى بالغنى والابهة وكان مستعدا للتضحية بحياته لانقاذ حياة الاخرين. وبديهى القول ان هذين الرجلين لم يتفقا فى الرأى. وقد اختلفا خصوصا بشكل كامل فى احدى المسائل - مسألة الحق.
كان الرجلان بيلاطس البنطى ويسوع المسيح. وكان يسوع واقفا امام بيلاطس كمجرم مدان. لماذا؟ اوضح يسوع سبب ذلك - وهو فى الواقع السبب عينه الذى من اجله أتى الى الارض وباشر خدمته - هو امر واحد : الحق. " لهذا قد ولدت انا ولهذا اتيت للعالم " قال "لأشهد للحق " يوحنا : 18 عدد 37.
كان رد بيلاطس سؤالا وجيها : " ماهو الحق ؟ " فهل كان حقا يريد جوابا ؟ على الارجح لا. فيسوع كان رجلا يجيب عن اى سؤال يطرح عليه بأخلاص, ولكنه لم يشأ ان يجيب بيلاطس. ويقول الكتاب المقدس ان بيلاطس بعد ان طرح سؤاله. خرج على الفور من قاعة الاستماع. فقد طرح الحاكم الرومانى السؤال على الارجح بانكار ساخر, كأنه يقول : " الحق ؟ وماهو الحق ؟ لايوجد امر كهذا " ( استنادا اللى احد علماء الكتاب المقدس فان نبرة بيلاطس هى نبرة شخص دنيوى غير مبال يقصد بسؤاله القول ان كل مايتخذ شكل حق دينى هو تخمين عقيم ).
ان نظرة بيلاطس المشككة الى الحق هى امر شائع اليوم. فكثيرون يعتقدون ان الحق نسبى - وبكلمات اخرى, ماهو حق بالنسبة الى شخص ما قد يكون باطلا بالنسبة الى شخص اخر, بحيث يمكن ان يكون كلاهما على صواب. ان هذا الاعتقاد واسع الانتشار الى حد انه توجد كلمة له - " النسبية "فهل تنظرون على هذا النحو الى مسألة الحق ؟ واذا كان الامر كذلك. فهل يمكن ان تكونوا قد تبنيتم هذه النظرة دون ان تستفهموا عنها بامعان ؟ حتى ولو لم يكن الامر كذلك هل تعرفون كم تؤثر هذه النظرة فى حياتكم ؟
لم يكن بيلاطس البنطى اول شخص ارتاب ففى فكرة الحق المطلق. فقد جعل بعض الفلاسفة اليونانيين القدماء من تعليم شكوك كهذه مهنة حياتهم تقريبا. قبل بيلاطس بخمسة قرون, اعتقد برمينديس الذى اعتبر ابا الميتافيزيقيا الاوروبية بأنه لا يمكن احراز المعرفة الحقيقية. وديموقريطس, الذى اعتبر اعظم الفلاسفة القدماء اكد " الحق مدفون عميقا . . . ولسنا على يقين من شئ " وقال ىسقراط, الذى ربما ينظر اليه بأكثر توقير, ان كل مايعرفه حقا هو انه لا يعرف شيئا.
ان هذا التهجم على فكرة كون الحق يمكن ان يعرف يستمر حتى ايامنا, يقول بعض الفلاسفة, مثلا, انه اذ تصل المعرفة الينا بواسطة حواسنا التى يمكن ان تخدع, لا توجد معرفة حقة يمكن اثباتها, وقرر الفيلسوف والرياضى الفرنسى رينيه ديكارت ان بفحص كل الامورالتى اعتقد انه على يقين منها, فنبذ كل الحقائق الا واحدة اعتبر انها لا تقبل الجدل : " انا افكر اذا انا موجود. "
لا تقتصر النسبية على الفلاسفةو فقد علمها القادة الدينيون. علمت فى المدارس, ونشرتها وسائل الاعلام. قال اسقف فى الكنيسة الاسقفية, جون س سيونج قبل سنوات قليلة : " يجب ان . . . ننصرف عن التفكير فى انه لدينا الحق وانه على الاخرين ان يتبنوا وجهة نظرنا. ونتحول الى الادراك ان الحق المطلق بعيد عن ادراكنا جميعا. " ونسبية سيونج كنسبية رجال دين كثيرين اليوم, تهجر بسرعة تعاليم الكتاب المقدس الادبية لمصلحة الفلسفة القائلة : " فليستخلص كل واحد استنتاجه الخاص. " على سبيل المثال فى محاولة لجعل مضاجعى النظير يشعرون انهم اكثر ارتياحا فى الكنيسة الاسقفية, كتب سيونج كتابا يدعى فيه ان الرسول بولس كان مضاجع نظير.
وفى بلدان كثيرة يبدو ان الانظمة المدرسية تنمى نمط تفكير مشابها, كتب الن بلوم فى كتابه انغلاق العقل الاميركى : " هنالك امر واحد يمكن للاستاذ ان يكون على يقين منه تماما : كل تلميذ تقريبا يدخل الجامعة يؤمن, او يقول انه يؤمن, بأن الحق نسبى. " وقد وجد بلوم انه اذا تحدى اقتناع تلاميذه فى هذه المسألة, فسيتجاوبون باستغراب شديد. كما لو انه يرتاب فى ان 2+2=4. "
ويروج التفكير نفسه بطرائق اخرى لا تحصى. مثلا, غالبا مايبدو مراسلى التليفزيون والصحف يهتمون بتسلية مشاهديهم اكثر من تقديم الحقائق عن قصة ما, فبعض البرامج الاخبارية عدلت او زيفت لقطات الافلام المصورة لجعلها تبدو مأساوية اكثر. وفى التسلية يشن هجوم اقوى على الحق. فالقيم والحقائق الادبية التى عاش والدونا واجدادنا وفقها تعتبر عتيقة الطراز وغالبا ماتجعل هدفا للسخرية التامة.
طبعا قد يحاج البعض بأن الكثير من هذه النسبية يصور انفتاح العقل وان له بالتالى تأثيرا ايجابيا فى المجتمع البشرى. ولكن, هل هذا صحيح ؟ وماذا عن تأثيره فيكم ؟ هل تؤمنون بان الحق نسبى او غير موجود ؟
اذا كان الامر كذلك, فان البحث عنه قد يبدو لكم مضيعة للوقت. ووجهة نظر كهذه ستؤثر فى مستقبلكم. (يتبع)
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟