أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - سيدة عشتار بن علي - حديث في الحداثة والتّحديث















المزيد.....


حديث في الحداثة والتّحديث


سيدة عشتار بن علي

الحوار المتمدن-العدد: 3796 - 2012 / 7 / 22 - 15:51
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


يعتبر مفهوم الحداثة من بين المفاهيم التي بات الحديث عنها يلفه الكثير من الغموض مما جعل منه مفهوما متشعبا ومتعدد الدّلالات الّتي تصل أحيانا الى حد التناقض فقد تعددت الدراسات والقراءات حول هذا المفهوم وبات يستهلك استهلاكا حتى انه يستخدم للدلالة على كل تصرّف يتنافى مع القيم والأخلاق بل انه في أحيان كثيرة أصبح يستعمل لتلفيق أبشع النعوت والتهم في الخصومات السياسية
.. ولذلك فانه من الضروري التدقيق ومحاولة إزالة اللبس والضبابية التي كثيرا ما أصابت هذا المصطلح
ولهذا المصطلح جذر في العربية له دلالة من حيث مشتقاته فهو يعني الجدة - الشباب - أول الأمر وبداءته – حدوث شيء لم يكن واستحدثت خبراً: أي وجدت خبرا جديدا، وتقول: افعل هذا الأمر بحداثته أي: في أوله وطراوته .وبهذا التقدير يكون معنى الحداثة الارتباط بالزمن الجديد في مقابل الزمن القديم
لكن اللبس في معنى المصطلح يظهر عند الترجمة من اللغة الأجنبية انجليزية كانت أو فرنسية او ألمانية
لـ “Modernizationوحسب يورغن هابرماس (مواليد 1929م) وهو من أبرز الفلاسفة الألمان المعاصرين فانّ كلمة "حديث استُعملت لأوّل مرّة في القرن الخامس الميلاديّ للتّمييز بين عنصرين: أوّلهما الرومانيّ الوثنيّ وثانيهما الحاضر المسيحيّ المعترف به رسمياً في حين يقول جان ماري دوميناك أن كلمة "حديث" ظهرت لأول مرة في التاريخ الأوروبي في القرن الرابع عشر. وأن مفهوم "الحداثة" لم يبرز إلا في العام 1850على يد شارل بودلير وجيرار دونرفال. Modernity” و الحداثة لـ “ Modernism” و الحديث مقابل لـ “ Modern” أ و “Modernistic” و التحديث مقابل لـ
أمّا عن معناها فقد تعدّدت التعريفات ويذكر قاموس ويبستر Webster "بعض معانيها الأساسية التي تعنينا بشكل خاص على النحو التالي:"ممارسة، استعمال، أو تعبير خاص أو مميز للأزمنة الحديثة: طريقة للعيش أو التفكير مميزة لأزمنة الحديثة، فلسفة وممارسات الفن الحديث، وبخاصة خروج ذاتي واع ومقصود على الماضي، وبحث عن أشكال جديدة للتعبير في أي فن من الفنون

وإذا التمسنا العنصر المميز لهذا المعنى الجديد لوجدنا انه يعني التجاسر على استخدام العقل في مقابل النقل الذي ميز العصور الخوالي . فقد عرف الفيلسوف كانط في نهاية القرن (18) الحداثة تعريفاً هاماً موجزاً، في مقالته: ما الأنوار ؟ حيث الأنوار هي أنوار العقل، أي أنه يرى الحداثة في تحكيم العقل فيقول : "الأنوار هي الجرأة على استخدام العقل.إنها تحقيق الاستقلال الذاتي، وإعادة بناء الذات باستمرار .
وهكذا يتبن لنا ان لفظ الحداثة هوانكسار ما في مسيرة الزمن تتبدل بمقتضاه سيرة الأشياء وعادات البشر .وقديما دعا أبو نواس إلى الجلوس فى الأطلال بدل الوقوف عليها مشيرا بذلك إلى ضرورة تغير سنن البشر وكل خروج عن الإلف والعادة ضرب من التحديث .
ونحن نلمس ذلك في محاولات بعض المفرين العرب في تعريف الحداثة فاد ونيس يذهب في
كتابه الثابت والمتحول ان الحداثة تتجلى في " الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام"
ويعرفها جابر عصفور بأنها "البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض .أما
كمال أبو أديب فالحداثة عنده "وعي الزمن بوصفه حركة تغيير... وهي اختراق لهذا السلام مع النفس والحداثة ومع العالم، وطرح للأسئلة القلقة التي لا تطمح إلى الحصول على إجابات نهائية، بقدر ما يفتنها قلق التساؤل وحمى البحث،
ولا يتوقف الأمر عند التغير الحاصل في الأبنية الفكرية والمألوف من المعاش بل يتجاوز مفهوم الحداثة ذلك كله ليشمل النظم الاجتماعية والسياسية .ففي هذا المجال
تعني الحداثة الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال و ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أوالطائفة إلى الدولة الحديثة ومن الدولة التسلطية إلى الديمقراطية .
ونتبين ان الحداثة تعني نظام تفكير ونظام حكم ونمط عيش .فابن نحن العرب من الحداثة ؟والحداثة جرثومة الاكتناه الدائب القلق المتوتر، إنها حمى الانفتاح"
فماهي طبيعة علاقتنا نحن العرب بهذا المفهوم وكيف تعاملنا معه ??
يقودنا هذا ضرورة الى القيام بسرد موجز لمراحل ولادة الحداثة الأوروبية فقد مرت الحداثة الأوروبية بثلاث مراحل متوالية أولا مرحلة النهضة الأوروبية. ثانياً، مرحلة العصر الكلاسيكي. ثم المرحلة الثالثة وتسمى بـ" عصر الأنوار". وينتهي هذا العصر بثورات ثلاث بهذا تكون: أولاً المرحلة
التأسيسية للحداثة قد انتهت وترسّخ نظام اجتماعي جديد بقيادة الطبقة البرجوازية (تسمى أيضاً الطبقة الرأسمالية، أي المالكة لرأس المال)، واندحر نهائياً النظام القديم، أي نظام القرون الوسطى الذي كانت تسيطر عليه الطبقات الأرستقراطية والكنيسة الكاثوليكية. وامتد هذا النظام خلال القرن التالي إلى بقية دول أوروبا الغربية، ومن ثم في النصف الثاني منه إلى أميركا الشمالية واليابان. بهذا يكون قد انقسم العالم إلى عالمين: البلدان التي انتصرت فيها الحداثة والثورة الصناعية، "البلدان الغربية" أو "البلدان الصناعية" أو"بلدان الشمال" نظراً لموقعها الجغرافي على خريطة الكرة الأرضية. أما البلدان الأخرى كافة فلم تتمكن من إنجاز ثورة الحداثة وبقيت محافظة على نظامها القديم، وتسمى هذه البلدان أيضاً بلدان الجنوب لكون معظمها يقع في القسم الجنوبي من الكرة الأرضية. كما تُعرف أيضاً بالبلدان المتخلفة أو بالبلدان النامية أو بلدان العالم الثالث
فهل تعتبر هذه المراحل المتتالية لولادة الحداثة في العالم الغربي مبررا مقنعا لرفضها من طرف الثقافة العربية والصراع معها باعتبارها لبوسا لا يناسبنا ومحاولة إسقاطه او فرضه انتهاك لخصوصية المجتمعات العربية ومحو لهويتها ??
لماذا نقف في أماكننا في الوقت الذي تسير فيه عجلة الزمان قدما نحن الأمام ولماذا نلجأ إلى الهروب والتقوقع والتغني بأمجادنا باعتبارنا خير أمّة أخرجت للناس
ألا يمكن أن يكون هذا مجرّد وهم نغرق فيه أنفسنا للفرار من أسئلة جلد الذات والاقتناع بهذه الحيلة الدّفاعية ??
هل معنى الحفاظ على الهوية هو أسرها في الثّبات و تجميدها وتعليبها ومنعها من الحركة خوفا من ضياعها ??
لقد تقدّم الغرب على المستوى المادي والفكريّ والإنساني ثائراً على سلطة الفكر التقليدي الذي يجمّد العقل ويجعله في إجازة مفتوحة حتّى يألف الكسل والخمول وهذا هو حال العقل العربي الذي تعوّد على التلقين واستهلاك الجاهز من الأسلاف حتى انه أصبح يتعامل بحذر وحيطة وتوجس مع علوكل صوت داع للحداثة والعقلانية فمتى نتخلص من مشهد الشيخ الذي يداعب لحيته باعتزاز وثقة الحمقى وبابتسامة مطمئنة وهو يعلن بعلو صوته أن لاحاجة للعقل والحداثة مادام كل شيء موجود لدينا في القرآن والسنة مستهجنا ما وصل اليه الغرب الذي لا يجب أن تقاس تجربته علينا لأنّنا أصحاب تاريخ عظيم وأصحاب تراث لا يقبل النقاش كما أن مناخنا وبيئتنا يختلفان عنهم وتربتنا غير صالحة لإنبات بذورهم الفكريّة
يقول الدكتور عدنان النحوي في كتابه الحداثة من منظور إسلامي ص 13 : " لم تعد لفظة الحداثة في واقعنا اليوم تدل على المعنى اللغوي لها ن ولم تعد تحمل في حقيقتها طلاوة التجديد ، ولا سلامة الرغبة ، إنها أصبحت رمزا لفكر جديد ، نجد تعريفة في كتابات دعاتها وكتبهم ن فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب ، بعيدا عن حياة المسلمين ن بعيدا عن حقيقة دينهم ، ونهج حياتهم ، وظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن

لماذا لم تقض تجربة الحداثة على هوية الفرنسي والألماني والانجليزي رغم أنها جوبهت بنفس أصوات الرّفض من الكهنوت وبنفس التعلّات التي يتعلّل بها دعاة الدّفاع عن السلف والتّراث لدينا ??
هذا ما عبّر عنه الدكتور حمّادي بن جاء الله من خلال حديث له مع جريدة الشروق بقوله التشابه الفكري الكبير بين الرهبان المسيحي وبدعة «الرهبان الاسلاموي» فهناك تشابه الأوضاع التاريخية التي مرا بها، فالكنيسة فاجأتها الثورة الفرنسة بما لا عهد لها به فأفقدتها صوابها الفكري ومكانتها الاجتماعية والسياسية فتمسكت كالغريق بقيم الأمس الغابر، السياسي منها والاجتماعي والفكري. و«علماء الإسلام» فاجأهم الاستعمار بحكم ما أصاب الفكر في ديارنا من شلل فبان التخلف على أشده وكان الموقف انفعاليا كموقف الكنيسة اي رفض الواقع القائم بويلاته والاحتماء بماض تاريخي في تصورنا له من سوء الفهم على قدر ما في النفوس من أمل في الخلاص من الإحساس بالمهانة فجعلنا ماضينا عظيما على قدر بؤس حاضرنا . وهكذا أفسدنا فهم حقيقة ماضينا وفهم واجبات حاضرنا وها نحن اليوم من أخر أمم الدنيا بجميع المقاييس
من سخرية الأقدار أن يكون نوع النقد الموجه للحداثة عند العرب منطلقا من الغرب ذاته فهو لا يختلف كثيرا عن نقد هامان وياكوبي لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، ونقد الحداثة والمركزية الغربية الذي يمتد من نيتشة وحتى دريدا، مرورا بشبنجلر وتوينبي. إن النقد الذي يقدمه التيار الإسلامي حاليا للحداثة الغربية ليس جديدا بل سبقه النقد الغربي في ذلك والمشكلة ان الكثير من ناقدينا للحداثة يعتمدون على النقد الموجه لها من المفكرين الغربيين أنفسهم. ونجدهم يركزون على ابراز سلبياتها واجتناب الاعتراف بايجابياتهاوبانها نجحت في صنع أنظمة سياسية واجتماعية أفضل بكثير من تلك التقليدية التي كانت سائدا قديما والمستمر بعضها حتى الآن. أنظر إلى حال الإنسان الآن في الغرب وفي العالم الإسلامي لتعرف الفرق.
لماذا لم تتمّ المصالحة بين الحداثة والمجتمعات العربية ??
لماذا أخفقت المحاولات نحو الحداثة العربية ??
لا يخفى علينا ان الخطاب العربي حتى وان كان حداثيا في ظاهره إلا أنّه يخفي في باطنه بذورا سلفيّة ويتجلى هذا في حالة الازدواج في الشخصية التي يعاني منها العربي بصفة عامة بما فيها المثقفين
وهل المشكل في البنيات القائمة ماديا أم في العقل أم في حضور التراث؟
يجيب العفيف الأخضر على هذا السؤال بقوله: لقد استعصت إشكالية الحداثة العربية – الإسلامية على جميع دعاة الإصلاح والنهضة المسلمين في القرن التاسع عشر لأن شروط الوضع العربي – الإسلامي لم تكن ناضجة لاقتباس الحداثة الأوروبية كما اقتبستها اليابان في نفس الفترة. وهذا يعود إلى عدة عوامل رئيسية:
1- غياب فاعل الحداثة التاريخي، وهو البرجوازية الحديثة.
2- عدم وجود أرضية الحداثة، أي الملكية الخاصة للأرض التي لم تدخل إلى دار الإسلام إلا بعد دخول الاستعمار إليها. فقد كان الخليفة هو المالك الوحيد للأرض ولم يكن ملاكها الفعليون إلا مجرد متصرفين ينتفعون بها مؤقتاً في ظلّ خوف دائم من مصادرتها.
3- وهناك عامل نفسي وهو عائق نفسي يتمثل بالتثبت العصابي في الماضي المجيد. والتعلق الوجداني العارم بالحضارة القديمة ...وهو ما يشكل ضرباً من الضمير الأخلاقي الجمعي الذي يردع ورثتها عن انجاز عملية التلاقح مع حضارة الآخر المنظور إليه عادة بمنظور المركزية الإثنية الاحتقاري على أنه أدنى من الذات التي ترى نفسها خير الذوات، اختارتها العناية الربانية لتقود لا لتنقاد. وهكذا فكل اقتباس لحضارة الآخر "الكافر" يُعاش كخيانة للماضي المجيد، وكانتهاك لمحرماته التي لا يرقى إليها الهمس.
4- لجوء الوعي الإسلامي التقليدي إلى التعزي بماضيه التليد

ان القول بأننا مجتمع يفتقد إلى الحداثة والتطور هو قول يمكن مناقشته من طرف الكثيرين وحسب رؤيتهم وفهمهم لمعنى الحداثة ولذلك أشرت في البداية إلى ذلك الغموض والالتباس الذي كثيرا ما أصاب هذا المفهوم وكثيرا تعددت بل وتناقضت الدراسات في قراءته فكيف يفهم العربي الحداثة ??
كثيرا ما يقع الخلط بين مفهوم الحداثة ومفهوم التحديث وذلك راجع بالأساس إلى أزمة المفاهيم التي نعاني منها تماما كما نعاني من أزمة الحداثة فالكثيرون لا يفرقون بين مصطلح الحداثة ومصطلح التحديث فينطلقون من الاشتقاق اللغوي وبذلك تفهم على انها تطبيق الحداثة، ماديا أو حضاريا في حين ان هذا هو التحديث وليس الحداثة ، ويتجلى هذا من خلال تحديث الصناعــة بإزالة أدوات الحرف اليدوية وإحلال الآلات والمصانع الآلية وتوليد القوة الكهربائية والمراجل البخارية وغيرها محلها، وتحديث الزراعة بإدخال المكننة والمواد الكيميائية وتحديث الخدمات باستخدام الأنماط المحاكية للغرب وبهرجة الشوارع بالمصابيح الكهربائية وتنظيم المدن والعمران ومجاراة الأزياء الغربية وغيرها. كل هذا عملت به البلدان العربية منذ زمن طويل وبخاصة بعد أن تحررت من الاستعمار ونالت استقلالها الوطني وازداد دخلها الاقتصادي. فهل معني هذا أنها صارت بلداناً حديثة??
لنعد إلى الوراء كي نفهم سبب هذه القطيعة ونفهم أكثر الفرق بين الحداثة والتحديث !!
عرف العالم الإسلامي الحداثة عند احتكاك العثمانيين بالقوى الأوروبية في القرن الثامن عشر وليس معنى هذا الكلام ان صلتهم بأوروبا كانت منقطعة قبل هذه الفترة فالتوسع العسكري العثمانيي في أوروبا منذ القرن الخامس عشروصولا إلى سيطرتهم على شبه جزيرة البلقان في أواسط القرن السابع عشر والتي تمثل جزءا كبيرا من القارة الأوروبيةقد توقّف بعد فشل الجيش التركي في احتلال فيينا سنة 1688. ومنذ ذلك التاريخ عرفت القوة العسكرية العثمانية تقهقرا كبيرا بعد سلسلة من الهزائم جعل وجودهم في وسط أوروبا ينكمش. وبعد فترة من الانقطاع تفاجئ الأتراك بأوروبا جديدة في القرن الثامن عشر، أوروبا الحداثة، التي تقهقروا أمامها واكتشفوا أنها سبقتهم بكثيروهي أوروبا الحداثة، وليست أوروبا عصر النهضة،مما جعل العثمانيين يصابون بصدمة ويشرعون في البحث عن هذه سر القوة والتفوق الأوروبي عليهم، وأولى علامات القوة والتفوق هي التفوق العسكري والإداري، فالقوى الأوروبية هزمتهم بأسلحتها المتقدمة ونظمها الإدارية في الجيش والسياسة. فما كان أمام العثمانيين الالتجاء الى تبنّي تكنولوجيا الحرب الغربية ونظم الغرب الإدارية عن طريق الاستعانة برعايا من غير الأتراك والمسلمين مثل اليونان والأرمن والألبان والجورجيّين وبذلك فان عملية التّحديث كانت خاصة بجهاز الدّولة أي تحديث للجيش الذي سيواجه الأعداء وتحديث للإدارة فكان بذلك تحديثا دفاعيا أغراضه أمنية ولذلك فهو لم يتعدّ السلطة في مستوياتها العليا فقط وبينما كانت أجهزة الدولة في مصر والدولة العثمانية تنتقل من العصور الوسطى إلى العصر الحديث في ظرف بضع سنين، ظلت المؤسسات الدينية على حالها والتعليم الديني كما كان فالنقلة لم تشملها ولذلك فان التحديث للجيش والإدارة عجز عن إدخال حداثة حقيقية في العالم الإسلامي لانه كان تحديثا فوقيا اي تحديث الدولة لنفسها في حين بقيت كل المستويات الاجتماعية الاخرى على حالها التّقليدي ولا يجب ان ننسى ان الدولة العثمانية كانت دولة الخلافةالتي تستمدّ مشروعيتها ومبرر سيادتها واستمرارها من الدين نفسه، فالحاكم هو خليفة المسلمين؛ ولهذا السبب لم يستطع لأتراك القيام بتغييرات كبيرة في مجال الإصلاح الديني نظرا لحساسية هذا الموضوع سياسيا، ما عدا بعض التغييرات الهامشية الطفيفة والتي على الرغم من ذلك جوبهت بمقاومة عنيفة فعمليات الإصلاح والتحديث في الدولة العثمانية زادت في قوة الحكم الأوتوقراطي ولم تزد في الحريات بل كل ما حصل هو تقوية السلطة المركزية بإدخال وسائل المواصلات الحديثة مثل السكك الحديدية والبريد والتلغراف، وبإصلاح إداري عمل على ربط أجزاء الإمبراطورية ببعضها على نحو أكثر كفاءة وكل هذا على حساب المجتمع الّذي ظلّ تقليديا تتحكم فيه نفس البنية الثقافية التقليدية
والحقيقة أن وتيرة التحديث قد تسارعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشروتجاوزت الهيكل الإداري للدولة إلى النظم الاجتماعية فقد تم إلغاء الدولة لأحكام الردة من القانون الجنائي وأصبحت شهادة الذمي مقبولة سنة 1858كما تم إلغاء الجزية وأصبحت شهادة المرأة تعادل شهادة الرجل بعد ان كان تعتبر نصف شهادة وتم الإعلان على انه لا رجم في الزّنا ولا قطع في السرقة هذا إضافة إلى تحديث الثقافة مما سمح لظهور أشكال جديدة في التعبير الفني مثل المقالة والرواية والمسرحية والسينما التي جوبهت برفض شديد من طرف الاتجاهات المتعصبة من الإسلام السياسي والتي حكمت على هذه الأشكال الفنية الجديدة بأنها من المحرمات وهذا ما أدى إلى انتكاسة للحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين
يمكن أن نفهم من خلال هذا أنّ ثورة مصطفى كمال أتاتورك العلمانية في عشرينات القرن العشرين كانت تتويجا لمحاولات سبقتها وليست حدثا فجائيا في التاريخ العثماني
بعد ذكر هذه المحاولات يمكن أن يتبادر إلى الذهن سؤال
أين المشكلة اذن ولماذا لم يتم التصالح بين العقلية العربية والحداثة إلى اليوم رغم أن هذا المفهوم وصلنا بعد أن دخلت أوروبا في مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد الحداثة ??

اختلف التحديث في المشرق الإسلامي عن التحديث الأوروبي فالثاني كان نابعا من المجتمع نفسه ومن الطبقات الاجتماعية الصاعدة؛ البورجوازيات التجارية أولا ثم البورجوازيات الصناعية ولا يفوتنا أن نذكر أنّ الدولة الأوروبية كانت ذات بنية إقطاعية حين ولدت الحداثة ثم بنية أرستقراطية، وكانت في تحالف دائم مع سلطة الكنيسة او العكس وفي المقابل كانت في صدام وصراع دائم مع البورجوازيات الصاعدة التي التي عملت على التّحديث والعلمنة وهذا ما أثمر الثورات الكبرى التي عرفها التاريخ الأوروبي الحديث (هولندا 1568/ إنجلترا 1688/ فرنسا 1789)؛ فقد كانت في حقيقتها وسلطة الدين ويظهر خطر طبيعة السلطة السياسية التي غالبا ما تتقنع بالدين من خلال عملها على قمع الحريات وبث الرعب في نفس الانسان الذي يغدو سجين العقل والجسم
4-- سلطة التراث والتاريخ وتمجيدهما والبكاء على أطلال الماضي المجيد الذي هو النموذج الذي نقيس عليه حاضرنا بدلاً من أن يكون الحاضر هو الأساس الذي يجب ان ننطلق منه للتاسيس للمستقبل
ثورات البورجوازيات المختلفة على دول إقطاعية أو أرستقراطية، وكان نجاح كل ثورة يؤدي الى تحديث سياسي. فالبورجوازيات الأوروبية الصاعدة هي التي تباشر عمليات التحديث، وعندما كانت تصطدم بالدولة كانت تثور على الدولة وتعيد بناءها من جديد. أما التحديث في العالم الإسلامي فقد كان مشروعا للدولة فرضته على مجتمع لم يكن مستعدا، فتم قبول الحداثة بصعوبة بالغة، ولم يتم قبولها ولذلك تمت الردة عليها مرات عديدة، ولا تزال الردة على الحداثة تتكرر الى الآن وما يحدث اليوم في البلدان العربية بعد ثورات الربيع العربي أكبر دليل على ذلك
الحداثة إذن ليست مجرد مفهوم بل هي تحول تاريخي وفكري حصل لبعض الشعوب,وهي نمط من المعرفة والوجود يصعب استيعابه وتطبيقه دون فهم الشروط الذاتية لمجتمعات ما زالت تعيش التخلف والتقليد
ويمكن لنا أن نجمل أسباب هذا العداء للحداثة والنزوع الى الانغلاق فيما يلي :

1- سلطة الثقافة والمجتمع المحكومة بنمط فكري مرسوم في قالب محدّد
ومفاده انه ليس بالإمكان أبدع مما كان وأنه بإمكاننا ان نكون الأفضل إذا عدنا للتراث إضافة إلى الخوف من الآخر واعتباره الخطر الذي يجب أن نحذر منه وأن نعدّ العدة لحربه بفكرنا المستمد من تراثنا الأصيل
2-سلطة الدين الداعية إلى أسلمة العلوم وجعل الدين هو الأساس العلمي الذي يجب على الإنسان المسلم الحقّ أن يبدأ منه ،وهذا لا يختلف عن دعوة الكنيسة قبل أن يتحرّر الغرب من سلطتها حيث حاربت أفكار جاليليو واتهمت كل فكرة علمية لا تنطلق من مفاهيم الكنيسة بالهرطقة ، ولدينا من العرب المسلمين من لا يختلف في دعوته تلك ويقول بملء فمه : كل شيء لدينا في القرآن فهو يحوي ما كان وما يكون
3- سلطة السياسة : السياسة تصوغ أفراد المجتمع كما تفعل سلطة الثقافة
كيف السبيل إلى الخلاص من هذا الانغلاق والجمود ??
هل يكفي أن يقع تطبيقها كي نصبح مجتمعا حداثيا ??
هل ان المشكلة نابعة من الدّاخل أم من الخارج ??
المفكر محمد عابد الجابري حيث يقول، بعد طرحه لأسباب ظهور الحداثة في الغرب: "أما بالنسبة للعالم العربي والإسلامي فلقد كان العامل الخارجي من أبرز الأسباب التي كانت وراء تقهقر الأوضاع فيه، أو على الأقل جمودها، ضمن نموذج يكرر نفسه باستمرار، ويتمثل هذا العامل الخارجي في الغزو المباشر والمدمر الذي تعرضت له المنطقة العربية انطلاقا من هولاكو إلى الحروب الصليبية إلى التوسع الأوروبي الحديث".
مما لا شك فيه هو أن العوامل الخارجية لها دور تدمير الطموحات العربية في بناء حداثة فكرية-سياسية-اقتصادية. لكن، ما لا يمكن انكاره او التغافل عنه هو ان التاريخ العربي، على المستوى البنيوي حمل بذور اللاحداثة. فالتدمير كان نابعا من الداخل وليس فقط من الخارج ذلك أنّ هيمنة الفكر الباطني والغيبي إضافة إلى سيطرة الدولة السلطانية وتسييس الدين الذي حال دون ولادة فكر جديد صاعد قادر على الإبداع والخلق وخوض المغامرة جعل البنية الحضارية العربية محاطة بالعوائق
ولذلك التفكير في العوائق الداخلية هو السبيل لفهم هذا التوتر الحاصل بين الحداثة والعرب ، فالقوى السائدة ما زالت تنتج التقليد.صحيح أن هناك محاولات كانت جادة في سبيل الحداثة لكن جميعها كانت محكومة بالعوائق الداخلية
فعمليات التحديث التي عرفتها المجتمعات العربية لم تقد إلى الحداثة لأنها تمت دون وعي و ما حصل في عصر النهضة هو إجبار المجتمع العربي على الدخول إلى عالم الحداثة، دون وعي حداثتي، مما أدى إلى انشطار الذات العربية في التاريخ فعملية التحديث أو الحداثة المشوهة في مجتمعنا بقيت مطبوعة بالهشاشة، حتى على صعيد الفكر، فكانت الإيديولوجيا مهيمنة على الفلسفة والعلم مما زاد في تغييب العقل وظل السؤال حول أسباب تقدم الغرب وتخلف العرب سؤالا ممتدا من النهضة الى اليوم ولذلك فان التنوير يجب أن يسبق التغيير وكل فكر يقدس التراث أو يقدس الآخر لن يكون مصيره الا الفشل فمجتمع ما قبل-حداثي كالمجتمعات العربية يحتاج الى نقد كل أشكال اللامعقول فيه وهذه هي مهمة التنوير الحقيقي بإحلال العقل ونقله من الغياب الى الحضور لأن الحداثة واقع يحتاج إلى تأصيله عبر استيعابه أوّلا وفق منطق تاريخي وإبستمولوجي



#سيدة_عشتار_بن_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث في الاحباط الجماهيري بعد الثورات
- حديث في الذّكاء الوجداني
- هذيان
- حين يتحوّل الحبيب الى غريب
- الصّراع ودوره في التّحوّل الاجتماعي
- عادل امام بين براثن سياسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
- يوم الرّعب والدّم في استاد بورسعيد
- حديث ومواجهة في أسباب تفوّق اليهود وتخلّف المسلمين
- انتحار شمعة
- سعاد عبد الرحيم:المراة التي نطقت وقالت(لا لحقوق المراة)
- محنة الام العازبة بين غدر الامومة وقسوة المجتمع
- رسالة الى ابي(حديث في الحجاب والنقاب)
- الربيع العربي ام الربيع الغربي??????
- نوال السعداوي اكبر من جائزة نوبل
- كشف المستور(2):قراءة في الحب الفيسبوكي والجنس الافتراضي
- كشف المستور(حديث في الحب الفيسبوكي والجنس الافتراضي)
- الفساد السياسي:اغتيال للديمقراطية
- المثقف العربي في الميزان
- سايكولوجية الجماهير(قراءة علمية في النفس الجمهورية)


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - سيدة عشتار بن علي - حديث في الحداثة والتّحديث