أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد البوعيادي - رَشْمٌ خائِف















المزيد.....



رَشْمٌ خائِف


محمد البوعيادي

الحوار المتمدن-العدد: 3796 - 2012 / 7 / 22 - 00:44
المحور: الادب والفن
    


مستلقيين على بساط أخضر قديم، كان جدي يصلي عليه أيام عمّر الإيمان بقاع هذه الأرض المهجورة، امتعضت من طعم النبيذ الأحمر القاني فدحرجت القنينة الخضراء بعيدا، كُنّـــا نراقب السقف في حالة غياب تام عن المكان السّاجي، لاشيء في هذه القيظ الحارق يبعث على الحركة ، غير إحساس بموت خارجي ينعكس إلى الداخل، إلى مخ العظام، لينخر عميقا في تلافيف الجرح الباطني ويوقظ حالة شرود أزلي لا يتوقف، سمفونية من طنين الذباب في هجير الثانية بعد الزوال لا غير .. في الخارج كانت الشمس تلهب الأشياء والناس بسوط إله جبّار لا يعتق أحدا، تحرق كل شيء وصلت إليه أشعتها الجقود بما فيه ظهور البهائم والناس الذين لا يختلفون كثيرا عن البهائم في هذه الجيب الصخري المعلّق، وحده الغبار البني يجوب الأزقة الضيقة في قنوط شمسي سقيم فيفغم أنوف المارة وأصحاب الدكاكين المنتشرين على عتبات إسمنتية قديمة في ذهول الموتى..
كانت تراقب السقف في دهشة رضيع يكتشف فراشة ضوئية، كأني غير موجود بالغرفة، تناوش رموش عينيها المريضتين جفنا حائرا، يتبدى فيه شيء عميق كصدع صخري قديم لا يمكن رأبه، صدع شبيه بانحدارات القرية المكلومة أيضا، ندوب خفية تتلفع وراء روعة هذا الوجه الأبيض، ندوب عميقة وغائرة كأي بئر بلا قرار، تلفظت بعض الكلمات الهامسة التي لا معنى لها أو التي لم أفهمها أنا... بقيت هناك محدقا كراهب في تلك الشفاه البديعة، من عنصر مطاطي شهي صنعت، نسخة واحدة لم يصنع الرب لها ثانية. لم أرغب في قول شيء، أي شيء، أي نبسة أو فلتة كانت لتعكر صفو تلك اللحظة العدنية، أتلذذ بسبر عينين ناعستين شارديتين حدّ الثمالة، حين تنزع النظارات يبدو وجهها مريضا بشكل بديع ورائق، شفاه صغيرة تقول أشياء لم تكن تهمني، بقدر ما تهمني الحمرة المبطنة فيهما كالكرز الطازج، كأنهما منقلبتين إلى الخارج عن سبق إصرار ودهاء أنثوي، وضعت يديها خلف الرأس المدور الصغير في حركة شبقية غير متقصدة، مستسلمة للأرض ولبرودة البساط ، نهداها ساهمان نحو الأعلى كأي طائرين صغيرين يريدان التحليق للمرة الأولى، أو كرمانتين في طور الإزهار ينفجر رأساهما حلمتين ناضجتين، يزيدهما الثوب الشفاف للقميص المكشوف عند حافة الصدر، بروزا وثورة، في جدعها الممشوق طولا على حافة يديها البيضاوتين كالرخام الراقي ، تحت الذراع بقليل، زغب خفيف ينبئ عن جسد بض اختمر لتوه، لم أرغب في مقاطعتها، اكتفيت بالنبيذ الذي لا تأثير له في حضورها البهي وبمراقبة الشفاه المنكفئة على ذاتها تلوك كلاما مفرغا من أي معنى فيندغم مع اللعاب المُسكّر ...
أي فتنة هنا بقربي ممددة؟ ومن أكون أنا؟، تناولت لفافة وطفقت أنفث الدخان دوائر في الهواء، يصَّاعد الحشيش كجيش من النمل إلى جمجمتي عبر الأعصاب والخلايا اللينة فأسترتخي قربها في تأنّ وهدوء، في غالب الأحيان كانت تمد يديها إلى اللفافة فتنزعها من فمي ضاحكة مستهترة، إلهة من العصر الهيليني القديم تلعب بمصير إنسان ضعيف، لولا أن شيئا سميكا يقع بيننا كجدار صعب المراس، لكنت أسعد من دب فوق تراب هذه المدينة المنسية...
نصف ساعة أو أقل لم نهمس شيئا، سوى التحديق في السقف الغبي الذي لا يقول شيئا هو الآخر، كانت تحس باضطرابي في موقف كذاك، حين لا أقول شيئا أكشف عن توتري وتعثري فيها، أحس دبيبا خفيفا تحت جلدي ، يلكزني الصمت في عمقي كمهماز خفي، قشعريرة دافئة تجتاح جسدي كلما تماست أطرافنا فوق البساط المرقع، فأصلّي سرا كيمـــا يطول التماس الخفيف دون أن تنتبه إلى انتشائي فتقطعه بسادية إلهة بابلية. أنا بدون كلام قد لا أساوي شيئا بالنسبة لها،سلطتي الوحيدة أمام انخطافة رائقة مثلها هي الكلام، أمام تمثالها الساحر لا أملك شيئا لأدافع به عن نفسي وعن شرعية وجودي غير بعض الأشعار الركيكة والقصص الذابلة والكثير الكثير من الكلام عن النظريات والخزعبلات التي أقضي كل وقتي في قراءة تفاصيلها المملة، أبدو لها شخصا مثقفا ، كان ذلك هو المبرر الوحيد كيما تلقي أميرة رائعة الجمال بنفسها في حضن الوحش، وأين؟، في منعطف صخري من أحجار الكلس المهشمة، منعطف خال كقريتنا المنبوذة من ملجإ التاريخ والوطن، لو أنها تشرد في عينيّ ألعن النظريات والسقف والبيت والمدينة والقرية وجدي حتى هو ألعنه لعنة الهندوس الأبدية ...
غير أنها فتنة مجوسية تنتمي إلى جزيرة أخرى، إلى عالم ليس لي منه سوى السراب والرذاذ القليل الذي لا يروي من عطش ولا يغني عن وجع. أتساءل مع نفسي في توجس وريبة: فيما تفكر حين تدخل في حالة مماثلة؟، يؤرقني حال تلك المخلوقة الشفافة الرقيقة حين تغيب عن الوعي للحظات قصيرة تطول أحيانا، غالبا ما نضخك، ننكت، فترشق القهقهات من فمها حلوة كعسل جبلي، حين أضحكها أشعر بأنني قائد روماني نجح في مهمة إمبراطورية عظيمة، سعادتي تشق جدران الغرفة المظلمة حين تضحك فلا يتبدى غير بريق ثغرها الشهد، كأنما شهب تهوي في ليلة مقمرة هادئة، مزاجها كطقس استوائي تهب غيلة فيبرق الجو المكهرب وأحيانا تتهادى كالنسيم العليل في أمسية ربيعية، كنا نقول أشياء بذيئة ووسخة معظهما ينساب إلى ما تحت الحزام، نلعب لعبا ماسخة لا تخطر للشيطان أو ندخن اللفافات الكبيرة معا، ودون سابق إنذار تسرح في مكان آخر تاركة وراءها رماد السيجارة ممزوجا برمادي أنا على سجادة جدي، تشرد بعيدا كفرس صعبة الجماح، فلا أملك غير الصمت دفاعا في لحظات مماثلة..لم يكن من عادتي أن ألحّ عليها في السؤال، كنت أترك لها حرية الصمت أو حرية الثرثرة، تعودت على فعل كل ما تريد حين تكون معي، تلعب كما تشاء وتعبث بكل شيء، لا تعترف بحدود، تقول كل ما تريد وأنا أنظر فقط وأبتسم. أدرك جيدا، أشعر بقوة حدسي أن وراء هذا التطرف الماتع والجنوني حالة انكسار قصوى لا يرأبها إله الزمن نفسه..فأقنع نفسي بضرورة الرضوخ لكل ما تريده وكل ما تطلبه مسلوب الإرادة أمام نزقها الطفولي وبهجتها العارمة التي تجرف كل شيء في طريقها..
كثيرا ما أرغب في اكتشاف حالة المغص الباطني التي تمزق أحشاءها، هنالك في نقطة مركزية ما، بداخل وعيها، لاوعيها، جسدها، عاطفتها، هناك خدش تاريخي عميق، عطب الولادة والتاريخ الشخصي وجينات الحزن التي رابضت داخل البويضة، لا تريدني أن أراه ولا تريد أن تشكو منه، بل تفضل الانزواء في غمرة النشوة وتكسير خط الألفة التي تكاد تتوطد قبل أن تتهاوى أرضا...كنت أدفع نفسي إلى حالات من التفكير المؤرق والدائم، أحاول أن أرج جدران مملكتها الحصينة بالأسئلة الخفيفة، أسألها عن حالتها النفسية، هل هي بخير، ماالذي يمكن أن أفعله لأجلها...
تلوذ بالصمت، أو تغير الموضوع بشكل مبهرج ومكشوف، فأخضع لقانون اللعبة... هي لعبة الرجل والمرأة بكل سخافتها، الكشف والإخفاء، الظهور والتجلي، وهنالك تنصرم أروع لحظات العمر، في منعطفات الصمت الغبي، في ذهول الكبرياء المعطوب والنفس المشوهة بمنعرجات الذات الأنانية ومشتقات الكبت الطفولي والحرمان الاجتماعي، تاريخ عطن من التخفي والستر، على أبوابه الموصدة بأقفال صدئة من الكرامة المغشوشة تتدلى مقصلة خرافية تقطع رأس الحب بين الرجل والمرأة هاهنا، في مدن الانحسار الحراري والشهوة البائدة، حيث إنسانية الإنسان حالة استحلام ملغومة بالفشل ، حيث يتقمص الكل شخصية إله جبار يمنع فقط متناسين أن اللحم و الدم عناصر فائرة و شهوية بالغريزة، كانت تختبئ وراء ذلك العطب في غالب الأحيان و تتركني للحيرة تغتال هدوئي..
في تلك الظهيرة كانت تبدو أكثر شرودا، طلبت مني كأسا فرفضت، دائما أمنعها من الشرب فلا تحتج، لا يجب أن تخالط ريقها بشيء آخر، لاشيء، وحده ريقها نهر الكوثر، والجنة فم غاصٌّ بأشجار المسك والعنبر، العنب المختمر لن يفعل شيئا سوى تعكير عطر الخزامى الذي ينبع من تبطين الشفتين، رمقتني بنظرة خاطفة، أحسست بحبل من الطاقة المكهربة يعتصرني، وخز خفيف في أطراف أصابعي يوشك أن يتحول إلى حالة عصبية من الألم والمخاض المخبوء...
شيء ما كان سينفجر في تلك الظهيرة، حدسي لا يخيبني أبدا، أشعر بأي شيء قبل حدوثه، لعنة من الله لأحد عباده الكافرين، كيما يعدبه قبل النازلة وحينها، قبل عام شعرت برحيل أخي فرحل، آنذاك ساورني شك عميق بأنها ستفجر شيئا ما، كم أكره المفاجآت، كنت أدرك أن الجنة ليست معطى أنطولوجيا، لذلك جهزت نفسي جسديا ونفسيا لتلك اللحظة، لن أخسر شيئا قلت مع نفسي، يكفي أنها بقيت بقربي كل هذا الوقت، لقد كان حلما ولكل حلم نهايته، كل الأحلام الموغلة في الطوباوية والترف تنتهي بحالة ضياع قاتل، تنتهي كابوسا صاخبا أو تكسرا موجعا على صخرة الواقع الصلدة...
تدخن بشراهة، اللفافة الثالثة على التوالي ويسبح الدخان على وجهها كتموجات المحيط الهادي، حتى الدخان لا يرغب في مفارقة خدها، يلاطفه برفق، يدور في مكانه كأنه يتمسح في بياض بشرتها الثلجي، هِبْتُ أن يعود عليها الحشيش بحالة عكسية عن تلك التي تبحث عنها فنزعت اللفافة منها برفق، أحيانا حين نوغل في النسيان من خلال النوم أو المخدر يحصل أن يستيقظ الوعي الشقي بدرجة أقصى وأقوى وفي لحظة خاطفة تعود كل الحواس إلى العمل متيقظة كحواس قطة ، فمن يوقف سرب الألم آنذاك؟
درءا للصمت الذي ما فتئ يتحول كابوسا يخيم على أجواء الغرفة السادنة في جنائزيتها، شغلت جهاز الراديو القديم، كان ملكا لجدي المُنقرض، جهاز من العصر الكولنيالي بعينين كبيرتين، لا يتعدى نطاق إراسله الإذاعة الوطنية الموبوءة، انبعث صوت هادئ ومشوش، عزف شرقي على العود، لكأنه عزف على أوتار صدرين مختلفين، كل منهما يحترق بحطب الصمت في هدوء الظهيرة القاتل..
لم تقل شيئا، طفقت تدندن لحنا ما كأنها لا تكترث، عذبا كأوجاع تلك الظهيرة المندثرة كان صوتها الرقيق المُندلق، شفتاها وهما تنفرجان عن الكلمات لاحتا كحقل من المانوليا تفوحان بعطر خارق لطبقات الشعور ، نحو عمق الأعماق، عطر داكن يفوح من جلدها، كلماتها، من صمتها، يصيبني ذيّاك الشّذى - دائما - بخدر لذيذ لا أريد منه صحوا، قليلا خيم جو الأصيل الغائم، ازورّت الشمس السّكرى درجات عن فتحة النافذة الصغيرة، انسلت خيوط حمراء هاربة نحو الأفق فزاد اللحن إيغالا في العتمة والغربة، كانت الأشياء داخل الغرفة غريبة عن بعضها البعض، اللحن وأستار النوافذ السيئة، الألوان الباهتة المنتحرة ونحن، كل شيء مشتت وفق زاوية نظر مجنونة... تصّاعدت من صدرها الرطب زفرة خفيفة تلاها صمت غريق كواد مهجور..شيئا فشيئا تنحنح حلقها عن نحيب ما انفك يتحول إلى نشيج حارق، تكللت تلك التقطعات شهقات صدرية حادة لم تفاجئني...كانت شمس الظهيرة تغادر فاسحة المجال لكآبة الأصيل كيما تخيم على الفضاء وتكتم أنفاسه، تبدت الغرفة الصغيرة كغرفة في مركب كبير يغرق، كأن الماء يغمر الغرفة فينعدم الأوكسجين، كنت مستسلما لحالة من النوم النصفي، لكن حواسي كانت متيقظة ترصد كل حركاتها ...
لم يكن بوسعي أن أظل محايدا أمام انهيار جارف على وشك الحدوث، حين ينهار ضوء الشمس أظل محايدا مع إحساس بسيط بالضيق، لكن الشمس تنهار كل يوم وتعود عند الفجر في زفاف جديد، لتبتسم في تحد وعنفوان، هي أخاف عليها ألا تشرق مرة أخرى، انكفأت إليها فطوقتها بذراعي، أخذت رأسها الصغير بين كفي الكبيرتين وقبلتها بهدوء كهنوتي، انسابت يدي إلى جفنها تمسح دموعا كريستالية خفيفة في طور الانهمار، عانقتها بقوة فتمسكت بذراعي كغريق يطلب النجدة، انغمر وجهها الصبي في صدري النحيل واهتصرت ذراعي بكل ما أوتيت من قوة، كانت ضعيفة جدا كأن صرح كبريائها انهار تماما، أحببتها في كل حالاتها دوما، في الضعف كما في القوة، في المرض أيضا، حين كانت تصاب بنزلة البرد فيسيل المخاط من أنفها كنت ألفها وأضمها مُبديا قرفا زائفا تقابله - معاندة - بمزيد من المخاط فنضحك، وأسرُّ بنوع من السادية أن جمالها يزداد توهجا في حالة الضعف، بل ازداد بهاء في لحظة انهيارها... أحست بكفي تحنو عليها كظل يقوم وينكسر، فارتخت في طمأنينة قلقة واحتدم البكاء، احتدت الشهقات أكثر فأكثر، كانت تنهار بين يدي على مهل مريب، تتفسخ كعجينة رخوة وطرية وأنا لا أملك سوى كفي تمسح على خدها وصدري أضمها إليه كيما تهدأ قليلا من صولة اللاوعي، تفغم أنفي رائحة الحليب الأمومي، من جلدها تنبعث رائحة رضيع لم يشتد صلبه بعد، فتنة طفولية حزينة يتعانق في أفقها المشرّد عطر النارنج برهج الحليب والشبق الأسطوري الذي يغلف الجنيات، " لوليتا" كنت أسميها، أناديها لوليتا الصغيرة، وكانت تضحك وتناديني بالعجوز،ناكرة تطرفي وانحرافي كما العجوز والطفلة في رواية فلاديمير نابوكوف...دام بكاؤها ردحا غير قليل من الزمن، لم أرغب في قول شيء، كنت أنتظر هذه اللحظة بحدس رجل حكيم، وراء تلك الغمزات الهائجة والسلوكات الصبيانية الطائشة كانت هناك دُمّالة ممتلئة قيحا، لابدّ أن تُفقأ يوما بإبرة تأتي كما اتفق، وراء التنطعات الثائرة والكلام الكبير الذي طالما أثار سخريتي كانت هناك طفلة كئيبة تختبئ تحت الجلد المحبب، في الذاكرة... وكنت أحسب لتلك اللحظة ألف حساب، الأطفال يلعبون كثيرا ويضحكون ثم يبكون، هكذا هي القاعدة الأسطورية مع المرأة، كنت إذا ما رأيتها تبالغ في المقالب الشيطانية والضحكات المندلقة أتوجس من حالة شجن ذريع تتبعها، فلا أقول شيئا ، أشاركها في كل جنونها المنطلق، أكتفي بتتبعها، أرخي الحبل كثيرا كيما تشعر بحريتها التامة وهي معي، كانت بوصلتي السرية التي تقودني للمتعة واللذة المجهولة، غير أن ذلك لا يمنع أني كنت أتوجس، وفي تلك اللحظة صدقت كل توجساتي ومخاوفي، هناك فعلا شيء يرابض وراء ذلك الثغر الأفروديتي الصغير، وراء تلك النظرات العسلية الحالمة جثة حزن نتنة لم تدفن بعد. فلا بد من مراسيم دفن لائقة ولو جاءت متأخرة لا يهم، ولو دفعت أنا تكاليفها لا يضيرني ذلك في شيء، الناس دائما مجروحون كنت أقول..، هناك شيء يخرج عن إرادة البشر حين يعتقدون أنهم يسيطرون على حياتهم بمنتهى الوعي والحكمة، يظلون يكابرون الجرح في اللحظة التي يستفحل فيها الداء، كأنهم يخدعون أنفسهم في منتهى السذاجة و العناد، ينتشر الورم الأليم على مدى منطقة القلب ويسري مع الأوردة والشرايين إلى باقي الجسد حتى يصعد مع عروق الرأس، ثم يأتي وقت ليس ككل الأوقات، تنحسر فيه طاقة التحمل، فيضج النداء الرخو من الداخل كزغرودة حرب تشق جدران الصمود والمكابرة، من أعماق الأعماق يأتي صوت عزازيلي خبيث وصادم، مناديا أن آنت ساعة الانفجار العظيم، إن الإنسان لفي خسر، إنها طبيعة النفس العنيدة، لكل منزل سقف، لكل تحمل حد، لكل بحر شاطئ، لكل صبر نهاية، النفس الآدمية أشبه ما تكون بقنينة ضغط، كلما ازداد الضغط كانت احتمالات الانفجار أشد شراسة وأكثر إرهابا وخسائرها أفدح....
لابد أنه حزن غارق هذا الذي أحرق مقلتيها المغمضتين، موغل في المفاصل والأعصاب والنسيج الجلدي، كانت تنشب أظفارها في ذراعي الهزيل وتعوي كذئبة ثكلى غصبها صياد شرير في جرائها الفتية، تقمش ثوبي بعنف وتتوعك كمن خرقت رصاصة طائشة رسغها ومفاصل اليد, كأن تمزقا حادا في غشاء المشيمة أصابها برعشة الألم التي طفت إلى نهايات الأعصاب، تلوي يديها بين فخديها وتعتصر العينين دما يحرق قلبي ويهدم قلعة الهلوسة التي بنتها اللفافات، انفلتت الكلمات من فمي كأشياء رخوة لا ترسو على مرسى، لم أعرف ماالذي يمكن أن أقوله في لحظة مشابهة، هلوستُ كأي ربان فقط بوصلته في عرض المحيط آنَ انخرقت أشرعة السفين في لجة العاصفة...
تركتها تبكي بين يدي بكل عنف، شعرت بأنها ربما كانت محتاجة لهذا الدوي الصارخ، لربما كانت في حاجة إلى دموع المآقي كيما تطهر جرحا لم ينفع معه التعقيم الصناعي ولفافات إف 16 كما راق لها أن تسميها ذات أمسية رائقة. لمدة طويلة توجست من الوقوع في حالة مماثلة، داخل كل مخلوق دكر نقط حمراء لا يرغب في أن يمسها شيء، ليست خصوصيات على كل حال، كل الرجال لا يتوفرون على خصوصيات، إنها – ربما – نقط شعورية حساسة للجنس الآخر وللأطفال، فيها اجتمعت الطفولة الطائشة والأنوثة الهادئة، وقوة مزيفة تخفي رقة موغلة وعميقة جدا...كانت آنذاك توقظ في داخلي ذيّاك الخوف الموروث عن سلالة الضفادع واللفياتانات الجبلية، و كنت خائفا قليلا، بل كثيرا، خائف عليها من كسر عنيف قد لا يجبره حتى الزمن، شرخ قد يمزق أربطة القدم ويدميها والمسير لازال طويلا إلى حفرة وشبر...
لمدة ليست بالقصيرة ظلت تقطع أنفاسها كشيء يوشك على الانتهاء، كانت صولة الغضب والبكاء تخفت رويدا رويدا، أبقيت ذراعي مكانها تحت رأسها أسنده بلطف، ساد صمت قصير خرقته حشرجة صغيرة من حلقها إيذانا بنهاية فصل الانهيار، ما كان مني إلا أن اقتربت أكثر، التحمت بها وكفكفت ما تبقى من دمعات مثناثرة فوق الخد اللازوردي، كم أكره الصيف وكم أكره البكاء، على الأقل في الشتاء تتجمد المحاجر فنبكي داخليا كالمدخنات القديمة، نبكي دون أن نشعل المآقي بنيران تحرق الآخرين بالشرر المتطاير...
قلت فتنة حتى وهي تبكي، رونق خاص في بريق عينين سوداوتين ، كنا دائما نأخذ وقتا كافيا للتفكير قبل ارتكاب أي قول، أي شيء، ذات مرة أخبرتها عن الكذب، شيئ قاله دي مونتيني، فأجابت أن الكذب يأتي من السرعة والرغبة في الكلام، بل ينتج عن إحساس غريزي بالسيطرة على كل شيء واحتواء العالم داخل الجمجمة، قالت أيضا أن الكذب من أعراض المعرفة، هو حالة معرفية مزيفة فيها الكثير من الإبداع والخيال، لكنه – كما الحشيش – يثقب الرئة، لذلك يكذب الرجال لأنهم يريدون ذلك.
+ ماذا يريدون؟ قلت باهتمام
ردت ببذاءة:
+ أن يثقبوا كل شيء.
قالت ذلك ساعتها و انفجرنا ضاحكين. ببساطتها الطفولية اندلقت:
+الكذب بين اثنين ناتج عن الخوف وانعدام الراحة النفسية. حين ينكسر ذلك الجدار الخفي بين اثنين يكون العالم مكشوفا بكل ألوانه البهيجة، غير ذلك فالنفاق حالة تزكم أنفي وأنا أحب الألوان.
وكنا مرتاحين، حتى بعد المد الجارف من الأنين والتفجع كنت مرتخيا وهادئا كأي عاشق من العصر الكلاسيكي، هي أيضا لا تشعر بأي حرج أمامي مهما حصل، لذلك أخذنا وقتا طويلا قبل النبس بأي حرف، انتظرت طويلا أن تجيب عن سؤال لا داعي لأطرحه، لكنها ظلت صامدة أمام الصمت، في امتداد تلك اللحظات الرائعة كنت أشعر بحالة ضيق أرغب في أن تطول، لم يكن لدي شوق حقيقي لأعرف مكمن التوعك، لم تكن جغرافية الكسر لتهمني و لو أني كنت أشاطرها التوجع، كنت أرغب في أن أنظرها وهي تبكي دون توقف، منحرف كما تقول دائما، لكنها أكثر مما مرة قالت لي أنها تحب البكاء حتى بدون سبب..
هدأت تماما، كبركان هائج يخمد، لكن في لكنتها بقيت شظايا حادة من الانكسار الذي حدث لتوه:
+ لم تسألني لما بكيت.
+ ليس مهما، إن أردت ألا تقولي شيئا لا بأس، كنت جميلة أكثر من العادة وأنت تصرخين في صدري وتقمشينني كقطة غاضبة.
+ أنت منحرف..
أدرت اللفافة بين يدي ونفثت الدخان نحو السقف:
+ أنا أحبك وهذا يشفع لي أن أكون منحرفا قدر ما أشاء ويشفع لك أن تبكي متى شئت، حتى بدون سبب.
عند ذلك المستوى من البساطة والمباشرة في كل شيء، غمغمَتْ :
+ هناك جرح داغل في أحشائي، لا أريدك أن تحزن أكثر من حزنك الدائم، تكفيك انكاساراتك...
+ تكلمي فقط، انتظرتك طويلا مثل راهب يرقب ساعة الحقيقة، الحزن شيء من النطفة فينا، عطب الوراثة لا يتغير أبدا، دائما هناك شيء ما يشعل فتيل المواجع غيلة، تحدثي يا وجعي، سقطت فيك فلا مفر..
استمرت أصوات الراديو في إزعاجنا، تمططت فوق صدري كيما تصل إلى الزر فتغلقه، أطفأته لكني ضبطتها متلبسة بين يدي، من خاصرتها الجريحة ضغطتها التصقت بصدري بجسدي كاملا فارتعشت كسمكة طرية، أسهبتُ في عينيها الناعستين بالدموع، بدتا غير سوداوتين، في عمقهما وعن قرب تبدوان لوزيتين أو بُنيتين، مائلتين إلى لون العسل الحر الداكن، توقف جسدها الصغير عن الحركة وانطلقت الرعشة تحرثه دون توقف، لم أكن أشاء إخافتها، لكنها ارتعبت كثيرا وأرادت الانفلات بعيدا، حاصرتها بقليل من الخشونة، يجب أن تقول، كان صبري قد نفذ، وهربت مني اللغة، شيء غائر صحا فيّ كوحش يستيقظ تلو سبات شتوي، شعرت بتغير مفاجئ وسريع، كأن الغضب يصعد إلى رأسي عبر الأعصاب مهرولا، قبل ألف عام كانت الأخرى تتألم ولا تقول، كان الوحش يكسر عنقها يوميا ويضربها، أعود فلا تقول لي شيئا، صمدت كل تلك الفترة حتى خارت قواها، حتى انهد حيلها وتهاوى الجسد على الدرج، انشرخ جبينها وسال الدم، في استدارة ظهرها الطيب، كشف الطبيب الشرعي آثارا للضرب، كان ظهرها مُزوّقا بحزام سرواله، زرقة كالسماء الغائمة ظهرت حين تكتل الدم كُريات تحت الجلد، وكانت صامتة لا تقول شيئا، أعود مساء ألاعب طفلتهما وأحملها على ظهري، أخرج إلى المقهى وهي صامتة لا تطلب شيئا، تموت ببطء و لا تطلب النجدة، أسألها عن غمامة صغيرة تحلق فوق حاجبيها فتقول:
+ لا شيء على الإطلاق لا شيء مهم لا تشغل بالك بي وبه.،عد باكرا من أجل العشاء...
ذات مرة عدت غيلة فوجدتها تبكي، كان قليل من الدم عند مفترق شفتيها، حاصرتها بالأسئلة فردت هو مجرد ألم الأضراس، حين لم أقتنع قالت أنها صدمت وجهها بباب المطبخ...كنت أشك في أنه يؤلمها لكنها غطّت على كل شيء حتى سال الدم الزكي على حافة جبهتها وغادرت البيت تاركة الطفلة وحيدة، تركتْها مع أخي المتوحش، الوحش الذي يسري في عروقه دمي...في ذلك المساء، أحسست بشلل وراثي يسرح في أطراف جسدي، منذ جاؤوا إلى هذه الخربة نشروا الحزن بين الناس، أنا من سُلالة شرقية ملعونة، ضاربة جذورها في تقاليد الشنق والمجازر الفردية والجماعية ، سُلالة جرباء تاهت حتى استقرت في أقصى القارة الإفريقية، سلالة منسية غارقة في طقوس الذبح، تاريخها ملفع بالدم والثأر والخراب ، شربت قنينتين رخيصتين في الخلاء وعدت آنذاك أفور دما وكراهية، لعنت ربّه وربّ العرق الذي انحدرت أنا وهو منه، لعنت المشيمة التي جمعتنا، البطن التي أنجبتنا والتي مررنا فيها معا، شحذت مُديتي الكبيرة، أشبعته ركلا وبصقا على وجهه، ضربتين في مركز البطن حتى خرج الدم من فمه مُتجلطا، مرغته في الأرض و رفسته كما كلب مسعور، وقد كنا كلابا، كل سلالتنا كلاب، جدنا الأكبر اسمه كلاب و حفيده كلبي ابن كلاب، ما نكون نحن أيضا غير كلاب؟ ، جئته من الخلف وأخذت رأسه بين يدي بعد أن جعلته يجثو على ركبتيه، وضعت الشفرة على حنجرته، من بعيد كانت الطفلة الصغيرة تنظر بعينين مرعوبتين..رغبت في غرز حواف المدية الحادة في عصب الحنجرة حتى يتخثر الدم على شفتيه، حتى يتراشق الدم كنافورة من جرح فادح عريض، لكنها كانت هناك بعينين خائفتين كفأرة صغيرة، بكت الطفلة فرميت السكينة وخرجت، لم أعد إلى عش الخراب من يومها، مسحت من رأسي تلك الخارطة، قلعت الفضاءات التي وطئوها والأزمنة التي عاشوها من بُكرة الرأس حتى أخمص القدمين، وأصبحت حرا برغم الجرح الدائم، أصبحت هائما دون قيود وفي طي ضلوعي شيء من الألم الأزلي...
في ذلك الأصيل الفاجع، كانت فوق صدري ترتعش، ذكرتني بالطفلة الصغيرة والعينين الفارتين من الأحداق ذعرا، لملمتها كقطة صغيرة في حضني، تزاوج في سديم الرؤية منظر الطفلة الصغيرة التي أردتها ابنتي بالمرأة الجريحة التي أحبها، في غمرة الغضب والدخان الذي يتصاعد من حرائق الجوف حضنتها وخففت من نبرتي، ترفقت :
+ يجب أن تقولي لي أين منبع الألم، أرجوك قولي، لن أقبل بالصمت مرة أخرى يكفي ما حصل هناك، لن أسامح نفسي هذه المرة، قد أموت أيضا...
فجعتني بنظرة حانية ، ذكرتني بنظرة الزوجة الصالحة التي ضيعها الكلب، كنت ضعيفا ومذلولا حينها، لم يبق في وجهي ذرة كبرياء، كنت على وشك أن أركع عند قدميها، أقبلهما وأقول لها أنها ربّتي ومحبوبتي وأني سأنتحر إذا حصل لها مكروه، توطد مفعول المخدر في رأسي، تفاعل النبيذ مع الحشيش فصارا محلولا كيميائيا يحفزني على صبّ كل ما في الجوف من تراكمات الفجيعة، فتحررت من عقال الرجولة المزيفة، كنت ذليلا وعاريا من أي سلاح أمام حبي الجارف لها، استسلام أبيض لفّني أمامها خوفا من الضياع، لم يكن صدري قادرا على تحمل شيء آخر، رجة واحد وتنهدُّ أركان النفس، رجة واحدة ويتهاوى الهرم المبني من رغوة الماء، ويغرق المركب حتى القعر بكل شيء يغرق، يجب أن تقول، كنت مستعدا لفعل أي شيء، لو أن أحدا يضربها كنت سأقلع عينيه وأعلقهما قلادة على عنقي، لو أن أهلها يضربونها كنت سأحرق البيت بهم وآخذها حيث أرادت، أخدمها وأعشقها وأحافظ عليها كبلورة رقيقة...لو أنها تشكو من وجع كنت أقلع أعضاء جسدي وأعطيها إياها، لو لم تعد تحبني سأبتعد حاملا جرحي إلى الأبد، لكنها عادت تبكي ونظرت إلي بعمق طفلة مكلومة، حضنت رأسي بين يديها فكدت أنزوي كطفل شريد، كطفل ينزوي في حِجْر أم رؤوم بعد سنيّ من التشرد والضياع، لم يكن لي من زاوية خاصة في الوجود بعد حضن أم غادرت قبل الإزهار الأول في غصن الطفولة المشروخ، هناك أحسست بولادة زاوية مظلمة، في ركن ذراعيها الضعيفتين غمست وجهي ...
+ مات أبي. قالتها بصوت غوري آت من جرف سحيق، شبيه بمنجم نحاس قديم.
عادت إلى ذهني دهشة الطفولة والموت، النعش الأبيض، ماء الزهر والمحمل الخشبي القديم، كنت هناك صغيرا، على يديه كان يحملني، وذات يوم حملته في الطريق إلى المقبرة البيضاء، كنت أردد العبارة الثكلى مع جُماع الناس وعلى خدي يجري شيء ساخن لا يشبه الدموع إلا في لونه، كنت أبكي ماء القلب، لربما القطرات الأخيرة حتى، الجموع ينشدون اسم الرب كحشد صوفي مستسلم للقدر وأنا أرقص على مدية الألم تثخنني موتا وتفتح في عمقي سراديب من الوجع والشيزوفرينيا المبكرة...
مات أبي قالت، رُشم في عينيها خوف أزلي لم يعرفه التاريخ إلا مرتين، حين سقطا حواء و آدم إلى الأرض وحين نظرت إلى عيني وقالت : مات أبي.
تمددت على ظهري في استسلام مصارع خائر القوى، كان الزمن ثورا هائجا لا قدرة لي على صرعه، أثخن صدري بقرونه الحادة ورفس كبريائي بقدميه، ثم مرغني أمام الجمهور في حلبة الحياة، كنت ساعتها أغوص في سائل لزج أحمر، تفوح منه رائحة الكبريت والغضب، في حالة لاوعي خارجة عن إرادة الفرد وإرادة التاريخ العفن لعنت الأرض الخانزة والناس الموتى، الجيف المتحللة وهي سائرة تضحك في الطرقات والمقاهي وتقرأ الجرائد، لعنت التاريخ والرّب، لعنت الصدفة والطفولة، لعنت نفسي والمضغة الفاسدة التي تبرعمت في مشيمة الأمومة، كنت أجلد كل شيء، كل الناس، كل الأفكار على مقصلة اللغة، وحدها الشتائم تحررت من عقال السجن، كانت ضلوعي أشبه ما تكون بقضبان حديدية لزنزانة فردية، كانت تتكسر فيتحرر قلبي منها ومن قيود كل شيء، غرست رأسها فيّ وانكمشت ، كنت لا أزال أهذي بكلام لم يعد له أي معنى، أوزع السباب يمنة ويسرة على لا أحد وعلى الجميع...
حين هدأت ناولتها لفافة ثقيلة، حشوت فيها كل ما تبقى في الرزمة البلاستيكية الصغيرة وقلت:
+ تتزوجينني؟.
رمقتني بعينين ساهمتين في شيء آخر غير ما نحن فيه، مضغت ريقها وأخذت تلوكه بتوأدة، اقتربت أكثر وأكثر ففاح مسك الليل من ثغرها الوضّاح، جاورت أرنبة أنفي بأنفها المكور الصغير ورشقتني بنظرة قريبة جدا، رهيبة هي حين تقترب بكل سلطوية وقوة، مدّت يديها إلى صدري، بين الأصداف المتباعدة انغرزت أصابع رقيقة كأعواد البان الندية، انغمرتُ في لحظة بارقة لا أذكر منها غير شذرات ضبابية لا تستطيع اللغة العاجزة اصطيادها، لفت مؤخرة رأسي بيديها الرطبتين، اقتربت أكثر وأكثر، بيننا امتد جسر من الحرارة المحرقة، أحسست بنهايات الأعصاب تحترق في سكينة غريبة ولا ألم، هشيما صارت الموجودات، المحسوسات والمُدركات، إلا نشوة عارمة تشبه نشوة الخلق الأولى، كانت الغرفة تتحول حولنا إلى سديم أبيض بلا ملامح، يغرد الكناري الأخضر فوق شق النافذة الصغيرة، ويأتي من الخارج نسيم عليل يداعب خصلات شعرها القصيرة، احتكت بصدري وباقي جسدي، تضج شهوة ونداء، ارتجعت كل الأحزان غريزة متوحشة غير محدودة، نسيت أن أقول أن الأحزان أيضا حين تكسر حاجز الصبر البشري تتحول إلى حالة نشوة قُصوى، إما نشوة مرضية مازوشية أو حالة تجاوز واع نحو ما هو أكثر عمقا من الحزن..نحو الغُلمة القاتلة التي تجذب الأجساد كما يجذب ضوء المصباح الفراشات الليلية وهي تعرف أنها ستحترق فيه...
مزقت الثوب الشفاف على صدرها، كان حزني عميقا لدرجة قاسية تحول إلى حب غير معقول، نفضت عن صدرها كل شيء ليبقى كما هو نبعا رخاميا صافيا كالماء في بساطته وطهارته، إلى أسفل قليلا تحررنا من عطب الحشمة، من أسمال الكذب والزور والتربية الداجنة، صرنا شبيهين في الريح، صِنوين في الجرح، قلبها يخفق بسرعة كأن الأب مات لتوه، أحسست بكل ضربة على حدة، دك دك دك، كان قلبها يخفق بتسارع راقصة تقدم عرضا على الحلبة، كنت شبيها بأبيها يومذاك، سلطة المنع خوفا من التاريخ والشرف وسلطة العطاء غرقا في خطيئة الحب والاحتراق، تذكرت فرويد فيما بعد، تذكرت زوجة أخي التي أحببتها فيما مضى فقتلها اللعين، غير ذلك لم يسعفنا الوقت لنتذكر أحدا أو شيئا، عانقتها بكلتا يدي، أرخيت شفتي راكضة كالخيل على مضمار جيدها البض الحساس، من مفترق العنق إلى شحمة الأذنين الصغيرتين مرت الشفاه وخلفها خيط من البنزين والنيران المشتعلة، انسابت يدي إلى ردفيها الإسفنجيين المستديرين ، امتطيت الفرس الجموح، عاندت، تمنعت، حاولت رفسي، ثم عانقتني بكل قوة وأرخت عينيها في السقف متأوهة من الغلمة والشبق، ولجتها كذلك الحزن الذي عشش في المبيض، انداحت كفّاها في الهواء، تشبتت بساعدي بقوة وأنّت ذلك الأنين الذي منعت نفسها منه إبّان النعي، إبّان مراسيم الجنازة المُفجعة، تذكرت زوجة أخي، امرأة غامضة وجميلة، صبورة ورؤوم كأمي، هنا الآن تحتي طفلة يفيض الحليب من جلدها، أمتص شفتيها بنهم وجوع، نحن جوعى وكل فتيات العالم لا تكفين حيوانا جائعا، لكني أحبّها حُبّا أسطوريا لم تتحدث عنه الكتب، أفترشها بعنف وحب، تهمس بكلام غريب، يزداد شوقي إلى الغوص كلما لامست قعر بطنها، هناك الكنز الأبدي، تترنح كطلقات نارية طائشة، تخمش يدي دما وجروحا، تبكي و تئن فألغم ثغرها المعسول، أتسكع في صدرها المنبثق كشاهد قبر أبيض، فيه الموت، فيه الحياة، هنا أصل الحضارة، منبع الموت، إن مات أبوك هنا فسأحيى أنا على البقايا، سأقتات من نهديك عيشي وأشرب من شهد الشفتين حين يغدرني العطش، من هنا فقط معمودية البشر، كل الحضارات أتت منك فما حاجتك لأب أو أم، طوقتها، حاصرتها فوق سجادة الصلاة القديمة، رتّلنا ما تيسر من قرآن العشق الطّاهر، ركعنا ثم سجدنا ثم ركعنا ثم دعونا الله أن يحترق ويتركنا في حلولنا المجنون، تراءت لنا أشياء يعجز الحزن عن توضيحها، تعجز التراجيديا الغبية عن فك شفراتها المعقدة، قبلها كنت أستمع إلى راكمانينوف وأشرد في طقوس الحزن باحثا عن الحقيقة، هذه الطفلة الشريدة الحزينة تملك الحقيقة، أقولها وأتحمل مسؤوليتي أمام التاريخ والمؤرخين، كنت أستمع بعمق تراجيدي إلى فيروزيات التمزق والوجع، ساعتها كنت أستمع إلى ما هو أعمق من موسيقى الآلات، هناك تلاقي الأفخاذ والصدرين الشريفين، سمفونية طبيعية تفيض عمقا و جمالا وطهارة نقية، تأوهاتها المرهفة كترنيمة دينية من الإنجيل الذي لم يكتشفه البشر بعد، حُبٌّ مُلفّعٌ بالحزن و الإيمان والنشوة الغريبة، في لحظة الموت تنزع المرأة في هذه البقعة من الأرض إلى تعقيم جسدها ضد كل الرجال، تخصي المبيض، أو تخضع لختان البظر، تقتل نفسها حية، أما نحن فحاربنا ذلك التاريخ في الأيام الموالية للموت، صيّرنا طقوس الموت طقوس حب مع كل ألم وحزن يليقان بأبيها الممجّد، كان حُبّا حزينا كذلك المساء الغريب، الأصيل يرحل أيضا كما يرحل الحزن، بعد ركض طويل خلف وهم قبضنا على بعضه فقط، نزلنا إلى الأرض، قررنا النزول إلى عالم الناس تواضعا منّا، كانت تبكي و تضحك "لا حزنا و لا فرحا" وكنت أنا أتطلع في عينيها المُفعمتين بالحياة متبتلا كراهب يؤذي صلواته في محراب الله.




#محمد_البوعيادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الّليْلُ و الكَأْسُ
- شفرة قديمة
- شهقة جسد
- جمرتانِ
- زرهون يا معشوقتي
- خريف الجسد


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد البوعيادي - رَشْمٌ خائِف