أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - ثمة اسرار















المزيد.....

ثمة اسرار


سميرة المانع

الحوار المتمدن-العدد: 3771 - 2012 / 6 / 27 - 00:00
المحور: الادب والفن
    


نخستها اللمسة كأنها اصطدام ، بينما هي غارقة في تأملاتها بالحافلة. التفتت للخلف مذعورة ، لليد التي هزتها غفلة، اخرجتها من عالمها الخاص لتلقيها في العراء. الحافلة مكتظة تدب في الطريق ببطء واقفة بين حين وآخر لتلفظ النازلين مستوعبة الصاعدين. تتهدهد في حركتها كالمهد. سمعت المرأة المتحرشة بها خلفها تهمس بأذنها بسؤال غريب لا يخلو من خبث وعبث :
- عجبا، عندما نموت هل سنحظى بربع ما حظي به هذا التمثال!؟
استدارتْ نحوها، لترى امرأة متقدمة بالعمر. لم ترها حين صعدت الحافلة، مثلما لم تتطلع إلى أي من الجالسين أو الواقفين. كان انتظار الحافلة مملاً لم يترك لها عاطفة أو فضولا تجاههم عندما وصلتْ أخيرا سوى أن تتجنب الارتطام بهم . وجودهم البشري، آنذاك، لااهمية له إلا بقدر ما يبعدون عنها في المسافة التي احتلتها اجسادهم. فجأة احست أنها تجلس مع بشر وليسوا دمى متحركة . ازداد اهتمامها بالمتكلمة، فاحصة اياها باستطلاع يلوي الرقبة. تضع نظارات طبية سميكة، تبتسم بشحوب، منتظرة استجابتها. لم يخب ظنها طويلا، ردتْ الفتاة مجاراة لها بلطف، لولا أنها لم تزد كثيرا سوى بكلمة ساخرة لها دلالات كبيرة :
- ربما .
ظلت المرأتان تتأملان التمثال النصفي القابع في زاوية الشارع، قبل أن يُسمع محرك الحافلة متحركة مرة اخرى من محطة وقوف الباص، بـ دروم، درووم .. فيتوارى التمثال كلية. كان التمثال محاطا باكاليل زهور ملونة، وعلى مقربة منه اصص وباقات ورد متفرقة، على عادة التبجيل والأكرام للموتى من العظماء. التفتت الفتاة إلى المتكلمة خلفها كرة أخرى ، معوضة عن قصر ردها السابق باستفهام حقيقي، بعد أن استمرت الحافلة في السير:
- تمثال مَن هذا يا تُرى؟!
- ألا تعرفين ! ؟ إنه جون كنيدي.
- غريب، لم يثر فضولي من قبل كأي منظر متكرر، أمرّ عليه كل يوم تقريبا!
التمثال نصفي للرئيس السابق للولايات المتحدة الذي أغتيل، محتل مكانه الآن في ناصية شارع (يوستن) بمنتصف لندن، تاركا المرأة الخلفية في الحافلة مصرة على خوض الحديث حوله، منتقدة بعض التصرفات المتعلقة بزوجته، ممتعضة من سلوكها وكأن الموضوع شأن من شؤونها:
- لماذا تزوجت امرأته بعد موته بقليل؟ أيّ نوع من النساء هي! لماذا؟
صارت الحافلة ، للحظة، كورة دبابير، التدخل الشخصي بأمور الآخرين على وشك اللدغ . تُقتحم عزلة المشهورين، تفضح اسرارهم ، تنشر غسيلهم، تسلية لها:
- هل قرأتِ ما كُتب عنها مؤخرا؟ جاكلين!
لفظت الاسم الآخير باستخفاف واستهجان، امعانا في الاعتيادية، كقريبة لها أو كبيت جيران ملّت من زيارتهم وضوضائهم ، مستمرة بالحديث:
- موجودة في الصحف، دائما!
اظهرت بوضوح تحاملها. الناس المجهولون في الحافلة يُستعاض عنهم بمعرفة شخصيات عالمية مشهورة. تُقتحم عزلتهم المسيجة بالجاه والحراس. يُصبحون مخلوقات ضعفاء عراة، منزوعة عنهم اوراق التين.
- أقرأتِ ما نشرته ( الاوبزرفر) عنها مؤخرا ؟ في الصحيفة حلقات مسلسلة عنها، والآن أخرج فيلم عن حياتها. بربك، ماذا فعلت هذه المخلوقة لتنال كل هذا المجد؟ هل انشأتْ يوما مستشفى؟ هل تبنت ايتاما ؟ يا لهؤلاء الصحفيين، يصيبونك بالغثيان.
- هذا صحيح، أنا معك.
- عندما توفيت المغنية الاوبرالية اليونانية ( ماريا كلاس) كانت الصحيفة تؤبنها بمقطع واحد صغير، بينما كانت تنشر، في نفس الوقت، مقالا نُشِر على صفحة كاملة حول ( جاكلين ) مع صورها الملونة، لماذا ؟! أين العدل؟ الاخيرة استولت على قلب حبيب ( ماريا) المليونير اليوناني ( اوناسيس)، ثم، بعدئذ، تزوجها . تصوري. بينما كانت (ماريا) تعمل شيئا مفيدا مسليا للناس. إنها مغنية، تقدم شيئا نافعا ، جديرا بالاحترام. لم أصبرْ، آنذاك، كتبت رسالة احتجاج لـصحيفة (الاوبزرفر)، لكنهم رفضوا نشرها .
استمرت المراة في الخلف تتحدث والفتاة الجالسة في المقعد أمامها مشنفة، مصغية. تسمع لومها وعتابها. الحافلة تهنجل بـ دروم .. درووم في المحطات التي بدت لا نهاية لها. هناك وقت كافٍ للاستماع لاقوالها. إنها الآن بصدد فضائح آخرين، قرأتها بالصحف والمجلات منكوشة على الملأ. تجعل المرء آمنا مطمئنا على نفسه ببيته، متفرجا مستأنسا عند قراءتها. الملكة اليزابيث غاضبة على كنتها ( ديانا) ، وليّ العهد ( شارل) لديه عشيقة، الاميرة ( آن) تر يد أن تُطلق زوحها. شؤون وفضائح الشخصيات العالمية بوسائل الاعلام الحديثة تنشط خيال المرأة المجهولة الجالسة في الحافلة المتهادية في شوارع لندن منضبطة باشارات واصوات دروم.. درووم.
الرحلة من جنوب لندن إلى شمالها مستمرة، كشفت فيها الجالستان المتحدثتان عن اوراقهما الواضحة إلى حد ما. الفتاة من بلد عربي طالبة في الجامعة، أما الثانية ففرنسية الاصل، تدل على ذلك لهجتها، استوطنت لندن منذ اربعين سنة.
- وهل ستذهبين إلى فرنسا أخيرا؟ أقصد بعد طول العمر.
- لا مستحيل.
- هل لديك أقرباء هناك ؟
- لا ابداً ، لم تبق الحرب ولا الشيخوخة قريبا حياً لي.
- وتعيشين بمفردك هنا ؟
- نعم في منطقة ( ميدافيل) وحيدة. كنت أعمل سابقا فلم أشعر بالعزلة آنذاك. اشتغلت مترجمة في أحدى الدوائر. أعرف خمس لغات، لا جدوى منها الآن بعد ان اصيبت عيناي بالضعف. خمس لغات ولكن اين الشخص الذي تتكلمين معه بلندن ؟! الكلام يحتاج إلى اثنين !
تصلبت رقبة الفتاة الجالسة من كثرة الالتفات، عدلتْ رأسها للامام قليلا. الكل في الحافلة مشغول، منهمك بحاله. صعد صبيان يتصايحون بعد انصرافهم من مدرسة قريبة ، كثيرو الحركة واللغط. هجموا من باب الحافلة وكأن راعيا خلفهم يسوقهم بعصا. أجلسهم الجابي أخيرا بنصيحة صامتة وقور، وبقيت اصواتهم مشّرعة مع ذلك، كل يريد زميله المفضل قربه ، ينادي بعضهم بعضا بهياج وحماس: أنا هنا، أين أنتَ الآن؟
المرأة الخلفية لم تفقد شهية الحديث بعدُ، قرعتْ ظهر الفتاة الشابة التي أمامها كرة أخرى، طالبة الاستئذان كمن يدق بابا : - إذا اردتِ ترجمة اتصلي بي.
كان هرج الصبيان أعلى من صوتها. احتاجت ان تذكر اسمها بصوت عال من دون تحفظ، ثم ذكرت عنوانها وهي تخرج بطاقة من حقيبتها الصغيرة مناولة أياها للتوضيح.
- اشتريت هذه الشقة القريبة من الحديقة الواسعة قبل عشرين سنة، فيها ما يسليني من ناحية المنظر، شكرا لله، ولكن أتعرفين ما قاله أحد الاشخاص اليوم؟ لقد سألني بينما كنت احدثه كما أحدثك الآن. أتدرين ماذا سأل؟!
- لا ماذا قال؟
- سألني، اللعنة عليه، كم ازداد سعر شقتي منذ شرائها حتى الآن. تصوري المنطق، ما أهمية ذلك؟!
- يقصد الاسعار في ازدياد.
- هذا أعرفه، لكن أن أفرح بازدياد سعرها شيء محزن لا افهمه. أتعرفين ماذا أخبرني؟
المراة الخلفية تتكلم معلقة الاسئلة في الهواء. علامات التعجب والاستنكار تتقاطع، رأس الفتاة يدور، صار مظلة حب استطلاع، ازدادتْ رقبتها التواء وظل الحوار متصلا:
- يقول أن لديه شقة في كاليفورنيا ازداد سعرها عشرة اضعاف، يسأل عن شقتي ألم يزد سعرها عن الستة الآف جنيه التي اشتريتها بها، يا الهي ، لماذا يفرح بزيادة الاسعار! ألا يعرف، هذا الابله، أن كل هذا من جيوبنا. هذا التضخم لا يفرح انسانا.
تريثت الحافلة واقفة كرة أخرى، فصمتتا. وجدتا نفسيهما يراقبان منظر المتزاحمين عليها. أغلبهم نساء قادمات من السوق، يحملن أكياسا وعيونهن مبحلقة يتلمسن مكانا للجلوس، ينظرن للمقعد الفارغ بشهية اطفال للحلوى:
- الغريب أن معظم النساء محملات بالاكياس عند رجوعهن إلى بيوتهن ليطعمن من حولهن ! قليل ما يفعل الرجال ذلك، انظري.
لم تترك المرأة الخلفية فرصة تفكير للفتاة، جرتها إليها كرة ثانية مستولية :
- على أية حال، ما ضرنا لو تحدثنا سوية، كما اتحدث معك الآن، لماذا نفرض العزلة علينا ؟ لنكن اصدقاء نتبادل الحديث معا. كل يوم لنا صديق، كل يوم. صديق يسألني عن المنظر الجميل الذي أراه من نافذة شقتي وليس عن زيادة سعرها الذي ازداد مؤخرا.
شعرت الفتاة أن المرأة تقترب من محطة نزولها، لهجتها وحركاتها أخذت صيغة الوداع:
- عرفتِ عنواني الآن زوريني إذا شئتِ، زوريني كي نشرب قدحا من القهوة.
- شكراً ، هل أنت وحيدة دائما ؟
- دائما، يكفي أن اخبرك أني أتحدث مع نفسي طيلة الوقت، هذا ما أفعله دائما.
بدأت تتحرك تتهيأ للمغادرة. طفر سؤال حائر على ذهن الفتاة الشابة. قفز كالقط الناعم يريد، بسرعة، الفرار من حضنها :
- ألم يدخل في حياتك أحد من الرجال؟!
ضحكتْ المرأة بغموض وخجل، نأتْ عنها فجأة، مسافة شاسعة تفصل بينهما. ضغطت للمرة الاخيرة على كتفها، راجية أن تكف عنها. لمستها مأوزمة غير مشجعة في الاستمرار، مشحونة بالتردد والاسرار. المرأة، الآن، تتحدث مع نفسها فقط. كفى، كفى، أنا ذاهبة للبيت. دروم، درووم.
+++++++++++++
لندن
بـ2012




#سميرة_المانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من مفكرة امرأة مغتربة
- أجوبة أسئلة تخطر بالبال
- مَن دفع للمزمرين
- خصائص رواية منفى
- هي بقيت علي ، يعني!
- التوحّش
- احتضان غير مرئي
- الطريق إلى دهوك
- هزّة ارضية
- إفرحْ يا قلبي
- درب الصدّ ما ردّ
- والنتيجة ؟!
- ربحتْ الجائزة
- وزّة في الخليج *
- القارات المنسية
- واخزياه


المزيد.....




- الرِحلَةُ الأخيرَة - الشاعر محسن مراد الحسناوي
- كتب الشاعر العراق الكبير - محسن مراد : الرِحلَةُ الأخيرَة
- 6 أفلام ممتعة لمشاهدة عائلية فى عيد الأضحى
- فنانة مصرية مشهورة تؤدي مناسك الحج على كرسي متحرك
- قصة الحملات البريطانية ضد القواسم في الخليج
- أفراح وأتراح رحلة الحج المصرية بالقرن الـ19 كما دونها الرحال ...
- بسام كوسا يبوح لـRT بما يحزنه في سوريا اليوم ويرد على من خون ...
- السعودية تعلن ترجمة خطبة عرفة لـ20 لغة عالمية والوصول لـ621 ...
- ما نصيب الإعلام الأمازيغي من دسترة اللغة الأمازيغية في المغر ...
- أمسية ثقافية عن العلاّمة حسين علي محفوظ


المزيد.....

- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - ثمة اسرار