أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الغني سلامه - مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2















المزيد.....

مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3737 - 2012 / 5 / 24 - 12:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


توطئة
خضعت جنوب إفريقيا لنظام فصل عنصري دام ثلاثة قرون، كان القرن الأخير منها الأشد وطأة والأكثر ظلما، عاش شعبها تلك الحقبة المظلمة في ظروف بائسة مجحفة، ربما كانت الأقل إنسانية على مدى التاريخ، وقد عانوا خلالها الذل والهوان كما لم يعاني شعب آخر. "روليهلاهلا"، واحد من أولئك الناس الذين عاشوا تلك المرحلة بكل تفاصيلها وقسوتها، رغم أنه من أصول ملكية إلا أنه كان طفلا فقيرا يذهب إلى مدرسته حافيا، وحينما منحته معلمته في الصف الأول الابتدائي اسما إنجليزيا يسهل لفظه (نيلسون) لم تكن تتوقع أنه سيصبح أشهر زعيم في العالم، بل أنه حين زُج به في السجن وحُكم عليه بالمؤبد – ورغم كل تفاؤله – لم يكن ليتوقع أنه سيخرج بعد ثلاثة عقود زعيما للقارة الإفريقية بأسرها، بل وأحد أهم رموز التحرر والنضال في القرن العشرين.

وفي تلك الليالي الحالكة التي قضاها في سجنه في جزيرة روبن، وحيدا في زنزانته بعيدا عن أعين الحراس، بدأ بكتابة مذكراته. وبعد أن أنجز جزءً كبيرا منها قسّمها إلى ثلاثة أجزاء وأخفاها على شكل لفافات في باحة السجن، تمهيدا لتهريبها للخارج، إلا أن إدارة السجن كشفت الجزء الأهم والأكبر من تلك المذكرات وصادرتها، فيما نجت اللفافات الأخرى وشقّت طريقها للخارج. وبعد خروجه من السجن أكمل كتابتها مستعينا برفاقه الذين عاشوا معه تلك السنين الطويلة بحلوها ومرها، حتى خرجت على شكل كتاب يحمل عنوان "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" في نحو 600 صفحة، وقد تُرجم إلى عشرات اللغات.

ما كتبه مانديلا لم يكن مجرد مذكرات شخصية لمناضل عاش ظروفا استثنائية وتغلب عليها وحسب، بل هو كتاب يؤرخ مسيرة شعب نال حريته بعد نضال مرير، وهو كتاب للحرية والنصر والمبادئ الأخلاقية، وهو لا يخص شعب جنوب إفريقيا وحدهم، بل لكل العالم؛ لأنه قصة كفاح إنساني تفيض بدروس التضحية والحكمة والنضج السياسي، وتُلهم كل مناضل من أجل الحرية والعدالة ورفع الظلم، وهي حكاية انتصار اللحم على السيف، وانبلاج النور من العتمة؛ لذا فإنها ستبعث الأمل في نفوس من تسرب اليأس إلى قلوبهم، وتؤكد على أن كل ليل مهما طال، حتماً سيتبعه فجر مشرق.

أثناء قراءتي "رحلتي الطويلة من أجل الحرية"، كنت ألاحظ أوجه التشابه في جوانب معينة بين نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا وبين الاحتلال الإسرائيلي، والتشابه الآخر بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وبين الحركة الوطنية الفلسطينية؛ فرغبت بدراسة التجربة الإفريقية مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات العديدة بين الحالتين، ليس لأن النزوع للحرية هو القاسم المشترك بين كل الشعوب الحية وحسب، بل لاعتقادي بأن حل القضية الفلسطينية لا بد وأن يستلهم الحل الذي انتهت إليه قضية جنوب أفريقيا، وأن يسترشد به، لأنه الحل الأكثر واقعية، وربما الأكثر إنسانية.

وأي قارئ لرحلة مانديلا الطويلة نحو الحرية، لا يملك إلا أن يُعجب بتواضع هذا القائد الأسطوري، وصِدقِهِ ونُبل أخلاقه، وثباته على مبادئه التي آمن بها، ونَذَر حياته لخدمتها، وأن يقف إجلالا واحتراما لهذا الزعيم الأممي الذي غير وجه التاريخ، وصار أباً للقارة الإفريقية .. إنه "نيلسون مانديلا".

مقدمة

تقع جمهورية جنوب إفريقيا في الطرف الجنوبي للقارة السمراء، يحدها محيطين وصحراء، مناخها معتدل وطبيعتها ساحرة، مساحتها 1.2 مليون كم2، تتوزع على تسعة أقاليم لكل إقليم منها سلطته التشريعية وحكومته ورئيس وزرائه، ولجنوب إفريقيا ثلاثة عواصم: "بريتوريا" العاصمة الإدارية، "كيب تاون" العاصمة التشريعية، "جوهانسبيرغ" العاصمة الاقتصادية. وهي من الدول الأفريقية النادرة التي لم تشهد أي انقلاب عسكري على الحكم؛ حيث تُجرى الانتخابات فيها بصورة منتظمة، لكن أهمها تلك التي جرت في ربيع 1994، والتي أنهت نظام الفصل العنصري؛ الأمر الذي جعلها أهم قوة مؤثرة في المنطقة، بل واحدة من أكثر الديمقراطيات استقراراً في القارة الأفريقية. اقتصادها هو الأكبر والأكثر تطورا بين كل الدول الأفريقية، ولديها بنية تحتية حديثة، ومفاعل نووي، وشبكة مواصلات واسعة، وأكبر وأهم مناجم الذهب والماس في العالم، إلى جانب اليورانيوم والثروات المعدنية الأخرى، كما يوجد فيها أكبر عدد سكان ذوي أصول أوروبية في أفريقيا، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج الهند، وأكبر مجتمع ملون من ذوي البشرة السمراء في أفريقيا، مما يجعلها من أكثر الدول تنوعاً في السكان في القارة الأفريقية.

يتكون شعب جنوب أفريقيا من عناصر عديدة، يشكل مجموع (الملونين الآسيويين, والهنود, والسود الأفارقة) الأغلبية الساحقة من السكان (85%)، فيما يشكل البيض الأقلية؛ وهؤلاء ينحدرون من أصول أوروبية، هاجروا إلى جنوب أفريقيا أثناء احتلال هذه المنطقة، وقد جاؤوا من هولندا وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، والبرتغال وشكّلوا من هذا الخليط قومية جديدة أطلقوا عليها مصطلح "الأفريكان"، وهم يتحدثون لغة مشتقة من الهولندية ممزوجة بكلمات ألمانية وإنجليزية تسمى اللغة الأفريكانية.

أما الإفريقيين سكان البلاد الأصليين (75% من السكان)، فهم مجموعات كبيرة من القبائل التي أتت من الشمال قبل نحو ألفي عام، ويدعون قبائل البانتو، أو "خوإي خوإي" لتمييزهم عن الأقوام الأولى (مجموعات الخويسان) وهم صيادون وجامعو ثمار استوطنوا البلاد قبل عشرات الآلاف من السنين. وقبائل البانتو - الذين مارسوا الزراعة والرعي - تتألف من مجموعتين رئيستين، الأولى مجموعة" نجوني"، والتي ينبثق عنها قبائل السوازي والكوسا، وشعب الزولو. والثانية مجموعة "تسونجا"، التي ينبثق عنها قبائل تسونجا، ورنجا وتسوا. وإلى جانب المجموعتين السابقتين هناك جماعات الفندا، والسوتو. أما العناصر الملونة فتشكَّلت من خليط نتج عن تزاوج بين "الهونتنوت" (وهم عنصر أفريقي) بالأوروبيين الأوائل، وخليط نتج عن تزاوج بين الآسيويين والأوروبيين. بينما تتكون العناصر الآسيوية من المهاجرين إلى جنوب أفريقيا الذين أتوا للعمل بالسخرة من المستعمرات البريطانية من ماليزيا والهند والباكستان؛ ولا عجب أن يحمل شعب جنوب إفريقيا المكون من هذا الخليط من الشعوب والثقافات لقب "أمة قوس قزح".

يبلغ عدد السكان قرابة 50 مليون نسمة ، 80 % منهم يعتنقون الدين المسيحي، وهناك مجموعات أخرى من الهندوس والمسلمين واليهود، كما توجد أقلية ليس لها أية معتقدات دينية. ونتيجة هذا التعدد والتنوع العرقي في السكان وتعدد لغات القبائل تبنت الدولة في دستور 1993 إحدى عشرة لغة رسمية، منها: الأفريكانية، الإنجليزية، الكوسا، الزولو.

عصر التفرقة العنصرية

عرفت البشرية على مدى تاريخها الطويل نماذج عديدة من الأنظمة الاستبدادية التي مارست فيها النخب الحاكمة أسوأ أشكال الظلم والفساد، وانتهاك آدمية الآخرين. لعل من بين أسوأ هذه النماذج ما عرفته جنوب إفريقيا في القرون الثلاث الأخيرة؛ وبالذات في عهد الحزب الوطني الذي بدأ قبيل منتصف القرن العشرين وامتد حتى شارف على نهايته؛ فطوال هذا العهد البائس كانت أغلبية السكان من السود الأفارقة والهنود والملونين يخضعون لنظام فصل عنصري لم يعرف التاريخ مثيلا لبشاعته؛ إذْ كانوا محرومين من كافة حقوقهم الطبيعية والمدنية، يعيشون كالعبيد، في ظروف تفتقر لأبسط الشروط الإنسانية.

ولعل أبلغ وصف لتلك المرحلة جاء على لسان الزعيم القبلي "جويي" حين كان يسرد على مسمع "مانديلا" عندما كان فتى يانعا حكاية إفريقيا، فقال: "كنا قبائل الكوسا والزولو والتيمبو والبوندو نعيش أخوة في سلام واستقرار، إلى أن أتى الرجل الأبيض من وراء البحار بأسلحة تلفظ النيران، فقضى على ألفتنا وشتّت شملنا، وفرّق بين قبائلنا". وفي حفل ختّان "مانديلا" مع فتية آخرين، أضاف الزعيم "ماليجغيلي" مخاطبا الجموع: "أنظروا إلى أبنائنا الجالسين أمامنا، إنهم شباب تبدو على وجوههم علامات الصحة والوسامة، إنهم زهرة القبيلة، ومحط فخر شعبنا العريق، لقد خُتنوا بالأمس، ليصبحوا كما نعدُهم رجالا، ولكنني أقف أمامكم اليوم لأقول إنه وعد كاذب خادع، لا يمكن أن يتحقق؛ لأننا نحن "الكوسا" وجميع الشعوب السوداء في جنوب أفريقيا شعوب مهزومة، إننا عبيد في وطننا، نقيم على ترابه ولا نملكه، لا قوة لنا ولا سلطان في أراضٍ وُلدنا عليها، ولا نتحكم بمصيرنا". وأضاف: "سيذهب هؤلاء الشبان إلى المدن ليعيشوا في الأكواخ الحقيرة، سيذهبون للعمل في مناجم الرجل الأبيض، ولن يرون الشمس أبدا، ولن يتنفسوا إلا الهواء الملوث، حتى تتقطّع رئاهم وتُنهك أجسادهم، كل هذا ليعيش الرجل الأبيض بنعيم ورخاء". وفي الختام قال بنبرة حزينة: "إن الهدايا التي قدمناها لهؤلاء الشبان اليوم لا تساوي شيئا، لأننا نعجز عن تقديم تلك الهدية الكبرى والأهم: الحرية والاستقلال. إني أعلم أن الإله "قاماتا" بصير بكل شيء، وأن عينيه لا تنام، غير أنه يساورني الشك أنه قد غلبه النعاس، وإني أرجو أن يعجّل الإله بموتي كي ألقاه وأوقظه من سباته، وأخبره أن أبناء شعبنا يحتضرون".

هكذا كان حال الإفريقيين لزمن طويل؛ حيث كان البوير يستولون على الأراضي ويضطهدون السكان، ولكن هذا الحال سيزداد بؤسا بعد تأسيس "اتحاد جنوب إفريقيا"؛ حيث أخذت جنوب إفريقيا تتبنى مجموعة من القوانين التي تنطوي على تفرقة عنصرية؛ ففي عام 1913 صدر قانون ملكية الأراضي وحيازتها، فخُصص للسود 7.3 % فقط من المساحة الكلية لجنوب أفريقيا كي يمتلكوها، دون أن يكون لهم الحق في امتلاك ولو شبر واحد من الأرض خارج هذه النسبة.

وفي عام 1925 جعلت حكومة الميثاق العنصرية اللغة "الأفريكانية" اللغة الرسمية بدلاً من الهولندية. وحصل رئيس الوزراء على الحكم الذاتي لجنوب إفريقيا، ثم الاستقلال التام عن بريطانيا عام 1931، وأصبحت جنوب إفريقيا عضواً في الكومنولث. وبدأ رئيس الوزراء بفرض قوانين أشد صرامة، لتحقيق المزيد من الفصل العنصري.

وفي العام 1948 تم انتخاب الحزب الوطني البويري للحكم (حزب البيض)؛ فأخذ بتطبيق سياسة "الأبارتهايد"، أي التفرقة العنصرية بشكل رسمي وعلني. وعن هذه السياسة كتب مانديلا: "وتقوم هذه السياسة على نظام جائر يعتمد تقنين القوانين والأنظمة التي وَضَعت الإنسان الإفريقي في مرتبة أقل من مرتبة الإنسان الأبيض". ومنذ ذلك التاريخ بدأ الحزب الوطني بتطبيق هذه السياسة علنا وبدون مواربة؛ بعد أن أضفى الشرعية القانونية على ما ظلَّ أمرا واقعا لعدة قرون، وتعزيز الفصل بين الأعراق التي كانت تُمارَس بشكل عشوائي في الفترة السابقة، ودمجه في نظام واحد؛ نظام وصفه مانديلا بأنه: "شيطاني، شرير في طبيعته، بعيدا في مداه، ذي قبضة حديدية لا مجال للفرار منها".

ويضيف مانديلا في مذكراته: "تقوم سياسة التفريق العنصري على أفضلية البيض المطلقة على الإفريقيين والملونين والهنود، وهدف هذه السياسة - والتي هي عماد إيديولوجية الحزب الوطني - ترسيخ سيادة البيض على جنوب إفريقيا للأبد، وقد تلقت دعما من قبل الكنيسة الإصلاحية الهولندية، حيث زودت الكنيسة التفرقة العنصرية أسسها الدينية؛ خاصة عندما اعتبرت "البيض" هم شعب الله المختار، وأن "السود" ما هم إلا جنس العبيد الذين وُجدوا لخدمة الرجل الأبيض. وهكذا صارت التفرقة العنصرية من وجهة نظر الأفريكان جزء من التعاليم الدينية الكنسية".

وبناء على سياسة التمييز العنصري، مُنع السود من العمل إلا في أعمال محددة، ومُنعوا أيضا من حق الانتخاب، وحق الملكية، وحق استخدام المرافق العامة كالحدائق والمطاعم ووسائط النقل، وكان مفروضا عليهم حمل بطاقاتهم الشخصية، والحصول على تراخيص خاصة للتنقل، من أجل الحد من تحركاتهم .. وعن طبيعة تلك القوانين وأثرها المدمر على السكان كتب مانديلا: "كان التنقل بالنسبة للمواطنين الإفريقيين عملية معقدة جدا؛ إذْ كان يتحتم على كل من تجاوز السادسة عشرة من عمره أن يحمل بطاقة تعريف خاصة به، وعليه أن يبرزها لأي شرطي أو موظف حكومي، وإلا سيتعرض للاعتقال، أو دفع غرامة، وكانت تلك البطاقات تحتوي على معلومات تفصيلية كثيرة، وتُجدد شهريا من قبل رب العمل".

ويضيف مانديلا: "كان من الصعب جدا على الإفريقيين استخدام المباني الحكومية أو المرافق العامة؛ فقد كان الدخول من الباب المخصص للبيض جريمة، وكان ركوب الحافلة المخصصة للبيض جريمة، والشرب من الحنفية المخصصة للبيض جريمة، والمشي على شط البحر المخصص للبيض جريمة، والخروج للشارع بعد الحادية عشر ليلاً جريمة، وكان عدم ملكية تصريح مرور جريمة، أو وجود نقص أو خطأ في التصريح جريمة، وكانت البطالة جريمة، والعمل في وظائف معينة جريمة، والإقامة في أماكن محددة جريمة، والتشرد جريمة".

وحيث أن مانديلا كان محاميا، (وهذا بحد ذاته كان أمرا غريبا وشاذا)، فقد كان يمر عليه الكثير من القضايا والمظالم التي يتعرض لها مواطنوه السود؛ فكتب عن جزء منها في مذكراته: "كنا نستقبل رجالا كبار السن، طُردوا من أراض ظل أجدادهم يزرعونها على مدى أجيال، وسيدات طُردن من أعمالهن، أو طُلب منهن دفع غرامات باهظة، وعائلات عاشت في بيوتها منذ زمن طويل ثم طردوا منها لأنها أصبحت قريبة من أحياء البيض، فضلا عما يتعرض له الأفريقيون من معاناة وإذلال وإهانات بشكل يومي".
ويصف مانديلا معاناة الإفريقي التي تبدأ منذ لحظة ولادته: "الإفريقي يُولد في مستشفى خاص بالسود، ويتنقل بحافلات خاصة بالسود، ويسكن في أحياء خاصة بالسود، ويُمنع من دخول أحياء البيض، وهو مُعرَّض للتوقيف والمساءلة في أي لحظة، وصارت حياته مكبلة بالقوانين العنصرية التي تحد من حركته، وتعيق نموه، وتثقل على كاهله، وتنغص عليه حياته".

وبعد سنتين من تولي الحزب الوطني الحكم، صدر قانون التسجيل السكاني، وقانون مناطق المجموعات العرقية، وهما اللذان شكّلا حجر الأساس في سياسة التمييز العنصري؛ حيث تم تقسيم السكان إلى مجموعات وفق الاعتبارات العنصرية. وهكذا صار الانتماء العرقي هو المعيار الوحيد في جنوب إفريقيا. ونتيجة لقانون التسجيل السكاني الجائر ومعاييره العشوائية اللامنطقية التي اتبعت للتفريق بين السود والملونين والبيض والهنود ظهرت حالات مأساوية داخل الأسرة الواحدة، حيث فُرقت عائلات بأكملها بناء على مسحة لون البشرة، ودرجة سمارها أو بياضها، وأصبح تجعد الشعر وحجم الشفة يحدد موقع إقامة كل فرد، ونوع العمل المسوح له مزاولته.

وفيما يخص قانون مناطق المجموعات العرقية؛ فقد نص على أن لكل فصيل عرقي الحق بالعمل والإقامة في أماكن محددة وخاصة بكل مجموعة، لا يجوز لهم الخروج منها أو ملكية أراض من خارجها، بينما يحق للبيض ضم أي مساحة من الأرض، بكل بساطة، بمجرد الإعلان عنها منطقة بيضاء. وبناء على هذا القانون فقد بدأت حقبة من الترحيل القسري لتجمعات سكانية للإفريقيين وقبائل ومدن وقرى بأكملها؛ حيث تُهجر تلك المجموعات عنوة وقصرا من أراضيها إلى مناطق أخرى، فقط لأن البيض اعترضوا على وجود سود بالقرب منهم، أو لأنهم رغبوا بضم تلك الأراضي.

في بداية الخمسينات تبنت الحكومة خطة تنمية خاصة بمناطق السود، أسمتها خطة مناطق البانتو، أو البانتوستونات، وهي من بنات أفكار وزير شؤون السكان الأصليين؛ ومن ناحية أولى يهدف نظام البانتوستونات لامتصاص النقد العالمي لسياسات جنوب إفريقيا العنصرية، باعتبار أنه يوفر لكل مجموعة عرقية حريتها الخاصة، ومن ناحية ثانية يهدف لترسيخ التفرقة العنصرية وتأصيلها؛ فمناطق البانتوستونات – التي عُرفت أيضا باسم المحميات أو الكانتونات – عبارة عن مناطق عرقية منفصلة مخصصة للمواطنين الإفريقيين، هدفها تعزيز الأمر الواقع الذي تمتلك بمقتضاه الأقلية البيضاء 87% من الأرض فيما تمتلك الأغلبية 13% فقط، وكان الهدف من البانتوستونات أيضا منع وتعطيل فكرة الاندماج بين الأجناس والأعراق، والدفع إلى الأمام بدلا منها بسياسة التنمية المنفصلة للسود والبيض على أساس التمييز العنصري. وفي العام 1959 أصدر البرلمان قانون تعزيز الحكم الذاتي للبانتو، الذي انبثقت عنه ثمانية مواطن عرقية من البانتوستونات، وكان ذلك أساس ما سمته الدولة Groot Apartheid، أي التفرقة العنصرية الشاملة.

كان الهدف من إنشاء نظام المناطق العرقية المنفصلة بالإضافة إلى مصادرة الأراضي، تقييد حركة السكان لتسهيل مهمة السيطرة عليهم، ومنع التواصل فيما بينهم تنفيذا لسياسة "فرِّق تسُد"، وتمزيق أوصال البلاد جغرافيا وسكانيا، للحيلولة دون توحد الإفريقيين والهنود والملونين، وتعطيل إمكانية مطالبتهم بحق تقرير المصير؛ وبالتالي تكريس حكم الأقلية البيضاء. لكن مانديلا يعتبر أن الهدف من هذه الكانتونات هو "تكوين مستودعات ضخمة من الأيدي العاملة الرخيصة التي تحتاجها مصانع البِيض، ومن ناحية ثانية كانت الحكومة تسعى لهدف آخر غير معلن، هو تكوين طبقة اجتماعية من الإفريقيين تظل بحاجة البيض، وبالتالي التقليل من إقبال السود للانضمام لحزب المؤتمر الإفريقي، والعزوف عن المشاركة في النضال الوطني بشكل عام".

في الحلقة القادمة سنستعرض كيف انتصر الشعب في جنوب إفريقيا على نظام التفرقة العنصرية
للإطلاع على الموضوع كاملا
http://abedelghani.blogspot.com/



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيزون في جامعة النجاح
- سبعة أشكال في حُبِّ وكُرْه الجَمال
- أثر الربيع العربي على المرأة العربية
- عيد الأم في الربيع العربي
- الإيمو .. الضحية والجلاد
- المتضامنون الأجانب والقرضاوي وزيارة القدس
- الموقف الملتبس من الثورة السورية
- هروب معلم وتلاميذه من المدرسة
- توطين جماعات الإسلام السياسي
- كيف واجهوا اللحظات الأخير قبل الموت ؟
- الفن على جبهة الصراع
- في عيد الحب
- فتاوى على الهواء، وبأسعار منافسة
- كيف أصبحت إيران المهزومة قطب إقليمي ؟
- فتيات سجينات – قصص مروعة
- إشكالية المرأة الإعلامية - الإعلاميات الفلسطينيات نموذجا .
- نساء بلا وجوه
- عندما نكتب عن غزة
- توقعات العام 2012
- فهم أسباب الثورات العربية ونتائجها السلبية انطلاقا من فهم طب ...


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الغني سلامه - مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2