أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سامي المالح - كنت في قلب الانفال – صور محفورة في الذاكرة















المزيد.....


كنت في قلب الانفال – صور محفورة في الذاكرة


سامي المالح

الحوار المتمدن-العدد: 3699 - 2012 / 4 / 15 - 01:05
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


في ربيع عام 1988، ربيع الأنفال الدامي، كنت عضوا في قيادة قاطع اربيل لقوى الانصار الشيوعيين، وكنت في الوقت نفسه آمر فوج( 31 اذار) الذي كان يتألف من اربع سرايا، سرية الشهيد بكر تلاني، سرية كۆي، سرية بتوين وسرية خۆشناوتي. سرية الشهيد بكر تلاني كانت سريتي الاولى، حيث منذ تأسيسها طلبني الشهيد بكر تلاني الذي اصبح امر السرية ويساعده الرفيق جوامير ان اكون معهم كمستشار سيساسي للسرية. كان ذلك في ربيع عام1981. وفي هذه السرية، التي كانت تغطي مناطق عمل واسعة بين قضاء دوكان وقضاء كويسنجق وقضاء جمجمال ومدينة كركوك، أكتسبت انا الكثير من الخبرة والتجربة وفنون حرب العصابات وتخطيط وتنفيذ العمليات، والاهم من كل ذلك واصلت عملي السياسي بين الناس، بين فلاحي القرى الكرماء، وفي تماس يومي مع الاحداث في محافظات كركوك واربيل والسليمانية. قبل ذلك، كنت قد عملت في مناطق مختلفة، وبمهمات عديدة.
فبعد ان نجحت في الانفلات من مخالب مخابرات البعث، وثم خروجي من اربيل الى منطقة سهل كويسنجق في نهاية شباط 1979 ، عملت لاكثر من شهر مع المفرزة الاولى في المنطقة بقيادة الشهيد مام كاويس، الكادر الفلاحي من قرية پيربازۆك في سهل كويسنجق، و كان الاكثرية في المفرزة غير مسلحين. وبعد ان كبرت المفرزة وزاد عددها عن 30 من البيشمركه، تحركت انا مع المجموعة الاولى التي انطلقت من سهل كوي الى منطقة ناوزه‌نك على الحدود الايرانية، حيث كانت اول قاعة للانصار الشيوعيين في طور التاسيس. وهناك في ناوزه‌نك ثم قرب قرية توژه‌له شكلنا ضمن التشكيلات الاولى فصيل المدفعية، وكنت انا المسؤول السياسي في الفصيل. وفي ناوزه‌نك عملت لفترة قصيرة ومؤقتة في اذاعة الاتحاد الوطني الكردستاني بتكليف من الحزب وكتعاون اعلامي بيننا وبينهم، وفي تلك الفترة جلست للمرة الاولى في لقاء حول تطوير ألاعلام مع سكرتير الاتحاد الوطني الكوردستاني رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني. وبعد فترة قصيرة شاركت في اول مهمة قتالية مع مجموعة بقيادة القائد الانصاري البارز توما توماس والذي كان المسؤول العسكري للقاعدة الانصارية الاولى. وفي ربيع عام 1980 كنت المسؤول السياسي لمفرزة قتالية نزلت الى منطقة كۆي واربيل. وبعد ذلك كنت في قيادة مفرزة تحركت من منطقة ناوزه‌نك واخترقت الاراضي الايرانية ثم الدخول في الاراضي التركية سيرا لعشرة ايام للوصول الى اول قاعدة لنا في منطقة بهدينان القريبة من الحدود التركية السورية، مهمة المفرزة كانت نقل اول جهاز ا‌ذاعة، من قاعدة بهدينان الى منطقة ناوزه‌نك. وحينما طلبني الانصار والرفيق بكر تلاني لاكون المسؤول السياسي للسرية الجديدة والتي سميت انذاك بسرية (شوان)، كنت اعمل في الاذاعة والتي كانت تبث من منطقة قريبة من الحدود الايرانية في محافظة السليمانية.
كان ذلك في نيسان عام 1981 ، حيث نزلنا كسرية متكاملة الى منطقة سهلية نسبيا، منطقة محصورة بمدن واقضية ونواحي تابعة لمحافظات اربيل، كركوك والسليمانية. وفي تلك الفترة كانت القوات العسكرية للنظام المتجحفلة في اطراف المدن تمشط المنطقة باستمرار، وكانت تعتمد على شبكة من العملاء السريين والخلايا المرتبطة بالبعث والمخابرات، لمتابعة تحرك مفارز الانصار (في تلك الفترة كان هناك بالاضافة الى سريتنا في المنطقة وحدة من قوات البيشمه ركه من الاتحاد الوطني الكردستاني) ونصب الكمائن والاغارة المفاجئة على القرى، بالاضافة الى الحرب النفسية وبث الدعايات وتسريب الاخبار الكاذبة وترويع اهالي القرى المتعاونين مع الانصار. في هذه المنطقة، ومن خلال المواجهة اليومية، ومن خلال الاعتماد على خبرة ودراية الرفاق الجيدة بالمنطقة وخاصة الرفيق جوامير والرفيق بكر تلاني، طورنا اساليب عملنا الانصاري ونفذنا العديد من المهمات والعمليات العسكرية وكسبنا جماهير واسعة وكسرنا حاجز الخوف من العدو وطهرنا المنطقة من ركائز وعملاء البعث، فنمت السرية والتحق بها المزيد من الانصار الشباب من قرى المنطقة ومن مدينة كركوك. وخلال سنة واحدة اصبحت السرية جزءا من واقع المنطقة واصبحت معروفة جيدا وهدفا مهما للعدو. وبالنسبة لي كانت تلك السنة اختبارا حقيقيا، اكتسبت فيها تجربة وخبرة قيادية في تحمل المسؤولية والتخطيط للنشاطات والعمليات الانصارية، والاهم من ذلك كسبت ليس فقط ثقة الانصار في السرية بل وثقة الجماهير في المنطقة، واستطعنا بالتعاون مع الكادر الحزبي الشاب في المنطقة وبمساعدة جريئة من شباب القرى وعدد من المعلمين والمعلمات في مدارس بعض القرى، ان نمد نشاطنا وعلاقاتنا الى داخل المدن، والمساعدة في ايصال البريد وادبيات الحزب حتى الى بغداد وغيرها من المدن الجنوبية، واصبح لنا مصادر تمدنا بالاخبار والتقارير عن تحرك قوات العدو وتزودنا بالكتب والادوية وغيرها من المستلزمات الضرورية.
في الفترة بين ربيع عام 1981 وربيع 1988 شهدت الاوضاع في العراق ومسارات الحرب العراقية الايرانية تحولات وتغيرات دراماتيكية، كما شهدت الحركة الانصارية بشكل عام وانصار الحزب الشيوعي بشكل خاص تغييرات وتطورات كبيرة وواسعة جدا. انا واكبت كل تلك التطورات وبقيت طوال تلك السنوات في خطوط المواجهة مع العدو، وسط الجماهير. لقد توسعت تشكيلاتنا وشكلنا العديد من افواج وسرايا جديدة والتي توزعت في ثلاث قواطع – السليمانية، اربيل وقاطع بهدينان. ومع تشكيل فوج 31 اذار كنت انا في قيادته كمسؤول سياسي. وبعدها اصبحت انا امر للفوج وعضو في قيادة قاطع اربيل، وطوال تلك االسنوات بقيت متواجدا في العمق مع السرايا الاربعة في الفوج.
بدأت المرحلة الاولى للانفال مع انتهاء الحرب العراقية الايرانية وتفرغ فيالق الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري وغيرها من التشكيلات العسكرية. في اواخر شباط 1988 بدأت عملية اجتياح وحرق وتدمير المئات من القرى في مناطق قرداغ وكرميان وليلان وقادركه‌رم وصولا الى طريق كركوك – قره‌هنجير- جمجمال – السليمانية، وبعد قتل الالاف من المواطنين الابرياء ونقل الالاف من الاطفال والنساء والشباب الى مصير مجهول، ارتفعت سحب الدخان مشبعة برائحة الموت ودماء الابرياء لتغطي سماء المنطقة، وبعد تنفيذ تلك الجرائم البشعة بدم بارد، وبمشاركة واسعة من فيالق وفرق عسكرية مدججة بالسلاح تساندها عشرات الالاف من قوات الجحوش المرتزقة من الاكراد الخونة للوطن والشعب، والذين يعيش اليوم عدد كبير منهم احرارا معززين مكرمين في اقليم كوردستان، ولبعض منهم مواقع في السلطة ينهبون من ثروات الشعب. بعد الانتهاء من تلك المرحلة تجحفلت كل تلك القوات على اطراف المنطقة الواسعة الممتدة من كركوك الى اربيل شمالا والى السليمانية شرقا. كما ان عشرات القطعات العسكرية تأهبت في اطراف كۆيسنجق واربيل ودوكان والموصل لتدشن مرحلة دمار وانفال جديدة. في تلك الايام كانت اغلب قوات الانصار التابعة للحزب الشيوعي والاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني قد عبرت من مناطق كرميان وقه‌ره‌داغ وهه‌ورامان الى مناطق اخرى، قسم كبير منها كانت قد توجهت الى المناطق الحدودية، وكانت ثمة مفارز صغيرة متفرقة لهذه القوى قد بقيت في المنطقة المأنفلة. قيادة قاطع السليمانية للحزب الشيوعي مع بعض تشكيلات القاطع وصلت الى منطقة شوان وقلاسێوكه وشرق وغرب كۆيسنجق واطراف اربيل. وكنت انا في تلك الفترة متواجدا في منطقة غرب كۆيسنجق والتقيت هناك برفاق من قيادة قاطع السليمانية، وكونت صورة اوضح عن حجم الدمار والمأساة وطبيعة الحملة الفاشية التي ينفذها النظام. وهناك قررت ان اكون مع الانصار والناس، فعبرت مع عدد من الانصار الى منطقة قه‌لاسێوكه‌ حيث كانت سرية الشهيد بكر تلاني. عندما وصلت الى السرية، كان الفلاحون وعوائلهم في قرى المنطقة يعيشون رعبا حقيقيا وانتظارا أثقل من الموت. ففي هذه المنطقة كان نظام البعث الفاشي قد جرب، قبل أسابيع، اسلحته الكيمياوية في قرية گۆپته‌په‌ ليخنق ويقتل من ابنائها المئات. كل شيْ كان يشير الى ان جحافل المجرمين قادمة، قادمة ليهتكوا الاعراض وليذلوا الناس وليقتلوا ويحرقوا ويدمروا كل شيْ له صلة بالحياة. كانت الاجواء في تلك الايام مشحونة بالالم واليأس والمرارات. القلة من الناس الذين كانوا قد نجوا من انفال المرحلة الاولى كانوا يتحدثون عن بربرية ووحشية قوات النظام وعن مآسي وويلات الناس العزل بشكل لايمكن وصفه. ولذلك كانوا يتوسلون ويدعون الناس الى الهروب والبحث عن الخلاص وانقاذ الاطفال والنساء. المئات من شباب المنطقة كانوا مجتمعين في القرى القريبة من انصارنا يتحدثون عن كيفية مواجهة هذه الحملة الرهيبة، مبدين استعدادهم للموت مع الانصار، رغم قناعة الجميع بعدم جدوى المواجهة والتصدي لمئات الالاف من القوات المنتشية بانتهاء حربها مع ايران وانتصارها على المواطنين العزل، والمعززة بالسلاح الكيمياوي والالاف من الطائرات والدبابات والمدرعات والمدفعية.
وكسباق مع الزمن، حاولنا اقناع الناس كسب الوقت، والتوجه بسرعة الى المناطق المحيطة بدوكان والعبور عبر منطقة خۆشناوه‌تي الى دۆلي باليسان وثم التوجه الى المناطق الحدودية. الناس اللذين كانوا على يقين بان الموت والدمار قادم لامحالة، كانوا مترددين ، كان عصيا عليهم ترك كل ما يجسد وجودهم ومستقبلهم ومعنى حياتهم والهروب الى مجهول. كانت الامهات متشبثات بالاطفال تجمدت في عيونهن دموع تحولت الى فزع. كل شيْ كان يبدو خاويا، ثقيلا، مظلما، يشبه مشهدا من مشاهد زحف الموت والظلام لخنق الحياة والامل.
جمعنا قوات تشكيلات قاطع السليمانية التي كانت في المنطقة وكان علينا التهيئة للخطوة القادمة. وفي اليوم الذي تبينت بوادر البدأ بالمرحلة الجديدة للانفال، قررنا مع الرفيق جوامير امر سرية الشهيد بكر تلاني ومع الرفيقين على زنكنه امر فوج والشهيد البطل ابويسار امر سرية من قاطع السليمانية، التهيئة للمواجهة اذا ما تقدمت قوات العدو ووصلت الى اطراف قرية جه‌له‌مۆرد والمنطقة التي تمركزنا فيها. وقررنا ان نتحرك ليلا، في حالة عدم وقوع المواجهة، والتخطيط لاختراق كمائن وربايا وقوات العدو المنتشرة في كل مكان والعبورالى العمق، الى المنطقة التي كانت قد تحولت الى حرائق ورماد، منطقة كرميان التي كانت مأنفلة.
في النهار سارت الامور ببطأ، تصاعد الدخان من كل الجهات، وكان يمكن رصد تحرك جحافل العدو وهو يدمر كل شيْ، وفي السماء كنت تحلق العشرات من السمتيات بصواريخها المرعبة للناس الابرياء بعد معايشة اثار الاختناق والاحتراق بالغازات السامة. وفي المساء ونحن نستعد للتحرك تجمع العشرات من الشباب من قرى المنطقة وقرروا ان ينضموا الينا وان يعبروا معنا، وبذلك تعقد علينا الامر واصبح اكثر صعوبة وخطورة، ناهيك عن حجم المسؤولية في الحفاظ على ارواح هؤلاء المواطنين في ظروف قاهرة. كما وتجمع معنا العشرات من انصار الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني المنقطعين عن تشكيلاتهم أوالمتواجدين في اجازة او في مهمات خاصة. وهكذا كان علينا في ذلك المساء ان نخطط لعبور مجموعة كبيرة بلغت الثلاثة مائة من الانصار والفلاحين من منطقة محاصرة تماما الى منطقة محروقة ومدمرة لا اثر فيها للحياة. ان ما لن انساه، ابدا، هو الحوار الذي دار بيني وبين الرفيق جوامير حول نسبة نجاحنا في العبور وتحمل مسؤولية سلامة الفلاحين، حيث قال جوامير: الامرلم يعد يتعلق بارواحنا واستعدادنا لمواجهة العدو، نحن امام مسؤولية كبيرة، وقد لايكفي للحفاظ على ارواح الناس ان نموت في المواجهة التي تعودنا عليها. ولكننا وفي اخر المطاف كنا متفقين بانه لم يكن لنا بديل ثاني. اما ان نعبر ونتحمل كل ما يمكن ان يحدث، او ان نبقى في المنطقة لنواجه كل هذه القوات في وضح النهار في معركة خاسرة معروفة النتائج.
وضعنا خطة للعبور، اخترنا قوة اقتحام تقدمت المجموعة، وسارت المجموعة بانضباط عالي وبدراية جيدة بعد تحديد منفذ بين ربيتين على الطريق الرئيسي بين كركوك وجمجمال. ان ما لاحظناه، فيما بعد ونحن نتقدم للعبور، بأن الربايا والمعسكرات ونقاط تجمع القوات المنتشرة في المنطقة كانت في أسترخاء وراحة، وهي مطمئنة جدا من عدم بقاء مفارز انصار في المنطقة، ولذلك لم يكن لديها كمائن على الطريق وحتى الحراسات في الربايا لم تكن مشددة. وفي الوقت نفسه كانت افواج وسرايا الجحوش تعيش حالة نفسية معقدة، اذ ان الالاف من الجحوش، ابناء المدن والقرى والهاربين من العسكرية، كانوا قد اصيبوا بالهلع والصدمة من حجم الجرائم والدمار الذي عايشوه وشاهدوه واجبروا لكي يكونوا جزءا من اداة تنفيذه. ولذلك فان رباياهم، والتي ربما شاهدت قوتنا من بعيد، لم تحرك ساكن ولم تحاول اعتراضنا. وهكذا كان عبورنا ناجحا وبأمان ومن دون اي مواجهة او خسارة.
المشكلة الاكبر كانت في كيفية تنظيم تواجدنا في منطقة لاتزال تحترق، لاوجود فيها للحياة. بالكاد كان المرء يجد اثار بيوتات القرى التي كانت قد سويت مع الارض بالشفلات، وحتى عيون المياه كانت قد دمرت وفجرت. بعض الكلاب السائبة التي رأيناها تسير تائهة، كانت هي الاخرى مصابة بالهلع، كانت هزيلة ولاتقوى حتى على الركض او ابداء رد فعل على مرورنا وتواجدنا بقربها. شاهدنا على اطراف بقايا احدى القرى نعجة تائهة تركض من دون هدف وكانها اصيبت بالجنون خائفة حتى من ضلها. المنظر الاشد ألما وتعبيرا عن اثار تلك الجرائم البشعة كان في مشاهدة قطع ملونة لملابس الاطفال والنساء، او بقاياها، التي كانت تتطاير في فضاء من الصمت الثقيل كالرصاص، تتلاعب بها الرياح. بالنسبة لي كنت اشعر، وانا اشاهد ذلك المنظر البشع، بان الارواح البريئة للضحايا، من الاطفال والنساء والشيوخ، تطيرهي الاخرى محلقة في السماء، ترفض ان تكون بعيدة عن اجسادها وعن بيوتاتها وقراها.
في اليوم الاول من تواجدنا في المنطقة، قررنا الاستفادة من دراية انصارنا من المنطقة لتوزيع قواتنا لكي تنتشر وتناور وتختفي. وللحصول على الارزاق وما يمكن الاعتماد عليه لتوفير الحد الادنى من ما يمكن ان ينقذنا من الجوع، حاولنا البحث عن الاماكن والحفر التي كان اهالي المنطقة قد رتبها لخزن بعض الدقيق والدهن والملح والسكر والشاي، فالناس في القرى كانوا قد اتخذوا بعض الاحتياطات لمواجهة هجوم جحافل النظام، ولكنهم، الناس الابرياء لم يكن في خلدهم ان الهجوم سيكون على شكل انفال ليحرق الاخضر واليابس ويقضي على كل تجليات الحياة. كما وفي الايام الاولى حاول الكثيرون من اهالي المدن التوجه سرا الى المنطقة، لانقاذ المدنيين الذين كانوا معنا، ولمد يد العون للانصار، فمن خلالهم تمكنا الحصول على الاخبار والمعلومات والكثير من مستلزمات الحياة.
واحدة من مصادر القلق والخوف لقواتنا في تلك الايام كان انهيار بعض العناصر من البيشمه ركه، في صفوف قوتنا كان الامر محدودا جدا، ولقد تم ترتيب وضع عدد محدود من العناصر التي كان من الصعب ان تستمر معنا بما يضمن سلامتهم وسلامتنا ومن دون أن يقعوا في ايدي المخابرات. اما في صفوف قوات الاتحاد الوطني الكردستاني وقوات الحزب الديمقراطي الكردستاني، شكلت عملية تسليم العناصر نفسها للسلطة اشبه بالظاهرة، ترتب عليها خسائر فادحة، وخيانات، وضعف في المعنويات وتزعزع الثقة. وفي تلك الايام قررنا نحن ان نحاول الابتعاد قدر الامكان عن اي تماس مع اي مفرزة لاي قوة اخرى غير مفارزنا. ورغم الحذر الشديد، وقع رفيقنا الشهيد ابو يسار، ابن البصرة، والذي بقي قائدا انصاريا مقداما لعشر سنوات في كردستان، تعلم الكوردية وتأقلم مع اجواء وثقافة اهالي القرى، واكتسب الحب والتقدير والثقة، وقع هو ومجموعة من الانصار الابطال معه، ضحية خيانة مجموعة من پێشمه رگه الاتحاد الوطني الكوردستاني في المنطقة
انا مع سرية الشهيد بكر تلاني بقينا اسبوعين في المنطقة، وبعد ان علمنا ان جحافل النظام كانت قد انهت انفلة منطقة عمل السرية، وهي تستعد من اطراف المدن بدأ مرحلة انفال جديدة، قررنا العبور الى منطقة شوان وقه‌لاسێوكه. هذه المنطقة العامرة والمعروفة بخصب اراضيها ومزارع الفواكه المنتشرة فيها والحيوانات والمراعي والقرى الكبيرة، كانت قد تحولت الى خراب كامل، ورائحة احتراق ؛كل معالم الحياة كانت تخنق الانفاس.
عند عبورنا تخوم قرية جه‌له‌مۆرد، تذكرت الشاب اليافع، الوسيم، الحالم، الشجاع، غني. كنت قد التقيت غني في السنة الاولى من تواجدي في المنطقة وهو في الرابعة عشر من عمره، تعلق بي غني كصديق وكأخ وخاصة حينما اخبرته بانني كنت مدرسا قبل ان اكون پێشمه‌رگه‌، كان تواقا للمعرفة وكثير التساؤل، شجعته على مواصلة الدراسة، وفعلا ارسلته عائلته ليدرس في كركوك عند بعض الاقارب. اكمل غني دراسته المتوسطة وبدأ دراسته الثانوية ،وكان سعيدا ومتفائلا وقد اصبح شابا خفيف الظل ولطيف المعشر. كان غني معنا في اليوم الذي تركنا جه‌له‌مۆرد مع بدأ الانفال. كان قلقا على اهله، ولكنه استجاب الى ندائهم لكي يبقى معنا عسى ان يكون في امان. لقد بقي غني معنا لعدة ايام في منطقة گه‌رميان، ولكنه طلب مني بالحاح ان يذهب للبحث عن اهله، وكان قد اتفق مع صديق له للعبور الى منطقتهم. حذرته من العجلة والمجازفة. ولكنه لم يتحمل ولم يكن بامكانه ان ينتظر. لقد تركنا غني في مساء احد الايام مع صديقه. الصدمة بالنسبة لي كانت هائلة حينما علمت، بعد فترة، بان غني كان قد قتل بشكل فضيع من قبل اوباش النظام حيث اسروه حيا ثم رموه من علو شاهق من احدى السمتيات. كان غني قد حصل على بعض المعلومات عن اهله، وعلم بان الاكثرية ممنهم، وخاصة الاطفال والنساء، قد رحلوا الى الجنوب، وبعد ذلك كان قد قرر ان يبقى في محيط قريته في المنطقة مختفيا عن انظار قوات النظام المنتشرة في كل مكان. وفي احدى الايام كشف مكان اختفائهم وتم اسرهم وقتلهم جميعا.
فی غرب کۆیسنجق التقينا بسرايانا من الفوج الخامس في قاطع اربيل، وتم بعد التشاور، عبور كل قواتنا الى منطقة خۆشناوه‌تي حيث كان مقر قاطعنا في دۆلي باليسان.
في دولي باليسان، كنت انسق كعضو قاطع اربيل مع قيادة مه‌لبه‌ند اربيل للاتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة كوسرت رسول ومع قوات فرع اربيل للحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة نادر هورامي. بقيت قواتنا متعاونة في المنطقة، وقررنا ان ننسحب بشكل منظم ومعا نحو الحدود الى منطقة بۆلي مع بدأ الهجوم الكبير في مرحلة الانفال الاخيرة على المنطقة. عند انسحابنا توضح بان جحافل النظام كانت قد احتلت معابر بۆلي، واصبح عبور قواتنا من القاطع وقوة الحزب الديمقراطي الكوردستاني من منطقة دۆله ‌ره‌ قه غير ممكنة. في دۆله ره‌قه اضطرينا الى ارسال مفرزة الى الداخل في ظروف قاسية وصعبة للغاية، وذلك للتقليل من ثقل وكثافة وجودنا محصورين في المنطقة، كما ان تنظيمات الداخل، وبمساعدة من مقرات الحزب الديمقراطي الكوردستاني الايراني التي كانت متواجدة في الوادي، افلحوا بتنظيم دخول مجموعة من الكادر الى اربيل ونقلهم من هناك بامان الى الحدود. وبعد ثلاثة اسابيع من البقاء محصورين في الوادي، استطعنا بالاتفاق مع مجموعة من الجحوش مقابل مبالغ مالية مغرية، العبور من جبل كێوه ره ش الى سهل بشدر والى مجمع ژاراوا، هناك اختفينا نهارا كاملا في بيوت الجحوش، وسط قوات عسكرية كبيرة محيطة بالمجمع من كل الجهات. في الليل خرجنا لنعبر الى الحدود. حينما وصلنا الى احدى مقراتنا التي كان قد نظم من قبل قوات قاطع السليمانية المنسحبة قبلنا، علمنا بان عمليات الانفال طالت كل المناطق، وسمعنا اخبار الجرائم الكبيرة المرتكبة في منطقة بهدينان، كما علمنا بوصول مجموعة من انصارنا من قاطع اربيل الذين كانوا قد وقعوا ايضا بين قوات الانفال في المنطقة الى الحدود.
وفي الربيع من كل عام تجتاحني ذكريات من ايام الموت والدمار واعيش مع صورالجريمة البربرية وما سببته من موت ودمار وخراب وهلع وخوف. وستبقى صور تشبث الناس الابرياء الطيبين بارضها وبحياتها حية ومحفورة في الذاكرة.
ان اشد ما يؤلمني وانا استعيد ذكريات تلك الايام العصيبة هو معرفتي بان عدد كبير من القادة والمشتركين بوعي ونشاط في تنفيذ تلك الجرائم البشعة يعيشون مرفهين احرار في حماية سلطات العراق والاقليم، في الوقت الذي يعاني فيه اطفال الكثير من العوائل المؤنفلة من الفقر والتخلف والحرمان، وفي الوقت الذي يعيش الكثير من الانصار والپێشمه ركه الذين افنوا اجمل سنوات شبابهم في مواجهة النظام الفاشي واجهزته وجحوشه مدافعين عن شعبهم في اوضاع معيشية ونفسية مزرية وهم يرون ان من كان بعثيا ومع النظام ومن خدم الفاشية مفضل عليهم، لابل ان لقسم منهم مواقع حساسة في السلطة يستمرون من خلالها اهانة الناس وخرق القانون واشاعة الفوضى وبعث الفساد وعرقلة تطوير البلد.



#سامي_المالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في السليمانية حملة تستحق الدعم والتقدير
- جرائم التعصب والتطرف لن تهزم الديمقراطية في النروج
- تضامنا مع المنظمة الاثورية الديمقراطية وشعب سوريا المنتفض
- في خندق الجماهير وضد قمع مظاهراتها واحتجاجاتها
- في ذكرى اولوف بالمه - قادة يخلدهم اتاريخ وقادة تتقفهم مزبلته ...
- انحني احتراما لشباب ثوار يصنعون التاريخ
- مبارك، بن علي في انتظارك – تحية لشعوب تنتفض
- اطفال العرق - هل من يتذكركم؟!
- الانتخابات في السويد - من يحدد اتجاهات تطور البلد؟
- درس مانديلا البليغ يا قادة العراق
- اوقفوا قتل وتهجير المسيحيين في الموصل!


المزيد.....




- تحليل لـCNN: إيران وإسرائيل اختارتا تجنب حربا شاملة.. في الو ...
- ماذا دار في أول اتصال بين وزيري دفاع أمريكا وإسرائيل بعد الض ...
- المقاتلة الأميركية الرائدة غير فعالة في السياسة الخارجية
- هل يوجد كوكب غير مكتشف في حافة نظامنا الشمسي؟
- ماذا يعني ظهور علامات بيضاء على الأظافر؟
- 5 أطعمة غنية بالكولاجين قد تجعلك تبدو أصغر سنا!
- واشنطن تدعو إسرائيل لمنع هجمات المستوطنين بالضفة
- الولايات المتحدة توافق على سحب قواتها من النيجر
- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سامي المالح - كنت في قلب الانفال – صور محفورة في الذاكرة