|
الاجتهاد والعدل في خلافة ابن الخطاب
عمر ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 3677 - 2012 / 3 / 24 - 18:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تميّز عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بسمات وخصائص مُتَفردة ، تركت آثارها في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الدولة الحديثةفي عهده وما تلاه من عهود لاحقه ، وشَكّل على امتداد تاريخنا الاسلامي منارة يَسْتَرْشِدُ بها من حاول السير على خطاه ، ومثالاً يُقاس عليه مدى التزام الحاكم بروح الاسلام الخالدة ، والاخذ بالإجتهاد تبعا لقاعدة (تغيّر الاحكام تبعاً لتغيّر الزمان والمكان ) والاجتهاد في استقراء النص وسبب تنزيله ( عامّاً كان ام خاصاً ) وكيفتعاطى في حالةٍ ظرفيةٍ معينة في زمن مُعَيّن ، كحالة المؤلفة قلوبهم ، او في حالة اخرى تمثلت بعدم اقامة حدّ القطع على السارق في عام الرماده . كان مما اقدم عليه من اجتهادفي الرأي وتطبيقه ، يتجاوز في آثاره المرحله التي فرضت مثل هذا الاستنباط ، وكان اجتهاده في الجانب الاقتصادي والاجتماعي يجمع بين الالتزام بحقوق الفرد وبين حقوق وحاجة الامة في حاضرها ومستقبلها ، مما أسّس لقواعد عامه يمكن الاقتداء بها او العمل بمقاصدها في كل حين . وكما اجتهد في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ، كذلك فعل في الجانب السياسي وعلاقة المركز بولاة الاقاليم ، وعلاقة هؤلاء بالرعيه. ثم اتبع ذلك بإنشاء ديوان الخراج وديوان المحاسبة وديوان البريد وديوان القضاء ومرابط الثغور ، وبهذه اصبحت للدولة الفتية مؤسسات تقوم على تنظيم وادارة شؤونها مستفيدة من حضارات السابقين بعد ان صبغتها بصبغة اسلامية (فالحكمة ضَالّة المؤمن انىّ وجدها فهو احقّ بها ) . فجاء بأحكام وقواعد اقامها على مبادئ انسانية واخلاقية شاملة ، انبعثت من نص الشريعة ومقاصدها ، وشكلت النموذج الامثل في العلاقة بين الامة وقيادتها ، وحرص على متابعة تطبيق هذه المبادئ في الاقاليم ومباشرتها بنفسه في مركز الدولة . وفي الاسترشاد بالمعرفة الانسانية وحضارات الشعوب في الامبراطوريتين الرومانية والفارسية ( آخذاً منها ما صفا وترك ما كدر ) فأخذ عنهم اسس تنظيم الدولة المدنية فدون الدواوين في احصاء الناس ، وفي تنظيم الجيش الاسلامي ، وأخذ عن الفرس النظام الزراعي وطبقه في البلاد المفتوحة برؤية تتناسب مع روح الشريعة الاسلامية ، مما جعل بيت مال الأمة مصدرا هاما لأمتلاك مقدرات تفي بحاجتها في التطوير والتحديث ، وتغطية نفقات جندها المرابطين في الثغور والذين يتم اعدادهم للفتح ونشر الدعوة وفي عطاء الامة . وعلينا ان لا نغفل عن امرين اساسيين يُفْصحان عن مزايا الخليفة الملتزم بعقيدته والناصح لأمته والعادل في امانته والجسور برأيه . الامر الاول : هو ان مدة حكمه دامت عقدا من الزمن استطاع خلالها ان يُنشئ دولة منيعة قوية ، قياسا بأعتى امبراطوريتين عريقتين في الحضارة معاصرتين له ، ومجابهتهما معا دون ان يستند في اقامتها وادارتها على نموذج سابق في وطنه والثاني : انه تصدى بحزم وايمان لمن شاؤوا ان يَصِمُوا الاسلام بلوثةفي اهم ما جاء به , وهو حرية الانسان وتكريمه ، حين طالبوه بأن يطبق قاعدة الفيئ والغنائم على الجنود الفاتحين ، مما كان يقضي بتوزيع الارض وما عليها من الفلاحين كعبيد ارقاء لهم, وباحتساب اعداد هؤلاء كان نصيب كل واحد من الجند ثلاثة أعبد ، وبهذا الرأي يصبح الدين في مقاصده استعباد الناس وسلبهم حريتهم ، وبأنه دين جباية لادين دعوة وهداية (وان كانت الدولة الاسلامية في عهودها اللاحقة للخلافة قد انحرفت عن هذا المقصد واخذت بنقضيه ) . وسنتتبع نهج ابن الخطاب واجتهاده في الحكم وادارة الدولة ، لنلحظ من خلال العرض ، ونحن على ابواب الثورات العربية ( الاسلامية ) مدى التزامها بمصالح الامة ، وتطبيق مبادئ الدين الحنيف ومقاصده في حكم الامة ، وعلاقة هذه الثورات بالآخر الخارجي ، وتمسكها باستقلالية وسيادة دولها ، وتحقيق اهداف الامة الوطنية والقوميه .. ونحن وان كُنّا نتمنى لها الرشاد والتوفيق ، لكننا بتنا نخشى عليها من نفسها ، قبل ان نخشى عليها الغير الخارجي ، ذلك أن مقدمات اقوال بعض قادتها تشير الى كونها اوراق اعتماد للحصول على بيعة تصدر عن الاخر تُخَولهم الحكم وليس من بيعة صدرت عن امتهم . ونأمل ان لا نسمع من بعضهم في قادم الايام ، قولاً في الاولويات والضروريات والمصالح القطريةِ ، تفسيراً وتبريراً لإملاءاتٍ خارجية تفضي الى النكثِ بالعهد والوعد ، الذي عاهدوا عليه الامة من قبل . الخليفه والاجتهاد ـ الفيئ كثيرة هي الاجتهادات التي استمدها عمر بن الخطاب من النص المقدس ، وتلك التي استنبطها من روح العقيدة ، ورأى في الاخذ بها والقيام عليها ما يحقق للدين وللأمة اهدافهما في مجالات شتى ، وسنحاول ان نستعرض بعضها اضافة الى التزامه التام بما إستنه في سلوكه وتطبيقه في العام والخاص . كان رأي عمر بن الخطاب في قسمة الفيئ مخالفاً لرأي الخليفة الاول ، وأدّى به اجتهاده الى تقديم البعض على الاخر قائلاً : ( لا اجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه . وعرض اجتهاده في امر الفيئ على الصحابة بقوله ((ما من احد الاوله في هذا المال حق اُعْطِيهِ او مُنِعَه ، وما احد أحَقُ به من احد ، وما انا فيه إلا كأحدهم ، ولكنا على منازلنا من كتاب الله ، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالرجل وبلاؤه في الاسلام ، والرجل وقِدَمُه في الاسلام ، والرجل وغناؤه في الاسلام ، والرجل وحاجته ، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه )) وعلى هذا التفاضل بين الناس تم وضع نظام العطاء ، وقال : ابدؤا بآل بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعمه العباس ثم الاقرب فالأقربنسباً وفرض للعباس ( 12000 )درهم ثم لأزواج الرسول ( 10000 ) درهم ثم لأهل بدر ، والحق بهم الحسن (5000 ) درهم والحسين ابا ذر والسلمان ثم من بعد بدر الى الحديبية ( 4000 ) درهم ثم من بعدالحديبيه الى إنصراف الناس من حروب الرده ( 3000 ) درهم ثم من شهد الفتح وقاتل قبل القادسية ( 3000 ) درهم ثم لاهل القادسية واهل الشام ( 2000 ) درهم ثم اهل البلاء منهم ( 2500 ) درهم ثم ما بعد القادسية واليرموك ( 1000 ) درهم والنساء من اهل بدر ( 500 ) درهم ومن بعدهن الى الحديبيه ( 400 ) درهم ومن بعدهن الى الايام ( 300 ) درهم ومن بعدهن الى القادسية ( 200 ) درهم وفرض للصبيان في الشهر الواحد ( 100 ) درهم وقد رأى في هذه القسمة التفاضلية ، في اواخر حكمه رأياً آخر ، ذلك ان الوفرة التي تحققت للأكثر عطاءً ، ادت الى نشوء طبقه ذات ثراء ، فتمايزت عن بقية طبقات المجتمع ، وحيث ان هذه الطبقه هي من الصحابة الاُوَل _ فأن كثيرامنهم سَاحَ في البلاد المفتوحة ، فتقرب اليهم الناس آملين ان يكون لهم في الحكم صولة في القادم من الايام ، فيجدوا لأنفسهم سِعَةً ومصالح في ظِلّهم _ وخشي الخليفة من هذا الامر فَيُفْتَنونَويَفْتِنُون، ولذلك ضيق عليهم في الخروج من المدينه ، ولم يأذن لاحدهم بالخروج إلاّ لأجلٍ معلوم ، وحين كان احدهم يتذرّع بالخروج للجهاد ، كان يجيبه لقد كان لك في الجهاد مع رسول الله ما يغنيك . ولذلك اعلن قبل _ تَغْيِبِه بالموت _ بأنه سيعيد العمل بالقسمةِ في العطاء الى ما كانت عليه في عهد ابي بكر وقال (( لو استقبلت من امري ما استدبرت ، لآخذن فضول اموال الاغنياء فقسمتها على الفقراء )) وقف اقامة حد السرقه في عام الرماده قد نجد في الحديث النبوي مستنداً لما امر به ابن الخطاب في عام الرماده من وقف تنفيذ حدّ القطع على السارق حيث يقول الحديث ( إدْرأوا الحدود بالشُبهات ) وهو في مضمونه محاولة من الحاكم اصلاح امر المشتبه به برفع الحدّ عنه لما يصيبه من اذى جسدي ونفسي حال تنفيذ عقوبة الحدّ عليه ، هذا في العامِّ الذي قد لا يكون المتهم فيه بريئا ، اما ان يُرْفع الحدُّ عن السارق المُعْتَرِفِ بذنبه في الظروف الطبيعية فلا .... ، أما في الحالة التي امر الخليفة عمر فيها بعدم تنفيذ الحكم ( بعد اعتراف السارق بجرمه ) فقد جاء ابطاله له مبنياً على : 1- ان السرقه وقعت في اطار حالة طارئه اصابت الجزيرة بجفاف شديد كاد يَذهبُ بالنفسِ جوعاً ، وبأسباب معيشتهم الممثلة بما يمتلكون من نِعَمْ ، بعد ان فقدوا الكثير منها . 2- ان الموسرين من المسلمين لم يلتزموا بالانفاق من فضول اموالهم على الفقراء والمحتاجين من الامة ، ولو فعلوا لَمَا كان فقير في الامة ولَمَا تظالموا فيما بينهم. 3- ان وقف القطع يرتبط بحالة طارئه مبررة بحفظ النفس من الهلاك ، وان اصل الامر بالحكم ثابت لا يتغير ، بعد تجاوز الطارئ من الحال . في الغاء النص لنصيب المؤلفة قلوبهم في العطاء من المعلوم ان النص المقدس شمل المؤلفة قلوبهم في العطاء ، وقد عمل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا النص طيلة عهده وكذلك فعل ابو بكر - باختلاف القول في زمن الغاء العمل بالنص أحدث في عهد ابي بكر أم في عهد عمر - مع الاتفاق في الحالين بأن المبادر لوقفه كان عمر بن الخطاب حين ارسل اليه ابو بكر وفد المؤلفة لاستطلاع رأيه وما استند اليه في اجتهاده بالغاء العطاء ، بتغير الظروف التي اوجبته في حينه ، حيث كان المسلمون في حال من الضعف يستلزم النصرة من هؤلاء لموقعهم من قبائلهم ، أمّا وقد تغّير الحال فهم سواء بالناس لا يفضلونهم في شيئ. يمكن القول بأن اهم اجتهاد للخليفة عمر ابن الخطاب جاء في قسمة الفيئ إثر انتصار الجيش الاسلامي في الجبهة الشرقية ، وما وقع بين كبار هيئة المهاجرين حول القسمة ، فالنص يوجب قسمة اربعة أخماس الفيئ على الجند الفاتحين ، وما يعنيه هذا من تمليك الارض والفلاحين العاملين عليها لمن حضر القتال ،وما يتبع ذلك من اخطار تطيح بالعقيدة وقيمها في الحرية والعدالة ، كما يفقد الدولة المَقْدِرَة في الدفاع عن كيانها وأمنها . وعلى هذا إختلف كبار الصحابة ، واخذ اكثرهم بالتمسك بحرفية النص في التطبيق ، اما الاخذ بروح النص ومقاصده فلم يجد له من الانصار إلا القليل . ففي الاخذ بحرفية النص ، تطغى مصلحة الفرد على مصلحة الامة جميعا وبالأخذ بمقاصده تغليب لمصلحة الامة على مصلحة الفرد ، وقيم عقيدتها الانسانية والاجتماعية ، وهي مُقدّمة على مصالح الفرد وجوباً ، فالدولة هي جماع الامة ، وهي المخولة بحفظ مصالحها وأمنها وسيادتها ، وتنظيم شؤونها واستمراريتها في الدعوة . لم تستطيع هيئة الشورى حسم الامر فيما بينها ، كما لم يستطيع الخليفة اقناع الاخرين بصواب رأيه ، وهو لا يريد فرضه عليهم بحكم موقعه ، فطلب اليهم الاحتكام الى مجلس شورى يضم عشرة اعضاء يمثلون الأوس والخزرج من أهل الرأي فيهم ، ويكون حكمهم هو الفيصل الذي تأخذ به الدولة وترتضيه الامة. والتقى الخليفة بهم وعرض عليهم وجهة نظر الطرفين فيما وقع فيه الاختلاف ، فقال : أشركوني في حمل أمانتي ، فأني كأحدكم ، وقولوا الحق ، فقد علمتم ما قال هؤلاء وبأني أظلمهم ، وإني اعوذ بالله أن أرتكب ظلماً ، ولكن رأيت انه إن لم يبق شيئ يُفتح بعد أرض كسرى ، وقد غنمنا الله اموالهم وارضهم وعلوجهم ، فقسمت ما غنموا من اموال بين اهله ( للفاتحين من الجنود ) وقد رأيت ان احبس الارضين بعلوجها ، واضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها ، فتكون فيئاً للمسلمين ، المقاتله والذرية ولمن يأتي بعدهم ، أرأيتم هذه الثغور .... لا بد لها من رجال يلزمونها ، أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر ، لا بد ان تُشحن بالجيوش ، وإدرار العطاء عليهم ، فمن أين يُعطى هؤلاء إذا قسمت الارضين والعلوج . فأجمعت هيئة التحكيم على صواب رأيه وترجيحه على الرأى الاخر . وبهذا يتبين ان الاجتهاد والعمل بمقاصد العقيدة قد ادى دوراً هاماً ومؤثراً في صياغة القواعد والاحكام التي بُنيت عليها الدولة , وان التمسك بحرفية النص دون تبيّن مقصده قد تخرج به عن الهدي والحكمه ، فيتناقض مع مصالح الانسان عامة والامة الاسلامية خاصه ، وهذا مُحال في جوهر العقيدة . وقد رأى الخليفة في مقصد النص حقاً للمقاتلين ، وان للأمة حق ايضاً ، فاعطى للمقاتله ما افاء الله عليهم من مال وكراع - وهو كثير - وأبقى للأمة الفيئ ( غير المنقول ) وهي الارض التي إن تَمَلّكها الافراد من الجند , اصبحت ملكية خاصة يتوارثها الابناء عن الآباء في اعقابهم جيلاً بعد جيل ، وحُرِمَ منها من لم يحضر الفتح من اقاليم الدولة الاخرى ، اضافة الى ما ستؤدي اليه هذه القسمة من تراكم للثروة في فئة دون بقية مكونات المجتمع ، كما انها تمس مقدرة الدولة على القيام بواجباتها في تحقيق العدالة الاجتماعية والانسانية وبناء مؤسساتها , وحماية امنها في الداخل وفي الثغور , ومن اين يتأتى لها ذلك ؟ إن كانت موارد الدولة قد حازتها فئة واحدة من فئاتها المتعددة ... ثم اوليس الاسلام هو من جاء لتحرير الانسان من العبودية ، واستبداد الانسان بأخيه الانسان وحرّم استغلاله . أوليس في منح الفاتحين الحق في استعباد الفلاحين ما يتناقض مع الحرية الانسانية التي جاءت بها العقيدة الاسلامية ، وكيف ستُقْبِل شعوب الارض على الانتماء للدين والايمان بعقيدته ، اذا كان ما جاء به لا يختلف عمّا هو عليه حالها في معيشتها وما تتعبد به . نعتقد بأن هذه المضامين جميعاً هي التي استوحاها الخليفة من استقراء النص ومقاصد العقيدة الكليه ، في جانبيها الانساني والاخلاقي حين صرخ في وجه عمرو بن العاص - والي مصر - (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً )) الخليفة وولاة الامصار كان الخليفة يأخذ العهد على ُعماله حال توليتهم الامصار ، ويشتد في العدل والمساواةوبذل الحقوق لأهلها واجتناب الظلم ويوصيهم (( لا تضربو الناس فتذلوهم ، ولا تحرموهم فتكفروهم )) ويطالب الولاة بأن لا يغلقوا ابوابهم دون الناس ، وان لا يُحال بينهم وبين الامة بحجاب ، ولم يَكْتَفِ بالامر والنصيحة او بما يصل اليه من اخبار الاقاليم عبر وسائطه الخاصة وبريده ، او الاستماع الى الوافدين اليه من الرعية ، فحرصه على القيامبالعدل في مصالح الامة وحاجاتها جعلته يقول : ((اني اعلم ان للناس حوائج لا تقطع دوني ، أما عمالهم فلا يرفعونها اليّ ، واما هم فلا يصلون الي ، فاسير الى الشام أقيم بها شهرين ، ثم الجزيرة فأقيم شهرين ، ثم الى مصر ، ثم الى البحرين ثم الى الكوفة ثم الى البصرة ، كذلك ينقضي العام ، ووالله لنعم الحَوْل هذا )) وجعل من اجتماع المسلمين في موسم الحج من كل عام منبراً ومؤتمراً ، فيلتقي بالوفود ويستمع الى حاجاتهم ومطالبهم ، ويلتقي بالولاة فيشرك كل والٍ منهم في شأن ولايته وما عرضته الوفود ، فأن كان قد احسن القيامبواجبه عاد الى عمله محموداً ، وإن كان افسد وظلم , حُوسب على ما احدث وعُزل عن منصبه . ويعلن الخليفة في هذا الحشد الهائل من الامة مهام الولاة فيهم ، قائلاً : ( ايها الناس اني لم ابعث عليكم عمالي ليصيبوا من ابشاركم ولا اموالكم ، وانما بعثتهم ليحجزوا بينكم ، ويقسموا بينكم فيئكم ، فمن فُعل به غير هذا فليقم ، ومن ظلمه واليه فلا إمرة عليه دوني ). بهذه الكلمات الموجزة حدد الخليفة مهام الوالي في ولايته ، ممثلة بالقضاء بينهم بالعدل ، والقسمة في الفيئ ، وبأن طاعتهم له لا تقوم إلا بالامرين معاً ، وان الرعية غير ملزمة بالطاعة له إن افسد وظلم او غَلّ من اموال الامة ، ومرجعهم حين ذاك الى الخليفة فَيُحق حقاً ويُبطل باطلاً . وكان لا يجيز لأحدٍ من ولاته ان يمارس عملا او تجارة ما دام على رأس ولايته ، ويحصي عليهم ما يملكون قبل توليتهم ، ويحاسبهم ان زادت عن الحد المعلوم ، فيأخذ الزيادة ويضعها في بيت المال . ومن الامثلة على هذا انه كان قد استعمل – عُتبة ابن ابي سفيان على قبيلة كنانه ، فلما عاد من عمله جاء معه بمالٍ اكثر مما خرج به ، فسأله الخليفة عنه فقال : مالٌ خرجت به معي فاتّجرت فيه ، قال عمر: ومالك تخرج معك المال الى هذا الوجه ؟ قم فصيره الى بيت المال . وكذلك فعل بأبي هريرة وكان واليا على البحرين ، فعاد منها ومعه عشرة الآف درهم ، فاستكثرها الخليفة وقال من اين لك هذا المال ؟ فقال ابو هريرة : من خيلٍ لي تناسلت ، وعطائي تلاحق وسهامي تلاحقت ، لكن عمر لم يقتنع ، فصادرها منه ووضعها في بيت المال . ولم يسلم منه خالد ابن الوليد ( سيف الله المسلول ) على بلائه في الاسلام ، فحين علم بأن خالدا وهب للشاعر الاشعث ابن قيس عشرة الآف درهم استهجن منه ما فعل , وارسل بلال ابن رباح اليه في حمص ، ليسأله عن المال ، اهو من ماله الخاص ؟ ام من بيت مال المسلمين ؟ فأجابه خالد انه من فيئي وعطائي واسهمي في الجهاد ، وبعد حين عاد خالد الى المدينه فالتقا ه عمر ، وسأله بكم عدت معك ؟ قال خالد : ستون الفا وانت تعلم مصدرها ، فقال عمر : نقومها اذاً ، فقومها عمر بثمانين الفا وصادر منه العشرين الاخرى . واشتكى اليه قبطي مصري ضربه محمد ابن عمرو ابن العاص في سباق خيل جرى بينهما ، فأبقى الخليفة المصري عنده بالمدينه ، واستدعى عمرو ابن العاص وابنه ، فحضرا مجلس القصاص ، وشهد للمصري ثُلة من الناس ، فأمر ابن الخطاب المصري بضرب محمد ابن عمرو ، فضربه حتى اثبته واعياه ، ثم اعاد الخليفة الامر للقبطي بأن يضرب عمرو ، فأبى القبطي وقال : لقد ضربت من ضربني يا امير المؤمنين ، فقال عمر : ( والله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه ، ولو ضربته ما منعناك ) . هذا هو الاسلام ، قبطي مصري من عامة الناس ، تظلّم الى الخليفة من ابن حاكم مصر ، فجعله يقتص منه بيده ثم يطلب اليه ان يقتص من ابيه ايضاً ( الحاكم نفسه ) تأديبا للحاكم وابنه ، فأي خليفه كان !! ومن جاراه بعدله ؟؟
الخليفة وطبقة الاثرياء ظل الكثيرون من اثرياء قريش وسادتها السابقين ,على وفرة من الثروة وتنميتها بعد اسلامهم ، وكانت عيون الخليفة ترقبهم وتحاذر من ان يستغل بعضهم صحبته للرسول وقدمه في الاسلام , فيعتدي على المال العام وحق الفقراء فيه ، مساوياً نفسه بهم في الانتفاع به ، وكان الخليفة يرى ان استخدامهم لهذا الحق وبما يملكونه من ثروة وخبرة تجارية واقتصادية ستمكنهم من التحكم باقتصاد المدينة مما يزيد الفقراء فقراً وعنائهم عناء ، ولذلك وقف لهم بالمرصاد ، ليحول بين ايّ منهم واستغلاله للمال العام . فحين عزم عبد الله بن ابي ربيعه المخزومي – وهو من اثرياء قريش – على ان يجعل له مرابط افراس في المدينه ، منعه عمر بن الخطاب ، ذلك انه رأى في هذا جور على اهل المدينه ، لأنه سيضيق عليهم حاجتهم من الاعلاف لنعمهم وخيولهم , فمنعه الخليفه واشترط على ابن ابي ربيعه ان يأتي بالاعلاف لمرابطه من اراضيه خارج المدينة ، فقبل بالشرط واتى بأعلافها من ارض له في اليمن . وأمر الخليفة القائم على حمى الربذه ( وهي جزء من ثلاثة مواقع ـ النقيع والشرف والربذه ـ كانت حمى لبيت المال ترعى فيها خيل وابل المسلمين المعدة للقتال والصدقات , وليبلغ عليها الفقراء الحج الى بيت الله ) بأن يمنع ابل واغنام عثمان ابن عفان وعبد الرحمن ابن عوف من دخول مراعي الحمى ، وان لا يمنع عامة الناس والفقراء من رعي نعمهم في ارض الحمى ، وقال له (ان ابن عفان وابن عوف ان هلكت ماشيتهما رجعا الى نخل وزرع ، واما الفقير والمسكين , فأن هلكت ماشيته جاء يصرخ يا امير المؤمنين...... وطلبت منه هند بنت عتبه زوج ابي سفيان ,قرضاً بأربعة الآف درهم من بيت المال لأجل معلوم ، فلم حان وقت الوفاء تلكأت في اعادتها، وعلم عمر انها تعمل بمشورة من ابي سفيان فأرسل اليه ، وامر بسجنه حتى تعيد زوجته ما عليها ، وظل في سجنه حتى اعادت هند المال للخازن . ومرة اخرى لم يسلم ابا سفيان من السجن حين اخفى عن عمر مالاً ارسله معاوية من الشام مع قيد لم يكن عند العرب مثله , ليؤدها لعمر ، لكن ابا سفيان جاء عمر بالكتاب والقيد واخفى المال ، فلما قرأ عمر الكتاب سأله اين المال فقال : قضينا به ديناً كان علينا وصرفنا الباقي في حاجتنا ، فأمر عمر بوضعه في القيد, ثم ارسله الى السجن حتى اعيد المال , ولما عاد الرسول الى الشام سأله معاويه عن المال والقيد ، فقال : اما القيد فقد وضع اباك فيه ووضعه السجن ، فسأله ولم فعل ذلك ؟ قال : لأن اباك اخفى عنه المال ، فقال معاويه : والله لو فعلها الخطاب لوضعه في سجن . هذا هو عدل عمر يتساوى فيه الغني والفقير والسادة والعامة ، لا تأخذه في الها والحق لومة لائم . في العدل الاجتماعي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اقطع ارضاً لبعض الصحابه وبقيت في ايديهم دون انتفاع منها ، فطالبهم الخليفة بأن يبقوا في ايديهم ما يستطيعون القيام عليه ، والتخلي عما عداه لغيرهم من المسلمين ليعمروه ، فأبوا ذلك وقال بعضهم هذا شيئ اقطعنيه رسول الله ولن افعل ، فقال له عمر انّ رسول الله اقْطَعَكُمُوها لتُحْيُوها فردُوا على المسلمين مالا تستطعون القيام به ، ووالله لتفعلون ، فاسترجع منهم الارض وحماها لبيت المال . وهنا ايضاً يتجلى العقل في الاجتهاد عند ابن الخطاب ، ويخطب في الناس ويقول : ( من حاز ارضاً ليعمرها فأهمل او عجز وجب ان يتركها لمن يقدر على احيائها ، لأن الارض لمن يعمرها ويفلحها ، ومن احيا ارضاً مواتا فهي له ، ومن عطل ارضا ثلاث سنين ولم يعمرها ، فجاء غيره وعمرها فهي له ) . وهنا نتلمس اهمية التدبير والقرار الذي اتخذه الخليفة حين رفض قسمة ارض فارس وابقاها ملكاً للأمة ، وابقى على الفلاحين ليعمروها نظير خراج يُؤدوه لبيت المال . واقام مكانا يُطعم فيه الفقراء والمساكين وابناء السبيل كل يوم ، وكثيراً ما كان يتفقد حاجة الزائرين لهذا المكان ويخفف عنهم . كما امر برعاية اللقطاء ممن لا اباً لهم من الاطفال ، وامر لهم بعطاءٍ يكفي حاجتهم من الطعام واللباس ، وحض على العناية بهم ، وزاد في العطاء لمن يكفلهم . في العدل والساواة لا يُذكر العدل كصفةٍ بين الناس إلا واتّجه العقل الى أول من وُصف به في الاسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ذلك هو عمر بن الخطاب ،.الذي اتعب من جاء بعده من الحكام والسلاطين في تاريخنا الاسلامي ، فقد جعل ابن الخطاب من قوله وسلوكه وافعاله مثالا يُبنى عليه ويُقارن به ، وسعى لجعل العدل اساسا يقوم عليه نظام الدولة الاسلامية ، مُبْتَدأ بنفسه واهله . فحين احوجته مهام الحكم ومتابعة شؤون الامة ، ان يتوقف عن العمل في شكل من اشكال التجارة ظلّ يمارسه في عهد الرسول صلى الله علي وآله وسلم ، وطيلة عهد الخليفة الاول ، طلب من هيئة المهاجرين ان تجعل له من بيت المال ما يقوم بحاجته ، ولما سُئِل عن مقدارها قال ( ما اصلحني واصلح عيالي بالمعروف ، كرجل من اوسط قريش في معاشهم ، وحلّة في الشتاء واخرى في الصيف ، وراحلة أحج عليها واعتمر ، ودابة في حوائج اهلي وجهادي ) هذا ما طلبه ابن الخطاب امير المؤمين وقائد الامة ، لا يميز نفسه عن غيره من المسلمين ، ولا يتصرف في بيت المال إلا عن مشورة ، من اصحاب رسول الله واصحابه . وحين أوغْل في الجور على نفسه في عام الرماده ، طلب منه بعض اعضاء هيئة الشورى ان يوسع على نفسه قليلا ، فقال لهم ( كيف يعنيني شأن الرعية اذا لم يمسني ما يمسهم ؟؟ ) ويتجلّى إيمانه بالعدل وقيمه الاساسية في بناء المجتمع الآمن افراده على انفسهم واموالهم واعراضهم وحقوقهم وارتباط هذا الامن بالعقيدة ليتحقق السلام والتكافل بين افراد الامة ، فينالوا الجزاء في الدنيا والاخرة . فصلاح الامة يعتمد على الايمان بالله وبالعقيدة والإقتداء بوليّ الامر القائم على رعاية حقوقها وحاجتها وما يصلحها ، فيقول الخليفة ( ان الرعية مؤدّية للإمام ما ادّى الامام الى الله ، فأن رتع رتعوا ) لذلك جعل من العدل والمساواة بين الناس على اختلاف مواقعهم اساسا لإقامة نظام الحكم في الدولة ، فبدأ بنفسه كي تقتدي به الرعية ، فَيْشتدّ على اهله ويحذرهم من التمايز عن غيرهم من عامة الناس ، فيقول لهم ( قد سمعتم ما نَهيْتُ عنه ، واني لا اعرف احداً منكم يأتي شيئا مما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب ) . واتضح ان ما كان يتقاضاه من بيت المال لا يفي بحاجته وحاجة اهله ، فكان يقترض من بيت المال فإذا أيسر قضاه ، حتى بلغ ما عليه لبيت المال يوم طعن ، ستة وثمانون الف درهم ، فأوصى ابنه عبد الله ابن عمر ان يجمعها من بني عدي ، فأن اوفت وإلا اخذها من قريش لا يعدوها . ولما بويع لعثمان ، جمعها ابن عمر واشهد الصحابة على دفعها لبيت المال ، ولعمر في هذا السياق قولٌ مأثور عنه ((اني انزلتُ نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم ، ان استغنيت استعففت ، وان افتقرت اكلت بالمعروف ، فأن ايسرت قضيت )) وحين حضرته الوفاة اشار عليه المغيرة ابن شعبه ان يستخلف على المسلمين ابنه عبد الله بن عمر ، فرد عليه ( ويحك والله ما اردت الله بهذا ، لا حاجة لنا في اموركم ، وما حمدتها لأرغب فيها لأحدٍ من بيتي ، ان كانت خيراً فقد اصبنا منه ، وان كانت شراً فبحسب آل عمر ان يحاسب منهم واحد ) . وهكذا لم يسمي احداً يخلفه في الامة ، وجعلها بين اهل الشورى ، يختارون احدهم من بينهم بعد ان اخرج منها ابن عمه زيد ابن نفيل .
#عمر_ياسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيما نقمت الامة على عثمان بن عفان
-
الثورات العربية بين مطرقة الأنظمة وسندان الغرب..! - الحلقة ا
...
-
الثورات العربية بين مطرقة الأنظمة وسندان الغرب..! - الحلقة ا
...
-
الثورات العربية بين مطرقة الأنظمة وسندان الغرب..! - الحلقة ا
...
-
الثورات العربية بين مطرقة الأنظمة وسندان الغرب..! - الحلقة ا
...
المزيد.....
-
منى واصف لـCNN بالعربية: -مرتاحة- للمشهد في دمشق
-
الأطفال الناجون من الموت في قطاع غزة ليسوا أحسن حالا ممن فقد
...
-
إسرائيل تعتقل مشتبها به بعد إطلاق النار على طفل بعمر 10 سنوا
...
-
مصدر دبلوماسي يؤكد لـCNN جدية حديث حماس وإسرائيل بالمفاوضات
...
-
روسيا.. ابتكار منصة لإجلاء الجرحى من الخطوط الأمامية
-
مراسلة CNN: الشخص الذي ظهر في أحد الفيديوهات في سوريا اليوم
...
-
المبادرة المصرية تدين القبض على سوريين احتفلوا بسقوط الأسد .
...
-
فيديو متداول على نطاق واسع لشخص يشبه الصحفي الأمريكي أوستن ت
...
-
بيان هام للسوريين في مصر
-
-إسرائيل هيوم-: أكراد سوريا طلبوا مساعدة عاجلة من إسرائيل
المزيد.....
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
المزيد.....
|