أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - قاسيون - النص الكامل لتقرير هيئة الرئاسة بين جلستي المؤتمر الاستثنائي















المزيد.....



النص الكامل لتقرير هيئة الرئاسة بين جلستي المؤتمر الاستثنائي


قاسيون

الحوار المتمدن-العدد: 1076 - 2005 / 1 / 12 - 09:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


تحت شعار «وطن حر، بشعب مقاوم» افتتح المؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السوري بتاريخ 17/12/2004 أعمال الجلسة الثانية. وفيما يلي النص الكامل لتقرير هيئة رئاسة المؤتمر الذي أقره المؤتمر:
مقدمة:
انعقد مؤتمرنا الاستثنائي تحت شعار: «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار»، وإن كنا لازلنا نعتقد باستمرار راهنية وحيوية هذا الشعار الوطني والطبقي الكبير إلا أن شعار جلستنا الثانية للمؤتمر الاستثنائي، أي الشعار الخاص بهذه الجلسة الذي يأتي بعد الشعار الكبير هو: «وطن حر بشعب مقاوم»، وهو يعكس اللحظة الراهنة تحديداً. فإن كان شعار المؤتمر الاستثنائي يستبطن جميع الشعارات الوطنية والطبقية التي رفعها وناضل من أجلها الشيوعيين السوريين، إلا أنه استمرار وتطوير لهذه الشعارات بآن معاً، مثل: الدفاع عن الوطن والدفاع عن لقمة الشعب، وطن حر وشعب سعيد، خبز وسلم وحرية، سورية لن تركع. ويخطئ من يظن أننا رفعنا هذا الشعار الكبير: كرامة الوطن والمواطن.. لمجرد التمايز عن غيرنا، وهكذا بيّنا أن تطوير الشعارات التي تعكس المهام الملحة والآنية، لا تعني انقطاعاً عن الماضي، بل استمراراً له في الظروف الجديدة.
إن واجب الشيوعيين على الدوام هو تطوير وتصويب الشعارات نحو الحاجات الجديدة لشعبنا ووطننا في وقت تزداد فيه أكثر من أي وقت مضى ضرورة الربط الجدلي بين المهام الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية فمنذ توقيع ميثاق شرف الشيوعيين السوريين فرضت علينا المهام التي نواجهها وطنياً واجتماعياً وديمقراطياً، أن نرفع الشعارات المناسبة والمنبثقة من رؤيتنا الجديدة وخطابنا السياسي وممارستنا العملية على الأرض، وهكذا رفعنا مجموعة من الشعارات الجديدة على راياتنا على ساحة الوطن من أهمها إضافة إلى شعار «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار» شعارات: «المقاومة هي الخيار الوحيد، المقاومة هي القمة، الحرية للوطن، العيش الكريم للشعب والديمقراطية للمجتمع»
إلى جانب كل ذلك، ونتيجة لتطورات الوضع منذ انعقاد الجلسة الأولى للمؤتمر الاستثنائي يصبح مبرراً شعار: «وطن حر بشعب مقاوم» فالتجربة الماضية أثبتت أن الخطر كبير على الاستقلال الوطني وأن الطريق الوحيد للدفاع عنه هو الاعتماد على الشعب. ومن نافل القول التأكيد أن الاعتماد على الشعب يقتضي تلبية حاجاته المختلفة التي في الأوضاع الملموسة الحالية لايمكن تأمينها دون ضرب واجتثاث مراكز النهب والفساد التي تضر الاقتصاد الوطني والسيادة الوطنية وكرامة المواطن. إن هذا الشعار يصبح أكثر إلحاحاً في ظروف اليوم، ونعتقد أنه من المفيد خلال المرحلة القادمة إبرازه والعمل على أساس المهمات التي يفرزها، وهو شعار مكمل لشعارنا الكبير كرامة الوطن والمواطن... في الظروف الراهنة.
إن تحويل كل مواطن سوري لمقاوم هي مهمة سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة، وينعكس فيها الترابط الجدلي بين مهماتنا الثلاث: الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية، وبحال تحققت ستكون خطوة هامة لاشك باتجاه تحقيق شعارنا الكبير: «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار».
الفصل الأول
مستجدات الوضع الدولي

استناداً لتقرير المؤتمر الاستثنائي في جلسته الأولى منذ عام، والذي تناول بالتحليل العميق الوضع الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وحتى انعقاد المؤتمر في 18/12/2003، من المفيد أن نتناول الآن جوهر التطورات التي شهدها الوضع الدولي خلال عام استناداً إلى استنتاجاتنا حول تعمق تناقضات الرأسمالية بسبب المشكلة العضوية البنيوية التي تعاني منها وخاصة اقتصادياً والتي لا حل لها بالداخل بحيث اتضح على وجه الخصوص لقادة الإمبريالية الأمريكية ومنظريها أن استفحال التناقضات يمكن أن يؤدي إلى انهيار بنيوي شامل، عند ذاك لجأت إلى الحل العسكري كحل وحيد لأزمتها بذريعة الحرب على الإرهاب.
وإذا كنا الآن لسنا في وارد الجدل حول أن الإمبريالية الأمريكية محكومة بالحرب ومحكومة كذلك في توسيع رقعة الحرب لأن الحياة أثبتت صحة ذلك فإننا نقف عند المؤشرات الجديدة والتي سبق لنا أن توقعنا حدوث معظمها:
أ ـ ازدياد تراجع موقع الولايات المتحدة الاقتصادي وازدياد الوزن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي مع ازدياد التناقض بين هذين العملاقين، الشيء الذي يعكس الجوهر الطبقي للهجمة الإمبريالية الأمريكية وقبل ذلك يعكس الجوهر الطبقي لاستراتيجية السيطرة السياسية والعسكرية إزاء كل موارد الكرة الأرضية الطبيعية والبشرية كحل استباقي لأزمتها التي لاحل اقتصادياً لها. وقد أقر الكونغرس الأمريكي منذ أشهر نظرية الحروب الاستباقية ضد أي بلد أو بلدان تهدد مايسمونه بالمصالح الأمريكية.
والحروب الاستباقية هي مفهوم مختلف عن الحروب الوقائية، فإذا كانت الحرب الوقائية تعني استباق حرب بحرب، فإن الحرب الاستباقية تعني استباق التخلف في الميادين الاقتصادية والعلمية..إلخ عن الآخرين بحرب من أجل تأمين التفوق اللازم. إن مهمة الحرب الاستباقية هي تأمين التفوق السياسي حتى إن كان التهديد العسكري غير موجود، فيكفي مثلاُ تهديد التفوق الاقتصادي باكتشاف علمي ما في مكان ما كي تصبح الحرب الاستباقية مبررة بالنسبة لأصحاب هذه النظرية، وإن كان هذا يبرهن على شيء فإنه يبرهن على عمق الأزمة التي تعيشها الإمبريالية الأمريكية والتي لاحل اقتصادياً لها. ونظرية الحروب الاستباقية هي اعتراف بذلك، فهي ليست رداً على خطر عسكري، بل هي رد على أي تهديد سياسي أو اقتصادي أو علمي قد يهدد المصالح الامبريالية الأمريكية.
ب ــ إذا كان طبع الدولار الورقي بكميات هائلة بعد إلغاء اتفاق «برايتون وودز» قد أعطى واشنطن وضعاً تمييزياً سمح لها بالاستيلاء على ثروات العالم دون مقابل، فإن الولايات المتحدة الآن تعاني من شبح الاستغناء عن الدولار كمعيار للتبادل العالمي، الشيء الذي يمكن أن يحدث زلزالاً وانهياراً للاقتصاد الأمريكي. واليورو الآن ليس فقط يطرد الدولار من ساحة واسعة كان يشغلها منذ مشروع مارشال حتى ظهور الاتحاد الأوروبي بل يتفوق على الدولار من حيث القيمة التبادلية بنسب لم يكن أحد يتوقع تسارعها كما هي عليه اليوم (واحد يورو يساوي دولار فاصلة 35). وإذا كان بعض المحللين الاقتصاديين في العالم الثالث الذين لايرغبون بانهيار الدولار الأمريكي كانوا يرجعون ارتفاع اليورو إلى رغبة واشنطن في زيادة صادراتها، فإن هذه الرؤية الرغبوية وغير العلمية قد تلاشت لأن أمريكا لاتعتمد على الصادرات بل إن مشكلتها في حجم المستوردات.
ج ـ من المعروف أن من بين الأهداف المتوسطة والبعيدة للحرب على أفغانستان والعراق في إطار الحرب العالمية الرابعة كما يحلو للمتطرفين في الإدارة الأمريكية تسمية ما يجري الآن في العراق وأفغانستان، هو تخفيض سعر النفط إلى 10/ 12 دولار للبرميل، فإن أسعار النفط أخذت أبعاداً غير مسبوقة في الارتفاع وهذا سيؤثر على النمو في أمريكا والعالم الرأسمالي المتطور.
فكل ارتفاع 1% بأسعار النفط يؤدي إلى انخفاض النمو في العالم الرأسمالي بنسبة 0.8% ومن المعروف أن سعر برميل النفط قد تجاوز في الأشهر الأخيرة حاجز الـ 50 دولار وتتوقع منظمة الأوبك وكذلك البنك الألماني الذي هو اليوم أهم بنك في العالم من حيث حجمه المالي، وكذلك يتوقع مختصون مختلفون في فنزويلا وإيران وصول أسعار النفط إلى 60 70، بل 100 دولار للبرميل الواحد، وفي ذلك مشكلة عميقة قد تصل إلى أزمة تؤدي إلى بداية انهيارات شاملة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وإذا كان من صالح الولايات المتحدة الأمريكية رفع أسعار النفط للتضييق على مستهلكيه الأساسيين في أوروبا والصين والذين يعتبرون منافسين أساسيين لها في حلبة الاقتصاد العالمي، إلا أنه ليس من مصلحتها بتاتاً التعامل مع سعر البرميل بهذا المستوى. لذلك من المتوقع في حال استمرار ارتفاع سعر البرميل رغم الاهتزازات التي يتعرض لها نحو الأدنى والأعلى، التي إن أنتجت سعراً عالياً في نهاية المطاف من المتوقع أن تضطر الآلة العسكرية الأمريكية للاستيلاء المباشر وبالمعنى العسكري على منابع النفط من أجل تأمين نفط شبه مجاني للآلة الاقتصادية الأمريكية مع الحفاظ على أسعار عالية على المستوى العالمي.
وهكذا نرى أن الهدف المتوسط للحرب يتحقق عكسه على أرض الواقع، لأن المقاومة منعت الغزاة من تحويل احتلالهم إلى ربح اقتصادي كامل فيما يخص سعر برميل النفط عالمياً، مما يضطر الإمبريالية الأمريكية للهروب إلى الأمام عبر توسيع مساحة الحرب والهيمنة.
د ــ عندما يعلن بوش ورامسفيلد وبول وولفوتيتز أن لاشبه بين العراق وفييتنام ومن المستحيل القبول بالخروج من العراق كما حصل في فييتنام، هذا يعني ليس الخوف من هزيمة عسكرية كما حدث في فييتنام، بل الخوف من الانهيار الاقتصادي الذي لايمكن تلافيه فيما لو تخلت الإدارة الأمريكية عن أهدافها المعلنة من الحرب العالمية الرابعة، والتي أعلنت عنها كونداليزا رايس يوم ترشيحها لمنصب وزير الخارجية حين قالت: «على الولايات المتحدة ألا تخجل من استخدام قوتها الخارقة للترويج لقيمها والحفاظ على مصالحها في الخارج، لأن التهديدات المعاصرة لم يعد بالإمكان احتواؤها أو تجنبها إلا عن طريق القوة».
أما مدير مركز سياسات الأمن في الإدارة الأمريكية فرانك جفني، أقرب المقربين من رامسفيلد وتشيني فقد كان أوضح في تحديد الأولويات الراهنة لإدارة بوش الجديدة حيث أكد على التالي:
1. الإسراع بالخلاص من مواقع الإرهاب في العراق.
2. التحضير الجدي لتغيير النظامين في إيران وكوريا الشمالية.
3. تخصيص موارد هائلة إضافية للجيش والاستخبارات من أجل تمكين الولايات المتحدة من خوض الحرب العالمية الرابعة ضد الإرهاب وداعميه ومموليه.
4. استمرار التمسك بالدعم الكامل لإسرائيل لأن الراغبين في تدميرها هم الراغبون في تدمير أمريكا.
5. نهج سياسات تتعاطى مع التهديدات الصينية والروسية المتوقعة وتلك الناشئة في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية (الأرجنتين، البرازيل، فنزويلا، وكوبا والأرغواي).
إذا أمعنا النظر في سلم الأولويات الأمريكية بعد فوز بوش بولاية ثانية نلاحظ أن الإمبريالية الأمريكية عاقدة العزم إن استطاعت على المضي في مشروعها الإمبراطوري على الصعيد الكوني، وبذلك تكون وضعت شعوب العالم أمام خيارين لاثالث لهما: إما الاستسلام وإما المقاومة. وقد صدق الكاتب باتريك سيل عندما قال: «إن فوز بوش يعني أربع سنوات من الحروب الجديدة».
وإذا كانت الإدارة الأمريكية تختار حرب المواقع بالتدريج من أفغانستان إلى العراق، فهي تمهد للانتقال إلى مواقع أخرى في كل القارات وخصوصاً المناطق المرتبطة بأولويات المشروع الإمبراطوري مع اختلاف السينارويوهات والتبريرات والحملات الإعلامية والحرب النفسية. مثلما أعلن بوش عشية غزو العراق، أن أمريكا ستذهب وحدها للحرب، هاهو يعلن في خطاب الفوز: أن أمريكا ستتابع المعركة ضد مايسميه الإرهاب حتى لو بقيت وحدها. كما أن طبيعة الطاقم القديم والجديد وتوزيع المناصب في الولاية الجديدة لبوش يثبت في حقيقة الأمر أن واشنطن هي رأس الإرهاب في العالم ومصدر قوتها الوحيد هو الترسانة العسكرية الخيار الأخير في ترسانة البدائل لديها وهذا يعكس عمق واستفحال الأزمة لديها أكثر فأكثر، والتي لاحل لها إلا في الأوهام القائلة بأن التوحش أكثر ضد الشعوب قد يأتي بالحلول، إلا أن التحليل العميق لظاهرة الشغف الأمريكي بالحروب يؤكد صحة ماذهبنا إليه حول انسداد الأفق التاريخي أمام الإمبريالية الأمريكية وبالمقابل بداية انفتاح الأفق التاريخي أمام خصومها قطب الشعوب، وهذا مايدفعنا إلى الاستنتاج بأن الولايات المتحدة الآن أمام حالة استعصاء شاملة بعد حربها على أفغانستان والعراق، لقد صدق الجنرال جياب بطل فيتنام عندما قال: «إن المقاومة الحقيقية للمحتل تبدأ عندما يبدأ ذلك المحتل بنصب خيامه على الأرض وعند ذاك يبدأ العد العكسي لزوال الاحتلال».
إذا كانت الأسلحة الذكية والدقيقة والتجهيزات الهائلة التي يتمتع بها الجندي الأمريكي لم تجد مايعيقها في إزالة النظام العراقي الاستبدادي، الذي اعتمد على جهاز الدولة فقط نتيجة عدم ثقته بالشعب وعدم ثقة الأخير به، فإن كل هذه الأسلحة الهائلة لم تستطع إخماد جذوة المقاومة العراقية البطلة ضد الاحتلال الأمريكي، وماتصاعد المقاومة العراقية بعد تدمير الفلوجة إلا الدليل على قوة منطق التاريخ وقوة إرادة الشعوب على كل ماعداها من أسلحة وعتاد جهنمي بأيدي الغزاة.
إن المأزق الأمريكي في العراق يتصاعد، ويخطئ البعض الذي يظن أن ذلك سيؤدي إلى انكفاء الآلة العسكرية الأمريكية، لأن انتفاءها ببساطة سيعني انهيار مشروعها الامبراطوري بكل إحداثياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية عالمياً، ولنا في تجربة فيتنام أكبر مثال على ذلك، فحينما تورطت الإمبريالية الأمريكية في حربها في فيتنام الجنوبية أشعلت كل الهند الصينية من فيتنام الشمالية إلى لاوس وكمبوديا التي كانت تعتبر دول الجوار الفيتنامي الجنوبي بحجة قطع خطوط الإمداد والتمويل على الثوار الفيتناميين، وهو ماسمي حين ذاك بـ«التناذر الكمبودي»، واليوم تهيئ الآلة العسكرية الأمريكية الجو الإعلامي النفسي ضد دول الجوار العراقي بحجة قطع خطوط الإمداد والتمويل والدعم للمقاومة العراقية.
إن ملامح التصعيد الأمريكي في المنطقة واضحة لالبس ولاغموض فيها، وهي إن كانت تستهدف في التصعيد سورية أحياناً في الدرجة الأولى، فإنها تنتقل لاستهداف إيران في نفس هذا التصعيد في لحظة أخرى في الإطار العام لما يسمى بتحمية الجو ضمن التحضير الإعلامي النفسي للغزوات اللاحقة. وإذا كانت الغزوات اللاحقة لن تأخذ الشكل الذي أخذته في العراق تماماً، إلا أن هدفها يبقى واحداً وهو تفتيت جميع البنى من دول ومجتمعات ضمن إطار مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي يهدف إلى تفتيت وإعادة تركيب دول ومجتمعات المنطقة بكاملها، ولاأهمية كبرى هنا لأولوية الضربات الأمريكية التي سيحددها تطور الوضع الملموس على الأرض، ولكن من الواضح منذ الان أن الضربات اللاحقة ستأخذ شكلاً مركباً، أي ستستخدم الضغط الداخلي والخارجي بشكل متبادل وستستخدم كل الأدوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية، وأخيراً العسكرية للوصول إلى هدفها المنشود عبر عملية تصعيد تدريجية محكومة بإطار زمني محدد حسب مايصرحون هم أنفسهم بين أعوام 2005 2010، هذه الفترة التي لابد لهم من أن يستكملوا مشروعهم فيها في هذه المنطقة بالذات كي يهيئوا أرضية مواجهة منافسيهم الكبار بعد عام 2010 على أرضية الأوضاع الجديدة على الأرض في المنطقة الممتدة من أفغانستان حتى البحر الأبيض المتوسط. وهكذا برأيهم يحصلون على تفوق استراتيجي على خصومهم بالمعنى الجغرافي السياسي، أي أوروبا وروسيا والصين.
إن انكفاء المخطط الأمريكي تحت ضغط الشعوب ومقاومتها سيعني من كل بد انتهاء عصر الهيمنة الأمريكية وانتقال الأزمة إلى داخلها، وهو ما يتوقعه منظروها الكبار مثل بريجنسكي ويطالبون أجهزة القمع الأمريكية بالتحضير لذلك داخلياً منذ الآن. والمتتبع للوضع يلحظ أن إجراءات الحد من الحريات السياسية والمدنية والشخصية قد سارت قدماً في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة الأخيرة، وهي تجهز آلة الدولة للانتقال إلى نظام حكم فاشي، والتي هي حسب تعريف ديمتروف: أشد الأشكال الرجعية لحكم الرأسمال الاحتكاري.
إن مابدأته الشعوب في مقاومة ديمقراطية العولمة المتوحشة في سياتل لازال يتصاعد ويقوى في جهات الأرض الأربع، ومن كان يتصور أن أكبر مظاهرة في التاريخ ضد حلف الناتو ستحدث في تركيا حيث كان للحزب الشيوعي التركي والقوى الوطنية الأخرى وعشرات القوى العالمية ومنها وفد الشيوعيين السوريين شرف المساهمة في تلك التظاهرة الأممية ضد حلف الناتو البغيض.
إن من تخب ثقته بالتاريخ أو بالأصح بالمادية التاريخية لا تختلط عليه الأمور فقط، بل يخرج من السياق التاريخي الاجتماعي، فعندما نُظمت ندوة فكرية واسعة في دمشق منذ نحو أربع سنوات تحت عنوان: هل للاشتراكية مستقبل؟ قلنا لهم من على منبر الندوة: السؤال يجب أن يكون معكوساً فالأصح القول: هل للرأسمالية مستقبل؟
وهناك معالم كثيرة تؤكد صحة هذا الاستنتاج الذي خرج به مؤتمرنا الاستثنائي في جلسته الأولى:
■ إن استمرار صمود كوبا ومحاصرتها للإمبريالية الأمريكية في عقر دارها وفي الأمم المتحدة بالذات يبرهن أن الإمبريالية الأمريكية ليست كلية القدرة، وهي انطلاقاً من منطق الربح والخسارة الرأسمالي تتعامل مع أي ظاهرة، وينطبق الأمر على الظاهرة الكوبية. فتوازن القوى العسكري مفقود بين الطرفين، ولكن استعداد الشعب الكوبي للمواجهة والتضحية يجعل الإمبريالية الأمريكية تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على أية مغامرة عسكرية، لأن خسائرها ستكون كبيرة ولن تعوضها بتاتاً أرباح الغزو إذا نجح. إن كوبا بصمودها تحفز بؤر المقاومة المختلفة في أمريكا اللاتينية والتي حققت سلسلة من الانتصارات في العام الأخير من الأرجنتين إلى البرغواي وأهمها فنزويلا التي تحولت مع رمزها «هوغو شافيز» إلى نموذج عالمي هام لمقاومة الهيمنة الأمريكية. لقد استطاع مايمثله شافيز أن يجند قوى المجتمع الفنزويلي من خلال الالتفات إلى مصالحه الاجتماعية لمواجهة الإمبريالية الأمريكية والقوى المتواطئة معها في الداخل وإنزال الهزيمة بها، وما كان هذا الانتصار ليتحقق لولا الإنجازات الاجتماعية، وخاصة في مجال التعليم والصحة، والتي تحققت خلال فترة زمنية قياسية.
■ كما أن موجة مقاومة العولمة المتوحشة تزداد اتساعاً في العالم، وتضم قوى جديدة وجديدة إلى صفوفها، آخذة بصياغة البدائل على المستوى العالمي والإقليمي لسياسات الليبرالية الجديدة. لقد كان لمؤتمر «كانكون» ونتائجه صدى كبير، وخاصة في مواجهة ضغوط الكبار في منظمة التجارة العالمية، حيث استطاعت دول صاعدة من العالم الثالث مثل الهند والبرازيل والأرجنتين وجنوب أفريقيا أن تفشل المخططات الأمريكية والغربية للهيمنة على مقدرات الاقتصاد العالمي وبدأت من خلال التوازنات الجديدة المفروضة على الأرض بتبديل شروط اللعبة التي كانت تفرضها الدول الرأسمالية المتقدمة.
■ كما أن متابعة الوضع في روسيا تبين بوضوح أن سياسة الالتحاق بمخططات الإمبريالية الأمريكية لاتجلب إلا الدمار والخراب لمروجيها، وهاهي الإدارة الروسية المتمثلة ببوتين تضطر تحت ضغط الشارع وجهاز الدولة نفسه إلى التمايز، ولو كلامياً في بادئ الأمر، عن السياسة الأمريكية في مجالات هامة إن كانت متعلقة بالعراق أو أوكرايينا أو مجال التسلح...إلخ.
■ إن الحركة الشيوعية العالمية كجزء مكون من الحركة الثورية العالمية التي تستجمع قواها للنهوض تعيد بناء نفسها اليوم ويتبلور في هذا المجال مركزان هامان يجري فيهما حوار بين أطراف الحركة الشيوعية العالمية:
■ المركز الأول أثينا، بمبادرة من الحزب الشيوعي اليوناني حيث يجتمع في العام مرة أو أكثر ممثلو طيف واسع من الحركة الشيوعية العالمية، وإن كانت هذه الاجتماعات لم تسفر عن نتائج ملموسة بسبب الوزن العالي نسبياً للأحزاب الشيوعية ذات الميل الاشتراكي الديمقراطي في هذه اللقاءات، إلا أن تبلور الاتجاه الثوري في الحركة الشيوعية يسير قدماً ولو بصعوبات كبيرة. ومشكلة اللقاءات في أثينا أنها وصلت إلى نقطة أصبحت فيها غير قادرة على اتخاذ مواقف ملموسة مشتركة بسبب الفيتو الذي تفرضه مجموعة الأحزاب الإصلاحية على أي عمل مشترك، أو موقف مشترك فعلي، ويبقى هذا المركز رغم عدم فاعليته مركزاً هاماً لتبادل الآراء وللتضامن في أحسن الأحوال.
■ أما المركز الثاني في بروكسل، والذي ينظم ندوة سنوية في الأول من أيار كل عام بمبادرة من حزب العمل البلجيكي، فإنه يبدو أكثر وضوحاً في المواقف وأكثر ميلاً إلى فكرة تشكيل مركز أممي جديد للحركة الشيوعية العالمية، وسيكون هذا الموضوع بالذات موضع بحث في الندوة القادمة في الأول من أيار 2005. ومع أن هذا المركز يضم أحزاباً شيوعية مختلفة الجذور التاريخية (ماوية، يسارية متطرفة، شيوعية...)، إلا أنها وبسبب التجربة التاريخية تعيد النظر في الكثير من منطلقاتها السابقة وتجتمع على المقاومة الفعالة والنشيطة لليبرالية الجديدة وللمشروع الإمبراطوري الأمريكي.
والجدير بالذكر أن هنالك أحزاب كثيرة تشارك في اللقاءات بآن معاً في أثينا وبروكسل، ونتطلع إلى أن تقدم هذه الحوارات واللقاءات نتائج ملموسة في المستقبل القريب، لأن الوضع العالمي يتطلب الانتقال من حالة التفكير والتمحيص المجرد إلى حالة الفعل الملموس المستند إلى التفكير والتمحيص في الماضي والحاضر والمستقبل، على هذا الأساس يمكن القول أنه بعد جلسة مؤتمرنا السابقة بدأنا بإعادة العلاقات مع أوساط هامة في الحركة الشيوعية العالمية وأهمها الحزب الشيوعي السوفييتي والمصري، ونشرنا نتائج اللقاءات في حينه في «قاسيون»، وكان من أهم نتائج اللقاء مع الحزب الشيوعي السوفييتي أن كلا منا قد توصل بشكل مستقل عن الآخر إلى نفس النتائج التي أشرنا إليها في تقرير المؤتمر الاستثنائي حول أسباب تراجع الحركة الشيوعية العالمية، كما وصلنا لنفس التشخيص حول انفتاح الأفق التاريخي بالنسبة للحركة الثورية العالمية وانسداده بالنسبة للإمبريالية العالمية. وقد انعكس ذلك في البيان المشترك الذي صدر عن اللقاء والذي نشرته قاسيون في حينه.
إن سياق تطور الأوضاع العالمية ونشاطنا في هذا المجال وكذلك رؤيتنا وتحليلنا يؤكد صحة الاتجاه الأساسي لاستنتاجات الجلسة الأولى للمؤتمر الاستثنائي التي مازالت تحتفظ بحيويتها ومازالت نقطة استناد منهجية لنا في التحليل والرؤية.
الفصل الثاني
الوضع العربي
عندما نقول أن النظام الرسمي العربي قد استنفد نفسه، ننطلق من رؤية منهجية وهي أن النظام الرسمي العربي لم يأخذ مرجعيته من الداخل، أي من شعوبه ولم يستقو يوماً بها، بل كان يستقوي على شعوبه بالدعم الخارجي في مرحلة الحرب الباردة ولايزال يحاول فعل ذلك رغم تغير الظروف.
وطالما تغيرت الظروف السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور بداية المشروع الإمبراطوري الأمريكي منذ أوائل التسعينات، والإعلان الرسمي لواشنطن عن ذلك المشروع بعد 11 أيلول، صار مطلوباً من وجهة نظر واشنطن استبدال الأنظمة الاستبدادية والقروسطية في المنطقة بدكتاتورية رأس المال المعولم، والمسلح، وهذا ماأعلن عنه قادة البيت الأبيض بتغيير هوية الثقافة السياسية لبلدان المنطقة وتغيير لون الخرائط فيها عبر الاستفادة من دور مركزي مرافق للكيان الصهيوني في إنجاز هذه المهمة بعكس ماكان عليه الحال في حرب الخليج الثانية، ولعله من المفيد التذكير بقائمة الممنوعات على النظام الرسمي العربي في ضوء المخطط الأمريكي الصهيوني:
- ممنوع الحديث عن الوحدة العربية وعن التنسيق السياسي وعن التضامن العربي.
- ممنوع الحديث عن الأمن العربي بما فيه الأمن الغذائي.
- ممنوع الحديث الرسمي عن دعم المقاومة أو التفكير باللجوء إليها حتى مع رفض إسرائيل المطلق للسلام.
- ممنوع الحديث عن رفض العولمة أو رفض الإصلاح القادم من الخارج.
- ممنوع الحديث عن الشرعية الدولية إلا وفق المفهوم الأمريكي الصهيوني لها، الذي يلغيها ويستبدلها بالوعود الزائفة، فمنذ مؤتمر مدريد لم يبق أمام النظام الرسمي العربي من عناصر السلام سوى «خارطة الطريق» المحملة بـ 14 اعتراضاً إسرائيلياً وخطة الفصل الأحادي، وجدار الفصل العنصري الذي يبتلع 58% من مساحة الضفة الغربية.
إن رضوخ الحكام العرب لقائمة الممنوعات المشار إليها عمّق ليس فقط من مأزق النظام الرسمي العربي، بل كشف كذلك عمق الأزمة عند الحركة السياسية العربية عامة، وبالمقابل بدأت تتراكم حالات العداء والاحتقان والكراهية عند الشعوب العربية ضد الوحشية الإمبريالية الصهيونية وضد النظام الرسمي العربي على حد سواء، ومن هنا تأتي أهمية تنامي المقاومة في العراق وفلسطين وجنوب لبنان لتؤسس لحركة جماهيرية فاعلة في المرحلة اللاحقة وهذا مانشهده من تنامي التأثير الشعبي السياسي لخيار المقاومة الشاملة، فإذا لم تتجاوز الحركة السياسية العربية وقواها الوطنية أزمتها وصعوباتها، فإن بدائل أخرى ستظهر على الساحة لأن المجتمع مثل الطبيعة لايقبل الفراغ، ومن الواضح الآن أن النظام الرسمي العربي يواجه أزمة مركبة، فهو يفشل شيئاً فشيئاً في استمرار تسويق نفسه لواشنطن ودول الغرب الأخرى وفق صيغة الوكلاء السابقة، وبذات الوقت تزداد كراهية الشعوب له، بسبب استعداد النظام العربي الرسمي للتفريط بالسيادة الوطنية واستمرار القمع ومصادرة الحريات العامة وغياب الديمقراطية عن المجتمع وتفشي ظواهر النهب والفساد والبطالة، والتفسخ الاجتماعي مع كل مايرافق ذلك من بداية انهيار أمن المجتمع بل الأمن الوطني لصالح أمن الأنظمة، ولعل هذا سيكون من بين العوامل التي تجعل لشعارات مايسمى بالإصلاح القادم من الخارج المغلف بشعارات حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتبادل السلطة، سحراً خاصاً لدى بعض المثقفين وبقايا الأحزاب التي خرجت من واجباتها ودورها إزاء الناس وقضاياها الاجتماعية الاقتصادية والديمقراطية، لكن احتلال العراق وماحدث ومايحدث هناك يظهر بجلاء أن حساب القرايا لن ينطبق على حساب السرايا، فالغزاة الجدد لم ولن يأتوا إلى هنا لإصلاح شؤون الشعوب والحفاظ على مصالحها، بل على العكس من ذلك تماماً سيستفيدون من كراهية الشعوب العربية للنظام الرسمي العربي من أجل الوصول إلى هيمنة كاملة على دول المنطقة عبر تفتيت البنية وتغيير الثقافة السياسية والعادات والتقاليد وابتلاع جميع الهويات الوطنية لدول المنطقة لصالح تعميم النموذج الأمريكي بالترغيب والترهيب، ومع ازدياد انكشاف الأهداف الاستراتيجية العدوانية لمشروع إصلاح الشرق الأوسط الكبير لم يعد الترغيب مجدياً، بل صار المطروح، كأداة رئيسية لتنفيذ المشروع هو الخيار العسكري، ولن تفيد النظام الرسمي العربي أية مراهنات على قوى دولية أخرى لوقف جموح واشنطن نحو الحرب، فتلك القوى غير قادرة على ذلك، فأوروبا عملاق اقتصادي وقزم عسكري وروسيا عملاق عسكري وقزم اقتصادي ومفتقدة للإرادة السياسية (الموقف من أوكرانيا نموذج) والصين تعلن أنها منشغلة في أمورها حتى 2010 وليس لديها الاستعداد لأن تلعب دوراً عالمياً ضمن توازن القوى القائم، فأمام هذا الواقع لم يبق أمام شعوبنا إلا أن تقاتل وتناضل على جبهتي الداخل والخارج، ولعل النموذج الذي اختطته المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان والعراق هو الخيار الوحيد لمواجهة خطر العولمة المتوحشة وفساد النظام الرسمي العربي.
الوضع في العراق
لقد أكدنا في وثائقنا وفي مجمل خطابنا السياسي أن العراق انتقل من حكم الطغاة إلى حكم الغزاة، وقلنا إن الرهان في قتال المحتلين هو على الشعب العراقي وأن منطق التاريخ سيفرز من بين صفوف ذلك الشعب العظيم مقاومة وطنية عراقية باسلة ستضع المحتلين أمام مأزق لافكاك منه، بغض النظر عن بعض العمليات الإجرامية التي تستهدف المدنيين الأبرياء وهي عمليات مدانة وكنا أول من أدانها لأنها من صنع الاحتلال وعملائه في الداخل والخارج لتشويه سمعة المقاومة الحقيقية التي توجه عملياتها ضد الاحتلال وهذا الذي يعطيها الهوية الوطنية بغض النظر عن انتمائها السياسي أو المذهبي أو العرقي، ونحن لازلنا نعتقد أنه بالمقاومة الشاملة فقط يمكن طرد الغزاة وإعادة بناء الدولة الوطنية في العراق التي فتتها الغزو كهدف أول له أكثر من إسقاط النظام، وبالمقاومة الشاملة للاحتلال يمكن خلق المقدمات الضرورية لإعادة إحياء الوحدة الوطنية لعراق مستقل حر، تعددي ديمقراطي.
ولمعرفة حجم المأزق الأمريكي في العراق علينا تحليل ماينطق به جنرالات الاحتلال وقادتهم في البيت الأبيض والدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الأمريكية والتي تؤكد جميعها على فشل تحويل الاجتياح العسكري إلى انتصار سياسي اقتصادي، وعل هذا ماجعل حسنين هيكل وغيره من الباحثين الاستراتيجيين يؤكدون على أن نهاية المشروع الإمبراطوري الأمريكي ستبدأ من العراق فرغم التعتيم الإعلامي عما يجري في العراق وعن حجم الخسائر التي يتكبدها الاحتلال هناك نلاحظ حالة الاستعصاء المتمثلة بـ:
1. ازدياد عمليات المقاومة وفشل سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها قوات الاحتلال في النجف وكربلاء والفلوجة والرمادي وبعقوبة وسامراء والموصل وغيرها الكثير من مدن العراق.
2. فشل مؤتمر شرم الشيخ حول العراق لأن المشكلة ليست في دول الجوار بقدر ماهي في إرادة الشعب العراقي في الداخل والتعاطي الشعبي عربياً وعالمياً معه.
3. ازدياد عزلة أجهزة السلطة كافة المنبثقة عن الاحتلال والتي تتضاءل قدرتها على حماية نفسها من المقاومة لأن قيادة الاحتلال العسكرية والمدنية في العراق «داخل المنطقة الخضراء» أصبحت حبيسة التحصينات داخل بغداد وهي تتعرض يومياً إلى هجمات المقاومة.
4. الارتباك الشديد حول شكل وكيفية تنفيذ مايسمى بالانتخابات التشريعية والرئاسية في العراق لأنها مفصلة سلفاً بما يؤمن بقاء وديمومة الاحتلال، وتتناقض مع السيادة الوطنية وأولويات الشعب العراقي.
ولايغير من هذه الحقائق محاولة بعض القوى العراقية الاستفادة من واقع الاحتلال المؤقت لتجزئ جسم العراق الجغرافي تحت مسميات تتناقض مع تاريخ وجغرافيا العراق الواحد والمتنوع ثقافياً وعرقياً في إطار الدولة الوطنية العراقية.
عندما يتفق غالبية العراقيين على طرد الغزاة وهم في طريقهم إلى ذلك ستتغلب الوحدة على التجزئة والتناصر الداخلي لصالح العراق الوطني المتعدد المستقل والديمقراطي.
وهنا لابد من توضيح موقفنا من سياسة الحزب الشيوعي العراقي الذي تربطنا به أواصر تاريخية عميقة على أرضية الانتماء الأيديولوجي والمهام التي كنا نحلها بشكل مشترك فيما يتعلق بأوضاع المنطقة. إن للحزب الشيوعي العراقي تاريخاً مجيداً، فقد قدم ألوف الشهداء في معارك النضال الوطني والاجتماعي ضد الاستعمار والديكتاتوريات، ولم يعد مفهوماً لدينا اليوم أي مبرر تضعه القيادة الحالية للحزب الشيوعي العراقي لبقائها خارج تيار المقاومة الفعلية للاحتلال الأمريكي. إن تعقيد الوضع في المرحلة السابقة لم يضعنا نحن كشيوعيين سوريين أمام الثنائية المضللة: إما صدام وإما الأمريكان، فهذه الثنائية صنعتها أصلاً السياسة الإمبريالية الأمريكية تجاه العراق منذ الستينات ويبقى للشعوب خياراتها الفعلية إذا توفرت لها القيادات الجريئة والواعية خارج إطار الثنائيات التضليلية. إننا نتفهم آثار حجم الخسائر المأساوية التي سببها نظام صدام حسين للشيوعيين العراقيين، ليس لهم فقط بل لكل الشعب العراقي. ولكن هذا لا يمكن أن يكون بالنسبة لنا مبرراً للقبول بالاحتلال الأمريكي تحت أي حجة كانت، ولو ادعى البعض أن الاحتلال مؤقت وإذا لم يذهب بالأساليب السياسية فسنقاومه بالأساليب الأخرى لاحقاً. ويحضرنا هنا مثل أحزاب شيوعية أخرى ارتكبت أخطاء جسيمة في تاريخها تجاه المشاركة بالنضال المسلح ضد الاحتلال حيث تأخرت عنه لفترة زمنية قصيرة فقط، والتحقت به فيما بعد وقدمت تضحيات كبرى من خلاله ولكنها مازالت حتى اليوم تدفع ثمن هذا الخطأ الجسيم.
إن الموقف من القضية الوطنية لايتحمل أي خطأ، وهو يضع في الميزان ليس فقط سمعة الحزب المعني بل سمعة كل من كان له علاقة وثيقة معه، لذلك فإن واجبنا القول اليوم أن حزب الشيوعيين العراقيين الذي أنجب فهد وسلام عادل وغيرهم.... من القادة الكبار، والذي سار خلال تاريخه في طليعة المعارك الوطنية، يجب أن يصحح موقفه، وهو إذا قرر ذلك متأخراً بعد أن تنجلي الأمور وبعد أن يتضح أن الاحتلال العسكري جاء بقوة الحراب لاليخرج بوسائل سلمية سياسية، لن تكون لديه القدرة أصلاً لاستعادة سمعته ومكانته للعب دوره المطلوب. وقيادة الحزب بسلوكها الحالي خلقت فراغاً كبيراً في ساحة النضال الوطني وتخلت عن راية النضال في هذا المجال لقوى أخرى كانت هي ذاتها أحوج ماتكون لحزب بوزن الحزب الشيوعي العراقي ليلعب دوره الموحد للقوى الوطنية في هذه المعركة.
إن الشيوعيين العراقيين بما عرفوا به من تقاليد كفاحية مجيدة قادرون على تصحيح دورهم لاستعادة موقعهم في الحركة الوطنية.
إن موقفنا من أي نظام أو حزب، حتى ولو كان اسمه شيوعياً، يتحدد على أساس موقفه من الإمبريالية الأمريكية.
الوضع في فلسطين بعد رحيل عرفات
نحن نعلم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي بالأساس حركة تحرر لقضية عادلة لشعب تعرض لمأساة قل نظيرها في التاريخ على أيدي الحركة الصهيونية والإمبريالية العالمية، وإذا كانت منظمة التحرير ككيان سياسي أخذت في السنوات العشرين الماضية تتماهى مع المواصفات المألوفة للنظام الرسمي العربي وبضغط منه، فإن الانتفاضة الأولى والثانية داخل الأرض المحتلة وإعادة الاعتبار لخيار المقاومة أعاد الأمور إلى نصابها ومنطقها الصحيح وخصوصاً بعد التجارب المريرة التي عاشها الشعب الفلسطيني جراء نهج المساومات الذي لم يحصد إلا التنازلات وازدياد صلف الاحتلال وتهويد الأرض.
وقد لاحظنا أنه عندما وصل شوط المساومات والمفاوضات غير المتكافئة إلى نقطة مفصلية في كامب ديفيد 2001 رفض ياسر عرفات التنازل عن حق العودة والقدس، عند ذاك قررت واشنطن وتل أبيب إنهاءه سياسياً والبحث عن بديل مناسب، فكان الحصار عليه داخل مقره وكان أول المستجيبين للقرار الإسرائيلي الأمريكي النظام الرسمي العربي وكان أول المناصرين لعرفات جماهير الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة وجماهير الانتفاضة، وهذا ماجعل ياسر عرفات أقوى مما كان خلال ترحاله وحرية سفره إلى بلاد العالم وتحول إلى نقطة توازن بين جميع مكونات الشعب الفلسطيني وإن اختلفوا معه.
وبعد رحيل عرفات بقي واقع الحال مقيماً بين مفهومين: مقاومة الاحتلال أو المساومة معه والاكتفاء بما يقدمه من فتات مضخم بالتضليل الإعلامي والمؤتمرات الدولية على شاكلة ماحدث إبان فترة اتفاق أوسلو. ورغم مايسمونه بالانتقال «السلس» لصلاحيات عرفات إلى مسؤولين فلسطينيين آخرين، احتدم الجدل حول مصير الانتفاضة وخيار المقاومة ونزع سلاحها وسبل تحقيق الوحدة الوطنية وتنظيف البيت الفلسطيني من الخلل والفساد وقد برز كل ذلك إلى السطح علانية بعد الإعلان عن ترشيح المناضل السجين مروان البرغوثي لمنصب رئاسة السلطة. واللافت أن حسني مبارك بادر إلى القول: إن ترشيح البرغوثي يشق الصف الفلسطيني واعتبر كولن باول أن البرغوثي يثير المشاكل، والكومبرادور الفلسطيني توعده بإجراءات تنظيمية عقابية، وكل ذلك يعكس الاستشعار بالخطر من البرغوثي السجين والبرنامج السياسي لنهج المقاومة الذي تضمنته رسالتا الترشيح والانسحاب، ذلك النهج الذي أعاد الاعتبار لخيار المقاومة ورفض التفريط تحت مسميات الواقعية السياسية فالمقاومة سجال والاستمرار فيها يفضي إلى نتائج وطنية شاملة، بينما المساومة والتفريط لا يوصلان إلى سيادة وطنية أو استعادة الحقوق المشروعة. ومن هنا لا خلاص من الاحتلال إلاّ من خلال التمسك بنهج المقاومة الشاملة ضد الاحتلال الصهيوني بالاعتماد على الطاقات اللامحدودة للشعب الفلسطيني البطل.
الوضع في لبنان
إذا عدنا قليلاً للإنجاز الكبير الذي حققته المقاومة الوطنية اللبنانية في أيار 2000، وكانت المرة الأولى التي يطرد فيها الاحتلال الإسرائيلي من أرض عربية بالمقاومة دون أي تنازل أو تفريط، نلاحظ أن سورية ولبنان دخلتا دائرة الاستهداف الصهيوني الأمريكي أكثر من أي وقت مضى، وقد ازداد هذا الاستهداف بعد احتلال العراق واتساع الهجمة الأمريكية على المنطقة بهدف السيطرة على بلدانها ومجتمعاتها وثرواتها في إطار المشروع الإمبراطوري الأمريكي. وكان واضحاً منذ إقرار مايسمى بقانون محاسبة سورية في الكونغرس الأمريكي، أن التحالف الإمبريالي الصهيوني سيطور هجومه وضغوطه على سورية ولبنان وبالدرجة الأولى لضرب المقاومة الوطنية اللبنانية وعلى رأسها حزب الله والعلاقات السورية اللبنانية والاستفادة من الخلل الذي يشوب هذه العلاقات الذي تجلى في اعتماد الشريحة السياسية اللبنانية بوجه عام على تأمين مكتسباتها المالية والنفعية وتأمين المناصب السياسية والأمنية لنفسها عبر العلاقات الشخصية مع بعض المسؤولين السوريين المكلفين بالملف اللبناني منذ أواخر السبعينات حتى الآن.
وبالمقابل تفاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان ووصلت الديون الخارجية له إلىأربعين مليار دولار وازداد الأثرياء والمافيات ثراءاً وازداد الفقراء فقراً لدرجة أضعفت الوحدة الوطنية التي كان بالإمكان توطيدها إلى أبعد مدى بعد هزيمة المشروع الإسرائيلي في لبنان.
وبغض النظر عما يقال حول خطأ السياسة السورية إزاء التمديد لرئيس الجمهورية في لبنان، فإن القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن لم يكن نتيجة للتمديد بل هو تصعيد لاحتمالات العدوان الجدية على سورية ولبنان، وهو حلقة جديدة في عملية تدويل قانون محاسبة سورية خصوصاً أن التحالف الإمبريالي الصهيوني لم يعد يأتي على ذكر التمديد، بل يتمسك ببقية بنود القرار الخمسة الأخرى المتعلقة بحزب الله والفلسطينيين والعلاقات السورية اللبنانية وتأمين المناخ لصلح مهين مع الكيان الصهيوني، وضرب أي دور إقليمي لسورية.
ومن هنا لايمكن الخروج من الوضع المتأزم في الشارع اللبناني إلا على أرضية التمسك بالمقاومة وعدم الرضوخ للإملاءات الأمريكية والإقلاع عن أوهام الاستفادة من العامل الخارجي / الأمريكي الفرنسي / بل بالبحث عن إعادة اللحمة الوطنية في المجتمع وليس الاعتماد على الشريحة السياسية الفاسدة التي لاتقيم وزناً لجماهير الشعب اللبناني.
لقد تفاجأ الكثيرون بالموقف الفرنسي تجاه القرار 1559، وكما تبين فإن فرنسا لعبت دوراً أساسياً في المبادرة لهذا القرار وفي صياغته وهو يعكس تحولاً استراتيجياً في السياسة الفرنسية في المنطقة، ولكنه لايعكس تحولاً في السياسة الفرنسية الاستراتيجية في الاتجاه العام، فهذه السياسة بما تمثله من مصالح إمبريالية فرنسية كانت تسعى للحصول على مناطق نفوذ في المنطقة وعندما اتضح لها بعد سقوط بغداد وبعد تأكدها من أن الأمريكيين جادون في توسيع رقعة الهيمنة على المنطقة باتجاه سورية ولبنان رأت أنه من الأفضل ضمن توازن قواها العسكرية والسياسية مع الإمبريالية الأمريكية السير في ركب إرضائها لا إغضابها من أجل الحصول على جزء من الكعكة اللاحقة. وهكذا يتبين أن الإمبريالية بغض النظر عن مسمياتها لاتستند إلا إلى مصالحها الضيقة المتناقضة جذرياً أصلاً مع مصالح الشعوب. وهي بسعيها هذا مستعدة لأن تضرب بعرض الحائط كل القيم والتقاليد والتراث السابق من أجل حفنة من المصالح المادية.

الفصل الثالث
سورية مازالت نقطة مواجهة هامة

لقد أكد تقرير المؤتمر الاستثنائي في كانون أول 2003، أن سورية تشكل نقطة مواجهة مع المخططات الأمريكية والصهيونية في المنطقة، وتأتي أهمية هذه النقطة من وزن سورية التاريخي النوعي وتأثيرها المعنوي على المنطقة والعالم العربي بأجمعه، وكذلك من موقعها الجغرافي السياسي الذي أثبت التاريخ المعاصر أن بمقدوره إفشال أي مخطط لا تسير في ركابه، حتى ولو اكتفت بمقاومته السلبية. وتجربة الخمسينات أكبر دليل على ذلك، فقد صمدت سورية آنذاك في محيط معاد واستطاعت بفضل صمودها إسقاط كل المخطط الاستعماري واضطرت الأنظمة العميلة في الجوار إما إلى التراجع وإما إلى السقوط.
سورية، والمخططات الأمريكية والإسرائيلية
واليوم تتكرر اللوحة وتزداد معركة سورية شراسة ضد المخططات الأمريكية والإسرائيلية، وتبين أكثر فأكثر أن هذه المخططات لا تهدف فقط إلى إخضاع وتطويع المنطقة، بل تهدف إلى أكثر من ذلك بكثير، إنها تهدف إلى تغيير بنية المنطقة ويشمل هذا التغيير الجوهري ثلاثة مستويات:
• بنية الدول.
• بنية المجتمعات.
• بنية ذهنية شعوب المنطقة.
ويصرح بذلك علناً منظرو «الشرق الأوسط الكبير»، ولا يمكن أن نفهم هذه المخططات إلا بإطار محاولات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية بسط سيطرتها وهيمنتها على العالم بأجمعه ومنطقتنا من ضمنه، وإذا كانت نظرية نهاية التاريخ تهدف إلى جعل النظام الرأسمالي نظاماً أبدياً من خلال السيطرة المطلقة على الموارد البشرية والطبيعية للكرة الأرضية، فإن هذه السيطرة لها أدواتها وآلياتها في كل منطقة من المناطق. لقد أشار بزيجينسكي منذ أواسط السبعينات من خلال نظريته «قوس التوتر» إلى هذا الموضوع حينما أشار إلى ضرورة تغيير بنية المنطقة من أجل حماية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وكان يقصد تفتيت بنية الشرق الأوسط والأدنى وإعادة تركيبها من جديد، أي أن «سايكس بيكو» قد استنفدت دورها التاريخي ومطلوب رسم خريطة جديدة للمنطقة، وأصبح من الواضح اليوم أن إعادة رسم الخريطة لا يحمل بعداً جغرافياً فقط، بل له أبعاد أخرى، ديموغرافية واقتصادية وثقافية حتى، وهذا أتت عليه عملياً خطة «الشرق الأوسط الكبير» تحت شعار «الإصلاح والديمقراطية». وهذا ما لمسناه في موضوعات ماسمي بـ «منتدى المستقبل» الذي عقد مؤخراً في المغرب برعاية أمريكية كاملة.
ونظرة سريعة لما يجري في العراق يثير تساؤلاً مشروعاً حول الهدف من الفوضى الجارية فيه، وهل هي عفوية أو مخطط لها؟
وكل المؤشرات الأولية تدل أن الفوضى التي يصنعها الاحتلال الأمريكي كانت مقصودة، فقد جرى مسح بنية الدولة من خلال حل الجيش والمؤسسات الأخرى كما جرى تثبيت التمثيل في مؤسسات السلطة الجديدة ليس على أساس سياسي، وإنما على أساس طائفي وديني وقومي وعشائري، كما جرى خلق كل الظروف لإعادة تكوين البنية الذهنية للشعب العراقي بشكل مشوه من خلال الثنائية المضللة (صدام أو الأمريكان) إن كل ذلك يجعلنا نتخوف من أن يصبح النموذج العراقي المطلوب أمريكياً هو نموذج للتعميم في المنطقة، وليس من برهان على ذلك أفضل من نموذج العربية السعودية حيث يصل المحافظون الجدد في الولايات المتحدة إلى تأكيد ضرورة تغيير ليس فقط النظام السياسي في السعودية، وإنما بنية الدولة والمجتمع، فإذا كانوا يتعاملون هكذا مع نظام خدمهم أفضل خدمة خلال العشرات من السنين، فبالأحرى أن يقوموا بذلك تجاه البلدان الأخرى والمناطق الأخرى والتي تشكل أوزاناً سياسية ومعنوية هامة بالنسبة لتاريخ المنطقة.
من هنا نصل إلى استنتاج هام وهو أن المقصود من التهديدات الأمريكية والإسرائيلية الموجهة ضد سورية ليس تغيير النظام السياسي فقط، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذه القضية لن تكون بقدر خطورة ما يختفي وراءها من تغيير في البنية نفسها.
«إغضاب الاستعمار أسهل من إرضائه»!
لذلك أكدنا دائماً أن مقولة: «إغضاب الاستعمار أسهل من إرضائه» هي صحيحة اليوم وملحة أكثر من البارحة. من هنا فإننا نعتقد أن أوهام البعض بقدرتهم عبر المناورة مع الولايات المتحدة الأمريكية على تجنب الضربة هو سراب وقبض للريح. وهذه المناورات إن كانت قادرة على شيء، فهي قادرة فقط بأحسن الأحوال على التأخير الزمني للضربة، ولكنها بآن واحد تضيع وقتاً ثميناً في تعبئة المجتمع والشعب للمواجهة الحتمية القادمة، وهنا لا يفوتنا أن نذكر أن بعض القوى إن كانت تعتقد بسبب ضعفها أوبسبب خلافها مع النظام أنها يمكن أن تجني ثماراً من وراء مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية مع سورية، فإنها واهمة لأن الإمبريالية الأمريكية إذا استطاعت الوصول إلى هدفها فهي لن تعتمد إلا على أجرائها المباشرين وعملائها المجربين، وهي أصلاً تعتقد أن جو الفوضى هو مرحلة هامة لاستنبات هذه القوى وخلق التربة الملائمة لها على المدى التاريخي لتتحول إلى قوى اجتماعية وسياسية هامة.
لذلك أكدنا وحتى لا يتوهم أحد بإمكانية جني مكاسب من خلال محاولات التكيف أن تغيير الأنظمة هو الشرط الضروري عند الإمبريالية الأمريكية للسير في مخططها اللاحق الذي لا تستطيع التراجع عنه، وهي إن كانت تجبر الأنظمة على تقديم تنازلات وتعدها بالأمان إن فعلت، فهي تريد بذلك التقدم إلى الأمام بأقل الخسائر وبأسرع وقت نحو هدفها اللاحق القاضي بإحداث تغييرات بنيوية عميقة تلغي أي إمكانية للمقاومة في المستقبل، من هذا المنطلق أكدنا على جملة من الأمور، هي:
■ إن الإمبريالية الأمريكية إذا لجأت لإخضاع العراق باستخدام القوة العسكرية في النهاية بعد نجاحها خلال عشرات السنين التي سبقت ذلك في منع القوى الوطنية من أن تلعب دورها المطلوب في حياة البلاد، مما أدى عملياً إلى شل مقاومة الشعب العراقي للغزو العسكري في بادئ الأمر، فإنها بالمقابل وكما تثبت تجربة مصر قد لجأت إلى حل داخلي منذ وصول السادات وتنفيذه اللاحق للمخططات الأمريكية، مما وضع مصر عملياً خارج معادلة الصراع العربي الإسرائيلي وأخل بميزان القوى في هذا المجال، كما أن ذلك مهد للمخطط الليبرالي الجديد في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخلياً أن يبدأ باكرا ًوأن يصل اليوم إلى نهايته المنطقية التي أفضت إلى إخضاع النظام المصري بجملته للإرادة الخارجية، الأمر الذي جعل التناقضات في المجتمع المصري تصل اليوم إلى حافة الانفجار، وهو ما يخيف الأسياد الأمريكان والإسرائيليين الذين لم يعد لديهم ضمانات حقيقية باستمرار ما يمثله نظام حسني مبارك، مما اضطرهم إلى اللجوء إلى حلول استباقية لمحاصرة مصر إذا حصل وخرجت من تحت سيطرتهم، ونعتقد أن أزمة دارفور هي أزمة بالمعنى الاستراتيجي مقصود منها إشغال مصر لفترة تاريخية طويلة بأمور جنوبها المتصل بوادي النيل كي لايكون لديها الإمكانية والطاقة لتلعب أي دور في الصراع اللاحق في المنطقة، مع ما يحمله كل ذلك من إمكانية تأزيم الوضع داخلياً في مصر وصولاً إلى التفتيت إذا لزم الأمر.
استناداً إلى كل ذلك أكدنا أن سورية، بسبب وضعها وتجربتها التاريخية، ليست كمصر ولا كالعراق، ولذلك ستلجأ الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية إلى استخدام حلول مركبة ضدها، والمقصود بالحلول المركبة هو استخدام الضغوطات الخارجية والداخلية بآن واحد معاً حتى لو وصلت الضغوط الخارجية إلى استخدام القوة العسكرية، وحتى لو وصلت الضغوط الداخلية إلى إثارة الفتن وصولاً إلى الاقتتال الداخلي. وأكدنا أن الحل المركب ضد سورية سيكون له إحداثيات عديدة ليست سياسية وعسكرية فقط، وإنما أيضاً اقتصادية ودبلوماسية وإعلامية ونفسية. كل ذلك لأن سورية من الصعب أخذها من الداخل فقط أو من الخارج فقط.
سيناريو الحل المركب ضد سورية
■ إن سيناريو الحل المركب ضد سورية قد أصبح واضح المعالم إلى حد كبير، وأهم معالم هذا السيناريو خلال العام الماضي كانت:
1. القرار الأمريكي حول العقوبات ضد سورية، وإن كان هذا القرار لا يعني شيئاً كبيراً بالفعل من الناحية الاقتصادية مع أن أكثر بنوده اقتصادية إلا أننا يعني الشيء الكثير سياسياً. فهو يهدف إلى تسخين الجو وتهيئة الرأي العام الأمريكي والعالم للخطوات اللاحقة ضد سورية، وإذا لم يكن لدينا أية شكوك حول مجرى اتخاذ العقوبات وحول النهاية التي آلت إليها، إلا أنه حذرنا منذ البداية من خطر الاستخفاف بها، الأمر الذي قامت به بعض أجهزة الإعلام السورية وبعض المحللين «الاستراتيجيين» السوريين، فهم بتوقعاتهم الخائبة قد لعبوا دوراً في تخفيض درجة تعبئة الرأي العام السوري ضد هذه العقوبات. فانطلاقاً من تقديرهم أن الكونغرس لن يوافق عليها، إلى تقديرهم أن مجلس الشيوخ لن يوافق عليها بعد موافقة الكونغرس، إلى تقديرهم أن الرئيس الأمريكي لن يوقع عليها بعد موافقة مجلس الشيوخ، إلى تقديرهم أن الإدارة الأمريكية لن تطبقها بعد توقيع الرئيس الأمريكي عليها. قد سجلوا سلسلة من التوقعات الاستراتيجية الخاطئة التي إن دلت على شيء فهي قد دلت على عدم تقدير صحيح بتاتاً لجوهر الموقف الأمريكي من سورية والمنطقة، يكمن سبب هذا الخلل في بنية التحليل التي لا تنطلق من المصالح الاستراتيجية الطبقية الأمريكية، وإنما تنطلق من البالونات الإعلامية الاختبارية التي هدفها الوحيد هو التضليل وتنويم اليقظة من أجل أخذ الطرف الآخر وهو على أقل قدر من الجاهزية.
كما أن قرار مجلس الأمن 1559 هو حلقة في مسلسل التصعيد في نفس السياق رغم الملابسات التي رافقته المتعلقة بالموقف السوري من الملف اللبناني الداخلي. وتبين الأحداث أن هدف هذا القرار هو إجبار سورية على الانكفاء إقليمياً بشكل استراتيجي، بشكل أن تصبح متأثرة وغير مؤثرة في محيطها الإقليمي مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر في ظل الوزن النوعي المنخفض للاقتصاد السوري الذي هو موضوعياً، بسبب مشاكله البنيوية، غير قادر على حمل الموقف السوري سياسياً. وإذا كان نفس هذا الاقتصاد قد ترافق مع السياسة السورية في الفترة التاريخية السابقة، فإن هذه السياسة إن كانت قد أثبتت نفسها فبسبب الأوضاع العالمية والإقليمية الملائمة التي حققت ريعاً سياسياً كبيراً حملت الاقتصاد السوري نفسه. واليوم بعد أن زالت وتغيرت الظروف الملائمة العالمية والإقليمية يصبح خطر القرار 1559 كبيراً ليتجاوز الحدود اللبنانية واضعا ًنصب عينيه أن يكون عاملاً مساعداً لتفكيك بنية الدولة والمجتمع السوري من خلال التغيير السلبي لوزن سورية الإقليمي.
إن الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية تسعى لتحويل الملف اللبناني إلى عبء على سورية بعد أن كان نقطة قوة لها. وهي في ذلك تستند إلى حد كبير على الأخطاء التي ترتكب في المجال اللبناني من قبل السياسة السورية والتي يجب أن تعتمد على قوى المجتمع اللبناني وليس على الشريحة السياسية الفاسدة والمستعدة لتغيير المعلم بأية لحظة انطلاقاً من مصالحها الطبقية والشخصية الضيقة جداً.
استعصاء اقتصادي شامل.. مراوحة وجمود
2. يبين تطور الأوضاع في العام الذي مضى أن هناك حالة استعصاء شاملة في المجال الاقتصادي والاجتماعي أدت عملياً إلى مراوحة وجمود في مواجهة جميع القضايا الأساسية الحادة التي تواجه المجتمع والاقتصاد الوطني من موضوع محاربة الفساد الذي يراوح في مكانه إلى موضوع معالجة البطالة التي لم يجر فيها أي تقدم، إلى موضوع مستوى معيشة الشعب الذي تراجع رغم زيادات الأجور بسبب ارتفاعات الأسعار، إلى موضوع انخفاض الاستثمارات في الاقتصاد الوطني مع ما يحمله ذلك من خطر انخفاض مستويات النمو المنخفضة أصلاً وصولاً إلى ملف الحياة السياسية في البلاد المتعلق بالحريات السياسية وقانون الأحزاب وقانون الانتخابات وقضية الإحصاء الاستثنائي..إلخ.
إن مجمل هذه الأمور يخلق مناخاً سلبياً في المجتمع يؤدي إلى حالة تعب اجتماعي مع ما يحمله ذلك من خطر إبعاد الجماهير الأساسية عن ساحات الفعل الحقيقية في ظل المواجهة الخطيرة التي تواجهها البلاد. والواضح أن قوى الفساد الكبرى التي تقوم بالنهب الأساسي للاقتصاد الوطني ليس لها أية مصلحة في تحقيق أي تقدم على أية جبهة من جبهات القضايا السياسية الداخلية والاقتصادية والاجتماعية، وهي إن كانت لا تستطيع التقدم إلى الأمام لتنفيذ برنامجها الحقيقي المعادي للجماهير الشعبية وللمصلحة الوطنية، إلا أنها تنجح بامتياز في منع تقدم البرنامج الآخر مما يخلق بسبب توازن القوى في جهاز الدولة حالة استعصاء شاملة تلعب دوراً سلبياً كبيراً في تحديد المناخ السياسي في البلاد. والأرجح أنه في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية فقد أصبح الاستعصاء مطلوباً بحد ذاته انتظاراً للحظة الحسم التي تستطيع فيها قوى الفساد الكبرى الموجودة داخل جهاز الدولة وخارجه والحامل الأساسي لأفكار الليبرالية الجديدة من تحقيق برنامجها المدعوم خارجياً من قبل قوى العولمة المتوحشة.
أحداث القامشلي
3. لقد برهنت أحداث القامشلي المعروف موقفنا منها، أن استخدام بؤر التوتر في الداخل هو أداة مهمة بيد الأعداء لخلخلة الوضع الداخلي، والجدير بالذكر أن أحداث القامشلي قد لفتت النظر إلى أن بؤرة التوتر هذه هي ليست بؤرة التوتر الوحيدة في البلاد. فالأوضاع الاقتصادية الاجتماعية والسياسية يمكن أن تفرز بؤر توتر عديدة على طول البلاد وعرضها. والسؤال الخطير هو: أنه في ظل الأوضاع المعقدة الحالية إذا انفجرت عدة بؤر توتر في آن واحد، كيف يمكن إدارة الأزمة بجهاز دولة مخترق إلى حد كبير من قبل قوى الفساد الكبرى المرتبطة المصالح عضوياً مع قوى العولمة المتوحشة؟.
إن أحداث القامشلي قد أوصلتنا إلى الاستنتاجات التالية:
- إن الجو المناسب للإخلال بالاستقرار هو جو التوتر الاجتماعي الناتج عن تدهور مستوى المعيشة وعن البطالة التي تحولت إلى قضية اجتماعية سياسية بامتياز.
- وبسبب هذا الجو يزداد الوزن النوعي للقوى المهمشة في المجتمع التي يمكن إدارتها بسهولة من قبل أية قوة تريد ذلك ولديها الأدوات والوسائل.
- إن إطلاق أية بؤرة توتر يحتاج لا أكثر ولا أقل إلى خطأ متعمد أو غير متعمد من قبل جهاز الدولة.
- إن الأحزاب والقوى السياسية الموجودة، وبسبب تخلف بناها وانقطاعها عن المجتمع، غير قادرة فعلياً على لعب دور مؤثر في الشارع، هذا الفراغ الذي يمكن أن تعبئه في لحظة حاسمة أي قناة فضائية خارجية.
وهذه الاستنتاجات تجعلنا نفترض أن الحل المركب ببعده الداخلي لابد أن يعتمد على بؤر توتر، وحالة الاستعصاء التي أتينا على ذكرها أعلاه هي عامل مخدّم أساسي لهذا الموضوع.
الندوة الوطنية الأولى والثانية
■ لذلك أكدنا على أهمية تمتين الوحدة الوطنية، وقد لعبت الندوتان الوطنية الأولى والثانية في نيسان وتشرين الأول 2004 دوراً هاماً في هذا المجال. ولو كانتا خطوة أولى في هذا الاتجاه، وتبين من خلال الحوار الذي جرى في هاتين الندوتين أن للوحدة الوطنية أساس عميق في سورية، ولكنه بآن واحد يجب القضاء على كل الثغرات التي تعيق تطوير الوحدة الوطنية وإيصالها إلى مستواها الأعلى الذي يرتقي إلى مستوى التحديات التي تنتصب أمام الوطن. وبيّن الحوار الذي جرى في الندوتين أنه من الممكن والضروري تطوير الوحدة الوطنية على أساس الحوار نفسه الذي يجب أن يفضي إلى أوسع وحدة وطنية. وأكدنا أن الجبهة الوطنية التقدمية ليست هي سقف الوحدة الوطنية، والظروف اليوم تتطلب تآلف أوسع القوى على أرضية الثوابت الوطنية وعدم الاستقواء بالخارج. وبرهنت ردود الفعل المختلفة على مجريات الندوتين أننا على الطريق الصحيح. فالقوى الوطنية أينما كان مكانها رحبت وتعاملت بارتياح مع نتائجها وطالبت باستمرارها، أما بعض القوى الأخرى التي لم يرق لها هذا النشاط فهي انطلقت إما من مصالح حزبية ضيقة جداً أو من خوفها من عملية تجميع أوسع القوى الوطنية لمواجهة التحديات القائمة.
وبينت الندوتان أن هناك قضايا إشكالية لابد من معالجتها وأهمها تحديد الثوابت الوطنية نفسها وتحديد النتائج والأشكال التي يجب أن يفضي إليها الحوار. كما أن النقاش الجاري سيضع أمام كل القوى الوطنية قضية تحديد مهامها الملموسة من أجل إنجاح هذا الحوار نفسه. وكي يكون الأمر واضحاً أكدنا منذ البداية أن هذا الحوار مطلوب منه الوصول إلى جبهة ليس لتقاسم السلطة، وإنما الوصول إلى جبهة على الأرض تجمع أوسع القوى الشعبية بعيداً عن المكاسب والمغانم من أجل جعل سورية عصية على مخططات الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية.
المعارضة والنظام
■ في هذا السياق أكد النقاش الجاري صحة افتراضنا أن ثنائية المعارضة والنظام في ظروف سورية الملموسة هي ثنائية غير حقيقية بل تضليلية، إذ أن خطوط الاصطفاف في المجتمع والدولة لا تمر أبداً على أساس خط الفصل بين النظام والمعارضة في كل القضايا الأساسية، من الموقف تجاه الخطر الأمريكي الإسرائيلي، إلى الموقف تجاه السياسات الليبرالية الجديدة التي تدعو إلى اقتصاد السوق الحر، إلى الموقف من القضايا الاقتصادية الاجتماعية التي تؤثر على حياة الجماهير الشعبية، وأخيراً إلى قضايا الديمقراطية التي يجب أن تتحول إلى سلاح فعال لمواجهة التحديات الكبيرة.
لقد اتهمنا الكثيرون، أحياناً عن حسن نية وأحياناً عن سوء نية، بأن مواقفنا هي مواقف بينية، أي بين النظام والمعارضة، وغير واضحة، وإننا نضع « رجل في النظام ورجل في المعارضة». إن مواقفنا المبدئية التي تنطلق من التحليل الاجتماعي الماركسي للظواهر والحوادث الاجتماعية تفرض علينا أن نحدد مواقفنا من أية قوة أو أي شخص على أساس موقفه من القضايا المبدئية الكبرى والتي يمكن تلخيصها كلها بعنوانين كبيرين:
- الموقف من كرامة الوطن تجاه المخططات الإمبريالية.
- والموقف من كرامة المواطن تجاه القضايا الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية التي تخصها.
مواقفنا من القضايا الأساسية
وهذا إن كان يؤكد على شيء فهو يؤكد على صحة استنتاج جلستنا السابقة حول ترابط المهام الثلاث: الوطنية، والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية. لذلك نعتبر أن مواقفنا واضحة جداً من القضايا الأساسية:
- الموقف من الإمبريالية الأمريكية وضرورة مواجهتها بالمقاومة الشاملة.
- الموقف من الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق الحر الذي يشكل خطرا ًعلى الأمن الوطني بمعناه العام.
- الموقف من القضايا الاقتصادية الاجتماعية التي تهم الجماهير الشعبية.
- الموقف من الديمقراطية والحريات السياسية التي بدونها لا يمكن الكلام عن كرامة كاملة للمواطن.
فأي وضوح أكثر من هذا في مواقفنا؟! والأصح أن كثير من القوى الأخرى غير واضحة المواقف في الكثير من القضايا المذكورة أعلاه. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الاصطفاف الاجتماعي الجاري في البلاد لا يتطابق نهائياً مع الاصطفاف السياسي القائم على أساس بنية الأحزاب الموجودة، نفهم إلى حد كبير الاختلاطات في الرؤية التي تحدث لدى البعض عند تقييم مواقفنا.
فالقوى السياسية الصافية التمثيل الاجتماعي في سورية اليوم هي قوى نادرة جداً، فأكثر الأحزاب السياسية التي فقدت إلى حد كبير دورها الوظيفي تحوي في داخلها حزبين أو أكثر تجاه القضايا الاقتصادية الاجتماعية وحتى الوطنية المطروحة اليوم على جدول الأعمال، وهذا يعني أن الفضاء السياسي السورية المتكون في الخمسينات لم يعد يمثل بشكل واضح ودقيق القوى الاجتماعية الموجودة على الأرض فعلياً، فكيف يُطلب منا أن نحدد مواقف نهائية من قوى وأحزاب سياسية برمتها هي اليوم لا تمثل اجتماعياً برامج واضحة المعالم، ونجزم أنه نتيجة لهذا التناقض بين الشكل السياسي للأحزاب والتمثيل الاجتماعي لها يجري اليوم إعادة تكوين لبنية الحركة السياسية مما سينتج في نهايته تلك القوى والأحزاب السياسية التي تحمل برامج وطنية اقتصادية اجتماعية واضحة الملامح، إن كانت يمينية أو يسارية، عند ذلك ستوضع الأمور في نصابها عندما يجري التطابق التام بين التمثيل السياسي والاجتماعي. وآنذاك سيفهم أولئك الذين يطرحون سؤال: «أين أنتم الآن»؟ موقفنا الذي يلعب اليوم دوراً هاماً وطليعياً في إعادة تكوين البنية السياسية في البلاد التي تخلفت عن متطلبات الحياة والواقع.
إن حل هذا التناقض كفيل بتفعيل الحياة السياسية وإعادة القوى السياسية إلى المجتمع، التي خرجت منه بسبب تخلف بناها وبرامجها وتمثيلها عن متطلبات الواقع.
المعركة المفتوحة ضد الليبرالية الجديدة
■ من هنا تأتي أهمية المعركة المفتوحة ضد الليبرالية الجديدة، فالليبرالية بالمعنى الكلاسيكي كانت تمثل أيديولوجيا الرأسمالية في مرحلة صعودها، وحينما تلجأ اليوم قوى العولمة المتوحشة إلى الترسانة القديمة لاستخراج نظريات وحلول، فإنها تقوم بذلك حينما أصبحت الرأسمالية كمنظومة اقتصادية اجتماعية رجعية على طول الخط، لذلك فإن الليبرالية الجديدة تمثل أسوأ وأبشع وجه للرأسمالية في عصرنا الحالي، وإذا كان البعض يتوهم، وبسبب استعصاء المشكلة الديمقراطية في البلاد العربية، أن هذه الوصفة ستأتي بالديمقراطية المنشودة فإنهم واهمون، فقد أثبتت الليبرالية الجديدة في العالم الثالث أنها مرادف لمزيد من القمع ومزيد من تقييد الحريات السياسية وهذا طبيعي، فالليبرالية كفكر للرأسمال المعولم والمسلح الساعي إلى بسط سيطرته عبر تفتيت وإخضاع الكيانات الوطنية من أجل تأمين حرية حركة الرساميل التي تعاني من أزمة مستعصية في بلدانها بسبب حجمها النقدي المتضخم، أدت وتؤدي إلى مزيد من الاستغلال والإفقار لشعوب العالم الثالث مع ما يحمله ذلك من زيادة خطر تصاعد التوترات الاجتماعية التي لا يمكن مواجهتها إلا بالقمع، ومثال العراق أكبر دليل على ذلك، فرأس الليبرالية الجديدة في العالم، الإمبريالية الأمريكية استخدمت القوة العسكرية مع كل ما تحمله من قمع وقتل من أجل السيطرة على ثروة العراق ووضعها تحت رحمة الاحتكارات الكبرى.
إن الليبرالية الجديدة بالمعنى الفكري والتطبيقي هي السلاح الأساسي اليوم للإمبريالية، ليس فقط للسيطرة الاقتصادية، وإنما أيضاً لتفتيت بنى المجتمع والدول، وننظر للخصخصة الشاملة كأداة أساسية من أدوات الليبرالية الجديدة من هذا المنظار فهي ليست أداة فقط من أجل إعادة توزيع الثروة ضد أكثرية الشعب، بل هي أداة تفكيكية كبرى من أجل الإخضاع النهائي لمناطق وبلدان بكاملها، من هنا يصبح النضال ضد الليبرالية الجديدة مهمة وطنية كبرى، وتتصاعد في العالم موجة مقاومتها وتحقق نجاحات كبيرة في دول هامة بأمريكا اللاتينية وآسيا، لذلك فإننا نعتبر أن هذه المهمة هي إحدى مهامنا الكبرى اليوم.
لقد كانت الندوة الوطنية الثانية مرحلة هامة في تصعيد الهجوم على الليبرالية الجديدة، وأوضحنا أننا نقصد بالدرجة الأولى تلك القوى التي في جهاز الدولة التي تريد ممارسة هذا الفكر على أرض الواقع، ولكن الذي أدهشنا هو تصدي الليبراليين الجدد العلنيين لنا بشكل شرس، وهم من خارج جهاز الدولة، مما يؤكد صحة مقولتنا حول عدم دقة ثنائية النظام والمعارضة، فهاهي قوى تعتبر نفسها محسوبة على المعارضة تمد يدها للدفاع عن نسختها في جهاز الدولة التي لا تتكلم كثيراً، ولكنها تحاول فعل الكثير.
موجة الخصخصة والغلاء
تحتدم المعركة اليوم في سورية ضد إفرازات الليبرالية الجديدة، وقد برزت معالمها في القضايا التالية:
■ موجة الخصخصة التي طالت قطاع الدولة تحت ستار تأجيره التي تصدينا لها مع قوى وطنية هامة موجودة في النظام وفي خارجه، مما أربك هذه الحملة وجعلها تسير نحو التباطؤ، الأمر الذي لا يسمح لنا بالتأكيد أنها انتهت، بل على الأرجح أنها تنتظر لحظة مناسبة أخرى من أجل الإطلال برأسها من جديد.
■ موجات الغلاء المتتالية التي أكلت الزيادات الأخيرة في الأجور والتي كان سببها تخلي الدولة عن دورها الإشرافي على الأسعار وإطلاق الحرية لقوى السوق الكبرى كي تلعب لعبتها، ولم تنفع بعد ذلك الإجراءات الإدارية المختلفة للرجوع عن ارتفاعات الأسعار، إن مستوى المعيشة الحالي في سورية لا يسمح بتاتاً بأية ارتفاعات جديدة في الأسعار لأنها تضرب بشكل قاس مستوى حياة الناس المنخفض أصلاً وكل الكلام الذي يقال عن حد الفقر المنخفض في سورية هو كلام غير جدي وغير مسؤول ويهدف إلى التضليل من أجل تبرير عدم رفع الأجور وكذلك التسامح مع رفع الأسعار.
إن الذين ينظّرون اليوم لحد الفقر المنخفض في سورية والذي يقدرونه بـ 9% من السكان فقط، كما يؤكدون، لا يرون أن الحد الأدنى للأجور لا يغطي اليوم أكثر من ثلث الحد الأدنى من مستوى المعيشة، مما يسمح بالافتراض أن الحد الوسطي للأجور لا يغطي أكثر من ربع الحد الوسطي الضروري لمستوى المعيشة.
وقد بينت العريضة ضد الغلاء التي قامت منظماتنا بتوقيعها على المستوى الشعبي مؤخراً أن التجاوب معها كان كبيراً إن كان بين أوساط الجماهير الشعبية، وحتى بين أوساط مهمة من جهاز الدولة الذي يحمّل مسؤولية ماجرى لقوى السوق، مما لا يخفف من مسؤولية الدولة بالنسبة لنا، التي تخلت طوعاً عن دورها الإشرافي في ضبط الأسعار ولو بالحد الأدنى.
■ كما أن التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق الشراكة الأوربية السورية فتح نقاشاً حاداً حول استحقاقات هذا التوقيع على التوجه الاقتصادي في البلاد، ففي الوقت الذي اعتبر فيه بعض المسؤولين أن هذا التوقيع هو حسم لخيار البلاد باتجاه اقتصاد «السوق الحر»، كان هناك رأي في أوساط هامة ومؤثرة أن هذا التوقيع يتطلب تكييف الاقتصاد الوطني كي يكون قادراً على مواجهة الاستحقاقات الجديدة دون التنازل عن الثوابت ومع صياغة دور جديد للدولة بعيداً عن مايُسمى باقتصاد «السوق الحر الوحشي».
ولا بد من ذكر النقاش الحاد حول بعض فقرات قانون العاملين الموحد وقانون العلاقات الزراعية، والذي يعكس احتدام المعركة الاجتماعية في البلاد، وهذا الأمر يؤكد أن القوى التي تريد تطوراً وطنياً مستقلاً لها وزن وتستطيع تغيير اتجاه سير الأحداث إذا استطاعت أن تصيغ مواقفها وأن تعبئ قوى المجتمع في هذا الاتجاه. فالصياغة الجديدة للمادة (137) من قانون العاملين الموحد هي خطوة إلى الأمام بالمقارنة مع شكلها السابق، رغم الملاحظات المبدئية عليها. ونعتقد أن استمرار النقاش حول بعض مواد قانون العلاقات الزراعية يمكن أن يسير في هذا الاتجاه بحيث يقطع الطريق على الذين يريدون التراجع عن المكتسبات المتحققة في هذه العقود.
إننا نعتقد أن الجبهة الاقتصادية هي جبهة أساسية في المواجهة ضد المخططات الأمريكية والصهيونية، وهي ليست جبهة ثانوية كما يعتقد البعض أنه يمكن تقديم تنازلات فيها نزولاً عند الضغوطات، لأن التغييرات التي يمكن أن تحدث على الجبهة الاقتصادية الاجتماعية جراء ذلك هي تغييرات بنيوية عميقة لا يمكن التعامل معها وإصلاحها في أي حال من الأحوال مع ما يحمله ذلك من خطر على الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، إن أجهزة الدولة بمجملها غير قادرة على إدارة مجتمع تنفجر فيه أزمة، ونعتقد أن الذين يخلقون الظروف الموضوعية للاستعصاء وللتراجع الاقتصادي الاجتماعي، إنما يحضرون التربة الملاءمة للتغيرات الجذرية القادمة على الطريقة الأمريكية.
إن لدى سورية فرصة تاريخية فريدة من نوعها إذا تظافرت جهود القوى الوطنية للوقوف بوجه المخاطر النيوليبرالية وإفشالها، وهذا ما يتطلب صياغة دور جديد للدولة. تؤكد الحياة أن الدور القديم للدولة في سورية والذي اصطلح على تسميته بالدولة الأمنية أصبح غير قادر على حل أية مهمة من المهام الأساسية المطروحة أمام المجتمع، بل أصبح معيقاً لها. وجدير بالذكر أن قوى الفساد الكبرى اليوم تريد استمرار هذا الدور بغض النظر عن آثاره اللاحقة من أجل الحفاظ على مصالحها، وهي من حيث المبدأ وبالتعاون مع القوى الليبرالية الجديدة ليست ضد إعادة تشكيل هذا الدور والانتقال إلى نقيضه، حيث لادور للدولة فعلياً في الحياة الاقتصادية الاجتماعية، مما يؤمن لها حرية الحركة مع الرساميل المنهوبة، بل يسمح لها في ظل أوضاع جديدة بتبييضها، وهكذا ينتقل المجتمع إلى حالة تنتقل فيه فعلياً صلاحيات الدولة الأمنية إلى قوى السوق الكبرى، وهنا تنتصب أمامنا مرة أخرى ثنائية تضليلية غير حقيقية: دولة على النمط القديم، أو دولة بلا دور تخدم مصالح قوى السوق الكبرى، ونتيجة لعدم قدرة الدور القديم على لعب دوره السابق اليوم، يظن الكثيرون أن الانتقال إلى حالة لادور للدولة هو أهون الشرين، ولكن الواضح أن هذا الوضع سيزيد تفاقم الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، بل سينقل الأمن الوطني والسيادة الوطنية إلى وضع جديد يمكن أن يجري إلغاؤهما تماماً لصالح الرأسمال المعولم المحلي والخارجي.
دور جديد للدولة
في ظل هذا الوضع لابد للقوى الوطنية من صياغة دور جديد للدولة يسمح بالحفاظ على ما هو إيجابي في الدور القديم، وإلغاء ما هو سلبي فيه وإضافة مهام نوعية جديدة تسمح للدولة أن تلعب دوراً تنموياً عقلانياً منفتحاً على المجتمع، ونعتقد أن الملامح العامة لهذا الدور تتمثل في الآتي:
- إيقاف الفساد والنهب الكبير للاقتصاد الوطني وتحويل موارده كاملة لتخديم النمو المطلوب له.
- تأمين معدلات نمو عالية (من 7 إلى 10%) تسمح بحل المشاكل الاقتصادية الاجتماعية وتسمح لسورية بالدفاع عن سيادتها الوطنية في ظل الأوضاع الإقليمية والعالمية المعقدة والخطيرة.
- تطوير دور الدولة بخطى كبيرة باتجاه الخدمات الأساسية الاجتماعية في مجال الصحة والتعليم والثقافة، والحفاظ على المكتسبات وتطويرها.
- الحل الحاسم، لو التدريجي، لمشكلة البطالة ومشكلة السكن التي تتطلب دوراً تدخلياً كبيراً للدولة في هذا المجال، وإلا سيزداد السكن العشوائي مع ما يحمله من خطر ازدياد مساحة البؤر الجغرافية الهامشية التي تسبب عدم استقرار اجتماعي.
إن قوى كبيرة وهامة تتنبه اليوم لضرورة حل هذه المشكلة، ونعتقد أن دورنا إلى جانب كل الوطنيين الشرفاء ضروري لإيجاد البدائل الحقيقية للثنائيات الوهمية التي لا تزيد الأمور إلا تعقيداً. من هنا تأتي أهمية تطوير الحركة السياسية في البلاد كي تستطيع تفعيل الحركة الجماهيرية وتعبئة أوسع الأوساط منها كأداة أساسية وضمانة حقيقية لحل المشكلات الفعلية القديمة والجديدة التي تنتصب أمام البلاد.
لذلك نرى أهمية التعجيل بقانون الأحزاب وقانون انتخابات جديد وتطوير قانون المطبوعات كي يتسع كل هذا للقوى الوطنية على الأرض لتلعب دورها المطلوب منها، وغني عن الذكر أن خطوات عملية كهذه باتجاه توسيع الحريات السياسية هي رافعة أساسية لتفعيل الحركة الجماهيرية، والمطلوب اليوم فعلياً أن يشارك المجتمع بشكل واسع في تشخيص المشاكل التي يعيشها وفي اقتراح وتطبيق الحلول التي يجدها، فالحياة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية وصلت إلى درجة عالية من التعقيد تتطلب توسيع المشاركة الشعبية في التعاطي مع القضايا الوطنية.
إن سيادة القانون ورفع الأحكام العرفية أو تضييق مجال عملها إلى أقصى حد ممكن له علاقة بالأمن الوطني وإطلاق سراح سجناء الرأي والحل السريع لمشكلة الإحصاء الاستثنائي في الجزيرة من أجل تأمين حق المواطنة للجميع، هي مهمات كبرى ستؤدي في حال تحقيقها إلى حدوث انفراج سياسي واجتماعي كبير سيلعب دوراً كبيراً في مكافحة الفساد والنهب وفي تأمين جو صحي لتطور الاقتصاد الوطني.
والواضح أن حل المشاكل الاقتصادية لم يعد ممكناً بحلول اقتصادية بحتة، بل تتطلب حلول مركبة اقتصادية، اجتماعية، سياسية، وعدا ذلك لن تخرج الأمور عن حدود الترقيع في أحسن الأحوال مع عدم إمكانية الحل الجذري للمشاكل الحقيقية.
نعتقد جازمين أن إبعاد الأحزاب السياسية عن تدخل أجهزة الدولة السلبي أو الإيجابي، بمعنى تقديم الامتيازات لها، هو أمر سيفيدها مادامت تعمل تحت سقف القانون، ولا يخاف من هكذا تطور إلا أصحاب الامتيازات التي يحصلون عليها بالخفاء ضد مصلحة المجتمع ككل. إن إبعاد أجهزة الأحزاب عن أجهزة الدولة سيسمح بزيادة تأثير نفوذ الحركة السياسية والأحزاب في المجتمع ويفعّل دورها في الرقابة الشعبية على جهاز الدولة الذي يميل عبر التاريخ للخروج من تحت رقابة المجتمع.
إن احتواء أجهزة الدولة للأحزاب بشكل مباشر وغير مباشر يضر أجهزة الدولة نفسها ويمنعها فعلياً من تأدية دورها الوظيفي المطلوب منها في خدمة المجتمع.
قضية نمو الاقتصاد الوطني
■ لقد طرح مؤتمرنا الاستثنائي مهمة كبرى أمامنا حينما كان سباقاً في معالجة قضية نمو الاقتصاد الوطني حيث قال: «أن قضية النمو أصبحت قضية وطنية شاملة لأنها مرتبطة بتسريع أو تبطيء أو إلغاء إمكانية حل المشاكل الاقتصادية الاجتماعية». وبذلك وضع أمامنا مهمة معالجة هذه القضية وتحويلها إلى قضية وطنية أساسية من أجل تجميع القوى حولها، ويمكن القول الآن أن هذه المهمة قد نفذناها حيث قدمنا تصورات علمية موضوعية من حيث المبدأ، وأصبحت قضية النمو التي يطرحها الواقع الموضوعي من القضايا الأساسية التي يجري حولها النقاش في المجتمع والدولة، حيث أصبح الجميع متفقين على أن وتائر النمو منخفضة وأن استمرارها له تأثير كارثي على الاقتصاد والمجتمع. وانتقل النقاش في هذه القضية إلى مستوى تحديد نسب النمو المطلوب وموارده والمطلوب منا خلال الفترة القادمة لعب دور فكري وسياسي لبلورة الاتجاهات في هذا المجال.
لقد أكدنا في الجلسة الأولى أن المصدر الأساسي للنمو في ظل استحالة تأمين استثمارات أجنبية في الأوضاع السياسية الحالية في المنطقة هو مصدر داخلي فقط وأوضحنا أن هذا المصدر لا يمكن أن يكون إلا تلك الموارد التي يستولي عليها ناهبو الاقتصاد الوطني والتي قد تصل إلى 40% من حجم الدخل الوطني، والجميع اليوم متفقون أن النمو المطلوب للاقتصاد الوطني سنوياً يجب أن يصل إلى (7 8%) وحتى إلى 10%، مما يؤمن مضاعفة الدخل الوطني مرتين خلال عقد ونصف من الزمان، وهذا سيسمح لسورية بأن تلعب الدور المطلوب منها، وأن تحل مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية.
ونعتقد أن ضرورات النمو العالية، كما قلنا سابقاً، تفرضها:
- الحفاظ على دور سورية السياسي إقليمياً.
- حل مشكلة تدني الأجور
- حل مشكلة البطالة.
فإذا تم إيقاف أو الحد من النهب والفساد، يمكن تأمين معدلات نمو عالية بسرعة، وهاهي تجربة تركيا مثلاً تبرهن خلال العامين الماضيين أنه تم الوصول إلى نسبة نمو 12% من خلال الحد من الفساد، وهي دولة ليست اشتراكية إطلاقاً، إن الحاجة إلى عقلنة التطور الاقتصادي تتطلب إيقاف النهب كضرورة قصوى بأي شكل من الأشكال، كما تتطلب دوراً فعالاً للدولة في الاستثمار وفي توجيه الاستثمارات، فالقطاع الخاص لوحده لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يؤمن معدلات النمو المطلوبة، كما أن دور الدولة القديم قد أوصل هذه المعدلات إلى ما يقارب الصفر، لذلك فإن المطلوب في هذا المجال هو دور تدخلي قوي للدولة مع الاستفادة من كل إمكانيات القطاع الخاص والقطاع العام في هذا المجال، ولكن الشرط الأساسي لإنجاح هذه العملية هو قطاع دولة غير منهوب، وقطاع خاص يعمل في المجال الإنتاجي وليس متطفلاً على قطاع الدولة. إن هذه العملية إن تمت ستسمح بحل هذه المشكلة الاستراتيجية التي عليها سيتوقف الكثير من التطور اللاحق.
من هنا يتضح أن الخصخصة، ولو على الطريقة السورية، هي فكرة قاتلة للنمو الضروري جداً لمجتمعنا واقتصادنا الوطني، وقد برهنت تجارب كل البلدان التي سارت على طريق الخصخصة أن حجم إنتاج دخلها الوطني قد تراجع بمعايير كارثية إلى مستوى نصف ما كان عليه قبل بدء عمليات الخصخصة، ناهيك عن الضرر البالغ الذي تسببه هذه العملية على مستوى المعيشة وعلى نسب البطالة.
تمركز الرأسمال.. والطغمة المالية
■ إن تمركز الرأسمال المالي الذي جري بشكل حثيث في البلاد خلال الفترة الماضية، والتي كانت حملات الاكتتاب على أسهم بعض الشركات تعبيراً حياً عنه، يعيق وسيعيق أكثر متطلبات حل مشاكل الاقتصاد الوطني، بل سيزيدها تعقيداً، وتتركز اليوم الثروة بين أيدي أوساط قليلة من ممثلي البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية، وإذا كان الصراع يجري أحياناً بين هاتين الفئتين على تقاسم الثروة، إلا أن الأحداث تؤكد أن ذلك النفر من ممثلي البرجوازية البيروقراطية الذين أضحوا بأسلوب عملهم وتوظيفاتهم لا يخرجون عن كونهم طغمة تمثل مصالح رأس المال المالي مثلهم مثل بعض أوساط البرجوازية الطفيلية، أي أن الحدود الفاصلة بين هاتين البرجوازيتين في المجال الاقتصادي أصبحت واهية جداً، فقسم هام من البرجوازية البيروقراطية انتقل للعمل في مساحات كانت تشغلها البرجوازية الطفيلية وهم يريدون إعادة تكوين النظام الاقتصادي السياسي في البلاد كي يتوافق مع وضعهم ودورهم الجديد، وهم بذلك غير بعيدين عن أوساط من البرجوازية الطفيلية التي يريدون الإبقاء على التحالف معها اقتصادياً دون إعطاء دور سياسي مباشر لها حتى الآن.
ويمكننا القول بوضوح الآن أن هذه الأوساط من البرجوازية البيروقراطية هي أكثر الأوساط قابلية للاختراق من قبل أصحاب العولمة المتوحشة، وهم أصلاً يريدون تمرير مصالحها من خلال توكيلهم بتمثيلها. وهذا الأمر يخلق تناقضاً مستعصياً متفاقماً في البنية السياسية الاجتماعية للنظام، فقاعدته الجماهيرية الواسعة لا ترى في هؤلاء ممثلاً لها، وهم أصلاً يعيقون كل عملية الإصلاح ويؤسسون لاستمرار حالة الاستعصاء من أجل محاصرة تلك المراكز الهامة في الدولة التي تريد أن تأخذ بعين الاعتبار بشكل أو بآخر مصالح القاعدة الجماهيرية والاجتماعية للنظام.
وهنا مرة أخرى يبرز بشكل واضح موضوع إعادة تكوين الفضاء السياسي في البلاد الذي إذا تجردنا عن تسمياته السياسية، نرى أن الجبهة أصبحت أوضح فأوضح بين قوى تريد السير على نهج الليبرالية الجديدة في ركب العولمة المتوحشة على حساب الكرامة والسيادة الوطنية، وبين قوى أخرى تريد الحفاظ على سورية كموقع متقدم لمواجهة إسرائيل الصهيونية كموقع متقدم للعولمة المتوحشة، وترى أن دوراً جديداً للدولة مطلوب، متميزاً عن الدور السابق ومحافظاً على أهم إيجابياته ومتجاوزاً لنقاط ضعفه وثغراته وسلبياته ومؤسساً لحالة جديدة يمكن أن تكون نموذجية في الصراع الجاري في العالم بين قوى الخير والشر.
الفصل الرابع
نشاطنا بين الرؤية والخطاب والممارسة

لقد قامت هيئة الرئاسة منذ جلسة المؤتمر الماضية بتنفيذ الخط المقرر والذي عكسه تقرير اللجنة التحضيرية والذي وافق عليه المؤتمر بالإجماع، ومن الطبيعي أن تضطرنا الحياة وتطور الوقائع على الأرض إلى تدقيق وتطوير الخط، وقد قامت هيئة الرئاسة وبمبادرات من قبل السكرتاريا بالتفاعل مع المعطيات الجديدة ودققت وطورت الكثير من القضايا المطروحة أمامها، وقد عكس جسم التقرير المقدم إليكم كل هذه المواضيع بشكل مكثف، وطبيعي أن تتطور الرؤية ضمن الخط المقرر لأن عدم تطويرها يعني الانقطاع عن الواقع والابتعاد عنه وفقدان القدرة على التأثير عليه.
ويمكن القول اليوم أنه بفضل هذا النشاط الهام لهيئة الرئاسة في مجال الرؤية للواقع المتغير أصبحت حالتنا حالة سياسية مهمة معترفاً بها على الأرض من قبل كل القوى السياسية المهمة، وإن كان هذا الإنجاز لايمكن أن يصيبنا بمرض الرضا عن النفس، إلا أننا نعي أنه مازال أمامنا الكثير من أجل استعادة دورنا الوظيفي من خلال اعتراف الجماهير بنا فعلاً.
وكنا قد أشرنا فيما مضى أنه إذا كان موضوع تطوير الرؤية ضمن إطار تعميقها لاتغييرها هو هم أساسي لنا وأنجزنا فيه الكثير حتى الآن، إلا أن على تطوير خطابنا يتوقف الكثير من أجل نقل هذه الرؤية إلى مجال الممارسة، ويمكن القول بصراحة أنه رغم التقدم الذي جرى في هذا المجال إن كان من خلال الجريدة أو من خلال البيانات أو من خلال الاتصال الحي بالجماهير إلى مختلف أشكال النشاطات على الأرض، يمكن القول أنه مازال أمامنا الكثير في هذا المجال، وتقدمنا هنا لايرقى بعد إلى مستوى تقدمنا في مجال الرؤية وهذا طبيعي، فتطور الخطاب الذي تكلس خلال العشرات من السنين يتطلب تراكم كم كبير من المعرفة الجديدة ومن التجربة كي يحدث ذلك الانتقال النوعي المطلوب.
إننا نعير أهمية كبيرة لتطوير خطابنا، وهو لايمكن أن يتطور إلا من خلال فهم عميق لخطنا الذي يعكس رؤيتنا، ومن خلال الممارسة الميدانية المستمرة والمكثفة من خلال الاحتكاك المباشر مع الجماهير الشعبية، ونحن نتعرض في هذا المجال إلى تحد كبير، وخاصة بسبب سيل المعلومات الهائل الذي يتدفق عبر الفضائيات المختلفة، التي لن نستطيع في المستقبل المنظور بسبب محدودية إمكانياتنا من مجاراتها في هذا المجال، أي مجال كم المعلومات والأخبار والتحليلات المعروضة للاستهلاك، ولكن هذا لايجعلنا نقف مكتوفي الأيدي، وأمامنا حل وحيد وهو رفع مستوى النوع في خطابنا الإعلامي الذي إذا ازدادت شحنته من حيث العمق والصدق قادر على مواجهة أي كم سالب من المعلومات والمعطيات. لذلك ترتدي أهمية كبيرة اليوم قضية تطوير صحافتنا وتوسيع نشرها وتطوير خطابها وتجويد بياناتنا ورفع وتيرة صدورها، وإيجاد طرق جديدة وجديدة لإيصالها إلى أوسع الجماهير.
الخطاب والممارسة تطبيق عملي لشعار العودة إلى الجماهير
كل ذلك إذا تم سيسمح لنا بتطوير ممارستنا على الأرض التي سارت قدماً في الفترة الماضية، وإن كانت المسافة التي اجتزناها في هذا المجال مازالت غير كافية برأينا. إن موضوع الخطاب والممارسة هو التطبيق العملي لشعار عودتنا إلى الجماهير، هذه العودة التي تتطلب رفع لياقة منظماتنا ورفاقنا وروحهم الكفاحية يوماً بعد يوم دون إبطاء.
وقد تراكمت في مجال الممارسة تجربة غنية في الفترة الماضية ونما الكادر والرفاق في مجال الممارسة المباشرة من توقيع العرائض المطلبية إلى تقديمها بوفود شعبية مروراً بالاعتصامات بالمناسبات الوطنية وصولاً إلى توزيع البيانات المختلفة على نطاق واسع، وكان أهم ما أنجز في هذا المجال مؤخراً الاحتفال الجماهيري الختامي بمناسبة الذكرى الـ 80 لتأسيس الحزب. الذي برهن على أن تطوير الأساليب حتى في المناسبات الحزبية يرتدي أهمية كبيرة لتعريف الناس بشعاراتنا وخطابنا، ومازال أمامنا في هذا المجال الكثير، فهناك منظمات قد تقدمت بشكل لابأس به، وهي تجني ثماراً إيجابية من استمرارية عملها الميداني، أما المنظمات التي تأخرت عن الالتحاق بهذه العملية فمازال أمامها عمل كبير استناداً إلى تجربة الآخرين المكتسبة لأن التجربة برهنت أن بناء التنظيم الحقيقي لايمر إلا عبر العودة إلى الجماهير، هذه العملية التي تصلب الكادرات والرفاق وتخلق حالة اصطفاء طبيعي في أوساطنا وحولنا، هذا الاصطفاء الذي يبرز الأفضل القادر على بناء التنظيم وتطويره ويمكن القول الآن أنه بعد السنوات التي مضت منذ ظهور حالتنا استطعنا تثبيت هذه الحالة سياسياً، ولكن التقدم اللاحق إلى الأمام يقتضي خلال الفترة القادمة حل مشكلة التوسيع المتسارع للتنظيم، وغني عن القول أن هذه المهمة من أعقد المهمات بسبب التراكمات الماضية التي تعيق التكيف مع المهمات الحالية، وبسبب تعقد الأوضاع نفسها، مما يقتضي الارتقاء نوعيا ًبمستوى عملنا واستنباط أشكال جديدة وجديدة، محافظين على كل ماهو حي في تجربتنا الماضية ومبتعدين عن الأساليب التي لم تعد صالحة اليوم.
ردم الهوة بين القول والفعل
وأمام هذه الصعوبات يعتقد البعض أن المشكلة تكمن ليس في بنية التنظيم وأساليبه، وإنما في سياستنا وتطبيقها، ونعتقد أن هذا الطرح يبرر عملياً حالة الترهل والتعقيد والتخلف في الأساليب الموجودة هنا أو هناك بهذا الشكل أو ذاك. وبالفعل، وكما قلنا سابقاً، فإن المشكلة كانت تكمن في الهوة بين القول والفعل، وهنا إذا كان القول متخلفاً فإن الفعل رغم كل الجهود لا يمكن أن يتقدم إلى الأمام، ولكن المشكلة الملموسة عندنا تكمن في قصور وتخلف آليات نقل القول إلى الفعل، وهذا متعلق إلى حد كبير باستيعاب الكادر للخط المرسوم وبصلته الحية الحقيقية بالجماهير وقدرته على استنباط الأشكال الملموسة الفعالة للتعامل معه. وصحيح أن هذه العملية صعبة ومعقدة ولايمكن أن تتم بلمسة ساحر، إذ أنها تتطلب زج كل الرفاق والمنظمات فيها، التي بتراكمها التدريجي تستطيع أن تحل جزءاً من عملية استعادة دورنا الوظيفي، ويتساءل الكثيرون حول مكونات الدور الوظيفي وأين نحن منه؟ نعتقد أن دورنا الوظيفي مرتبط بحالة التفاعل الصحيح لرؤيتنا وخطابنا وممارستنا، فالرؤية تجر الخطاب وتدفعه إلى الأمام، كما أن هذا الخطاب يفسح المجال للممارسة أن تتقدم، التي بتقدمها تسمح من جديد بتدقيق الرؤية والخطاب.. وهكذا دواليك...
هذا من حيث فهم الدور الوظيفي من زاوية آلياته الداخلية، ولكن هذا الدور مرتبط موضوعياً بتطور الأوضاع السياسية والتي سيلعب فيها دورا ًهاماً مدى تطابق البنى السياسية مع القاعدة الاجتماعية التي تعبر عنها، والواضح أن العلاقة بين هذين الجانبين قد شابها خلل عميق خلال العقود الماضية بالنسبة لكل الحركة السياسية بالبلاد التي نحن جزء منها، ونرى في إطار تحليلنا الذي تقدم أن احتدام الصراع الوطني والطبقي بسبب الأوضاع العالمية والإقليمية سيلعب دورا ًهاماً في إعادة الربط الصحيح بين البنى السياسية وبين ما تعبر عنه اجتماعياً، ولكن هذه العملية لن تتم عفوياً وهي بحاجة إلى جهد واسع سيسمح لنا بتسريعها ووضعها على السكة الصحيحة.
الورقة السياسية والتنظيمية.. والمهام البرنامجية
إن الوضع في البلاد يقترب من تلك اللحظة التي تتطلب قوى سياسية فاعلة، تتبنى برامج واضحة المعالم اقتصادياً واجتماعياً، ومعترفاً بها من قبل جمهورها الذي تمثله. والواضح أنه لايمكن حل موضوع زيادة فعالية التنظيم دون التقدم في قضية وحدة الشيوعيين السوريين، فمنذ المؤتمر الاستثنائي جرى تقدم ملموس في هذا المجال، فقد أقر الاجتماع الوطني الثالث في 19 كانون أول 2003 الورقة السياسية التي هي بمثابة المقدمة الضرورية لصياغة المهام البرنامجية التي سيتوحد الشيوعيون على أرضيتها، وقد سبق إقرار هذه الورقة نقاش واسع وطويل شارك فيه المئات من الشيوعيين عبر الحوار المباشر أو في الصحافة، وتم صياغة الأرضية السياسية المشتركة التي برزت خلال النقاش في هذه الورقة، وهي تعتبر خطوة هامة بعد صياغة ورقة المهام السياسية الأساسية التي فتحت النقاش حول الموضوع، وبعد إنجاز الورقة السياسية التفتت اللجنة الوطنية إلى موضوع الورقة التنظيمية التي تم إقرارها في الاجتماع الوطني الرابع في 1/10/2004. وقد وضعت هذه الورقة المفاهيم التنظيمية الأساسية آخذة بعين الاعتبار الظروف الناشئة التي على أساسها سيجري صياغة اللائحة التنظيمية للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، إن هاتين الوثيقتين ترتديان أهمية كبيرة، وقد بينا أن الشيوعيين من خلال الحوار قادرون على إيجاد لغة مشتركة والوصول إلى صيغ متقدمة تفسح المجال أمام عملية التوحيد، وقد كلف الاجتماع الوطني الرابع اللجنة الوطنية بصياغة اللائحة التنظيمية والمهام البرنامجية الملحة لتقديمها إلى الاجتماع الوطني الخامس بأسرع وقت ممكن، ونعتقد أن جلسة مؤتمرنا هذه بإقرارها التعديلات المقترحة على النظام الداخلي تسير في الاتجاه الذي أُقر في الورقة التنظيمية مما يفتح الآفاق الرحبة أمام عملية التوحيد اللاحقة.
ليس لدينا وهم أن عملية التوحيد هي عملية تنظيمية محضة، بل هي عملية سياسية وفكرية بالدرجة الأولى، وبقدر مايتطور الوضع السياسي ضاغطاً على الشيوعيين لتحقيق وحدتهم بقدر ماسيتحقق الانعطاف المطلوب في هذا الاتجاه.
عملية التوحيد.. والمعيقات الذاتية
إن معيقات عملية التوحيد هي معيقات ذاتية، ولكنها آخذة في التراجع، ومن أهم هذه المعيقات هو دور القيادات المتنفذة في الفصائل الشيوعية التي بسلوكها وممارستها تعلن رفضها فعلياً لعملية التوحيد، مع أن وثائق وقرارات مؤتمراتها تعلن عكس هذا الاتجاه، بل وصل الأمر ببعضهم لتبرير تعددية الفصائل الشيوعية في سورية، وانضم إلى هذا الاتجاه مؤخراً بعض القوى الليبرالية أو القريبة منها التي أخذت تطالب علناً بعدم توحيد الشيوعيين السوريين، لأن ذلك، حسب رأيهم ، سيضر التعددية والحوار والديمقراطية (كذا)!!!..
وهكذا نرى ظاهرتين هامتين لأول مرة في تاريخ الحركة الشيوعية في سورية، من جهة خوف بعض القيادات من هذه الوحدة التي يتنامى تيارها بين قواعد جميع الفصائل لدرجة الإعلان عن رفضهم لهذه العملية، وحتى إعاقتها في الممارسة من خلال إجراءات وقرارات مختلفة هدفها الحد من اندفاع الشيوعيين في هذا الاتجاه، ومن جهة أخرى التدخل الفج لبعض الذين لاعلاقة لهم بالشيوعية بالشؤون الداخلية للشيوعيين وتولي عملية نصحهم بالابتعاد قدر الإمكان عن الوحدة!!..
نؤكد مرة أخرى أن وحدة الشيوعيين السوريين بالنسبة لنا والتي قلنا أنها يجب أن تسير حتماً (من تحت لفوق) دون استثناء الذين فوق، إلا إذا استثنوا هم أنفسهم، هي عملية إعادة بناء الحركة الشيوعية فكرياً وسياسياً وجماهيرياً وتنظيمياً، وليست هي بتاتاً تلصيق ذلك الحطام المتمثل بالفصائل المختلفة المتناثرة التي تتنازع على الحصص والمكاسب أكثر من أن تعمل باتجاه تحقيق مصالح من تمثلهم. ونعتقد جازمين أن هذه العملية سيكون مآلها التاريخي النجاح حتماً، ولكنها لايمكن أن تتم إلا بعد نضج كل الظروف التي ستسمح لها بذلك، فما تهشم وتهمش خلال ثلاثين عاماً، من المستحيل إعادة تركيبه خلال أشهر، ولكن من المستحيل أيضاً منعه من الانبعاث رغم كل العقبات والنكسات التي رافقت مسيرة الحركة.
نحو المؤتمر الموحد للشيوعيين السوريين
إن إنجاز اللائحة التنظيمية والمهام البرنامجية الملحة مع توفر الظرف السياسي الملائم سيسمح بالسير سريعاً نحو المؤتمر الموحد للشيوعيين السوريين، وعلينا أن ننجز بأسرع وقت ممكن كل العمليات التحضيرية له، ونعتقد بإخلاص أن جلسة مؤتمرنا هذه هي خطوة جادة في هذا الاتجاه. لماذا؟..
لأننا بالقرارات التي سيتخذها المؤتمر في جلسته الحالية بخصوص التعديلات على النظام الداخلي سنقترب كثيراً من تلك المتطلبات التي طرحتها الورقة التنظيمية:
- فالمؤتمر بهذه الحالة سيتحول إلى هيئة دائمة تنتخب مرة كل سنتين وتنعقد كل عام مرة على الأقل، أو أكثر إذا لزم الأمر. وهذا سيسمح بتحسين مراقبة عمل هيئة الرئاسة التي ستحمل صلاحيات اللجنة المركزية حسب النظام الداخلي السابق.
- كما أن طريقة الانتخاب التي سيعتمدها النظام الداخلي هي نفسها التي أقرتها الورقة التنظيمية، أي اختصار درجة الانتخاب إلى درجة واحدة أو اثنتين على الأكثر وهذا سيسمح بزيادة سلطة القواعد الحزبية في المؤتمر وعلى الهيئات الحزبية العليا التي ستصبح في هذه الحالة تحت المراقبة الدائمة، وهذا الأمر نفسه سيحسن التفاعل بين الهيئات القيادية والقاعدة، مما سيفتح الآفاق أمام ديمقراطية أوسع في صياغة سياسة الحزب وفي مراقبة تنفيذها.
- إن إلغاء النظام الداخلي لمنصب الأمين العام ينسجم مع التوجهات التي ظهرت خلال نقاش الورقة التنظيمية والتي يكمن جوهرها في أن الدور القيادي لايحدده الموقع القيادي بقدر ماتحدده كفاءة وإخلاص أصحاب العلاقة والذي يهمنا هو تربية وإظهار أولئك القادة الذين يبرزون خلال العمل الجماهيري وتعترف بهم الجماهير والتخلص من ذاك التشوه الذي كان ينظر إلى القادة الحزبيين كقيادات حزبية بحتة لاعلاقة لها بالجمهور وكان يجري تقييمها ليس انطلاقاً مما تحققه خارج الحزب بقدر تقييمها على أساس نشاطها الحزبي الداخلي، مما منع التقديم الطبيعي للكوادر على أساس المهمات المطروحة وعلى أساس مايقدمونه من تحقيق للدور الوظيفي للحزب.
- كما أن إعادة النظر بدور لجنة الرقابة الحزبية وإعطائها صلاحيات فعلية كونها محكمة حزبية عليا، سيسمح بتحسين العلاقة بين الهيئات الحزبية المختلفة، وسيمنع الهيئات الحزبية العليا من أن تتحول في حالة إقرار وتنفيذ العقوبات إلى حكم وخصم بآن واحد، وهو ماعانينا منه خلال تجربتنا القريبة الماضية.
هذا هو الاتجاه العام الجوهري للتعديلات على النظام الداخلي الذي ستقدم اللجنة المختصة تقريراً مفصلاً عنه أمامكم.
«قاسيون» كمحرض ومنظم وداعية جماعي
لقد لعبت «قاسيون» خلال الفترة الماضية دوراً هاماً كمحرض ومنظم وداعية جماعي حسب لينين، وقد تحولت إلى منبر أساسي في البلاد لمحاربة النهب والفساد الذي تصاعد دورها في فضحه بشكل ملموس في الفترة الأخيرة، إلى جانب دورها المعهود في القضية الوطنية وفي مواجهة المخططات الإمبريالية الأمريكية والصهيونية وهي لم تحقق النجاح كجريدة أساسية على المستوى الوطني إلا بمشاركة جميع الرفاق والمنظمات، واليوم تنتصب أمامنا مهمة زيادة وتوسيع دورها، وحين نناقش هذا الموضوع لن ننطلق من الممكن من الإمكانيات، بل سننطلق من ضرورات الواقع السياسي الذي يتطلب جريدة شيوعية وطنية واسعة الانتشار، وهذا الأمر يحملنا مسؤوليات إضافية يتطلب منا البحث عن أشكال إضافية لزيادة توزيعها ومضاعفة عدد المشتركين فيها، وهو أمر ممكن التحقيق خلال الفترة القادمة، ولكنه منوط بوضع هذه القضية على جدول أعمال المنظمات بشكل دائم ومتابعة التنفيذ بشكل خلاق، ونعتقد أن الوضع قد نضج لعقد اجتماع نوعي سريع لكوادر المنظمات لبحث خطة انتشار «قاسيون» خلال العام القادم.
ضرورة التوسع بين الشباب والنساء
ومهمة أخرى كبيرة تنتصب أمامنا وهي تعزيز دورنا وصفوفنا بين الشباب والنساء، إذ يتطلب الوضع إحداث انعطاف جذري في هذا المجال خلال العام القادم تحديداً، لقد جرى نقاش كثير في المنظمات ومع الرفاق الشباب خلال الفترة الماضية وتوصلنا إلى جملة من الاستنتاجات وتبين على أرض الواقع أن زيادة النفوذ التنظيمي للمنظمات لايمكن أن يتم إلا على حساب التوسع بين الشباب والنساء تحديداً، وهم الأقدر في الظروف الحالية على التفاعل مع مستجدات خطنا السياسي ومع المتطلبات والضرورات الجديدة للممارسة والتطبيق.
لقد حققت منظمات عديدة نجاحات هامة في هذا المجال يجب دراستها وتعميمها.
وتبين من خلال التجربة نفسها أن تطوير وتعزيز العمل الفكري المتعلق بالتثقيف الحزبي له دور حاسم في تأمين مستلزمات التطور اللاحق، وهذا يفسر النجاح الجيد للمدارس الحزبية العديدة التي أقمناها في صيف هذا العام وتتطلب هذه التجربة الاستمرار وزيادة تواتر المدارس الحزبية وصولاً إلى جعلها دائمة وتهيئة الكوادر الحزبية الضرورية لقيادة هذه المدارس في المركز وفي المحافظات.
إن التثقيف الفكري الجدي الماركسي اللينيني، يعطي دفعاً وزخماً كبيراً للعمل السياسي والتنظيمي ويرفع مستوى الأداء في كل المجالات، إن التثقيف السياسي والحزبي وحده لايعطي ذلك الزخم والسرعة المطلوبة اليوم في عملية إعداد الكوادر التي هي قضية أساسية في تطورنا اللاحق.
وخلاصة القول أن الوضع يتطلب إجراءات حاسمة في مجال الجريدة والشباب والنساء والتثقيف الفكري.
إن الحالة التي نمثلها في صعود، فبوقت قصير نسبياً استطاعت حالتنا أن تتحول إلى قوة سياسية هامة معترف بها من قبل الأصدقاء والخصوم وعلينا أن نحافظ على هذه الوتيرة في التقدم، وهذا الأمر لايمكن أن يتم دون تطوير خطنا باتجاه تعميق الرؤية وليس تغييرها باتجاه تعميق الخطاب وليس تغييره، باتجاه تعميق الممارسة وليس تغييرها.
إن بعض المصاعب التنظيمية الطبيعية التي هي تعبير عن حالة نمو لايمكن أن تحبطنا وأن تجعلنا نستنتج أن حالتنا تتراجع، بل أن حالتنا تتعرض إلى مصاعب جديدة هي من سنة الحياة والتطور، فبالاستناد إلى خطنا الواضح والصريح والذي يفرض نفسه على الخصوم قبل الأصدقاء سنستطيع الوصول إلى تحقيق شعارنا الكبير: «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار»!.
إن جلسة مؤتمرنا الحالية كالجلسة السابقة ملتزمة بشعار: «لا انقسام ولا استسلام» الذي تسير تحت سقفه عملية توحيد الشيوعيين السوريين وكذلك عودتنا إلى الجماهير، وعقدها في هذا الموعد تحديداً هو تنفيذ لقرار المؤتمر في جلسته السابقة. إن هدفنا الكبير ألا وهو الاشتراكية لا يمكن تحقيقه دون عزيمة ثورية كبيرة، رغم كل المصاعب وبعض مظاهر التطورات الحالية التي توحي باستحالة تحقيق هذا الهدف، ولكن على أساس كل رؤيتنا التي تقدمت يمكن القول أننا أقرب إلى هدفنا اليوم من أي وقت مضى.
■■



#قاسيون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هايل أبو زيد حراً... ولكن!
- كلمة اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين
- في الجلسة الثانية للمؤتمر الاستثنائي: التعديلات على النظام ا ...
- بلاغ عن الجلسة الثانية للمؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السو ...
- الليبرالية الجديدة في سوريا والحَوَل السياسي
- الليبرالية الجديدة في مواجهة الشعوب. معارضة وموالاة
- الشيوعيون السوريون يختتمون احتفالات الذكرى الـ 80 للتأسيس تظ ...
- ليبرالية جديدة وستالينية جديدة ؟ أم صفقة سياسية جديدة ؟!!
- سورية المستعجلة إلى اقتصاد السوق: تنعطف يمينا أم تتأزم؟
- بلاغ سكرتاريا اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي
- الورقة التنظيمية
- البيان الدولي ضد الإرهاب: بيان ديكتاتوري من مواطن ديمقراطي ي ...
- الليبرالية بين الماضي والحاضر!
- الفساد والخائن هما عدوان للوطن والوحدة الوطنية
- الوطن يدعونا للإئتلاف بدل الخلاف
- رأي في أسباب ميثاق شرف لوحدة العمل الوطني لمواجهة الإمبريالي ...
- من أجل دور جديد للدولة
- محطة العمل الوطني الانتقالية ستكون مسرحاً لاختبار مصداقية كل ...
- الوحدة الوطنية أكثر إلحاحاً من أي وقت آخر
- الديمقراطية هي أساس كل أنماط الحياة


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - قاسيون - النص الكامل لتقرير هيئة الرئاسة بين جلستي المؤتمر الاستثنائي