أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - أنا ونعيمة والوحش : قصة قصيرة















المزيد.....



أنا ونعيمة والوحش : قصة قصيرة


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3596 - 2012 / 1 / 3 - 02:55
المحور: الادب والفن
    



رياض خليل
أنا ونعيمة والوحش
قصة قصيرة

في ليلة خرساء .. كانت الساعة تدق بوحشية ، والأشياء تنسل من بين أصابعي كالهواء ، وكان النعاس يفرّ من عيني المتجمرتين ، والحجرة التي أقبع فيها تضيق بأحزاني وآلامي وقهري ، وتنوء بثقلها الهائل ..، هواجسي تتراكم في رأسي ، تتقاطع ، وتتمركز حتى ليكاد ينفجر .
خارج الجدران ثمة حركة تتلطى بالعتمة الصماء ، ولكنني تعرفت على هويتها ، إنني أعرفها ، تردداتها الضارية توقر سمعي بعنف وقسوة وشدة ، تنخر أعصابي ، فيزلزلني مزيج عاصف من الخوف والغضب والتوتر . تستنفر في جسدي الغرائز العدوانية ، وتتملكني الشراسة والرغبة في القتل : جدران الحجرة ترتجف . النوافذ تصطك . أرض الحجرة تتأوه . كل شيء ينذر بالخطر الوشيك . وفجأة ..! أحس به يخترق الجدران والإسمنت المسلح بسهولة ويسر ، لينتصب أمامي تنينا له عدة رؤوس ، يفغر شدقيه ، ويطلق لسانا ونارا باتجاهي ، ونظرات حاقدة تفترسني ، إنه الجقل .. الوحش بعينه ، يستهدفني ، يريد بي شرا مستطيرا ، إنه لا يشبع من إلحاق الأذى بي . يريد أن يقتلني من جديد ، ويمثل بجثتي . وكنت أعجز في كل مرة عن التخفي والهروب من براثنه ، كان يفترسني ولايشبع . وتذكرت " دراكولا" مصاص الدماء . إنه قوي ، لا سبيل للتغلب عليه ، لم أنج منه ولامرة ، هذا الطاغية المتوحش . ولكني كنت ككل مرة ، ألوذ بالأمل في النجاة ، مهما كان ضئيلا وبعيد المنال . الوحش مايزال يرى بي ما يمكن الاعتداء عليه ، ولا يميز ما إذا كنت حيا ، أو جثة هامدة . وتذكرت أن بعض الوحوش والكواسر تأكل الجثث والجيف . الوحش يهاجمني ، ولا تكافؤ في القوة فيما بيننا ، هو كالضبع ، وأنا كالأرنب الشهي بالنسبة له . كثيرا ما هربت منه سدى . ولكن في هذه المرة .. حصل شيء مختلف ، وأحسست بنفسي كائنا آخر ، واستحوذت علي فكرة الدفاع .. بل الهجوم والمواجهة .
وصرخ الوحش في وجهي وراح يشتمني ويهددني .. ورائحة فمه الكريهة تنتشر ، وتكاد تخنقني :
" أيها لحشرة المقرفة .. أنت مجرد صرصور تافه ، سجنتك في أضيق الأماكن ، وأشدها ظلمة وقذارة . والآن سأدوسك ، سأفعسك تحت قدمي ، وسأنتزع روحك النتنة من بين كتيفيك " .
كان لهاثه يتطاير رزازا يخرش بشرة وجهي ، صوته خشن ، حاد ، ينغرس في طبلة أذني وأعصابي كرؤوس الدبابيس ، يدك ّ حواسي الهشة .. الرخوة . وصحت في وجهه الكريه مقاطعا :
- حسبك ما أخذته مني ، أنت فجعان .. جشع .. لاتشبع . ألبستني جريمة لم أرتكبها , وأكلت من عمري خمسة عشر عاما ، أمضيتها في السجن ، ألا يكفيك هذا ؟ جردتني من أجمل وأحلى فترة من حياتي ، انتزعتها .. سرقتها ظلما وعدوانا ، جردتني من حياتي وأحبائي ، اعتصبت أغلى أشيائي . شوهت سمعتي . افتريت علي . جعلت حياتي موتا متواصلا . أكرهك .. أكرهك "
قهقه كبغي رخيصة شامتة ، ردّ بحقد :
- تستأهل أكثر من ذلك ، أنت خلقت لتؤكل .. لتفترس .. هذا هو دورك في الحياة
- وهل بقي مني مايؤكل ويفترس ؟
- طبعا .. مازال ليديك ما يؤكل ويفترس
- قل ماهو ؟ سأقدمه لك .. وارتاح منك إلى الأبد ، كرهت الحياة بسببك ، أريد أن أتخلص من الحياة برمتها ، وأرتاح ، ولن تستطيع بعدها أن تفعل شيئا ضدي ، ولكن تذكر أنك أنت الآخر لست محصنا من الموت .
وفغر فاه كالتنين ، وجحظت عيناه ، واستنفرت مخالبه ، ولاأدري من أين جاءتني الجرأة ، فبصقت في وجهه ، ورميته بوابل من الشتائم : سفاح .. قاتل .. لص .. جبان ......
احمرت عيناه من الغضب ، وهم بالهجوم .. فهرعت إلى السرير ، وأخذت صورتها من تحت الوسادة ، ووجهت الصورة إلى ناظريه . حاول أن يتحاشى رؤيتها ، خبأ عينيه بكفيه ، وهو يطلق صرخة ألم وقهر ورعب ، صرخة طويلة ، ثم راح يتضاءل ، ويتحول إلى ضبع يهر .. ثم مالبث أن صار جرذا جريحا يسرع باحثا عن مهرب ، ولا أذكر كيف اختفى وأين . . إلا أنه تمكن من اختراق الجدار بسهولة ويسر ، ولم يترك أثرا .. وبعد ئذ .. ابتسمت الجدران ، وذاب الليل ، واتسعت الحجرة ، وامتلأت بصور حبيبتي نعيمة ، امتلأت بعطرها وشذاها الفواح ، وعاد الزمن خمسة عشر عاما .. يوم كنا في حفلة الزفاف المشهودة ، تلك اللحظة تبدو وكأنها حدثت البارحة ....
.... كان عرسا لي ولنعيمة .. لولا أن ديّوب الضبع حوله إلى كارثة .. حين دهم العرس مع ثلة من زعرانه وأزلامه من قطاع الطرق والمجرمين السفلة ، لم يتوقع أحد تلك المفاجأة غير السارة ... إنه ديّوب الوحش ، الذي يروع البلدة بتسلطه على أهلها وناسها وأرزاقها دون وازع من ضمير وأخلاق ، ولم يكن لأحد أن يتحداه ، ويواجهه ، كان ديّوب يملك المال والرزق والأرض والناس والسلطان والأسلحة والحيلة والمكر والنفاق ، وطبعه الغدر حتى بأقرب المقربين منه لمجرد أن مزاجه الحقير يأمره بذلك . كان ديّوب نذلا .. حسودا ..أنانيا .. عدوانيا .. شرسا .. في قلبه من الحقد مايكفي لتدمير وتشويه العالم من حوله ، وكان أحمق .. لدرجة أنه كان يتعامل مع الأشياء والجمادات والبهائم وكأنها بشر : يضرب ، يحطم ، يحرق ، يكسر ، يذبح .
ديّوب هذا معقد نفسيا .. وربما يعاني من مرض عصبي عضال .. ربما الصرع ! أو سواه ! لاأحد يعرف بالضبط ماهو ، إلا أن المشاع عنه أنه يتعرض لحالات عصبية خانقة ومرعبة تفضي إلى احمرار عينية ، واختلاج عضلاته ، وصراخه ، وإزباده وإرغائه ، وكان الجميع ينفضون عنه ، يهربون ، ويبقى وحده حتى تزول حالته ومصابه العارض .
كان يغار من خياله ، تزوج وطلق كثيرا ، وهو لايدري كم له من الأولاد ، ولايستطيع أن يتذكر أسماء أولاده وأحفاده ، كان يضطهدهم ، يقسو عليهم ، ويشك الكثيرون بتورطه في مقتل بعض زوجاته .
المهم ، أن ديّوب الجرذ هذا ، طمع بحبيبتي نعيمة ، الصبية التي تقول للقمر : انزل لأقعد مكانك ، نعيمة التي أحبتني وأحببتها ، وتواعدنا ، واتفقنا ، ووافق أهلها على مضض خوفا من ديوب الكلب المتوحش ، الذي حطّ عينه على نعيمة ، وأراد السطو عليها ، مهددا ومتوعدا نعيمة وأهلها إن لم يعطوه ويزوجوه إياها ، كانت نعيمة لاتطيقه ، كانت تقول : أموت ولا أسمح لديوب الضبع أن يمس شعرة مني ، أنا لست للبيع ولا للأكل والافتراس ، أنا لن أكون ضحية على مائدة الضبع ، لن أكون فروجا مشويا على مائدته ، أنا لحمي مر على أمثاله من المفترسين الأبالسة .
لقد رفضته نعيمة علنا ، وعلى رؤوس الأشهاد ، أمام أزلامه وأذنابه من المرتزقة والأفاقين الذين يدورون في فلكه تكسبا واسترزاقا ونفاقا . وأحس ديوب بكرامته تهدر وتمس أمام الملأ ، وأخفى ضغينته ، تحت ابتسامة ثعبانية تفوح منها رائحة الشعور بالإهانة والمذلة ، لقد مرغت نعيمة أنفه بالوحل والطين ، طينت عيشته ، وحطمت كبرياءه ، وجرحت غروره ، وبدت نعيمة كالنمرة المتوثبة ، وهي تكيل له الإهانات والتحديات ، ولكن ديوب الخبيث ، امتص الصدمة ، وبيت لها النية السيئة ، وبات هدفه الانتقام منها شر انتقام ، وقرر أن يذبح نعيمة كالنعجة ، بعد أن رفضته ، ولم تفلح ضغوطه عليها وعلى ذويها ، ولم يحصد سوى الخيبة والفشل والخزي والعار ، والأنكى أن هزيمته باتت فضيحة انتشرت رائحتها في البلدة الصغيرة ، وأحس ديوب كأن انكشفت عوراته فيها أمام أهلها وقاطنيها من الأقربين والأبعدين ، ولم يفلح الضبع باعتقال الشائعات ، ولم تستطع طلقات الأسلحة أن تصيب الحقيقة المرة التي انزرعت في الآذان والأسماع ، وتداولتها الألسن والشفاه والعيون والأدمغة ، وسائر الحواس الخمسة أو الستة أو الألف . لقد وجهت له نعيمة الضربة القاضية ، وأخرجته من الحلبة إلى حين . وقبل أن تبرد الهزيمة ، اقتحم ديوب دار نعيمة في غفلة من الليل مع أتباعه وكلابه ، وهددها وأهلها :
- سأجعلك تعيشين عانسا ، ولن يجرؤ أحد على الاقتراب منك ، إلا إذا كان مستغنيا عن حياته وروحه ، نعم سأجعلك عانسا أو أرملة ، أيهما تحبين أيتها الساقطة الرجيمة ؟
رمقته بنظرة تحدّ وازدراء ، وأدارت له ظهرها استخفافا . فجأر غاضبا :
- هل تجرئين على ذكر اسمه ؟ سأذبحه أمام عينيك ، وأربي به كل رجال البلدة
ولم تجبه على سؤاله ، وتركته يموت قهرا وغيظا ، فماكان منه إلا أن جأر :
سترين .. سترين أيتها ال .......
ثم عضّ على غضبه ، وطوى ذيله بين فخذيه ، ومضى حانقا .. مثقلا بالحقد والغيرة الجنونية ، وعقله الشيطاني يخطط للانتقام المروع من نعيمة البطلة ، نعيمة المرأة التي واجهت ديوب ، وتحدته ، وهو ما لم يجرؤ على فعله أي رجل في تلك البلدة المحتلة من قبل ديوب وعصابته الإجرامية المتوحشة . وسرت قصة التحدي هذه لتعبر حدود القرية ، وتغزو القلوب قبل العقول ، وتتحول إلى حكاية وأسطورة يتندر بها الناس ويتداولونها .
أنا ونعيمة حرفا كلمة حبّ ، كنا حكاية عشق ، تعشعش في نسيج الأزهار ، ويتغذى على رحيقها النحل ، ويتعطر بها الأثير . آه .. يانعيمة ، مازلت أحفظ أغانيك .. وأرقص على ألحانك . كنت تؤكدين لي : " الحب يكره العتمة ، لايمكن التكتم عليه ، الحب كالورود .. لاتستطيع أن تتكتم على عبيرها الفواح ، الحب طائر لايعيش في الأقفاص ، ويستعصي على الترويض والتدجين ، ويتحدى الاستبداد ، الحب هو الكرامة والحرية والحياة والوطن والسعادة . لذلك فإن الحب هو الأقوى ، وهو المنتصر " .
تلك كلماتك وعباراتك التي آمنت بها ، وانحزت إليها مهما كان الثمن . ياشمس روحي الذبيحة ، دمك المهدور لايزال يشعشع مادمت موجودا ، ومازالت أصداؤك تملأ حياتي ، تلون الأيام ، تضيء الليالي الساهرات ، مازلت ياحبيبتي نعيمة حكاية الحب المأثورة على شفاه الصبايا العاشقات ، مازلت صوتك يانعيمة يعيش في همسات النسيم ، وابتسامات القمر ، ومازلت بعيدة المنال عن ديوب الضبع الغدار ، ومازلت شوكة في حلقه وقلبه وعينيه الذئبيتين ، وهو لايكف عن النباح والعواء والفحيح ألما لاشفاء منه .
حين علم ديوب الضبع بعزمنا على الزواج أنا ونعيمة ، هم بالبطش بنا .. لولا أن كلبا من كلابه موهوبا .. همس في إذنه اقتراحا جعله يهدأ ويبتسم ويتخلص من ثورته الانفعالية ، حينها فرقع ضحكة فاجرة ، انطلقت من أعماق بطنه المنتفخة الموبوءة ، ثم أخذ يتلمظ وهو يتأمل اقتراح كلبه الأجرب الزنيم .
في لحظة غادرة اختطف ديوب نعيمة ، وكتم الليل صراخها واستغاثاتها التي ذهبت هباء ، لقد استفردوا بها ، وكمموا فمها ، وعصبوا عينيها ، وقادوها إلى مكان مجهول ، مكان يجهل لغة الإنسان والحب والخير . هناك .. صارت نعيمة وليمة على مأدبة اللئام ، التهمها ديوب الضبع ، وتلمظ متشفيا .. مسح بلسانه فمه متلذذا ، نظر إلى كلابه ، وأدرك شهوتهم في عيونهم ونظراتهم العدوانية الشرسة ، وبخبث أراد أن يتمنّن عليهم ، فدعاهم لمشاركته الوليمة ، ورمى بالبقايا في وجوههم ، تلقفوها بفجعنة وتوحش .
ظن ديوب الضبع أن جريمته قد حققت مأربه ، وأن ماقام به كاف لتدمير نعيمة وتلويثها وتعنيسها ، وكسر شوكتها في البلدة المأزومة . وتمتم ديوب :" ها أنت يانعيمة العاهرة ، ينالك اليباس ، ويهرب منك العطر ، ولن تتمكني من لملمة أشلائك المبعثرة بعد الآن ." .
ولكن نعيمة كان في روحها مايكفي للتمسك بالحياة ، والدفاع عن نفسها .
كان أبوها قلقا من غيابها ، قلبه يحدثه عن مصيبة ما ، وكنت أهدئ من روعه ، وأعده بأنني سأعيدها له سالمة . كان أبوها يثق بي ويحبني ، ويريدني زوجا لنعيمة : ابنته . . وكانت البلدة نائمة ، تلتحف الليل البهيم الأخرس ، وأهل نعيمة فريسة للأرق والقلق ، كل مايعلمونه أن نعيمة خرجت ، ولم تعد ، ولم يكن من عادتها أن تتأخر خارج البيت ، البيت الذي يتوسط المدينة ، ويرفل بالحب والسعادة ، يعانقه حوش يفصله عن الطريق والجوار ، ويتزين بالنباتات والأزهار والورود .
أهلها متوترون جدا ، وكنت أخفي توتري لأخفف عنهم ، وكنت أهم بالخروج بحثا عنها ، وأصر أبوها على مرافقتي ، وقبل أن نخرج بلحظات ، سمعنا صرير باب الحوش يفتح ، خرجنا أنا وأبوها لاستطلاع القادم بلهفة .. لمحنا شبحا يتمايل ويترنح وهو يتقدم نحونا ، ولما سمعنا تأوهات أنثوية متألمة ، حدسنا أنها نعيمة ، اندفع أبوها نحوها ، ولحقت بنا الأم ، وهرعت أليها ، كانت تترنح ، وتوشك أن تسقط ، لولا أنني استدركتها ، وحملتها على كتفي ، ودخلنا جميعا البيت ، وسط جلبة خافتة .. تحاشيا للفت انتباه الجوار . وأوصدنا الأبواب ، وأخذت أمها تبكي قهرا وألما ، وحتى أبوها لم يتمكن من التماسك ، فنشج وذرف الدموع وهو يشيح بوجهه ، ليخفي حالته المنهارة . وضعنا نعيمة على سريرها نصف ميتة ، ونصف واعية ، كانت حالتها لاتسمح بطرح الأسئلة والاستفسارات عليها لمعرفة الحيثيات التي أدت إلى هذه الحالة التي ينفطر لها قلب الحجر ، والأصح أنه لم يكن لطرح الأسئلة من مبرر ، فالرسالة واضحة ، والفاعل معروف ومتوقع ، وطرح الأسئلة عبث وحماقة ، كل شيء واضح ، التهديدات السابقة التي كان يطلقها الضبع بلا خوف وحياء ، هاهي تنفذ ، المكتوب واضح من عنوانه ، والجريمة حلت ووقعت غدرا .
بدت نعيمة كالخرقة البالية ، أو كآنية مهشمة ، واضح أنها ضربت ضربا مبرحا بلا رحمة ولا شفقة ، وعذبت أيما تعذيب ، ونتف شعرها ، ومزقت ثيابها ، وبدت آثار الكدمات الزرقاء الداكنة ، وآثار الكم والدعس والعض والخمش ، بدا وجهها لوجوه الموتى ، والدها لم يحتمل المصاب ، لأنه كان يعني الكثير بالنسبة له ولعائلته وسمعته وعمله ، ارتعش ، ضاق نفسه ، شهق ، تشنج ، ازرق وجهه ، حاولنا إنقاذه ، ولكن السيف سبق العذل ، وسكن سكونه الأخير ، فيما صاحت أم نعيمة صيحة متألمة مفجوعة وهي تضرب صدرها وتمزق ثيابها عند الصدر وتنوح نواحا يائسا ومقهورا .. فيما نعيمة لم تع المصيبة ، ولا مايدور من حولها .. لأنها كانت أشبه بالمغمي عليها ....كانت غائبة بروحها وأحاسيسها ، ميتة في رداء الحياة ، ولم أتمالك نفسي ، فبكيت أنا الآخر وأنا حائر فيما علي أن أفعله إزاء الثلاثة : نعيمة وأمها وأبوها . شعرت بنفسي مهشما ، مسكونا بالعجز والفاجعة ، كانت ليلة ضاجة .. مفترسة .. صاعقة .. وكنت خلالها أضعف من برغشة وسط عاصفة هوجاء ناقمة .......
ما أذكره في تلك الليلة هو أنني لملمت بقايا نعيمة المبعثرة ، وشيعت والدها . كانت ليلة مفترسة .
زحفت الأيام كثعبان ثقيل أسود ، وظلت نعيمة تتقاوى على أوجاعها ، وتحصن ذاتها بصمتها المخيف . حاولت مرارا قراءة صمتها ، طالبتها مرارا بأن تتكلم ، أن تقول شيئا ، أن تفضفض عن أوجاعها ، حاولت أن أخرجها من هوة الألم ، وحضيض القهر ، أن أعيدها إلى الحياة الطبيعية ، أن تنسى الماضي ، وتقلب الصفحة ، قلت لها :
- حبيبتي نعيمة ، لن أتخلى عنك مهما حصل ، قدرنا أن نعيش ونموت معا ، انسي الماضي ، وماحصل ، نعيمة ، أنت وردة لايمكن لأحد أن يلوثها ، طاهرة أنت كالثلج والشمس والأزهار ، روحك طاهرة ، ولن يطالها المعتدون المجرمون . هم الملوثون يانعيمة ، بالدماء ملوثون وبالحقد الأسود ، بالجنون والحماقة والشر ملوثون ، ولايمكن للكراهية أن تلوث المحبة ، لا يمكن للدنس أن يلوث البراءة ، لأن البراءة روح نورانية لايراها ولايطالها المدنسون الفاسدو العقول والنفوس ، البراءة والطهر أقوى من الدنس الذي يعشعش في النفوس الضعيفة المريضة المشوهة ، انهضي يانعيمة ، انهضي من ركامك .. من رمادك انهضي كطائر العنقاء ، نهوضك سيكون هزيمة ماحقة لديوب وشلته من الأراذل الأوباش الأفاقين . انهضي ، وأنا معك ، لن نفترق أبدا مهما حصل ، أنا وأنت يانعيمة كالكلمة والمعنى ، كالبحر والشاطئ ، لانفترق ، لاننفصل ، إلا إذا انفصلت الشمس عن ضيائها ، والوردة عن شذاها ، والنهر عن مجراه ، يانعيمة .. اسمعيني ، انهضي كيلا أنهار وأسقط وأهزم ، انهضي لنخوض معركتنا معا ، لنهزم ديوب الضبع وشلته الحقراء المحتالين , انهضي لنحرر البلدة وأهل البلدة من رجسهم وآثامهم ، من جنونهم وفجورهم . هم الموت ، ونحن الحياة ، ولابد أن نهزمهم . انهضي يانعيمة ، إنني أسمع أهازيج الطيور ، وحديث الريح للأشجار ، أسمع خرير الجداول ، كلها تنبئ بيوم جديد ، يوم باسم مزهو بالربيع القادم من وراء المأساة والألم والشدة ، يوم يفتتح مهرجان الفرح والمحبة ، في البلدة التي ستغتسل من أدران ديوب الضبع ووساخاته . انهضي يانعيمة البطلة التي هزمت الضبع .
وفوجئت بنعيمة تتناهض ، وساعدتها ، أجلستها ، حاولت أن تتكلم .. كررت المحاولة ، ولم تتمكن من لفظ كلمة مفيدة مترابطة السياق .. فوجئت نعيمة ، وبدت عليها الصدمة وهي تستخدم الإيماء للقول : إنها لاتستطيع الكلام .. وأدركت أنها أصيبت بالخرس ، بسبب الصدمة والكارثة التي حلت بها . فنشجت وبكت وذرفت ، وضممتها إلى صدري وأنا أفعل مثلها تماما : أنشج وأبكي ولاأملك القدرة على ضبط انفعالي وحزني على حال نعيمة .
حاولت أن أتماسك وأتجلد ، وأرفع من معنوياتها ، قلت لها : " كل شيء يمكن إصلاحه ، اصبري ، كوني قوية ، لاتضعفي وتشمّتي الناس بنا ، ولاتنسي أنك لست وحدك ، حسبك أنني وإياك روح واحد , لن يحول بيننا حائل ، انهضي يانعيمة لنرى ماسنفعل " .
ردت علي بنشيج متألم ومقهور وناقم ، وبصوت يوقظ الصخر الأصم من سباته . وفهمت قصدها ، كان صياحها أشبه بملحمة شعرية " تراجيدية ، ورأيتني أجيبها معللا وموضحا : " ياحبيبتي .. يانعيمة المقدسة ، أنت أطهر من حبات المطر ، أنت ترنيمة الثلج ، وأنفاس الربيع العطرة ، أنت براءة النسيم العليل في الأعالي ، أنت الذهب الخالص النقي الذي لايتلوث . الضبع لوث نفسه ، ومارس قذاراته ، وأنت ضحية لايد لك بما حصل ، البراءة والطهارة لاتزالا تتوج جبينك الوضاء ، وتشع في عينيك ، لاتقلقي ياحبيبتي ، لن نسكت ، لن نستسلم ، ولسوف نعمر ماهدمه ، سنرد كيده إلى نحره ، ونفسد عليه خطته المشؤومة ، انهضي يانعيمة ، سنتزوج ، وسيتميز ديوب الوحش غيظا وقهرا ، سنجعله يجتر خيبته وسنحول المعركة من الدفاع إلى الهجوم الكاسح عليه وعلى كلابه من اللصوص والمهربين ، سنلقنه درسا لن ينساه ، ونرد اعتبارنا أمام البلدة ، بعد أن نخلصها من ديوب النذل الجبان . ارتعشت نعيمة بين يدي ، ورفضت الفكرة بإيماءات من رأسها . كانت عنيدة ، وأدركت مقصدها : كانت تريد أن تبعدني عن الأذى والخطر ، أن تحميني من بطش الضبع وأزلامه ، لكنني أقنعتها بعزمي وتصميمي بعد جدل .
وافقت نعيمة على الفكرة ، وكان قد مضى على الجريمة شهران ونيف ، تعذبت خلالها نعيمة كثيرا ، لكنها الآن أفضل ، تحسنت أحوالها الصحية والنفسية بعض الشيء ، وبدت أكثر حيوية من ذي قبل ، وبدا التفاؤل يلوح ويلون أسارير وجهها الصبوح ، وقد طرأ تحسن ملموس على نطقها ، صرت أفهم كلماتها المتقطعة ، وهي أشبه بطفل يتعثر بالألفاظ .. عشت ونعيمة في عزلة نسبية عن الناس ، كانوا يخشون الضبع حتى ولو كانوا وحدهم ، كان الضبع ديوب يسكن في لاوعيهم ، كانت سلطته الباطشة تتجذر في نفوسهم وعقولهم ، وكانوا يحسبون له ولأتباعه ألف حساب ، وكثر بينهم المنافقون والمتزلفون والمجاملون والكذابون والوصوليون والمنتفعون والحاقدون الذي يبيتون له النية ، ويتربضون سقطة له لينقضوا عليه انتقاما ، لشدة كراهيتهم له ...
كاد الناس معظمهم أن ينسوا قصة نعيمة ، قصتنا أنا ونعيمة ، وكادت الإشاعات تمحي وتفتر وتبيت في الأذهان ... لولا أنني ونعيمة نفخنا في الرماد ، وانفجر البركان مجددا ، حدث هذا حينما عرف أهل البلدة أننا : أنا ونعيمة قررنا عقد قراننا ، من غير أن نكترث بالمخاطر والتهديدات التي تنتظرنا من قبل ديوب الضبع وحاشيته الملعونة .
سرى خبر قرارنا الزواج في البلدة مسرى الإشاعة ، التي اقتحمت أسرار البيوت ، ارتعشت المنازل والدروب ، عشعشت فيها الوساوس والتوجسات والترقب المثير لما يتوقع حدوثه ، وتشابكت التقولات ، والتساؤلات عما سيفعله الضبع بنا : أنا ونعيمة . متى ؟ أين ؟ كيف؟ ماهي النتيجة ؟ وتراهن أهل البلدة ، وجلهم راهنوا على أن الضبع سيفترسنا بسهولة . مع أن الضبع ظل يتمترس بالصمت ، ولم يصدر عنه ماينبئ بشيء .
في العرس : عرسنا ، شاركت الأنسام والأشجار والقلوب النابضة ، وغنى القمر ، ورددت وراءه النجوم أغنية الحب ، فسكر الليل .. وتزين ، وابتسم .
في غمرة الفرح ، اقتحم الضبع المكان ، ومعه كلابه ، كانت عيناه تقدحان شررا ، وتتقدان حقدا ونقمة ولؤما ، لم تستطع ابتسامته المخادعة إخفاء قلبه الأسود المتفحم ، ونواياه المفترسة ، بدا هذه المرة أشبه ب" الجقل " وهو الاسم الذي يطلقه أهل البلدة الريفية على نوع من الثعالب الماكرة التي تشارك أهل البلدة دواجنها كل صباح باكر .
ابتسم ال" جقل " ابتسامة ما كرة مهادنة غادرة ، وهو يوجه كلامه للعروسين : أنا ونعيمة :
- أنا عاتب عليكما ، لماذا لم تدعواني لأقوم بالواجب أيها العروسان ، على كل حال ملحوقة ، تهانينا ، وألف مبروك لكما .... بالمناسبة ، هدية زفافكما ستصلكما قريبا ، لن أترككما تنتظران طويلا ، عسى أن تكون مفاجأة ... سنتواجه .
كان المحتفون جامدون كالتماثيل خوفا وفضولا وتوجسا ، وكانوا يتعاطفون معنا أنا ونعيمة . ودهشوا مما فعله وقاله الجقل ، الذي مالبث أن استدار هو وعصابته ، ومضوا .. وغابوا في متاهة الليل ، وقد خلف وراءه الهواجس والخوف من الآتي .
دخلنا أنا ونعيمة البيت ، بعد أن انفض العرس ، تجاهلنا ماحصل ، وقالت نعيمة :
- لن ندع الوحش يفسد علينا ليلتنا ، ألا نستحق في حياتنا ليلة واحدة ، ليلة تختصر الحياة والمسرة ، وليكن بعدها مايكون . لننس ، ولنرم وراء ظهورنا كل شيء ، ولنعش ولو ليلة واحدة كما نحب ونريد ونشتهي ،
- تبا لك أيها الضبع ، ألم ترينه كالخنزير ؟ ترى ماذا ينوي ويبيت لنا من الشرور ؟
- سيقع في شر أعماله ، يمهل ولايهمل ، سترى
- نعم .. معك حق ، ولكني قلق ، أحس أنني الآن قوي ، قادر على التغلب عليه ، وعلى كل من يؤازره من السفلة . أرغب بمواجهته ، لأول مرة تتملكني الرغبة في مبارزته ، ولتكن النتيجة ماتكون ، لم أعد أكترث له بعد أن حققنا أنا وأنت ياحبيبتي مانريد .
- دعك منه ومن ذكره السيء ، لنمض هذه الليلة ، لأنها .....
- لأنها ماذا ؟
ولم تجبني رغم إلحاحي ..
أمضينا الليلة ، كانت ليلة مزهرة .. مثمرة .. وضاءة كالنهار ، ليلة هاربة من النعاس والنوم ، ليلة تكافئ الخلود في الجنة ، ليلة تتحول فيها كل الأحلام إلى واقع ملموس نابض بالحياة والفرح والحب والطمأنينة .......
وفي ليلة موحشة ناعقة .. اقتحمت علينا خلوتنا أصوات وهمهمات وغمغمات مشوشة وخافتة ، تثير الخوف والتوجس ، وسيطرت علينا غريزة البقاء نتيجة الإحساس بالخطر المحدق الذي كنا ننتظره .. ونحسب له الحساب . لاذت نعيمة بي ، كأنما تريد أن تخبئ جسدها المرتعش داخل جسدي ، أحسست بخوفها يتسلل من تحت جلدها الحار ، لينقل لي مشاعرها وأحاسيسها ، طمأنتها متصنعا الرصانة ورباطة الجأش :
- نعيمة ، لاتخافي ولاتقلقي ، مادمت معك ، لن يصيبك سوء ....
طوقتني بذراعيها بشدة ، حينما استمرت الأصوات في الخارج ، حاولت أن أفلت من بين يديها ، وحاولت أن تتمسك بي بين ذراعيها ، خوفها علي لم يكن أقل من خوفها على نفسها ، توسلت لي :
- لاتتركني أرجوك .. لاتخرج .. ابق معي
- أنا معك .. اطمئني ،
- أرجوك لاتخرج ، لاأريد أن أخسرك
- لاتخشي .. علي أن أخرج ، لأحميك
- تحميني ؟
- إن لم أخرج ، قد يقتحمون البيت
وذعرت نعيمة ، وتخلصت من بين ذراعيها ، ومضيت لأرى ما الأمر ؟ فتحت الباب بحذر بعد أن تسلحت بسكين وعصا .
لم أر أحدا .. لم أر شيئا .. بحثت ، جلت بعيني ، ثم أنصت ، لم أسمع همسة ، انتقلت ، درت حول البيت بصمت وحرص . ليس ثمة مايثير ، اختفت الأصوات ، وخرس الليل ، كان القمر يغفو على وسادة الأفق ، وفم الهواء الصاحي لا يشي بشيء ، جلت حول البيت مرتين ، وحين ابتعدت بعض الشيء عن البيت ، وفي لحظة غاشمة عمياء ، أحسست بشيء صلب وثقيل يضرب رأسي ، أضاءت عيناي ، وشعرت بالنار تخرج من نافوخي ، وفقدت الوعي بعد أن سقطت أرضا .....
لاأدري كم من الوقت مضى عليّ وأنا فاقد الوعي ، أيقظني الألم ، وقرصات أشعة الشمس اللاذعة ، توكأت على ضعفي ، ونهضت متثاقلا ، ألملم آلامي ، وأحاول أن أستذكر ماحصل . الغدر .. الخيانة : عمل جبان ، إذن ديوب ليس رجلا ، إنه جبان كفأرة ، ديوب لايستحق لقب الضبع ولا الذئب ، أنهما أنبل وأشرف منه ، إنهما أرجل منه ، وأكثر شجاعة وقوة وشراسة ، ديوب جبان ، ضعيف كذبابة ، وإلا لماذا يهاجمني غدرا ؟ قوته وهم وضعف ، هو لم يجرؤ على مواجهتي ، مع أنه مدعوم بعصابته ، هم أكثر مني عددا ، كان عليهم مواجهتي ، تلك هي الرجولة والشجاعة والإقدام ، أيها النذل الجبان .
وبصعوبة وبطء توجهت إلى باب المنزل ، بعد أن تذكرت أن نعيمة في الداخل تنتظرني ، لابد أنها قلقة علي ، ودخلت البيت ، وبحثت عن نعيمه ، سألت الحيطان والزوايا ، لم تجبني ، وفجأة تعثرت بكتلة كبيرة ، أدركت أنه جسد ، سقطت فوقه ، ثم نهضت ، تفحصته ، إذا به جسد نعيمة على الأرض مضرجة بالدماء ، ويدها تمسك بخنجر تحاول انتزاعه من صدرها من جهة القلب ، كانت تتأوه ، وانطلقت مني صرخة غاضبة مدوية .. ناقمة :
لقد فعلها ديوب الوحش
وأمسكت الخنجر ، ونعيمة تعاند قدرها البائس ، وهو لايقل بؤسا عن قدري المشؤوم ، انتزعت الخنجر من صدرها بقوة ، ونعيمة تطلق صرخة ألم دامية ، أخذتها بين ذراعي ، وأنا أجهش بالبكاء بقهر وحسرة ، مدت نعيمة كفها لتمسح دموعي ، وهي تبتسم وتواسيني وتطمئنني :
- ستظل روحي معك ، تحرسك ، ضعها أيقونة في عنقك ،
وجمدت عيناها ، وهمدت أنفاسها ، وبرد جسدها ، وتوقف نبضها ، وراحت الأشياء تنوح ، وصغرت الدنيا في عيني التائهتين المكلومتين ، وأخذ الضوء يشحّ .. ويشحب ، ويصفرّ ، وأغمي علي ......
لاأدري كيف وصلت إلى المشفى الوحيد في البلدة ، وحققت معي الشرطة ، وبعد شفائي ، أودعت السجن ، وحجزت على ذمة الجريمة التي ألبسوني إياها ، وهي : قتل نعيمة عن سبق إصرار وترصد ، بعد أن لفقت كل الأدلة ضدي ، وكانت المؤامرة محبوكة بإتقان .. وهدفها ضرب عصفورين بحجر واحد : أنا ونعيمة .
خمسة عشر عاما أمضيتها ، وأنا أفكر بالانتقام ، وتحقيق العدالة على طريقتي ، حيث لاوجود في البلدة إلا لعدالة ديوب المجرمة القاتلة ، ولقانونه الشخصي ، وشرعته الدموية .
خرجت من السجن ، ولكن السجن ظل يسجنني ويسكنني ، وصورة نعيمة لاتبرح عيني ، ترسم مصيرا ، توجه روحي وإرادتي اللتين لم يتمكن الضبع من اغتيالهما .. وكنت أحس بقوة خفية متنامية تمكنني من خوض المواجهة مع ديوب ، وشعرت بالجرأة والشجاعة ، لم يعد للخوف من مكان في أعماقي ، تخلصت منه ، كما يتخلص المريض من مرضه المزمن ، وعقدت العزم على استرداد الخمسة عشر عاما التي أمضيتها وراء القضبان من ديوب وشلته الزنيمة .
قادتني خطواتي إلى بيت جدّة نعيمة ، لأسأل عن نعيمة وما حل بها . استقبلتني الجدّة بالدموع والنواح ، ضمتني وباستني ، أجلستني ، وسردت لي القصة ، تأثرت ، وبكيت ، وبعدها .. رافقتني الجدة لتدلني على مكان قبر نعيمة .
وقفنا إلى القبر ، وضعنا باقة من الآس ، قرأنا الفاتحة على روحها ، تلمست القبر .. قبلت الحجارة ، وأنا أجهش بالبكاء المرّ .. نهضت أتأمله ، أحسست بالقبر يتحرك ، وبدت حجارته الرخامية شفيفة كالبللور الصافي ، رأيت نعيمة ملاكا من النور ، عيناها تصدحان حبا وشوقا وحنينا ، وابتسامتها تضج بالفرح . تأملتها . سمعتها : " أحبك " .
كنت أزورها يوميا ، وحين أتخلف عن زيارتها ، كان قبرها يزورني ، ويعود إلى مكانه قرب شجرة سنديان عملاقة ....
اليوم ... حدث ماهو مختلف تماما .. في تلك الليلة المفترسة ، كانت الساعة تدق بوحشية ، منذرة بالقيامة . وكانت الأشياء تتحرك برعب ، وكأنما تود الفرار من شيء ما .. كنت داخل الحجرة متحفزا .. مستنفر ا ، وإذا بي يفاجئني الضبع ، وقد اخترق حيطان الحجرة الحجرية كالظل ، بدا شبحا قبيحا مشوش الملامح ، كان يصيح ويجأر مهددا :
- سأنتزع منك آخر مالديك ، لم أعد أحتمل وجودك ، حتى لو كان مطلق صورة تافهة ..
قال ماقاله ، وارتد كالصدى ، خارجا مخترقا الحيطان الحجرية كما دخلها بالضبط .
وحضرتني صورة نعيمة تبتسم ، وتشجعني ، قلت لها :
- هاأنت يانعيمة تخرجين من الصورة ، كما تخرج الحورية من البحر ، تمنحينني القوة والضراوة ، لأعيد للأشجار خضرتها ، وللزهر شذاه ، وللشمس وهجها وحرارتها ، ها أنت ياحبيبتي تخرجين أليّ ، كما تخرج الألحان من الأغنية والأوتار والحناجر ، تحملين إليّ رسالة جديدة كالفجر ، تؤكدين أننا سنولد ونحيا وننهض من أشلائنا وبقايانا .. من آلامنا وجراحنا وأحلامنا المذبوحة ، من دمائنا المهدورة الحمراء كشقائق النعما ن ، يانعيمة ، سأ حمل ابتسامتك كالسيف ، أحارب به حتى ننتصر .
مضى الضبع ، وتوعد بأن يفعل شيئا ضدي ، وتأخرت عن زيارة قبر نعيمة : حبيبتي ، وطال تأخري ، واستغربت أن قبر نعيمة لم يزرني كعادته كلما أتأخر عن زيارته ، فما الذي حدث؟
سارعت الخطى متوجها إلى مكان القبر الرخامي بالقرب من شجرة السنديان القوية العملاقة ، التي تحرس قبر حبيبتي نعيمة ، ولاتنام أبدا .. كان الليل يعانق صباحه ، وصلت إلى المكان ، ولم أجد القبر ، قبرك يانعيمة ، سألت شجرة السنديان ، فبكت ، ذرفت صامتة ، بللت دموعها وجهي ، وكأنما تجيبني وتخبرني ... وسألت الأحجار والأرض ، ارتجفت .. اختلجت .. ولاذت بصمتها الحزين ، وهي تئن وتتأوه . كان القمر قد خبا وجهه ، وتلفع بوشاح الأفق الساهر ..
تساءلت : كيف لقبر أن يختفي من مكانه ؟
كان الضبع قد صمم على اقتلاع القبر من مكانه ، ومحوه من الوجود ، ليقتل كل أثر أو ذكرى لنعيمة ، خصوصا في رأسي أنا ، ولما وصل إلى المكان .. صعق الضبع حين لم ير أثرا لقبر نعيمة ، وسلط المشاعل باحثا في محيطه ، ولم يحصد سوى الخيبة ، وتساءل مرعوبا مذعورا : " القبر اختفى ؟! كيف؟ أي شيء إلا هذا ! إنه نذير شؤم .. بالنسبة لي ، أتراها قديسة ؟ مصيبة ؟ لقد وقعت في شر أعمالي ، يبدو أن وقت الحساب قد حان ، وعلى أن أدفع الثمن ، ولكن لا .. لن أدع نعيمة تتمكن مني وتقتلني .."
وأحس الضبع بنفسه يتمتم ويكلم نفسه ، وخاله أتباعه قد جنّ .. وفقد عقله ، ومع ذلك فقد أدهشهم غياب القبر من مكانه المألوف ، وأخذوا يتهامسون حول تلك المعجزة ، وحول ديوب : زعيمهم .. توجس الضبع من أتباعه شرا ، وأحس حيالهم بالضعف والهزيمة ، وتهالك في حيرته وشكوكه وهلعه من المتوقع المشؤوم ...
سمع حركة قادمة من وراء الليل ، أمر كلابه بالابتعاد عن المكان ، والتلطي والتخفي . ثم مالبق أن رأي شبحا يتوقف عند مكان القبر ، وراقبه ، وأدرك أنه هو .. هو بذاته : حبيب نعيمة الذي مايزال حيا يرزق ، على الرغم من قتله .. فاستغل الفرصة ليقتله من جديد ، من خلال أكذوبة خطرت بباله ، ومفادها : الادعاء بأنه هو ( الضبع ديوب ) هو من سرق القبر ، آخر ماتبقى لديوب في حياته الأخيرة ..
أنا منصور : حبيب نعيمة ، كنت أتساءل : عن سر اختفاء القبر : قبر نعيمة ، حينما اقتحم علي المكان ديوب الضبع مع رجاله ، وقف أمامي ، وهو يقهقة شامتا متشفيا :
- ألم أقل لك ؟ ها أنذا وفيت بوعدي . مفاجأة ... هه ؟ ! إنه آخر مابقي لك من نعيمة ، وآخر مابقي منك ..
كان يتحدث بلهجة خبيثة ومراوغة ، فيها الكثير من الضعف والهشاشة وعدم الثقة بالنفس ، أحسست به مهزوما ، مشتتا ، خائفا ، يائسا .. أحسست به يتضاءل هو ومن معه ، ليتحول إلى مجرد برغوث أو برغشة ، وشعرت بكلابه تتحول إلى نوع من البقّ ... مادفعني إلى عدم تصديق روايته ، بل أكذوبته الأخيرة التي كانت أشبه بفقاعة هشة ، عمرها ثواني وتنفجر . وتذكرت .. ماقيل لي من البعض ، وظننته مزاحا ، من أنهم شاهدوا قبر نعيمة وهو يتجول ليلا في البلدة ،
وتسربـت أخبار القبر الذي يتجول في البلدة إلى أسماع ديوب الضبع ، فأصابه الهلع ، وقهقه بشكل هستيري ليخفي خوفه وقلقه مما يسمع ، وراح ديوب يحدث نفسه :
" لاأصدق .. مستحيل .. قبر يتحرك ؟ يتجول في البلدة ؟ قبر نعيمة ؟ أهي شائعة ؟ أم أن أهل البلدة قد جنّوا .. وفقدوا صوابهم ورشدهم ؟ ولكن لماذا ؟ لماذا يكذبون ؟ كثيرون منهم أكد مشاهدته لقبر نعيمة وهو يتجول ليلا بين الطرق والأزقة والحارات ، وذعروا من المنظر العجيب ، بعضهم اعتبره معجزة ، آخرون خمنوا : إن نعيمة تسعى إلى الانتقام مني : أنا ديوب الجقل .. ديوب الوحش .. الضبع .. أنا من يدوس على رقبة البلدة ، ويسوس أهلها كالعبيد ، أنا من تخشاه الحجارة والدواب ، أنا ديوب الوحش ، نعيمة تريد أن تهزمني ، أن تطأ كرامتي وسمعتي بحذائها ، نعيمة تتحداني ؟ رجال القرية لايجرؤون على النظر في وجهي ، ونعيمة تفعل ، تتحداني ، تبصق في وجهي ، تهينني ، البلدة ليس فيها رجال ، ونعيمة وحدها تعادل ألف رجل ، كيف لم أتغلب عليها حتى الآن ؟ لا أصدق ، نعيمة لاتزال موجودة ، قوية ، إنها أقوى مني ومن كلابي وأسلحتي وماكائدي وشروري ومكري ، نعيمة لم تمت ، إنها حية ، تحاول أن تدفعني إلى الجنون ، تريد أن تقتلني بالجنون ، وهذا أصعب من الموت والقتل ، نعيمة تريد أن تقتل روحي واسمي ، تريد أن تتحرر وتحرر عشيقها منصور التافه ، وتحرر أهل البلدة ، وطرقها وبيوتها وبساتينها وأحجارها من سطوة ديوب ، أنا ديوب . نعيمة تهددني ، وتنوي محوي من البلدة " .
أنا منصور ، خصم ديوب الأول ، تذكرت ماقيل من أن الهلع أصاب الضبع جراء ماشاع من تجول قبر نعيمة التي تود الانتقام من الضبع وكلابه الأنجاس ، وقلت في نفسي : الآن حان وقت الموت حبا ، لقد سرق الضبع أفراحنا وحياتنا وأرزاقنا وأحلامنا ، وقد حان وقت الهجوم ، لاسترداد كل شيء ، إنها الجولة الحاسمة ، فإما نحن أو الضبع ، الآن جاء دور الضبع ليشرب من نفس الكأس المرة ، التي أشربنا إياها ، سنجعله يخسر كل شيء .
اندفعت بقوة خارقة ، أحسست بقوتي تعادل قوة جيش عرمرم ، وبشجاعة لانظير لها ، وبثقة وعزم كالفولاذ . اندفعت بحثا عن قبرنعيمة ، لأنضم إليها ، ولنخوض معركتنا المصيرية الحاسمة مع الضبع وأعوانه ومريديه من المرتزقة والغوغاء ممن اختاروا أن يكونوا عبيدا أذلاء بلا كرامة ولاإحساس ولاحياء . اندفعت باتجاه بيت الضبع .. باتجاه جحره مباشرة ، ولاأدري كيف انضم إلى القوم من أهل البلدة ، واندفعوا معي مظاهرين مؤيدين ومشكلين جيشا لجبا لايقاوم ، كانوا يحملون العصي والأسلحة البيضاء والنارية ، ويهدرون كالبحر العاصف ، وبعضهم حمل المشاعل ، واندفعنا جميعا نحو جحر الضبع اللعين الذي أزفت ساعة الخلاص منه . كان الناس يهزمون كالرعود ، ويهتفون بالموت للضبع وأعوانه ، واقتربنا من جحر الضبع ، وضربنا حوله نطاقا ، ، ورأيت أنا منصور .. رأيت جدران بيت الضبع ترتعش رعبا ، وبدت لينة .. هشة .. لزجة ، وشفيفة كالهواء ، فاندفعت اخترقها كما كان الضبع يفعل وهو يخترق جدران بيتي ، نعم اخترقت جدران بيت الضبع بسهولة ويسر ، وفي الداخل رأيت الضبع يرقد كالقمامة النتنة في زاوية الرعب ، ولم أجد معه أو حوله سوى الذباب والناموس . هممت بالانقضاض عليه ، ومعي عدد من فتيان البلدة الأشداء . وفوجئنا بالضبع يتفتت ويتحلل ، وكأنه تمثال من الرمل أو الرماد ، كان جسده يتفسخ ويندلق ككتلة من الهلام ، تفوح منه روائح نتنة كريهة لاتحتمل ، تراجعنا مصعوقين من هول المنظر الغريب ، خرجنا ، ابتعدنا عن بيت الضبع ، ومالبث البيت أن اندلعت فيه ألسنة اللهب ، وأخذت أحجاره وجدرانه تتشظى ، وتنقذف عاليا وبعيدا نحو السماء التي توشحت بالدخان الأسود المخطط باللون الناري . ثم مالبث أن امحى تماما من الوجود ، وهتف الناس فرحا .. حين أشرقت نعيمة بثوب الزفاف الأبيض ، تتألق كزمردة يتيمة هائلة ،وصدحت موسيقى " أوبرالية " .. هرعت إليها ، أخذت ذراعها ، ومشينا الهوينا ، تزفنا الزغاريد والأهازيج والأغاني ، وحلقات الدبكة التي استمرت حتى صباح اليوم التالي .....
ملاحظة :
القصة مكتوبة في العام 1998 ، حسب تقديري ، واعتمادا على ملاحظات مؤرخة على ظهر الورقة الأخيرة من القصة ، وقد أعدت كتابتها وصياغتها وأنجزتها بتاريخه : اليوم الإثنين الواقع في – 2/1/2012 – الساعة التاسعة والنصف مساء



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جحا وساميلا (3) : قصة قصيرة
- اليسار السوري: تاريخ فاشل ودعوة لإعادة البناء
- من خلف الغربة : شعر نثري
- تعقيبا على مكارم ابراهيم : حق تقرير المصير ......
- الأديب باسم عبدو: في
- جحا وساميلا وزائر الليل : قصة قصيرة (2)
- جحا وساميلا : قصة قصيرة
- سأعود إليك : شعر نثري
- أوكازيون: روسيا تبيع سوريا
- الإخوان المسلمين وفوبيا الإسلام السياسي في سوريا
- قصئد غزلية قصيرة : شعر نثري
- الصورة والاشتعال:شعر نثري
- قصائد غزلية قصيرة (3)
- الشعر والناس
- سوريا وروسيا : تحالف غير مقدس
- قصائد غزلية قصيرة :(2)
- قصائد غزلية قصيرة
- من قصائد الثورة (9)
- العبور من ثقب الإبرة : قصة قصيرة
- بوادر حرب عالمية


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - أنا ونعيمة والوحش : قصة قصيرة