عادل بشير الصاري
الحوار المتمدن-العدد: 3578 - 2011 / 12 / 16 - 22:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اتخذ الطبيب أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي ( 250 هـ ـ 311 هـ ) من النبوة والأنبياء موقفا معارضا ، فهو برغم قناعته وإيمانه بوجود إله لهذا الكون ، فإنه من ناحية أخرى لا يؤمن بأن هذا الإله أرسل إلى خلقه رسلا، ويجادل من يحاول إقناعه بهذه القضية قائلا :
(( من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم ، وفضَّلهم على الناس ، وجعلهم أدلة لهم ، وأحوج الناس إليهم ؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك ، ويعلي بعضهم على بعض ، ويؤكد بينهم العداوات ، ويكثر المحاربات ، ويهلك بذلك الناس ؟ )) .
والواقع أن الله لم يخص بالنبوة قبيلة أو مجموعة عرقية واحدة ، فالأنبياء توزعوا على أقوام وشعوب كثيرة ، كذلك هو لم يحوج الناس إلى الأنبياء فقط ، فقد أحوجهم أيضا إلى العلماء في الطب والهندسة والفلك والتكنولوجيا وغيرها ، وأحوجهم كذلك إلى الفلاسفة والحكماء ، فعامة الناس في مسيس الحاجة إلى هؤلاء الصفوة لتدبير أمور حياتهم والرقي بها .
وأما القول إن اختصاص الله لقوم بالنبوة يعني استعلاء بعضهم على بعض ، ويعني أن الله بفعله هذا قد بذر بذور الشقاق والعداوة بين خلقه ، وهو ما يتنافى مع حكمته ورحمته ، فواقع الحال أن الاستعلاء والعداوات بين الناس والشعوب لا تتأتى من الدين فقط إنما يمكن أن تتأتى من وسائل أخرى كالصناعة أو التجارة أو التكنولوجيا ، ذلك أن اختصاص أمة من الأمم بإحدى هذه الأمور أو بجميعها قد يؤدي إلى استعلائها على باقي الأمم ، وهذه أميركا وحليفاتها من دول أوروبا وروسيا واليابان والصين قد استعلت كل منها بتقدمها الصناعي والاقتصادي على ما دونها من الشعوب الفقيرة والمتخلفة .
ويؤكد الرازي أننا مادمنا نؤمن بأن الله هو من خلقنا ، فكيف نؤمن أنه يخص أمة دون غيرها من الأمم برسول يرسله إليها وإلى الناس جميعا ، ويميزها عن غيرها ليبث بينها العداوة والبغضاء ، فالأوْلى (( بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم أن يلهم عباده أجمعين معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وآجلهم ، ولا يفضِّل بعضهم على بعض ، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا ، وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض ، فتصدق كل فرقة إمامها ، وتكذب غيره ، ويضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف ويعم البلاء )) .
ويُفهم من هذا أن الرازي يرى الناس سواسية في المدارك والعقول ، فكل ذي عقل منهم يعرف بالبداهة الضار من النافع ، وليس بحاجة لأن يرسل الله إليه رسولا ليدله على ما ينفعه وما يضره ، فالله يدرك بحكمته إن إرسال الرسل سيؤدي إلى كثير من المهالك والمفاسد ، لذلك اقتضت حكمته أن يعتمد الإنسان على عقله ، وألا يتكل على غيره في تدبير شؤون حياته .
إذن فالرازي يرى أن الناس متساوون فطريا في استعداداتهم وقدراتهم ، والاختلاف بين إنسان وآخر في العلم لا يعود إلى قصور ذاتي فيه ، بل يعود إلى كسله وتقاعسه عن طلب العلم ، ويدلل الرازي على هذا الرأي بأن الواحد منا (( يفهم من أمر معاشه وتجارته وتصرفه في هذه الأمور ، ويهتدي بحيلته إلى أشياء تدق عن كثير منا ، وذلك أنه صرف همته إلى ذلك ، ولو صرف همته إلى ما صرفتُ همتي أنا إليه ، وطلب ما طلبتُ لأدرك ما أدركتُ )) .
وبالطبع فإن هذا الرأي لا يحاسب عليه الرازي المولود في القرن الرابع الهجري .
ومن الحجج التي دفع بها الرازي لكي يقنع محاوره بعدم إيمانه ببعث الرسل أن التناقض الذي جاء به الأنبياء دل على أنهم لم يبعثوا من قبل الله ، وإذا كان الله واحدا فإن مصدر النبوة ينبغي أن يكون واحدا ، لكن واقع الحال أن الأنبياء متعارضون فقد (( زعم عيسى أنه ابن الله ، وزعم موسى أنه لا ابن له ، وزعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس ، وماني وزرادشت خالفا موسى وعيسى ومحمد في القديم ، وكون العالم ، وسبب الخير والشر ، وماني خالف زرادشت في الكونيين ( النور والظلمة ) ، ومحمد زعم أن المسيح لم يقتل ، واليهود والنصارى تنكر ذلك ، وتزعم أنه قتل وصلب )) .
إن التباين بين الأديان حاصل لا محالة ، والقرآن أقر في عدد من سوره بهذا التباين ، لكنه لم يرجعه إلى الأنبياء ، بل أرجعه إلى أتباعهم الذين عمدوا إلى العبث وتحريف الرسالات .
ولم يكتفِ الرازي بنفي النبوة ، بل نفى أيضا إعجاز القرآن ، وجادل مناظره في هذا الموضوع قائلا :
(( قد والله تعجبنا من قولكم القران معجز وهو مملوء من التناقض , وهو أساطير الأولين ، وهي خرافات )) .
والقرآن نفسه تعجب وسخر في عديد الآيات ممن يصفونه بأنه أساطير وخرافات .
وتابع الرازي قائلا لمحاوره بخصوص إعجاز القرآن : (( إنكم تدعون أن المعجزة قائمة موجودة ، وهي القران وتقولون : من أنكر ذلك فليأت بمثله .. إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء و الفصحاء والشعراء ، وما هو أطلق منه ألفاظا وأشد اختصارا في المعاني , وأبلغ أداة وعبارة وأشكل سجعا , فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبوننا به )) .
القرآن تحدى البشر أن يأتوا بمثل آياته ، وثمة كتّاب وشعراء قبلوا التحدي وحاولوا مجاراته في نظمه وفواصله ، لكن مجاراتهم تلك ظلت مجرد محاولات ، لم يكتب لها النجاح ، ولم تلق مما لقيه ولا يزال يلقاه القرآن حتى يومنا هذا من إقبال الملايين على حفظه والعناية بترتيله وتلاوته ، ولا تزال سوره وآياته وفواصله تؤثر في قرائه وسامعيه تأثيرا نفسيا وعاطفيا لا حدود لهما ، حتى ليمكن القول إن أية محاولة لتقليد النص القرآني إنما هي ضرب من العبث الذي لا طائل منه أبدا .
وسخر الرازي ممن يقولون بحجية القرآن وإعجازه ، وانتهى إلى أن كتب العلوم والمعارف أكثر حجية منه ، فقال : (( وأيم الله لو وجب أن يكون كتاب حجة لكانت كتب أصول الهندسة , والمجسطي الذي يؤدي إلى معرفة حركات الأفلاك والكواكب , ونحو كتب المنطق وكتب الطب الذي فيه علوم مصلحة للأبدان أولى بالحجة مما لا يفيد نفعا ولا ضررا ولا يكشف مستورا )) .
والحق لم يقل أحد من العالمين أن القرآن كتاب علم حتى يُقارن بنظائره من كتب العلوم ، فهو في عقيدة المسلمين كتاب هداية وتشريع ، ومن الخطل مقارنة فوائده الروحية بفوائد كتب الطب والهندسة والفلك وغيرها .
ولما انتهى الرازي من كل كلامه إلى بطلان الأديان ، فقد نبهه محاوره إلى أن الأديان في الواقع سائدة ومنتشرة بين العوام والخواص ، فكيف يمكن لباطل أن ينتشر ويسود بين الناس ؟ .
أجاب الرازي (( إن أهل الشرائع أخذوا الدين عن رؤسائهم بالتقليد ، ودفعوا النظر والبحث عن الأصول ، وشددوا فيه ونهوا عنه ، ورووا عن رؤسائهم أخبارا توجب عليهم ترك النظر ديانة ، وتوجب الكفر على من خالف الأخبار التي رووها ، ومن ذلك ما رووه عن أسلافهم أن الجدل في الدين والمراء فيه كفر ، ومن عرض دينه للقياس لم يزل الدهر في التباس ، ولا تتفكروا في الله وتفكروا في خلقه ، والقدر سر الله فلا تخوضوا فيه ، وإياكم والتعمق فإن من كان قبلكم هلك بالتعمق ..... إن سئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحة دعواهم ، استطاروا غضبا ، وهدروا دم من يطالبهم بذلك ، ونهوا عن النظر، وحرضوا على قتل مخالفيهم ، فمن أجل ذلك اندفن الحق أشد اندفان ، وانكتم أشد انكتام )) .
وما ذكره الرازي هنا صحيح فإن كثيرا من شيوخ الدين في عصره كانوا يشددون على عدم التوسع في النظر والبحث والسؤال في أمور الدبن ، ويحذرون الناس من غضب الله وعقابه إن هم فكروا وأكثروا من الجدال في عقيدتهم .
ولكن القرآن لم يأمر بهذا ، بل أمر المؤمن بالبحث والنظر وسؤال أهل الذكر من العلماء ، وما اجتهاد هؤلاء العلماء على مر العصور في كثير من مسائل العقيدة وأصول الدين والفقه إلا دليل على أن الإسلام كتاب مفتوح لمن يقرؤه ، والمكتبة الإسلامية تكتظ بآلاف من المصنفات والكتب التي تناقش المسائل الغيبية كمسألة وجود الله والخلق والقضاء والقدر والتوحيد والوحي وغيرها .
وخلص الرازي إلى أن انتشار الدين بين الناس يعود إلى (( طول الإلف لمذهبهم، ومر الأيام ، والعادة ، واغترارهم بلحى التيوس المتصدرين في المجالس ، يمزقون حلوقهم بالأكاذيب والخرافات )) .
وهذا صحيح ، فالدين ينتشر بين الناس كما تنتشر المذاهب والملل والنحل السياسية والفكرية كالاشتراكية والشيوعية والقومية والرأسمالية ، فمتى هُيئتْ للدين أو المذهب ظروف مواتية ودعاة أذكياء جادون فإنه ينتشر لا محالة .
ـــــــــــــــــ
1 ـ رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي ، باول كراوس ، القاهرة ، 1939 م ، ص 17 وما بعدها .
2 ـ من تاريخ الإلحاد في الإسلام ، عبد الرحمن بدوي ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1945 م ، ص 46 وما بعدها .
#عادل_بشير_الصاري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟