|
ما زال المسيح مصلوبا
حبيب هنا
الحوار المتمدن-العدد: 1059 - 2004 / 12 / 26 - 10:44
المحور:
الادب والفن
الجزء الثالث والرابع من الرواية التي لم تصدر بعد -3-
أوصل فلك إلى خالتها أم رائد ، فهجرته الشوارع والأرصفة والمحال التجارية ، صعد إلى حدائق السماء يتأملها ، وكان الليل بهيمياً تلدغ أنيابه خاصرة الوقت ، وكانت النجوم تتلألأ بطريقة مفجعة أسكنته حالة من التوتر لم يعتد عليها منذ زمن . أغواه تناسل التوتر فسار معه ، ترك كل أشرطة الماضي تمر عبر تلافيف الذاكرة ، تحتدم الحوارات مع الأصدقاء ثم تتراجع بعد وصولها حواف القطيعة ، يكبر السؤال في الداخل: هل تدفق الذكريات يسرع وتيرة الزمن ؟ ومع أنه يدرك أن حالة التوتر التي انتابته فجأة ليست سوى موجة عابرة جاءت بها كلمات الطبيب خيري عندما تذكرها مباغتة ، إلا أنه ظل أسيرا لها بعض الوقت : كان ذلك في اليوم الثاني للحرب أثناء اقتحام جنود الاحتلال الإسرائيلي لمستشفى دار الشفاء وإخضاع جميع العاملين فيها للحصار والأوامر العسكرية ، لقد أمروهم بالمثول في الساحة الرئيسة والاصطفاف في أسطر متساوية رافعين الأيدي ، وكان عبد الله في السطر الأول فيما كان خيري في السطر الثاني ، عندما ظهرت ، فجأة ، ثريا خارجة من إحدى العنابر تركض باتجاه الجموع رافعة يديها بالاستسلام، شعرها كث ووجهها لم تصل المياه إليه على مدار اليومين المنصرمين ، فضلاً عن كونها عانساً في العقد الخامس من عمرها ، من أصل تركي نذرت نفسها للعمل في مجال التمريض بعد أن سبقها قطار الزواج ، الأمر الذي لم تعد فيه تهتم بمظهرها الخارجي . وعندما مرت أمامهما كان الجنود ينظرون إليها باندهاش ، مما دفع خيري لانتهاز الفرصة وطعن عبد الله في ظهره قائلاً: - حذرناك مراراً ، الحاضر أفضل من الغائب فلم تستجب، والآن ها أنت على وشك الموت دون أن تظفر بابتسامة ثريا أو نظرة فلك العاتبة ! قهقه عبد الله بما يشبه النفخ في قربة مقطوعة ، نظر الجندي المدجج بالسلاح الواقف قبالتهم نظرة تفيض بالحقد ، ثم ما لبث أن صرخ بأعلى صوته بعد أن ترك يده تحرك مزلاج البندقية كي تمضغ الرصاصة : - لماذا تضحكون ؟ جاء الضابط ، وسأل : - لماذا تضحكون ؟ قال عبد الله : - لم نضحك ، فقط نبتسم ! * * * *
بين مضغ الرصاصة والضغط على الزناد تمر طفولة عبد الله وعمره المديد المليء بالتفاصيل ، يقف السؤال على جدار الغرفة في الفندق مواجهة بعد أن هجرته الشوارع والغربة ، يطل عليه من بين جيوش البق التي تنخر السرير : هل كان ينبغي دخول عمان في هذا الوقت الحرج ؟ إنها فلك ، تلك الصبية التي رأت فيه كل أحلامها وفضلته عن الآخرين ، كان اختيارها من بين الذين تقدموا لخطبتها في مجتمع تسود فيه سطوة الأبوة وتقرير مصير المرأة دون أخذ رأيها في أهم محطات الحياة ، وهي نفسها التي آثرت إتمام دراستها الجامعية قبل الزواج حتى تتمكن من مشاركته الحياة الأسرية مناصفة وعلى قدم المساواة ، وهي أيضاً التي حمله الشوق إليها مع موجات الريح والعذاب بعد أن داست الأقدام الهمجية الوطن ودنست النفوس بالرعب وزرعت الموت في الطرقات وعند حواف مهنة الطب الإنسانية . شريط متصل من الذكريات : في اليوم الأول تهاجم الطائرات المدفع المرابط خلف مستشفى النصر ، فتحول الجنود إلى بقايا من أجساد آدمية لا يتعرف الأطباء على أصحابها ، تتناثر قطع اللحم والأطراف في فضاءات الهزيمة فتحيل الليل إلى بحيرة ضباب تستحم في البخار المتصاعد من سخونة الدم . شريط متصل من الذكريات : في اليوم الثاني تزحف الدبابات نحو مستشفى دار الشفاء وتطلق قذائفها فتخترق إحدى القذائف مبنى الجراحة ، وترعب الجرحى والعاملين وتعتقل العديد من الأطباء وترسلهم في إحدى قطارات الشحن إلى سجن عتليت وتفرض الإقامة الجبرية على من تبقى ، ثم تحاصر الهواء وتمنع التنفس وتصادر أحلام المستقبل . وفي اليوم الثالث ينفذون وصية سميحة كبيرة الممرضين، مصرية الجنسية ، يصلون عليها ويضعونها في الضريح الذي اختارت موقعه داخل المستشفى قبل قصف الطائرات بساعتين ، ثم يترحمون عليها بعيون دامعة وقلب مجروح. لقد أوصت عبد الله عندما كانا يتحدثان بجوار حائط تحويلة الهاتف الرئيسي ، في الوقت الذي كانت ما تزال تغزل الصوف، ووجهها ينم عن حالة اكتئاب غير مألوفة : - إذا مت أرجو أن تدفنني في باحة المستشفى . ولما جاءت طائرات الميراج أشارت بيدها نحوها ظناً أنها الميج فقذفتها إحداها بصاروخ أدى إلى مقتلها مع زميل لها تحت إمرتها . وكانت عندئذ تقف على سلالم مبنى العيون في المستشفى بعد أن تم تحويله إلى استقبال الجرحى . * * * *
وفي أوائل شهر أيلول ، يداعب الطيف الطيف عبر موجات أثيريه ويقرر عبد الله الذهاب إلى عمان من أجل لقاء فلك بعد أن ضاقت به كل سبل التعايش مع الواقع الجديد ، يهجس لنفسه : عليّ الرحيل إلى موطني الآخر ! تلك هي فلك ، موطن الحزن والضياع وفقدان الأمل ، حضن دافئ يبدد الشجون ، ويشعل الحواس بخجل مراهق وجسد ماسي متوهج ينعش الذاكرة ، ويستصرخ الأوجاع . يأتي صوتها اليقيني من الشك والعدم : عندما تصل إلى عمان أرسل لي كي آتي إليك . * * * *
في مساء اليوم التالي لوصولها عمان ، اصطحبها في شوارع العاصمة ، فتسكعت بهم ، شربا الشاي في المقاهي الشعبية ، واستمعا لأغاني المشاعر ، وكان الوقت ما يزال مبكراً، نهضا بغية تناول طعام العشاء في أحد المطاعم ، وفي الطريق مدت يدها صوبه فأحاط خصرها بيده ، ارتعشت فجأة والتصقت به ، فقبل الكتف من أقرب المواقع إليه ، كانت ترتدي غلالة رقيقة ، لكنها عارية الذراعين الناصعي البياض ، برودتهما أطفأت لهيب عشقه عندما لثمهما أثناء هجيع الليل وطواف الشوارع الموحش . وفي ركن من أركان مطعم شعبي تناولا العشاء بصعوبة تحت ظلال الصمت ، وفجأة سألت كمن تريد التأكد من معادلة حيرتها كثيراً : - أيهما أحب إليك : أنا أم الوطن ؟ سؤال مربك ، حرارته تضاعف الأوجاع . - في الوطن .، الأهل والأرض والجنود المحتلون ، ولنا بقايا من كرامة ، أما أنت فلي فيك الـ . . . . ! ثم صمتَ سألت : - لماذا صمتّ ؟ أكمل . بعد موسم الفرح عاد إليه فقدان الأمان مستتراً بليالٍ غريبة ، فتسلل إلى شرايين الروح من أقرب النقاط إلى القلب . قال : - لا بد لنا من الزواج خلال أسبوع والعودة إلى الوطن ! ملأتها الغبطة وهي تحلق في سماء ليلة الزفاف ، لكنها انحسرت فجأة، لن يشاركها الأم والأب والأخ والأصدقاء والأهل هذه الفرحة ! فوالدتها ووالدها هما إكسير سعادتها ، واحترامهما هو أساس التربية التي نشأت عليها . - لماذا لا تقولين شيئاً ؟ - وماذا أقول ؟ لقد فاجأتني بهذا القرار ! - عليك أن تختاري ، لم أعد قادراً على الاحتمال : إما أن نتزوج خلال أسبوع ونعود إلى الوطن ، وإما أن نعود وهناك يتم الزواج ، وإما أن نفترق وننسى ما كان بيننا إلى أبد الآبدين . داعبت أحلامه بأصابعها الناعمة وأشعلت في عقله الذكريات، حاصرته بنشوة الكلمات فخمر بين معانيها ، وكان طيف اللحظة يغمره بالحب الآسر والابتسامة العذبة التي تعلو الثغر حيناً وتتلاشى حيناً آخر ، فتتضرج الوجنتان بالحمرة الجاذبة والدلال البكر الممزوج بالأنوثة الناضجة. وعلى غير توقع ، اقتربت شفتاه من شفتيها حتى غدا لا يفصل بينهما سوى الذكريات ، ثم همس والعيون ما فتئت تنظر في العيون : - أتذكرين متى نما الحب بيننا ؟ أومأت برأسها وقالت : - نعم أذكر ، ولهذا اخترتك دون الآخرين . - كنا كالفراشات الصغيرة نطير من غصن إلى غصن ، لقد كان ذلك في إجازة الصيف بعد دراستي السنة الثانية طباً ، في حين كنت ما تزالين في المرحلة الأولى من الثانوية ، دعتني والدتك بحكم صلة القرابة للتنزه مع الأسرة احتفاءً بي بعد غياب عن الوطن دام عامين ، وقد كانت بيارتكم في ذلك الوقت في أوج عطائها في أعقاب مضاعفة العناية بها وزيادة النفقات التي أعطت ثمراً تحدث عنه معظم أصحاب البيارات. في هذه النزهة ركضت أمامي وخلفي ، اختبأتِ بين أغصان أشجار الليمون والبرتقال المتشابكة وفي باطن الأرض ، بحثت عنك متعثراً في زرقة السماء ، وعرفت أنك قدري ، عيونك الزرقاء اللامعة المملوءة بالحب الصبياني البكر ، أنبأتني بالمصير الذي ينتظرنا ، وكان صعباً علينا الوقوف تحت الشمس بسبب بشرتك الغضة فاخترنا ظل الكلمات العذبة واللقاءات السرية ، كسرنا حصار العرف المفروض ، وأخذ المرح يلفنا كطفلين عثّرتهما الخطوات البدائية . وعندما حان موعد سفري للجامعة تمزقت ضلوعي وحسبت أنني طالب فاشل لن أقدر على مواصلة الدراسة ، ولكن بعد أن الْتقيتك وقطعتِ الوعد أمامي بالانتظار حتى أعود ، أصبحت عاشقاً فرأيتك بين سطور كتب الطب ، وألْبستك وجوه الطالبات التي عرفتهن ، كنتِ حافزي للنجاح مثلما أنت الآن حافزي للقدوم إلى هنا ! تراجع الرأس والصدر إلى الخلف ثم خيّم الصمت ، قالت : - واصل ، لماذا توقفت عن الحديث ؟ كانت النشوة قد دارت في رأسها مثل زوبعة ، فتفتحت في عقلها ورود الحب في الحقول العذراء . - أكمل لماذا توقفت ؟ تموجت صور جنود الاحتلال المدججين بالسلاح طيفاً أمام عينيه، يزرعون الموت في الطرقات وعلى عتبات أبواب الروح ، مرت ثريا وسميحة وبقايا أطراف آدمية من بوابة الهزيمة بلونها الدامي، أبحر الحلم بعيداً تحت أشعة الشمس فدخل متاهات لجة الليل وبدايات التكوين ، تجرد السؤال من حدّه القاطع ، فكانت الإجابة أكثر اقتضاباً مما ينبغي . - ينبغي أن نعود إلى الوطن بأسرع ما يكون . - لا بأس . - سنتزوج هنا . ترددت ثم قالت : - بدلة الزفاف في غزة . - هذا ليس مهماً الآن . - والدايَّ ليس هنا والاتصال بهما صعب حتى آخذ المشورة . - ألن يوافقا من قبل على الزواج . - لكن كان ذلك في غزة وبحضورهما . - الظروف تغيرت ، ونحن الآن في حالة حرب . - لك ما تشاء . - كل شيء سيكون كما تشتهين ، غداً أذهب إلى الكنيسة ، وأبلغ "الأب" يوم الخميس موعدنا كي يتدبر أمره . - ربما لا يسعفه الوقت . - سأطلب منه أيضاً إحضار قسيسين آخرين معه . - من أين ؟ - إن لم يفعل سيكون عقد قراننا في الجامع . - وهل تفعلها ؟ - أفعل أي شيء في سبيلك ! - لم تطل روحك روح القدس ، ولم تتغلغل إلى أوردتك أشعة القديسين ، في عقلك لوثة العناد وعند مشارف رجولتك ينابيع التمرد ، إن لم توازِ بينهما تخاف على نفسك من جنون المغامرة والنهايات غير المتوقعة . - عليّ أن أكون هكذا حتى أملك نفسي وأسود عليها قبل أن أصبح عبداً للآخرين ! - دائماً تجرد لسانك من غمده . أخذه الضحك كأنه في أحضان حفل ليلي صاخب ، فأخذت فلك تنظر إليه تارة وإلى الشارع من النافذة التي تواجهها تارة أخرى ، كان الليل قمرياً واضح الرؤية ، رأت النجوم تمتد فوق الأفق والبيوت القديمة مطليّة بالبياض ، وبعض الأشخاص الذين يتحركون كالأشباح، اجتاحها حزن مفاجئ، كيف سيكون شكل الزفاف بعيداً عن الأم والأب ، والأحبة والأهل والوطن ؟ * * * *
الطريق التي اختارها السائق من الفندق إلى الكنيسة كانت شبه خالية رغم أنها جاءت في قلب المدينة ، المحال التجارية مغلقة والناس الذين يمرون وسط الشارع قلائل . تساءل عبد الله : ماذا حدث لسكان المدينة ؟ أيعقل أن يكونوا ما زالوا نياماً ؟ عند الباب الخارجي للكنيسة ترجل ، ضغط على الجرس مرات عديدة ، جاءت إحدى الأخوات الراهبات تستجلي الأمر . بادرها عبد الله بالسؤال : - هل "الأب" ما زال نائماً ؟ - هل تريده في شيء ؟ - نعم ، أريد الحديث إليه . قادته إلى فناء تحيط به الورود من كل جانب ، أفضى عند نهايته إلى صالة معمورة بالكراسي، قالت : انتظر هنا سيأتي بعد قليل . أخذت عيناه تسبحان على الجدران فرأى المسيح مصلوباً على خشبة وكأنه يراه لأول مرة ، ورأى العذراء تحمل اليسوع بين يديها فرأى فيها وجه فلك . دخل "الأب" من باب خشبي جانبي يحمل نفس لون طلاء الجدران مما يصعب مهمة التمييز بينهما . نهض عبد الله وانحنى قليلاً يلثم يد الأب ، بادره سائلاً : - ماذا هنالك يا بني ، ما زال الوقت مبكراً ؟ - أريد أن أتزوج يوم الخميس . - وما هي المشكلة ؟ - ليس لي ولها أهل في هذا البلد ، ولا نملك معرفين ، فنحن من غزة، ثم أنني أريد قسيسين من عندك حتى تكتمل الطقوس . - وهل هي موافقة ؟ - نعم . - أعطني اسمها ورقم الهاتف المتواجدة عنده والعنوان إن أمكن. - لا بأس ، ولكن لا بد من الرد عليّ في غضون ساعة من الآن. - لا أستطيع . - عليك التصرف حتى لا أضطر إلى الزواج في الجامع على أيدي أحد شيوخ المسلمين. - هذا مستحيل ! - سأتصل بك بعد ساعة لمعرفة الرد . في طريق عودته إلى الفندق رأى صديقاً عزيزاً عليه منذ كان يدرس الطب في القصر العيني تهللت أساريره وامتلأت روحه بالفرح. حدّث نفسه : كل شيء يسير على ما يرام . أمر السائق بالتوقف ، ثم عاد أدراجه عدة خطوات ، كان صديقه ما يزال يقف أمام واجهة أحد المحال التجارية وعندما رآه اندفع صوبه. - حليم . . حليم حرارة العناق أفقدتهما صواب السؤال . ترك كل واحد رأسه يتكئ على كتف صديقه فيما نظره يجوب السماء بحثاً عن سحابة بيضاء يستظل تحتها ، وفجأة تحدث عبد الله قائلا : - أي أرض قذفت بك في طريقي ، أي صدفة جعلتني أمر من هذا الشارع كي أراك ، هل كنت أعرف أنني سألتقيك عندما تحديت الكنيسة والأب وحالة التشرد وأنا لا أملك من النقود ما يكفي لقوت يومي ؟ - قل ماذا تريد حتى أفهم عليك ؟ - أريد الزواج يوم الخميس ، وليس لدي نقود . - هذه واحدة مقدور عليها ، أما الثانية فما هي ؟ - أريد بدلتين للعروسين . - وهذه أيضا مقدور عليها . وماذا بعد ؟ - أريد علب ملبس توزع على المدعوين قبل الفرح . - إذن هيّا معي نذهب للبيت حتى نتدبر أمورنا قبل أن يدركك الوقت . - هيّا .. * * * *
عند المساء خرجت الرياح من أوكارها . عضت المفاجأة سنام الفرحة واحتلت الخالة أم رائد صدارة الموقع في الحديث ، لقد أخافتني بقولها : من الحمق الزواج بهذه الطريقة ! ثم كيف ستعودان إلى الوطن مع دليل يبيع قبر أبيه بحفنة تراب ؟ هذا ما قالته فلك ثم صمتت : - ليس أمامك من خيار آخر . لقد تم ترتيب مختلف الأمور بما يكفل الزواج بأبهى زينة . وهذه أم رائد تحاول إفساد كل شيء ، ولم يتبق أمامنا سوى يومين علينا فيهما الزواج والاستعداد للسفر . سأحملك بين يدي أو فوق كتفي وأجتاز بك النهر . افتر ثغرها عن ابتسامة حب فبان جمال أفريقيا وثروتها العاجية كما لو أنها تضع رأسها عند منابع النيل . قالت وفي نبرتها دلال خالص أشعل لهيب النشوة في أوردة عبد الله : - لا قبل لي أن أكون فوق رأسك . العين لا تعلو على الحاجب! اندفع مع أمواج الرغبة فاحتضنت يداه يدها ، قال : - إذن بين يدي . - ستكون لحظة أسطورية لن أنساها !
- 4 -
صيادون فوق أغانيهم يركبون البحر . طقوس الاحتفال بالزوجة ومفاجأة الليلة الأولى . لمعان أشعة الذكريات في تضاريس العقل . وحشة المكان والبعد عن الوطن . حزم ضوئية من الأمل تتقاطع خطوطها بالألوان المختلفة ، وعشرات الألوف من الخلايا تتحطم بعد إطفاء الشمعة الأولى في غمرة الوهج . هو ذا ، تغلق الدنيا أبوابها حتى اللحظة الفاصلة بين الغبار وتلاشي الجسد ، وتفتح ممرات كانت سرية فيما مضى على المتعة وارتشاف النشوة بين حبيبين أنهكهما الاغتراب ودوران الزمن . وهكذا ،انتزع عبد الله وفلك نفسيهما من حضن الليلة الأخيرة في عمان والأيام الأولى لشهر العسل ، عندما قررا العودة إلى الوطن عبر نهر الأردن . ففي ظهيرة اليوم الذي سبق كان عبد الله قد ذهب إلى المقهى الذي اتفق فيه مع الدليل ووضع معه اللمسات الأخيرة وحددا الموعد والمكان الذي يلتقيان فيه وأجرة التهريب وسبل الأمان وصولاً إلى مشروع العلمي في أريحا . وعندما عاد إلى فلك ، كان الليل بحيرة تتدثر بالضباب والغبار وموجات صقيع وقع الخبر على مسامعها . شحب الوجه من الفزع وارتفع نبض اللحظات عنيفاً يحمل صوت طلقات رشاش . - لماذا هذه السرعة ؟ قالت ذلك ، وفي وجهها خوف وتردد مع مزيج من الحزن والرقة. غاص في أحلامه التي ما تزال رهن إنجاز الخطوة المقبلة . - رد عليّ . لماذا هذه السرعة ؟ تجهم وجهه فتشكلت الأسرار بنموها الطبيعي ولكن سرعان ما فضحتها الكلمات . - أهي خالتك أم رائد ما زالت تقف بيننا ؟ هل رأيتها خلال غيابي ؟ لماذا تخيفك عندما تكونين بجواري ؟ يزداد وجهه تجهماً ويواصل حديثه : - دعيني أصوغ السؤال على نحو مغاير حتى أحمله حداً قاطعاً لا يقبل التأويل : هل تخشى عليك مني ؟ كيف يقتل الإنسان نفسه ؟ ولماذا دائما تزرع الخوف في قلبك ؟ - أقول لك ، لا يروق لها رؤيتنا سويّاً ، تسعى إلى الإفساد بيننا مهما كلفها من ثمن . ربما كانت ترتب لك على زواج مختلف ، فظهرت أنا فجأة كي أدمره، مما جعلها تفقد صوابها عندما علمت عن إمكانية العودة إلى الوطن عن طريق المهربين . لعلها لن تتورع عن وضع العراقيل في طريق عودتنا ، ومع ذلك لن يمنعني عن العودة إلاّ الموت ! أبلغيها عند الوداع لن نلتقيها مرة أخرى في عمان ! كان يتحدث بمرارة . وكانت تنظر إليه بشفقة . ولما توقف عن الحديث ، ابتسمت له كأنها تجلو صدره من أي ترسبات، ثم قالت: - أنت كالرعد ورثت منه البرق وسرعة القصف ! آه .. كم نحن مخدوعون وبسطاء ! ليتني كنت رعداً قاصفاً ، أو بركاناً ثائراً ، أو شمساً سقطت سهواً من مدارها فصهرت الصخور ، أو مطراً غامراً يحمل أشرعة الزوارق إلى حيث لا مفر من وصول القلوب الحائرة إلى المرفأ الأخير حيث الاستقرار والخلود في النعيم ! - آه أيها الحبيب ما أغباني ! تحمل كل هذه الهموم في رئتيك ولا تتنفسها ، وقلبك يفيض بالحب الذي لا أرى سواه . أين كان عقلي غائباً وأنا تاركة أذني تستمع للشكوك وزراعة الخوف في نفسي!؟ لك ما تشاء . أن نعود الآن دون وداع الخالة ، أن نسير على أرض ألهبتها سياط الأزمنة الغابرة ، أن نحفر على تضاريس أيامنا سطور المرحلة ، أن نعيد تشكيل الحاضر كما تراه الأجيال القادمة ، أن نقف أنت وأنا تحت ظلال هذا العراء نتأمل شموخ الجبال وخرير مياه نهر الأردن ثم نصعد إلى مدارات حلمنا يوماً بركوبها ، أن ، أن … وجاء صوت أم كلثوم يصدح متسللاً من النافذة يدق أبواب السمع فأعادهما إلى لحظات كانا أحوج ما يكونان إليها .. * * * *
اقتحم الدليل البدوي ومساعده النهر وهما يضعان الحقيبتين فوق رأسيهما ، فيما تبعهما عبد الله وفلك . كانت مياه النهر ضحلة عند الخطوات الأولى ، غير أن عمقها أخذ في الازدياد خطوة إثر خطوة ، وكانت فلك بين يدي عبد الله أشبه ما تكون بالورقة البيضاء ، وكان عبد الله كلما زاد عمق المياه صعد بها إلى السماء خشية البلل ، وعندما تساوت مع عينيه قالت : - دع مياه النهر تلامس جسدي فلا أريد أن أعلو عليك ! - لن يمسك البلل حتى وإن علت العين على الحاجب . عند الخطوة التالية ، أخذت المياه تنحسر ومعها يعلو عبد الله وتنخفض فلك . ولما وصل أربعتهم إلى اليابسة ، انتصبت فلك واقفة كعروسة بحر خارجة من ضلع النهر ، فارتفع وجهها نحوه لامعاً دامعاً رسمت عليه قطرات العرق المتفصدة خطوط أشعة الشمس التي أعطته لوناً كان يحتاجه فزاده جاذبية وتمنعاً . وقفت قبالته تماماً ، وكان النهار قد تجاوز نصفه قليلاً ، فرسمت الشمس ، لهما ، مع انحدارها صورة ماسية مشتبكة امتزج بريقها مع البخار المتصاعد من الأرض فرحة بعودتهما . عندئذ توسمت فيه الحضور فكان غائباً . قالت : أي أقدار دفعتنا صوب اجتياز النهر ومداعبة رذاذه المتطاير ! هل كنت تعرف أننا حتماً سنمر من هذا الباب؟ هل كنت على يقين أنك ستحملني يوماً بين يديك حتى نصبح متساويين عندما دفعتني نحو جامعة عين شمس من أجل دراسة المساواة بين المرأة والرجل ؟ هل أنت واثق من الخطوة المقبلة ؟ غطى الصمت نفوره فتفصدت الكآبة قروحاً في الأعماق . ارتفعت أشرعة الماضي إلى السماء فحملتها الريح عند مرافئ الذكريات . مرت ثريا وسميحة وبقايا الأطراف الآدمية أمام عينيه خطوطاً متصلة قلصت المسافة بين غزة وأريحا وأشعلت الحنين إلى مستشفى دار الشفاء . وكانت اللحظة تدفع باتجاه الاختباء بين الأشجار سريعاً قبل أن تمر بالمكان الطائرات التي تمسح الأرض من السماء منعاً لتسلل الفدائيين . قبض على يدها وهو يقول : - لا وقت الآن لتأمل معاني الكلمات المضيئة . يجب الإسراع والاختباء بين الأشجار قبل أن تمر الطائرات . ولما أضحيا بين الأشجار قالت : - ها نحن متساويان أمام الخطر ، لا تنسَ هذه اللحظة ، سأذكرك بها عندما تقلص حقوقي لصالحك . وهكذا كان السير بين الأشجار المثمرة متعة تنقصها الطمأنينة الخالصة . الدليل ومساعده يسيران في المقدمة بينما عبد الله وفلك يتعقبانهما على بعد عدة خطوات . وكلما صدر عن الدليل صوت أشبه ما يكون بزقزقة عصفور الصحراء ، حسب الاتفاق ، تساوت الأجساد بالأرض ، إلى أن يصدر الصوت مرة أخرى . وعندما وصلوا المكان الآمن طلب الدليل أتعابه المتفق عليها.. نقده عبد الله المبلغ بحضور "البياري" الذي كان في تلك اللحظة يقوم بري الأشجار من بئر ارتوازية . . مضى في حال سبيله ، فيما واصل "البياري" عمله . * * * *
عبر بريق لحظتين ، تسلل الخوف إليهما في الأولى ، بينما في الثانية، أخذ يصب الماء على رأسها ووجهها البرونزي المشبع بالحيرة وضجعة الليلة الأولى . لقد كانا يجلسان على حافة مجرى المياه الذي يشطر بيارة العلمي نصفين ، عندما مرت الدورية العسكرية الإسرائيلية في جولتها الاعتيادية منعاً لقدوم متسللين من الضفة الشرقية لنهر الأردن، غير أن البياري حذرهما قبل وصول العسكر ، مما حدا بعبد الله لصب الماء على فلك ومداعبتها . ولما وصل العسكر إليهما سأل الضابط بالعبرية ، وكي لا يرتاب بوجودهما ، رد عليه عبد الله بالإنجليزية : - أي طبيعة خلابة هنا في هذا المكان !! ثم غرف بيديه من الماء وصب على وجهها . كانت تجلس على حافة مجرى المياه ، ساقاها مثل جسر يمتد إلى الضفة الأخرى . والمياه بخريرها الناعم تنساب من تحت ساقيها ، فيما كانت نظراته تسير فوق الجسر باشتياق العشاق وفوق وجهها المغتبط التي حاولت جاهدة إخفاء مسحة الأسى المفاجئ الممزوج بالفرحة التي كانت قبل لحظة . ومع ذلك ، كان وجهها كمرآة تستقبل نظرات عبد الله فيزيده وهجاناً والتماعاً ونضجاً أنثوياً مباغتاً . - ولكن ماذا تفعلان هنا في هذا الجو الجهنمي ؟ - نقضي شهر عسل أنا وزوجتي ! - ألا تخافان العرب ؟ - كيف نخافهم وأنتم هنا !؟ انتزع أحد الجنود خوذته وقذف بها في الهواء قائلاً : - بالرفاه والبنين ، تمتعا بالحب والنعيم . تركاهما ومضوا ، في وقت أخذ فيه عبد الله وفلك يتنفسان الصعداء . مغادرة الجنود للمكان نشرت جواً من الارتياح على شجر البيارة . أوراقها تراقصت وأغصانها تمايلت وجذورها امتصت سماد التربة بشهية . حتى الأرض تماوجت فرحة وهي تزفر حقداً لا يمكن إخفاؤه على الغرباء الذين يجوسون فوقها بكراهية ! عند الغسق شدهما منظر الشمس الدامي وهما يشاهدانها لحظة الغياب ، لأول مرة ، تختبئ خلف أشجار الوطن ! وفي المساء كانت السيارة تنطلق بهما صوب غزة حيث الأهل والأحبة والأصدقاء وأَسِرّة المرضى . وضع رأسه على كتفها في المقعد الخلفي وأخذ يتأمل الجبال والسهول بعينين لا تشبعان من رؤية جمال الطبيعة . وفجأة رفع رأسه ونظر إليها كمن تذكر اللحظات الأخيرة قبل مغادرة الجنود ، ثم قال وهو ما يزال ينظر إليها بشغف : - أحياناً يشفع الجسد لصاحبه !
#حبيب_هنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما زال المسيح مصلوباً
-
شهادة ابداعية
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|