أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - عن الأديب حسن حميد















المزيد.....


عن الأديب حسن حميد


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3534 - 2011 / 11 / 2 - 08:18
المحور: الادب والفن
    



التجربة والأداء الفني : " هناك قرب شجر الصفصاف نموذجا"
حسن حميد : قاص متميز ومعروف ، في مجال كتابة القصة القصيرة ، والرواية ، والبحث الأدبي ، عضو اتحاد الكتاب العرب ، وعضو اتحاد الكتاب الفلسطيني .
الروح الإبداعية للقاص حسن حميد معجونة بالروح المغامرة الجريئة والواثقة ، وتلك سمة الفنان الأصيل ، الذي يعشق فنه ، ويمنحه كل مالديه من طاقات معرفية استكشافية ، وهنا يكمن سر نجاحه وسبقه الأدبي لجيله من كتاب القصة القصيرة ، وحصوله على جائزة سعاد العبد الله فيها .
" هناك قرب شجر الصفصاف" هو عنوان قصة قصيرة ، اختاره ليكون عنوانا لمجموعة قصصية ، صدرت عن اتحاد الكتاب العرب السوري عام 1995 – وتقع المجموعة في 125 صفحة من القطع المتوسط ، وقد صمم غلافها الفنان الأديب أنور رجا . ويهدي القاص مجموعته إلى روح والده ، ثم يفتتحها بكلمة حول تجربته الأدبية بعنوان " ورقات أولى في التجربة " وهي عبارة عن ثلاث ورقات . وتضم المجموعة إحدى عشرة قصة متفاوتة الكم والكيف والاتجاه ، وتتمحور حول ثلاثة أنماط ، كل نمط يشكل زمرة متجانسة نسبيا من حيث المذهب الأدبي .
أولا : النمط الرمزي ، ويشتمل على قصص ثلاث هي : 1- في منتصف الدرج ، 2- الجنازة ، 3- هناك قرب شجر الصفصاف .
ثانيا : النمط الواقعي ، وستمل على قصص خمس ، هي : 1- الأدب ، 2- الأنفاس الدافئة ، 3- في ذلك البناء ، 4- حالة ارتباك ، 5- قرب البحر .
ثالثا : النمط النفسي ، ويشتمل على قصص ثلاث ، هي : 1- الغبش ، 2- الهدهدة ، 3- بائعة الصبار .
يشغل النمط الرمزي مساحة أقل من سواه في مسيرة القاص الأدبية السابقة والراهنة ، والتصدي لهذا النمط ينطوي على مخاطر فكرية زمنية ، لأنه يتطلب عقلا جدليا فلسفيا متمرسا ، في ميادين فكرية وأدبية ، كما يقتضي الشجاعة والحكمة والخبرة معا
في قصة " في منتصف الدرج " يقدم الكاتب رؤية فلسفية للعلاقة الاجتماعية – الإنسانية . وفي صورة مفترضة يتوصل الكاتب إلى بنائها بعد تحليل وتركيب وتجريد واصطفاء للعناصر الأساسية والضرورية لتجسيد " ديالكتيك " الحياة الإنسانية العام .. " رجلان أحدهما طويل ابن دنيا ، والآخر قصير .. ابن آخرة ص22 .. أحس كل منهما أن مامن شيء يجمع بينهما في هذا البيت .. سوى الدرج الذي يشد غرفتيهما المتشابهتين إلى ظلال شجرة اللبلاب ...الخ" ومع ذلك فإن ثمة مايشدهما إلى بعضهما البعض . " وراح كل منهما ينتظر فرصة المفاتحة ص23 " . أهما إذن متجاذبان ومتنابذان في آن واحد .. بحكم المشترك وغير المشترك بينهما ؟ وفي ذات الحيز الزماني المكاني ؟ إنها جدلية الوجود نفسها معممة على الحالة اللاإنسانية إياها . النص هنا مولود ذهني جرى تفصيله على قد الرؤية ، للوفاء بالغرض .
وفي " الجنازة " أيضا قصة رمزية ، قوامها سياسي ، رموزها منتاقة بعناية : الملك المتوفى رمز السلطة المستبدة ، التي " جعلت السجون أكثر من المدارس والمستشفيات ، والكتبة السرديين أكثر من الجراد ص40 " ، والحاشية تعمل على تغليف الخلل الحاصل وإصلاحه ضمن طقوس معتادة ، أهمها التكتم على الخبر ، والتخلص من نفاية العضو الميت في جهاز الحكم ، في مراسيم استعراضية مغلقة ، وبحيث يتحاشون " رسائل الهواء التي لايحبون محتواها ص39 " ، ورسائل الهواء رمز للإشاعة والفضيحة وانتشار الأخبار والتقولات بين الناس ، الذين لابد من إبقائهم مهمشين حيال مايجري من تجديد وتداول السلطة المحدودة في حاشية الحكم . والقصة بما هي منتوج تجريدي .. تعتبر محاكاة للواقع في أدق صوره ، وأكثرها تمردا على العين والعقل ، وبالتالي جاءت معادلا موضوعيا مكافئا لجوهر الظاهرة التي يتصدى لها القاص بأناة وصبر الباحث العالم .
" هناك قرب شجر الصفصاف " قصة رمزية تدمج بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وتصوغ دراما الاستغلال الذي يتلبس البراءة ، ويتنكر بالصدق والحرص والغيرية لاستدراج الضحية – القطيع إلى المسلخ : عمال ميا ومون وبؤساء ، ينساقون وراء عملية نصب واحتيال وابتزاز ، يقوم بها رجل يمثل دور صاحب العمل " حين يطل عليهم بثيابه النظيفة وشعره المرجل ص45 ، والرجل هنا يمثل نوعه وطبقته ، والعمال لايدركون الخدعة إلا بعد انغراس نصالها في أجسامهم ، ثم ينقسمون على أنفسهم بين مؤمن غارق في زبد الأكذوبة ص55 ورافض محتج يلعن الرجل الطويل الذي خانهم .. ثم ينثر الخطى نحو نهار آخر.. ربما كان مختلفا ص55 ، ويعبر الدمج الذكي بين المعقول واللامعقول تعبيرا صادقا وصارخا عن واقع الأمر وحقيقته ، حيث بالفعل يشغل اللامعقول واللامنطق حيزا كبيرا في ذواتنا وسلوكنا وعلاقاتنا ومحيطنا ، ويمزج مع المعقول حتى ليكاد يطمسه ،ويلغز وجوهه .
بقي أن أنوه إلى أن اتساع الزمان والمكان ، وتعدد الشخصيات ، وطبيعة الموضوع في هذه القصة تصلح للمعالجة الروائية ، مع العلم أن معالجتها كقصة قصيرة جاءت موفقة إلى حد كبير
هذا النمط الرمزي يحتاج إلى تدخل شبه كامل في تفصيل النص ، وحياكة عناصره ، بما يتطابق وينسجم مع جسد الفكرة الأم ، وبما يحقق ا لغائية القصية المحركة من جهة ثانية .
يخالف هذا النمط المبدأ القصصي التقليدي الأكثر شيوعا وحضورا حتى الآن على الصعيد الأدبي ألا وهو " في البدء كان المشهد " يعكس النمط الرمزي هذا المبدأ ليصبح : " في البدء كانت الفكرة " ، وبالتالي يفرض على الكاتب ضريبة الترشيد ا لفني للنص ، لوضعه في خدمة الفكرة ، ولهذا النمط فلسفته ومنهجه ومبرراته الفلسفية الفكرية والفنية ، التي أتاحت له احتلال مكانة مهمة على الساحة الأدبية ، كما له حضوره القوي وخصوصيته وتأثيره الكبير في حياتنا الاجتماعية ، وهو يملك درجة أعلى من المرونة والمناورة في معالجة الظواهر ، ولاسيما السياسية منها . حيث تستطيع طرح مالايمكن طرحه بالطرق الأدبية المألوفة والمباشرة ، فتعتمد الأسلوب الإيحائي المكثف ، الذي أساسه التلميح وليس التصريح ، والتحريض الذهني للآخر المتلقي ، واستدراجه للمشاركة في ا لقصة قراءة وتحليلا واستنتاجا واختبارا حرا لما وراء القصة من احتمالات واتجاهات .
النمط الثاني : الواقعي ، ويشمل المساحة الأكبر في عطاءات حسن حميد القصصية ،وقد تمرس القاص بهذا النمط ، وأتقن التعامل معه وبه ، وشكلت مساهماته تلك نقلة إبداعية كمية ونوعية يعتد بها كرصيد موجب للقاص من جهة ، وللقصة القصيرة من جهة ثانية .
مبدأ هذا النمط هو : " في البدء كان المشهد " ، وعلى قاعدته شيد القسم الأكبر من صروح الأدب العالمي في الماضي والحاضر ، ومايزال يقاوم عملية اختراقه المستمرة من قبل المذاهبب الأدبية المعروفة حتى الآن .
إن عدسة القاص حسن حميد الحساسة جدا تختطف حتى اللحظة العابرة ، كما في قصة :" حالة ارتباك " وتتخذها جسرا لاكتناه خلفيات الأشخاص الذين جمعتهم اللحظة ، وعبر حوار قصير سريع ، ومنولوجات مقتضبة ، وتوصيف مختصر للسلوك والمظهر ، يأخذ بيدنا إلى حيث يريد ، وينقلنا إلى داخل المفارقة بخفة ورشاقة : " كانا وحيدين في المحل ، يتبادلان الهموم والشكوى ص98 أو لعله أخو جهالة ، حينئذ تكون المفارقة .
قصة :" الأب " تقدم عينة للبؤس الذي لانملك من سلاح لمواجهته سوى البكاء .. الذي يعني العجز وسلبية المواجهة . ومعنى أن يكون الإنسان أعزل حيال التحدي .. يستخرج القاص كل ماهو غير عادي في ذلك الحدث البسيط ، ليرغمنا على التوقف عنده والتأمل به : أم وطفلاها :" على الرصيف يبكون ص27 ، للحصول على حاجياتهم التي تغص بها المحلات ص29 ، إن هذا المنظر يعكس واقعا شاملا لمجتمع تتفاوت فيه مستويات الناس ماديا ومعنويا بين قمة الثراء وقمة الفقر .
وفي قصة " الأنفاس الدافئة " تتشابك قصتان في قصة واحدة : رجل وامرآة كانا على مقربة من قمرة الهاتف التي يشغلها رجل قصير بدين وسمج الطباع ص33 ، وثقيل الروح ، وفظ القلب . كان كلما انتهى وقت المكالمة نجدده ثانية ، وبدا لهما ( الرجل والمرآة ) كما لو أنه لن ينتهي من الحديث ، بل بدت القمرة كأنها خلقت له ص34 ...
عنوان القصة مدروس ومناسب لمناخها الشتائي البارد . والحدث يتأسس على الربط بين المصادفة والميعاد ، بين المتوقع وغير المتوقع : ظرف يجمع بين شخصيات لارابط بينها ، وهذا الظرف يولد علاقة صامتة ، وغير ذات شأن ، لكنها مع هذا ترسم كاريكاتور التعسف الغبي في استعمال الحق : حق استخدام الهاتف العمومي داخل القمرة ، وإن ممارسة تلك الحرية لاتقف عند حدود حرية الآخر ، ولاتراعي هذا المبدأ الأخلاقي والقانوني ، وبالتالي هو نوع من أنواع الاعتداء المباشر كون القانون لم يحدد المدة والكيفية . وتثار حفيظة المنتظرين . أسلوب القصة يذكرنا بقصة الرجل الذي عطس في رقبة الجنرال " لأنطون تشيخوف " ، وغباء ذلك الرجل وإلحاحه في الاعتذار للجنرال .
قصة :" قرب البحر " ذات قوام نموذجي متكامل ، برع الكاتب في تصميمه وتنفيذه ، محققا التناسق المثالي بين العناصر ، مع تمسكه بالتجديد والتحديث الأسلوبي . قصة حب يحفر مجراه بأناة وهدوء بين " أرتين " و " رمانة " وهما مغربان في محيط مغرب أيضا ، وما آل إليه ذلك الحب من مصير تراجيدي ، سببه التمسك بالقيم الأخلاقية والإنسانية ، والانتصار للحياة والوطن والحرية ، إنها قصة حب وكفاح مؤثرة ومثيرة ، اتخذت قالبا فنيا ينبض بالحركة والحياة والعطاء . مختارة بدقة ، وبسياق لغوي شاعري ، لا إسفاف فيه .. ولا هدر . عنوان القصة لايفضح سرها : " قرب البحر" ، والسياق محبوك بطريقة تصاعدية .. مشوقة .. وجذابة ، ترغمك عل المتابعة ، وتثير فضولك لمعرفة النهاية .. الخاتمة . والإيهام الفني قوي إلى درجة يصعب معها القبول بأن تلك القصة غير حقيقية . لايوجد عنصر غائب .. أو ضعيف الحضور في القصة : بداية .. شخصيات .. حوار .. صراع .. حبكة .. تشويق .. فكرة .. حدث .. خاتمة .. الخ .
بقي أن نقف عند قصة : " في ذلك البناء" التي تشبه رسما لايحتاج إلى تعليق :" كانوا ثلاثين طفلا .. لايعرفون الحنو ولا الهدهدة أو المناغاة .. لايعرفون اللعب والمشاغبات والجري في الأزقة ، ولانشوة الشعور بالأبوة والأمومة ، كانوا ثلاثين طفلا لاألوان لهم ولا رغبات ولاحكايات ووعود ، أصواتهم خافتة ، ونظراتهم متكسرة ، ورقابهم قصيرة ضامرة ، كانوا بلا آباء ولا أمهات ص60- 61) هكذا ينعكس المشهد المأساوي لحياة هؤلاء الأيتام في مرآة القاص الموهوب حسن حميد الوجدانية والأدبية ، إنه يلتقط الصورة من داخل الصورة ، يركز خطوطه وألوانه وإضاءاته على جوهر العذاب والقمع الذي يعانيه هؤلاء الأطفال الأيتام إذ يواجهون هزيمتهم ، ويغالبون عملية تدجينهم ، ومسخ أرواحهم ، ومصادرة طفولتهم ، التي لم يبق منها سوى الشكل 0- يالفظاعة حياتهم وقسوتها ! لقد جردوا من إنسانيتهم ، فتحولوا إلى دمى و" روبوتات " متشابهة في كل شيء ، أصبحوا ينفذون الأوامر بما يشبه الفعل المنعكس الشرطي . إنها جريمة قتل البراءة ، والعدوان على المستقبل ، وإساءة أشنع من اليتم . " كانوا ثلاثين طفلا " تلك اللازمة التي يتردد إيقاعها ليعكس حقيقة الآليات المملة لحياة هؤلاء الأطفال الأيتام .. الإيقاع المتكرر ، الذي يترك صداه في النفس ، ويتوافق مع طبيعة الجاري من الأمور .
تتمرد هذه القصة على السياق المدرسي ، والترتيب المعتاد للعناصر والمكونات ، حيث نقف أمام حالة قصصية فريدة ، تطرح مشروعية تفجير الروتين القصصي من خلال انفتاح القصة من الداخل إلى الخارج ، وذوبان الحدود بين ا لمكونات ، والأفكار متوزعة في خلايا اليص ، والحدث منتشر في مجمل البنية ، كذلك التوصيف والفرز والتعبير الذي يحقق القصد الفني . وزوايا الرؤية غير المطروقة ، كل ذلك يجعل من القصة إياها تحفة فنية ثمينة ونادرة .
يتناول القاص موضوعه برهافة وبراعة ، يغربله ويصفيه إلا مما يخدم هدفه في إبراز انطباعه وموقفه من المشهد الذي يتحرك أمام عينيه ، فيخلق لديه أصداء واستجابات وردرد فعل نفسية لم يتمالك الكاتب نفسه حيالها ، فتفاعل معها رصدا عقليا ، وتحيزا روحيا ، واستجابة أدبية متفوقة . يدمج الشاهد بالمدعي والمدعى عليه والأدلة ، من خلال مشهدية حركية بارعة ، تجاوزت وتخطت البرمجة المألوفة والشائعة في الأداء القصصي . والشكل والمحتوى متعادلان .. متكافئان ، وهذا ماأضفى على القصة القوة والتفوق والروعة معا .
لننتقل إلى النمط الثالث ، وهو النمط السيكولوجي الذي خاض القاص غماره في ثلاث قصص هي : الغبش ، الهدهدة ، وبائعة الصبار .
في واقع متنابز العناصر .. عصي على السيطرة .. يعيش الانسان حالة من الانفلاش وفقدان التماسك ، والاحباط ، والصراع النفسي . ويرد على الحالة إياها بسلوك مرضي تعويضي ، له أعراضه وعلاماته الفارقة . هي محنة الروح والجسد التي تدفع الإنسان للتعلق بخيوط العنكبوت ،والقبض على الريح ، واجترار الأحلام ، وهو آخر ماتبقى لديه من أسلحة وزاد ، تلك هي الخلفية المشتركة للقصص إياها .
إن صعوبة هذا النمط القصصي – السيكولوجي تكمن في أن الكاتب يدير ظهره للمشهد الحسي – الخارجي متوجها مباشرة نحو الأعماق ليتصيد عوالمها ، ويكشف أسرارها وأستارها ، ويجسد حركيتها ، وهي تفيض عن وعائها ، لتكون دنياها على مزاجه . الرغبة تثير المشاعر والأحاسيس والخيال لمن يسعى للإشباع بالوهم ، واصطناع صور تكافئ الواقع الملموس في قدرتها على دغدغة الحاجة ، واسترجاع ولملمة الشتات الوجودي الداخلي .
في قصة :" الغبش " يعتبر العنوان طرف الخيط ، نمسك به ليوصلنا إلى فحوى النص ، فالغبش يعني تشوش الرؤية ، واضطراب الوضوح ، فهو لايظهر ولايخطئ ، : " الآن أيقنت أن الأيام دفعتها إلى الوراء كثيرا . وإن مافات .. فات . وإن الندم ماعاد يفيدها بشيء ، لذلك علقت حياتها على نهار دافئ مقبل ، أو مساء فضي بليل .. قد يأتي ص 65 " . إذن ربما هو الغرور أو سوء التقدير والتدبير يوصلنا إلى الخسارة الباهظة ، فنصحو بعد فوات الأوان ؟ ومن منا لم يخسر الفرص ؟ ولم يفد منها في أوانها ؟ فهل نحن عاجزون عن قلب اتجاه دوران العجلة؟ ، من الأجدى أن نبدأ من جديد .. أن نقلب الصفحة ، ونفتش عن الممكن الذي فر من بين أيدينا كالماء أوالهواء سابقا ، من هذه الفكرة تنطلق بطلة " الغبش " برسم ملامح فارس أحلامها القديم الجديد ص7 ، تلملم نتف صورته التي مزقتها الأيام . تسأل المطر وأوراق الخريف والليل ودرج البناء .. فلا تطاله . إنما تشعر بأوان قدومه ، وقد قطع نصف الدرب .. وهو يدنو نحوها على مهل كالغبش ص74 . إنها سيمفونية القلب ، وقد استحوذت على القلب والخيال ، لتضطرب الرؤية عبر تداخل الحلم بالواقع ، والغياب بالحضور .
قصة " بائعة الصبار" .. لايختلف مناخها وأداؤها كثيرا عن قصة " الغبش" ، لكن بطل " بائعة الصبار" واقعي .. يتلهف لحبيبة من طينته ، لذا .. فهو لايبحث عنها داخل القصور .. بل في بيت طيني يتفيأ بأشجار الكينا العالية ص111 ، ثم تعتريه الصدمة حين يكتشف أنه وقع فريسة السراب ، ويدرك بدهشة أن المكان ليس بيتا ، بل مجرد حائط طيني في وسطه باب البستان الواسع الأرجاء .. الكثير الشجر ، ليس فيه بيوت ولا ناس ص119 ، إنه الإحباط والخيبة " إطار بجسدي ، ونداء أتى صوتها ، وتظل هي بعيدة ، ويظل البستان مظلما وباردا على مخلوق وحيد .. صار بلا روح أو يكاد .
الاغتراب والوحشة والجدب النفسي هو انعكاس للواقع المتصحر من حوله ، والذي يضن عليه بالرمق ، ويسرق منه بارقة الأمل .
يتسلل القاص إلى أعماق النفس ، ليحولها إلى مرايا تبوح بقباحات الواقع وتدينه ، إذ تقبض عليه بالجرم المشهود . هذا النمط القصصي يخلق تصاميمه بنفسه ، ويتيح للقاص فرصة استخدام أدوات إضافية : كالاعتراف والمنولوج والتداعي ، والتدفق التعبيري الشاعري ذي الصبغة الصوفية .
لكن هذا النمط لايخلو من صعوبة ووعورة في التصميم والتنفيذ الفني ، فكثيرا ماترتكز القصة على شخصية واحدة ، أما الشخصية الأخرى .. فتبدو من صنع الشخصية الأولى ، أو لنقل تخلق من ضلعها . كذلك يخفت الحوار العادي والصريح ، ويخلي مكانه للتصورات والتذكر ، والحوار الضمني ، حين يستحضر البطل مواقف وتعابير الشخصية التي يحاورها . كل ذلك له جمالياته ومبرراته وقيمه الإبداعية الخاصة . ولكنه مع ذلك يجهد القاص والمتلقي معا . لأننا وفي هذا النوع من القصص ..نكون أمام بنية أدبية شعرية رومانسية غاية في التعقيد والتكثيف والخصوبة في المضامين والدلالات والصور المتدفقة . والحدث في مثل هذا النمط توليدي ذاتي ، بمعنى أنه تجري عملية إنتاجه نفسيا وعقليا .. ومن خلال تفاعل الوعي واللاوعي ، والعقل والوجدان ، وبالتالي فالسيطرة على الدفق الإبداعي تكون واهية .. بسبب وحدة المبدع والموضوع في سيرورة مشتركة تتأبى على الرقابة والتحكم ، وتخلق قانون تشكلها ذاتيا . إذن لامجال ولاداعي لوحدات القياس والتقييس في مثل هذه القصص ، لأنها تحمل معاييرها ومواصفاتها بذاتها ، وخلال عملية تكونها وتخلقها .
وقصة " الهدهدة " نموذج يجسد كل ماقلناه . فهي تعالج حالة رجل تخبو فيه الحياة ، فيكتفي باجترار أحلام اليقظة كل مساء . . حيث يتقمص ويتوهم ويسترسل ويسقط ويزين ويجمل ويصنع من امرأة عابرة واقعا مفترضا يتعامل معه وكأنه حقيقة واقعة ملموسة . إنه يفصلها وفقا لمزاجه ، يحركها طبقا لرغباته المكبوته ، ويستمر إلى أن يطفئ النعاس والتعب قريحته ، فيلوذ بالأرصفة ، يفترشها جسدا منطفئا لرجل أشيب قصير عاثر ، لابيت له ، ولا دفء .. ولا أصحاب .. يفترش كل ليلة هواجسه الشرود ، وخيالاته الحنون ، لينام في مدينة ممعنة في صدودها الحزين ، وبرودتها الراعية ص107 . إنها نهاية لحلقة من مسلسل الحياة الحرون ، التي لاتذعن ولاتستجيب لرجل فقد كل شيء .. سوى القدرة على التهام الذات الهائمة في متاهات مقفرة ومظلمة .
حدث القصص الثلاث نفسي المنشأ ، ولايقلل من هذه الحقيقة وجود محرضات خارجية ومعادلات موضوعية تشكل فيما تشكل منطلقات القص الذي لايمكن أن ينطلق من غير الواقع المعاش لبناء عالم مختلف ومختار ومنتقى بعناية من بعض عناصر الواقع التي توحي له بالفكرة ، ومايؤكد هذا االمذهب هو لاواقعية العلاقة بين الشخصية الرئيسية والوحيدة من جهة ، والشخصية المستحضرة من معمل الخيال من جهة ثانية ، والعلاقة بين الشخصيتين تبدو مثالية مبنية على التوافق . . لا على الصراع . والسبب هو أن الشخصية الثابتة هي من صنع الشخصية الأولى إلى حد كبير ...
الزمن في مثل هذه القصص مرن ، يستوعب الماضي والحاضر والمستقبل ، ويرتبط إلى حد كبير بمستلزمات الحالة ا لانفعالية الأدبية المنجزة .
يمسك حسن حميد بزمام المبادرة ، ويتحكم بنتاجه تحكم الفارس الخبير بحصانه ، من خلال علاقة حميمية وأليفة ومتفهمة لاحتياجات الحركة القصية . بكلمة أخرى يتمثل القاص منهجية الإبداع تمثلا خلاقا ومجتهدا ، آخذا بعين الاعتبار جدلية العلاقة بين القاص والقصة والواقع , ولهذا تثمر جهوده ، وتبلغ حدا ملحوظا من النجاح والتفوق في ميدان فنه .
القاص يستثمر أدواته ومواده بكفاءة عالية ورشيدة ، تؤكد امتلاكه لطاقة إيحائية عالية ، وقدرة تعبيرية غنية ، وخصوصية بارزة ، تكرسه قاصا ذا صوت متفرد .. لايغيبه الضجيج الأدبي المتصاعد الذي يختلط فيه الغث بالثمين والهابط بالجيد . مما يجعلنا نتمسك بالتفاؤل وبحقيقة أن الحياة الأدبية ماتزال بخير .







#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العائم: قصة تشكيلية
- مها عون : مغامرة الإبدع والتشكيل l
- سوريا : السلطة اللاسياسية
- فرح نادر: بين غيبوبة العاطفة وصحوة العقل
- من قصائد الثورة : (6)
- مساهمة نقدية
- الشبح : شعر
- عن المؤسسة الزوجية
- من قصائد الثورة (5)
- من قصئد الثورة (4)
- ذلك اليوم الجميل: شعر
- من قصائد الثورة : شعر
- من قصائد الثورة (2) : شعر
- من قصائد الثورة (1)
- رحلة جليفر الجديدة : قصة قصيرة
- أنور سالم سلوم
- الروائي والناقد نبيل سليمان في:
- النظام السوري: الحل هو المشكلة !
- شهادات ...
- قصائد قصيرة جدا: الجزء الثاني(6-7-8)


المزيد.....




- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - عن الأديب حسن حميد