أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسني إبراهيم عبد العظيم - حرية العقيدة في الإسلام: قراءة في كتاب لاإكراه في الدين للدكتور طه جابر العلواني(*) الجزء الأول















المزيد.....

حرية العقيدة في الإسلام: قراءة في كتاب لاإكراه في الدين للدكتور طه جابر العلواني(*) الجزء الأول


حسني إبراهيم عبد العظيم

الحوار المتمدن-العدد: 3515 - 2011 / 10 / 13 - 16:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الدكتورطه جابر العلواني أحد رواد الفكرالإسلامي المعاصر، وواحد من أهم مجددي هذا الفكر، أخذ على عاتقة مهمة شاقة وثقيلة، وهي مراجعة التراث الإسلامي، وتنقيته مما علق به من شوائب وأغاليط لحقت به على مدار تاريخه الطويل الحافل، حتى خيل لكثير من الناس أن هذه الشوائب هي جزء لايتجزأ من مكونات هذا الدين.

والحقيقة أن العلواني يقوم بمهمة شاقة هي تلك التي سماها ميشيل فوكو حفريات المعرفة أو (أركيولوجيا الفكر)، إن الباحث الأركيولوجي من وجهة نظر «فوكو» هو الذي يستطيع التوصل إلى تلك العصور الغابرة المطمورة تحت الركام عن طريق الحفر والتعرية، فخلال قرون عديدة حصل تراكم لوقائع يغطي بعضها بعضاً -تماماً كما في علم الآثار- حيث نجد مدناً كاملة مطمورة تحت طبقات عميقة من التراب والرمل، إن على الباحث أن يقوم بعمل الأركيولوجي من أجل إزاحة الركام واكتشاف الطبقات العميقة للحقيقة التاريخية أو الواقع التاريخي. ويرى «فوكو» أن المنهج الأركيولوجي يمكّن الباحث من فصل أشكال الخطاب التي انطمرت من أجل الوصول إلى الحقائق المفصلية.

والواقع أن الفكر الإسلامي قد عانى كثيرا – وما يزال يعاني بطبيعة الحال – من ذلك الركام الهائل من التشويه الذي يخفي وراءه الحقائق الناصعة والقيم العليا لهذا الدين الحنيف. لقد اختفى الكثير من الحقائق المفصلية حول الإسلام ومبادئه وغاياته، وراء جدار سميك من الأفكار الخاطئة والمعاني المغلوطة، والممارسات اللامنطقية. وتعددت العوامل وتضافرت في خلق هذا الجدار، وكانت السياسة هي أبرز هذه العوامل وأقواها.

ولقد نجح العلواني في مهمته أيما نجاح، وأدى باقتدار دور الباحث الأركيولوجي الدؤوب الذي يبحث عن الحقيقة مهما كلفه ذلك من جهد ومشقة. فهو يفاجئنا - ويدهشنا أيضا - بذلك التحليل (الأركيولوجي)المنهجي العميق لبعض هذه الأفكار، فيدحضها بقوة الدليل ودقة التحليل، وسلامة القراءة والتأويل للمواقف والأحداث. فنعرف منه على سبيل المثال أنه لا وجود لظاهرة النسخ في القرآن الكريم، وأن القرآن العظيم كله من سورة الفاتحة حتى سورة الناس محكم ومثبت ولم يعتريه نسخ بأية صورة من الصور، يقول في مقدمة أحد كتبه عن قضية النسخ في القرآن الكريم: (هذه الدراسة على لطافة حجمها قد تضمنت معالجة جادة وجريئة، أشتملت على منهجية يحتاجها المبتدئ في الدراسات القرآنية والنقلية، ولا يستغني عنها المنتهي (وإن نفع العلم بدرايته لا بروايته) وأصل الفساد الذي دخل على بعض العلماء نجم عن تقليد سابقيهم من المتقدمين من غير بحث عما صنفوه، ولا طلب للدليل عما ألفوه، ومن ذلك الكلام في (الناسخ والمنسوخ) فإن كثيرين منهم قد أقدموا على القول في (الناسخ والمنسوخ) واوردوا كثيرا من التخليط والعجائب والعظائم التي ينزه القرآن عنها) كما ذكر ابن الجوزي وغيره. وهذه الدراسة قد عملت على حماية القرآن الكريم من ذلك التخليط وتنزيهه عن كثير مما قيل في هذا الشأن بتحقيق علمي دقيق قائم على القرآن الكريم، وما دار حوله من ثوابت السنة المطهرة، فلعله ينهي الجدال في هذه القضية الخطيرة ويرشد إلى سبيل الهدى فيها.(راجع كتابه الرائع نحو موقف قرآني من النسخ الصادر عن مكتبة الشروق الدولية أيضا).

ويفاجئنا أيضا بأن ما يعرف بحد الردة لا أصل له في الإسلام بل إن عكس ذلك هو الصحيح، حيث يقر القرأن مبدأ واضحا وضوح الشمس أنه (لا إكراه في الدين). ونظرا لأهمية قضية الردة وخطورتها، لما يترتب عليها من آثار كثيرة سأقدم في هذا المقال عرضا موجزا لكتاب الدكتور العلواني لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، الصادر عن مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة في طبعته الأولى عام 2006.

يبدأ العلواني كتابه بالمقدمة التي يضمنها ما وصل إليه من نتائج بالدليل القاطع، بصورة عامة، إذ كتب يقول:
فلا وجود لهذا الحدّ في القرآن المجيد وهو المصدر المنشئ الأوحد لأحكام الشريعة: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [آل عمران:23].

ولم نجد واقعة واحدة من وقائع عصر النبوّة تشير إلى ما يمكن أن يقوم دليلاً على قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق عقوبة دنيويّة ضدّ من يغيّرون دينهم، مع ثبوت ردّة عناصر كثيرة عن الإسلام في عهده ومعرفة رسول الله بهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ [النساء:137] وذلك ينفي وجود حدّ للردّة في السنّة الفعليّة التطبيقيّة. وباستقرائنا لما ورد من سنن قوليّة لم نجد -كذلك- ما يمكن أن يقوم دليلاً على وجود حدٍّ شرعيّ دنيويّ لهذه الفعلة.

وبعد تأكيده على عدم وجود حد للردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة – القولية والفعلية – يناقش آراء الفقهاء في هذه المسألة ، ويخرج بما يلي:
لقد عرضت وناقشت مذاهب الفقهاء، خاصّة أنّ جمهرة أهل الفقه قد استندوا فيما ذهبوا إليه من وجوب قتل المرتد إلى السنّة القوليّة والإجماع فكان لا بد من الوقوف على تلك المذاهب مذهباً مذهباً، ومعرفة أقوالهم تفصيلاً، وأدلتهم التي بنوا عليها تلك الأقوال، ومناقشتها تفصيلاً. وقد تبيّن أن الفقهاء كانوا يعالجون جريمة غير التي نعالجها، إذ كانوا يناقشون جريمة مركّبة اختلط فيها السياسيّ والقانونيّ والاجتماعيّ، بحيث كان تغيير المرتدّ دينه أو تديّنه نتيجةً طبيعيّة لتغيير موقفه من الأمّة والجماعة والمجتمع والقيادة السياسيّة والنظم التي تتبنّاها الجماعة، وتغيير الانتماء والولاء تغييراً تامّاً.

كذلك ناقشنا دعوى الإجماع وثبت لنا وأثبتنا أنّه لم يكن هناك إجماع على وجود حدٍّ أو عقوبة شرعيّة ثابتة بالقرآن مبيَّنة بالسنّة للردّة بالمفهوم الذي أوضحنا.
وبذلك ثبت أن الإنسان -في الإسلام- يملك حريّة اختيار الدين الذي يتديّن لله به وهي حريّة ذاتيّة ائتمنه الله -تعالى- عليها؛ ولذلك كانت هذه الحريّة مناط المسئوليّة الإنسانيّة، فالمكره خارج من دائرة التكليف لا يحمل مسئوليّة ما يكره عليه أو يلجأ إلى فعله مهما كان، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وحين تنتقص حريّته في الاختيار تنقص مسئوليّاته بقدر ما ينقص من حريّته. وكل ما أمر الله الإنسان به، أو نهاه عنه ربطه بوسع الإنسان وطاقته: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق:7] أي :ما آتاها من الطاقة والقدرة وحريّة الاختيار.

وترك الله -تعالى- الإنسان فيما يسأل عنه ومشيئته الإنسانيّة الحرّة: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف:29].
وأعمل الله إرادة الإنسان، وأعطاها الفاعليّة التامّة في مجال الاختيار: ﴿من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء:18-19].

ثم يواصل كلامه قائلا:
وفرَّق سبحانه في المسئوليّة بين جزاء الخطأ وجزاء العمد. كما فرّق بين الخطأ الحاصل عن إهمال، والخطأ الحاصل عن عمد وقصد، وبين الإصرار على الخطأ والاستمرار فيه، وبين التراجع عنه، والتوبة منه. وهذا -كلّه- وكثير معه يؤكّد على حريّة الإنسان في إرادته وقصده وفكره وتعبيره وفعله. وسوف يتضح ذلك بجلاء في هذا البحث الذي أردنا أن نقدمه نموذجاً للمراجعات الجادة لتراثنا -التي على أهل العلم أن يقوموا بها لتنقية تراثنا الخصب الغنيّ المتنوع مما لحق به في بعض الفترات التاريخيّة لعوامل كثيرة.

ولقد حرص الدكتور العلواني على التزام المنهج العلمي الموضوعي في معالجة قضاياه، حيث إنه لم يحاول تأويل النصوص بما تتفق مع ما ذهب إليه، يقول في ذلك:
(فإنّني أؤكد أنّني سألزم نفسي -بقدر الإمكان- بالمنهج العلمي في البحث، فلن ألوي عنق أيّ نص أو دليل لينسجم مع فكرة كانت لدي قبل البحث، وسأخلي ذهني وعقلي من أيّ رؤية، أو موقف مسبق، لي أو لسواي، بقدر ما تسمح الطاقة الإنسانيّة به. وسأتخذ من الأدلة الشرعيّة مصادر لما أقرره، لا شواهد أستشهد بها لإثبات ما أتبنّاه كما يفعل كثير من الباحثين؛ لأن المهم -عندي- هو الوصول إلى ما تدل الأدلة الشرعية المعتبرة عليه، لا ما نتمنى أن تدل عليه مما يوافق متطلبات الحاضر أو الماضي، ولذلك فإن أقرب المناهج التي يمكن استعمالها في هذه الدراسة هو المنهج المركَّب من المنهج الفلسفي الأصولي، والمنهج التحليلي، والاستنباطي والتاريخي، دون تجاهل للمناهج التقليدية المتّبعة في دراسة علومنا ومعارفنا النقليّة في عصر التدوين وما تلاه. فالتفسير سنعتمد فيه ما قرره المعنيّون به من علمائنا من أصوله ومناهجه. وفي وزن الأحاديث والحكم عليها سنأخذ بمناهج المحدثين في ذلك، وهكذا. وفي الأصول سنتعامل مع الكتاب الكريم باعتباره المصدر المنشئ للأحكام والكاشف عنها ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ [يوسف:40] وذلك عملاً بحاكميّة الكتاب. وسنتعامل مع السنة النبوية المطهرة باعتبارها المصدر المبيِّن للكتاب الكريم على سبيل الإلزام. ولن نقبل دعوى الإجماع فيما يثبت الاختلاف فيه بين الصحابة. فالإجماع إجماعهم، وسنلاحظ القيم الحاكمة ومقاصد الشريعة باعتبارها أدلة كلية ومصادر لإنارة السبيل للمستدل في تعامله مع دلالات الأدلة الجزئية، لا باعتبارها مجرد فضائل للشريعة. وسنتخذ من الاستعمال القرآني للمفردات اللغوية حكمًا أولاً في بيان معاني تلك المفردات كما وردت في الكتاب الكريم، ثم ما ورد بيانًا نبويًا في السنة، ثم معهود العرب في لغاتها وأساليبها وبيانها، لئلا يتحكم معهود العرب بمعاني القرآن.

وبعد أن يضع الدكتور العلواني النتائج العامة التي توصل إليها في دراسته، وهي أنه لاوجود لحد الردة في الإسلام، وأن الأصل في الإسلام هو حرية العقيدة،وأن ثمة ارتباط بين الحرية والجزاء، يبدأ بعد ذلك في عرض أدلته وشرحها شرحا صافيا وافيا عبر فصول كتابه. ولكنه عمل قبل دخوله في تحليل قضاياه – لدواع منهجية رصينة – على تحديد مشكلة بحثه Research problem بوضوح حتى لا يحدث التباس لدى القراء، يقول:

وجريًا على منهجهم في ذلك (يقصد علماء الأصول) فإننا نودّ أن نبدأ بتحرير قضية هذا البحث الأساسية منذ البداية؛ لئلا تلتبس الأمور على بعض القارئين:
1. إن هذا البحث لا يعالج قضية كفر المرتد ردة حقيقيّة، وخروجه عن الإسلام بعد معرفته به وقبوله له وإيمانه به؛ فكفر هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة ولا جدال فيه. وسواء في ذلك فَضّل المرتد دينًا آخر انتقل إليه وآمن به، أو بقي ملحدًا من غير دين.
2. إن هذا البحث لا يعترض على معاقبة المرتد على أية جريمة أخرى يرتكبها في حق الجماعة أو شريعتها أو نظمها وأعرافها المعتبرة، أو الخروج على الجماعة، أو حكامها الشرعيّين، فأيّة جريمة أخرى يرتكبها، سواء بنيت على الردة، أو قارفها لأسباب أخرى، فإن للأمّة أو الجماعة أن تطبق على فعله الجرمي الأحكام المقرَّرة شرعًا ونظامًا لذلك الجرم، فيسري عليه ما يسري على غيره؛ إذ إنّ الردّة -والعياذ بالله- إذا لم تشكل ظرفًا مشدِّدًا على المرتد فإنّها لا ينبغي أن تكون وسيلة تخفيف عنه.

3. إن البحث لا يرى، ولا يطلب، من الجماعة أو الأمة أن تأذن للمرتد بممارسة الدعوة إلى الردة سِرّا أو علنًا، أو العمل على إيجاد تجمع حوله يسعى لإحداث تغيير في عقيدة الأمة أو الجماعة أو تصوراتها أو مقومات إيمانها وإسلامها بالقوة أو بالدعوة، فتلك -كلها- تعد من الأعمال المعادية للأمة وللجماعة، ولها أن تمنعها، وتوقف الفاعلين عند حدودهم بما يتناسب وخطورة ما يقومون به، وردعهم عن ذلك بما يتفق والقيم العليا ومقاصد الشريعة.

4. إن قضية البحث الأساسية هي الردّة الفرديّة بمعنى: تغيير الإنسان عقيدته، وما بني عليها من فكر وتصور وسلوك، ولم يقرن فعله هذا بالخروج على الجماعة أو نظمها، أو إمامتها وقيادتها الشرعيّة، ولم يقطع الطريق، ولم يرفع السلاح في وجه الجماعة، ولم ينضم إلى أعدائها بأية صفة أو شكل، ولم يقم بخيانة الجماعة: وكل ما كان منه -هو تغيير في موقفه العقيديّ نجم عن شُبَهٍ وعوامل شك في جملة عقيدتها، أو في بعض أركانها، ولم يقو على دفع ذلك عن قلبه، واستسلم لتلك الشبهات، وانقاد لتأثيراتها، وانطوى على ردّته تلك، فلم يتحول إلى داعية لها -كما ذكرنا سابقًا- فبعد الاتفاق على ردّته وكفره، نقول: هل لمثل هذا شرع الله حدًا هو القتل بعد الاستتابة أو بدونها، بحيث يصبح واجبًا على الأمة -ممثلة بحكامها- أن يقيموا عليه هذا الحد، فيقتلوه على مجرد التغيير في اعتقاده، حتى إن لم يقترن هذا التغيير بأي شيء آخر مما ذكرنا؟ وإذا قتله أحد أبناء الأمة فلا يقتص منه ولا يقاد به، ولا شيء عليه في ذلك إلا عقوبة الافتئات على الحاكم؟ وهل يجب على الأمة أن تُكره هذا وأمثاله على الرجوع إلى الإسلام والعودة إليه بالقوة؟ وهل يعد هذا لو حدث من قبيل الإكراه في الدين الذي نفاه القرآن المجيد أولاً؟ وهل القول بوجوب قتل المرتد أمر مجمع عليه في كل العصور، أو أن فيه خلافًا لم يبرز بشكل كاف؟ وإذا قيل بوجوب قتل المرتد فهل يعني ذلك أنّ الكفر المجرد يصلح أن يكون سببًا لإيقاع عقوبة القتل شرعًا؟ وهل تعدّ العقوبة الخاصة بالردّة عند جماهير القائلين بها جريمةً سياسيّة أو هي جريمة تندرج في إطار الجنايات، فتأخذ العقوبة -آنذاك- صفة الحد الشرعيّ؟ وهل يعدّ هذا الحد -إذا سلمنا بكونه حدًا- تكفيرًا أو تطهيرًا؛ إذ المنصوص عليه أن الحدود مكفِّرات؟ وهل الردة تعد خروجًا من الإسلام أو خروجًا عليه؟

هذه قضايا الدراسة الأساسيّة، وسنتعرض لها، ولما قد تفضي إليه من قضايا أخرى، إن شاء الله -ملتزمين بالمنهج المتقدم ذكره- سائلين العلي القدير العون والتسديد، والتوفيق إلى الرأي الرشيد والقول السديد، وهو ولي التوفيق والقادر عليه.

5. أرجو أن أكون قد قدمت في هذا البحث -نموذجاً- لمنهج في المراجعات في التراث بحيث نجعل تراثنا ممّا يصدّق القرآن عليه ويهيمن، وأرجو أن يفتح ذلك مجالاً لهذا النوع من المراجعات الجادّة أمام الباحثين، سائلاً العليّ القدير أن يتقبل مني هذا العمل، وينفعني به يوم الدين ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:88-89]

ويبدأ بعد ذلك في تفصيل أدلته حول النتيجة التي توصل إليها، وهي أنه (لا وجود لحد الردة في الإسلام) وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله تعالى.
ــــــــــــــــ
(*) طه جابر العلواني ولد عام 1935، في العراق، وهو رئيس المجلس الفقهي بأمريكا منذ عام 1988، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية (SISS) بهرندن، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على الدكتوراة في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة، مصر، عام 1973. كان أستاذاً في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، المملكة العربية السعودية منذ عام 1975 حتى 1985. في عام 1981 شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة، كما كان عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1983. يرأس طه العلواني الآن جامعة قرطبة الإسلامية في الولايات المتحدة.
من مؤلفاته:
• الاجتهاد والتقليد في الإسلام. أدب الاختلاف في الإسلام
• أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة. إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم
• التعددية: أصول ومراجعات بين الاستتباع والإبداع
• حاكمية القرآن. الأزمة الفكرية ومناهج التغيير
• الجمع بين القراءتين



#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيير بورديو . . . الفلاح الفرنسي الفصيح
- ذاكرة الجسد وذاكرة المجتمع
- ختان البنات ورأس المال الرمزي
- عن محمد الرسالة والرسول . . . هكذا تكلم نظمي لوقا
- كلمات الحق القوية
- الإسلام والحضارة(2) ردود وتعليقات
- الإسلام والحضارة : رؤية محايدة
- النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والاتصال
- ميشيل فوكو وتأسيس سوسيولوجيا الجسد (2) النظم الفاعلة في تروي ...
- الهرمنيوطيقا والوعي التاريخي: قراءة في كتاب (إشكاليات القراء ...
- البيئة والصحة والمرض: مقاربة سوسيو- تاريخية-*-
- ميشيل فوكو وتأسيس سوسيولوجيا الجسد(*)
- إشكالية بدء الوجود الإنساني على الأرض
- تطور الانشغال السوسيولوجي بالجسد الجزء الأول
- تطور الانشغال السوسيولوجي بالجسد الجزء الثاني
- تطور الانشغال السوسيولوجي بالجسد الجزء الثالث


المزيد.....




- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...
- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسني إبراهيم عبد العظيم - حرية العقيدة في الإسلام: قراءة في كتاب لاإكراه في الدين للدكتور طه جابر العلواني(*) الجزء الأول