أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سوسن العطار - حالة فصام – الجزء الثاني















المزيد.....


حالة فصام – الجزء الثاني


سوسن العطار

الحوار المتمدن-العدد: 1041 - 2004 / 12 / 8 - 13:05
المحور: الادب والفن
    


لحظة خروجه شعرت بشيء داخلي يتكسر انه قلبي الهش، بعدها توقف الزمن وانسحب الأكسجين من الهواء، أطرافي تخلت عني، لم أكن اعلم أنني بهذا الضعف، أفقت على صوت ابنتي ويد أمي المبللة بالماء تضرب وجهي برفق، قالت: سأرسل لزوجك ابلغه أن يعود للبيت، كل شيء انتهى، أجبت لا أنا سأذهب معك إلى بيتنا.
في المساء أتى زوجي إلى بيتنا واساني وأبدى تعاطفه معي، بكيت على صدره كطفلة وكما لم افعل منذ مدة، حاولت أن أتمالك نفسي وأبدو قوية واحبس دموعي ولكن لم استطع هكذا ببساطة لم استطع، يحق لي أن انهار مرة، تداعت إلى ذاكرتي يوم غادرنا إبراهيم، طوال الأيام التي اختبأ فيها كمال في بيتي كان يلوح في ذاكرتي كثيرا، هو الآخر غادر دون أن يقول انه الوداع الأخير، لن يمكث في بلد أكون أنا فيها ولا أكون له، لم يكن في قائمة خياراته ولا خياراتي ولكن …
كم فصام علي أن أعيش وكم وداع لا أودع، اشعر بمرارة الخسارة والفراق تنهش قلبي.
حين كنت أحاول ثنيه عن السفر خوفا من الغربة والوحدة كان يردد أشعار امرؤ القيس:
"أجارتنا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب."
"وليس غريبا من تناءت دياره ولكن من واري التراب غريب."
ساجد في الغربة غريبا مثلي يكون قريبي.
- لماذا لا تكملها " أجارتنا إن الخطوب تنوب و اني مقيم ما أقام عسيب"
لم يكن الخوف أن يكون الغريب امرأة أخرى وان يستمر المقام في الغربة، كنت أخشى ألا يجد إبراهيم غريبه ولم يجده، ويتكرر خوفي الآن ألا يجد كمال غريبه حتى لو كان قريبا ونسيبا، لعل كمال يتعثر بإبراهيم و يصبح كل قريب للقريب نسيب
وينتهي من مخيلتي إلى الأبد امرؤ القيس و جبل عسيب الذي دفن فيه غريبا و وحيدا.
كانت ليلة سوداء أتى أخوالي جميعا لمواساة أمي، كانوا كمن يعزيها، لم يمكثوا طويلا، وبقوا صامتين لا يسألون أسئلة لن يحصلوا على إجاباتها ولا يريدوا كي لا يضطروا لإجابتها في أقبية التحقيق، أبي حزين و أكاد أرى دموعه، عاد أخي جمال من العمل في تل أبيب اليوم الخميس تبدأ أجازته مساء ، يغيب طوال الأسبوع في العمل، كان الموقف لا يحتمل، جلس صامتا حزينا يبكي في حضرة الجميع، زوجته لم تقترب منه بقيت بعيدة و آثرت ألا ترى دموعه مع الحاضرين، لأول مرة منذ لم يعد طفلا أراه يبكي حتى يوم وفاة جدتي لم يبكي، لم يلم أحد لم يتكلم على الإطلاق، لم يكن يعلم بأمر كمال يشك انه ربما يشاغب قليلا ولكن مسالة التنظيم كان يستبعدها، كمال بالنسبة له زير نساء مؤدب يسهر كثيرا يسكر قليلا، له مستقبل كمدرس خارج الوطن كغيره من المغتربين.
جارتنا السمراء أتت باكية لتتأكد من الخبر دخلت البيت خلسة وخرجت خلسة تتمنى لو كان هناك متسع للوداع الذي تعرف انه ابدي وتحسدني أنني ودعته، قلت لها لم أودعه لم يودع أحدا حتى ابنتي الصغيرة، تحتاج مواساة مثلي، أتعاطف معها و أتذكر نفسي، أتمنى ألا يكون وعدها بشيء لأنني اعلم انه لن يوفيه ولو حاول، تما ما كإبراهيم.
كان إبراهيم يأتيني أحيانا متأخر عمدا يبقيني على جمر، اغضب أستشيط غضبا
- لماذا تأخرت؟
يبدأ بامرؤ القيس : "أغرك مني أن حبك قاتلي وانك مهما تأمري الفؤاد يفعل"
استمر في غضبي ادعي أن كلامه لم يطفئ جمري
- أين كنت
"وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل"
- أيها المجنون كيف تجرؤ ، من تظن نفسك لتتشبه بامرؤ القيس
- أظن أنني وسيم متعلم لي قلب شاعر واحفظ كلماته
- امرؤ القيس كان أميرا أنت من تقبل بصعلوك مثلك
- من تفهم أشعاري تقبلني و أظفاري
كنت اقول في سري الحمد لله لا يفهمها سواي، كان يظن أن الحياة ستنحني لأشعاره، وان الله سيحن عليه يوما ويعطيه من وسع بعدد كلماته، إبراهيم الفضائي المجنون، يسير وهو نصف نائم لأنه في حالة حلم دائم أفاق منها على سفر بلا عودة، فصام ابدي تيقنت منه لاحقا.
علم بزواجي وصلتنا رسالة منه بعد زفافي بشهرين، لم تكن موجهة لي، كانت موجهة لأبي تقطر حزنا ودموعا وعتاب قاسي ووعد بعدم العودة إلى ارض الوطن التي فرقتنا، أبكت أمي طويلا ونغصت حياة أبي أياما، أرسل لي هدية زفافي التي وعدني بها ثوب زفافنا، قال لي: لن نتزوج كما يتزوج الآخرين، تفيقي من النوم ذات حلم، تشعري منذ الصباح أنني قادم إليك، في المساء آتي ، سأخرجك أنا من بيت اهلك بفستان احمر كالجمر، قصير وطوق فل ابيض اقطفه بيدي عن هذي الشجرة واغرسه في شعرك وردة وردة وقبلة قبلة، لا أريد زفافا تقليديا وفستان ابيض طويل باهت لا حرارة فيه وطرحة غبية تغطي شعرك الطويل وطوق ورد بلاستيك لا روح فيه، سآتي في مساء ليلة مقمرة و أقول لعمي: أشكرك أديت المهمة كما يجب، أريد ما لي عندك، فيقول تفضل أضع يدي في يدك ونخرج ونسير إلى بيتنا، فقط عند باب بيتكم تزغرد أمك ولا تبكي كالأمهات ولا توصيني شيئا، وتعطيني ضمة ريحان خضراء وترش ماء الإبريق إلى أن نتوارى عن ناظريها وعندما نصل بيتنا تزغرد أمي وندخل غرفتنا ولا نخرج إلى الأبد، لا أريد طبولا ولا ولائم، فقط حفنة من الأصدقاء والجيران نتلقى منهم التهاني والحسد عند باب بيت اهلك وبيتنا، وفي اليوم التالي يعلن أخوتي العصيان إلى أن يزوجهم أبي بالجملة،
وأنا اضحك منتشية وأتخيل نفسي بالفستان الأحمر القصير الذي يرتفع عن ركبتي شبرا على الأقل، بكم طويل وملتصق بجسدي من الأعلى وصدر مفتوح يظهر منه نهداي، وأسير معه في ضوء القمر إلى القمر إلى الأبد
أبقت والدتي الفستان لديها، في أول زيارة بعد وصوله ارتديته في بيت أهلي، وخرجت ابتسم لزوجي بعد أن أفرغت كل دموعي وتأكدت انه لم يتبق منها شيئا، قلت أترى أرسل لي ابن عمي هدية زفافي كيف أبدو جميلة الست كذلك، لأول مرة أرى الغضب في عينيه والغيرة الغير مفهومة، قال بحدة اخلعيه لا يلائمك و أبقيه لامك أو أختك، وخرج قائلا أعود إليك في المساء.
كان يدري بأمري وأنا لا ادري، لم أكن اعلم إن كان سيعود مساء ولا اعلم إن كنت أستطيع النظر في عينيه بعد الآن .. يا الهي ما الذي يحدث لي .. هل أنا ملزمة بإخباره؟!!
في كل زيارة لبيت أهلي ازور خزانة أمي، اطمئن على الفستان أحس بنار الجمر ما زالت مشتعلة فيه وتكاد تلسعني، واشم عطر أصابع إبراهيم وأتحسس لمس يديه، ولازلت أتخيل نفسي ارتديه واخرج برفقته من بيت أهلي يده تطوق خصري مرة وتتحسس نهداي مرة، واليد الأخرى تعبث بشعري الطويل ولازلنا نسير في ضوء القمر.
لازلت اخرج دوما إلى الحاكورة ، اقف فيها و ابكي من ذكرى إبراهيم وشجرة فل.

بقيت طوال الليل ساهرة أفكر في كمال، تلمس قدمي البلاط في ليالي أواخر سبتمبر، تلسع قدمي البرودة اسحبها بسرعة وأتذكر كلام كمال عن بلاط الزنزانة وبردها، سيخفف عني كثيرا لو اعلم انه الآن في أمان وينعم بفراش دفيء، ابنتي تنام مع أخواتي الصغيرات اللائي لا يدرين ما يدور حولهن، يسألن أسئلة ولا يعرفن سوى أن كمال لن يعود للبيت مرة أخرى، تقول لهن أمي قد خسرناه إلى الأبد، ولا يفهمن معنى كلامها هل مات؟ اختفى؟ انتهى؟ ماذا تعني انتهى ؟
يتحرك جنيني بدأت اشعر بتقلصاته، علي أن أكون أقوى كي لا اخسره وآمل أن يكون ذكرا، سيكون الحجر الذي ألقمه فم حماتي، يكفيني سبع سنين عجاف من الإجهاض المتكرر حصلت خلالها من حماتي القابلة على لقب عقيم ومحاولات مستميتة لإقناع زوجي بالزواج بأخرى، و أجبرت على ترك عملي في التدريس في محاولات فاشلة لإنجاب طفل.
غير أنها كانت تحب كمال كان يجيد الضحك عليها وسلب عقلها بكلمتين، بعد إنجابي الطفلة كان يقول لها: لا اعلم كيف صبرت عليها لو كنت مكانك لزوجته سبعة خلال السبع سنوات ينجبن لك سبعة وسبعين عليك حينها أن تقومي بتوليد سبع نساء يوميا كي تجلبي ما يكفيهم من الحلوى. كانت عندها تفتح له حقيبتها وتعطيه من أفضل الشيكولاتة التي حصلت عليها من البيوت التي تزور أطفالها حديثي الولادة.
كم آذتني تلك المرآة، إهاناتها لي وتعمدها إيذاء شعوري، كانت تنادي أطفال الحارة وتوزع عليهم الحلوى أمامي وتقول متى يحن الله علي بحفيد احتفظ له بهذه الحلوى، كنت انسحب إلى غرفتي وأجرجر عجزي وغضبي وكبريائي الجريح وقلبي الكسير، ارفع رأسي إلى الأعلى كي تبقى دموعي في عيني أدعو الله أن اصل الغرفة قبل أن تسقط وتفضح ضعفي و هشاشتي، امكث فيها إلى أن يعود زوجي .،تعيب علي اهتمامي بأهلي وتجرحني اكثر حين تقول : لو كان لك أولاد لخصصت وقتك وعنايتك لهم ، غير أنني استمريت أخص أهلي بعنايتي حتى بعد حصولي على أطفال و فقط بعد إنجابي الطفلة شعرت أنني قوية وسمحت لدموعي أن تظهر في أي موقف ضعف فهذا لا يؤثر على ثقتي بنفسي.
لا أجرؤ على طلب سكن مستقل تحمي جداره كرامتي، ولن اكرر طلبي أن تكف حماتي عن التحرش بشعوري وإهدارها سمعتي في كل بيت تدخله، هذا لن يفيد ولن يغير حقيقة أن حماتي هذا طبعها الذي لن يتغير وأنني عقيم.

أحاول النوم مرة أخرى، كم مرة نهضت حافية إلى الغرفة المجاورة لأشد الغطاء على ابنتي التي اعلم جيدا أنها تنام دافئة، كنت أحاول إقناع نفسي أن البرد هو اللسعة الأولى وان قدمي تعتاده بمرور الخطوات وانه لن يؤذي كمال كثيرا سواء في الزنزانة أو في العراء وان جبل عسيب بعيدا عنه، أعود إلى فراشي و أتأكد أن البلاط البارد آذى قدمي في سبتمبر، ماذا سيفعل به البرد في ديسمبر ويناير.
هل تناول طعاما ؟ اعرف جيدا أن الهم يأكل معدته ولا مكان فيها للطعام، هل أمن له نقودا كافية، هل تكفي النقود وحدها لمتشرد أو هارب أو مهرب، لو كنت ادري أن الخروج أمر لا مفر منه، لو كان عندي وقت كافي، لو كنت املك كل وعيي، كنت اعتقد أن بيتي يحميه من الإخوة ومن الأعداء، ليتني تنبهت و أعطيته معطف من ملابس زوجي، كنت أظن أنني قوية كفاية،لم يكن في الحسبان أن اسقط أن انهار و أن يستسلم هو و بكل بساطة يخرج معه ، توقعت أو تأملت أن يرفض ويجرب الخيار الآخر ، لا الخيار الآخر قاسي وقارص ابدي وغير مضمون ،سنراه عن بعد شبك ولا نملك مد يد العون له وينتهي دورنا في المحكمة بعد النطق بالمؤبدات " ولا يهمك غمضة عين وتعدي السنين" ، لو كنت اعرف غير ذلك لحضرت له حقيبة ملابس وطعام وقائمة بعناوين أقاربنا في الخارج ، عنوان إبراهيم لن يخذله ، هو عانى وتشرد ، سيرحب به ويرتب له حياته .
أين إبراهيم هل له عنوان؟ خلال سنتين لم يرسل رسالتين من نفس العنوان، غير أن الأقارب تخلوا عنه و أنكروه ورفضوا الرد على رسائله أو طمأنتنا عليه خوفا أو عدم اكتراث أما إبراهيم فقد أعيدت الرسائل المرسلة إليه لعدم وجود المستلم، كان يطارد خيالي امرؤ القيس وجبل عسيب الذي دفن فيه وحيدا، كنت أخشى عليه من مصيره غير انه كان يمارس هوايته الخاصة: التشرد فوق قارعة الدول، وبقي كمال وحيدا تتقاذفه الهموم التي أكلت نصف دماغه، كل ما تمنيته ألا يتحول إلى إنسان مهزوم مهزوز نسخة أخرى من إبراهيم الذي رايته يحمل معه مستحيل امرؤ القيس الذي لم يتحقق، غير أنني أرى الهزيمة والانكسار في كمال كما رايتهما في إبراهيم ، كنت اعلم انه يخرج و لن يعود لي، لماذا غادر ؟ كنت مستعدة للخروج معه من بيت أبى حتى بدون فستان الزفاف الأحمر، واقبل العيش معه ليس في الغرفة التي تجاور غرفة أمه بل في الغرفة التي تجاور خم الدجاج
كان يغويني بأشعار امرؤ القيس كأنها آيات أو ناموس العشاق
- ألم تسمعي امرؤ القيس
- ماذا يقول؟
"ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات انك مرجلي "
"تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل"
"دعي البكر لا ترثي له من ردافنا وهات إذ يقينا جناة القرنفل "
"بثغر كمثل الأقحوان منور نبقي الثنايا اشنب غير اثعل"
"افاطم مهلا بعض هذا التدلل وان كنت قد أزمعت صرمي فأجملي"
- امرؤ القيس شهواني ولن أكون فاطمتك ، أريد من يحبني ويخلص لي قبل أن يشتهيني
بكل الأحوال أنا أحبك و اشتهيك ، وسأبقى مخلص احبك حتى لو أجبرت ألا اشتهيك
ضاع إبراهيم كما ضاع امرؤ القيس ، ولم يعد بثأر ولا ملك ولا حب، و أخشى أن يكون هذا مصير كمال فأنا أراه يسير باتجاه جبل عسيب.
ذاك الأعشى الذي لا يملك ثمن نظارة يخبا فقره في الرومانسية، يظنني غبية لأصدق أن كل هذا حب وليس فقر
يريد أن نمشي في ضوء القمر !!! كنت أفيق أحيانا و أقول له : سنضل الطريق وندخل بيت الجيران بدل بيتكم ، يسكرني مرة أخرى ويقول كيف أضل وعيوني تمشي إلى جانبي أنت عيوني ....
عندما أتى زوجي لخطبتي، الوحيد الذي قبلت التفكير بأمره بعد يأسي من إبراهيم وتذمر أمي و إلحاحها وزواج جميع صديقاتي، دخلت الغرفة احمل صينية القهوة ورايته لا بل رأيت النظارة أولا ابتسمت قلت في نفسي سأقبل هذا الشاب، أما أبى الذي كان يمني نفسه أن ارفض قال استبدلنا الأعشى بالأعمى !!!
غير أن الأعمى يقدم مهرا وشبكة وغرفة إلى جانب غرفة أمه ومدرس وكالة محترم ويقوى على تكاليف الزفاف بوليمة وفستان ابيض وطرحة بطوق بلاستيك، ولا يريد الزواج مجانا مثل " الشحاذ ابن الكلب " كما يسميه أبى،" خسارة في أهله كوب الشاي إياك أن ترحبي بهم أو تضيفيهم إن أتوا للزيارة مرة أخرى و طرقوا هذا الموضوع" هكذا صرخ في وجه أمي في آخر زيارة لعمي وزوجته لبيتنا الذي قاطعوه ولم يحضروا زفافي بتشجيع من أخي حسن الذي بذل مجهودا لكي لا يتم لكنه تم، ويعترض أخي حسن بشدة ، يريدني هذه المرة أن انتظر ابن عمي الذي تغرب لأجلي أنا الغير وفية ، هو كان .يعترض على علاقتي به وينغص علي خلوتي به رغم أننا كنا نعتبر أنفسنا مخطوبين ، كان دائم السخرية من إبراهيم ويناديه إخوتي امرؤ القيس لكثرة ما كان يردد أشعاره التي لا يفهموها وكانوا يخلطون بينه وبين قيس ليلى ، كان يسخر من فقر عمي فيقول عندما يزورنا إبراهيم حضر ابن عمكم امرؤ القيس الأمير ابن الملك !
في الحقيقة كانت النقود حجة أبي الواهية، أبي لم يكن يوما ماديا، كنت اشعر أحيانا انه لا يريد أن أتزوج، يريد أن أبقى عنده إلى الأبد رفض الكثيرين الذين هم بمستوى زوجي وربما أفضل ولم أكن اهتم، كان يريحني برفضه كان يقول أنا أعطى ابنتي لهذا ؟!!! و يختلق ألف عيب وعيب ولأنني أتيت بعد عقم طويل وبعد زواجه الثاني وفي كهولته كان يراني كأنني هدية أو أمانة لا يريد التفريط بها.
طوال سنيتين و أكثر لم يوفق إبراهيم في الحصول على عمل، في كل مرة يستجدي مهلة أخرى ليست أكثر من خمسة عشرة يوما إن لم يعد بعدها بالمهر كاملا فعلى الأقل بالشبكة، فقط خمسة عشرة يوما تكررت أكثر من خمسة عشرة مرة، بعد زواجي انضم للثورة و أعلن عن نفسه فدائي للوطن واختار المنفى كوطن بدل الوطن الذي لن نجتمع فيه سويا ولا نكون لبعض، كان يحمل في داخله هاجس الفراق، خرج وهو يقبل عدم العودة، كان يقول حتى لو لم يكتب لنا الزواج اشعر ان جزءا مني عندك وجزءا منك عندي، سيتزوج يوما أحد أولادنا أو أحفادنا وسيجتمع الجزءان، سننتج كائن مشترك ولو بعد حين، و أنا طوال فترات عقمي اسخر من نفسي ومنه، أنا العقيم وهو الذي لم يتزوج متى سننتج كائن مشترك؟؟
كمال يطوف برأسي مرة أخرى لا يفارق مخيلتي، كأن إبراهيم ودعني للتو، كان الألم أخف، كان عندي شبه يقين بعودة إبراهيم كان الهاجس عدم زواجي به وليس فراقه إلى الأبد، أما كمال…. أحاول أن يكون عندي يقين بعدم موته أحاول أن ابعد جبل عسيب عن مخيلتي.هناك فراقين إلى الأبد، لا بل ابعد من الأبد حتى تحرير فلسطين وعودتها حرة مستقلة؟!!! ، بعد دحر الاحتلال وتحقيق كافة الشعارات الفلكية، حينها سيعود كمال، لا ربما سيعود في حفيده السادس عشر، وينتج كائني المشترك مع إبراهيم من حفيدي السابع عشر.
لا أستطيع النوم توقفت عن المحاولة أصلا، اذهب مرة أخرى حافية إلى فراش ابنتي، اشعر بلسع البرد في قدمي الذي يزداد مع تكرار الخطوات، أبى يجلس قي الظلمة وحيدا يرتدي عباءته الحجازية واسمع صوت مسبحته، رأسه إلى الأعلى يسندها على الحائط و أكاد أتبين حركة شفتيه يتمتم بما يحفظ من القران و أكاد أرى دموعه، لابد انه الآن يسامحه على جميع شقاواته وراض عنه ويدعو الله أن يفك ضيقته ويعود إلى البيت سالما، أبي يتمنى المستحيل!
ألوم نفسي لم أكن شرسة وقوية ما يكفي، لماذا لم أغلق الباب عندما رايته وأنا متأكدة من سبب زيارته، هو لا يزورني إلا في العيد، لا مودات بيني وبينه ولا بينه وبين زوجي، لو أني أغلقت الباب ... لو ادعيت أن كمال غادر بيتي، اعلم انه لا يريد الرحيل واعلم أيضا انه لا يريد السجن، واعلم أكثر أن ببيتي لن يحميه إلى الأبد منهما، لو طردته من بيتي لو … ، أمي الضعيفة هي التي تركت له الحبل على الغارب بضعفها واستسلامها ، لو وقفت معي في وجهه ، لربما منعنا الكارثة ، لو كان زوجي في البيت ، لربما لم يتجرا علي ويجبرني على التنحي ، لربما استطعت …
شيء غير عادي في داخلي حركة الجنين مختلفة، تقلصات غير معتادة ….. آه إنها ليست قي جسدي إنها حركة غير عادية خارج البيت، يبدو أنني نمت دون أن ادري لابد أنها زوجة جارنا السكير ستبدأ بالصراخ بعد قليل حين يبدأ بضربها ويوغل في عنفه كلما أوغلت قي ألمها يقول لها : أتظنين انك وحدك من يتألم ، أنا أيضا ابذل مجهود و أتألم وأنا أضربك ، وحماتها تقف تتفرج ،احمد الله على زوجي وعلى حماتي.
ليس صوت صراخ وليس حركة في بيت الجيران، التقلصات عادت والحركة الغريبة عادت، لم اعد أميز هل أنا نائمة أم لا زلت صاحية، هل هذه الحركات قي بطني أم في البيت … أشباح تتحرك على الجدران أشباح تسقط قي البيت الجنين يسقط أضع يدي أسفل بطني أظنه لا يزال فيه، طرقات قوية على باب البيت الحديدي وتقلصات تشتد في بطني وآلام اعرفها تمزقني، صوت … حركة … أضواء قوية صراخ أخواتي الصغيرات، ابنتي تبكي فزعة وتنادي علي أحاول الخروج من الغرفة، أضع كلتا يدي على بطني محاولة منع الجنين من السقوط، سأصل لابنتي امسكها بيد وامسك جنيني باليد الأخرى، اخرج زاحفة على ركبتي اصل باب الغرفة، جنود في كل أرجاء البيت أنا ازحف… اعتقد أنني أواصل… الزحف… أنا أجثو عند بسطار واغرق في نزيفي، يسقط جنيني ولا أستطيع حمايته بيد واليد الأخرى لا تصل لابنتي، لم اعد اسمع صراخها.
أفقت في المستشفى زوجي متجهم، الآن مبتسم، يقول لي: المهم أنت.
امسك بيدي ويده الأخرى تحسست بها بطني، كنت اعلم أنني سأفيق فارغة، ليس جديدا علي، أنا عشته سبع سنوات ظننت أنها لن تتكرر.
في تلك الليلة اعتقلوا آخي جمال وحسن ووالدي ووالدتي أيضا، فتشوا غرفة كمال، صادوا البوم الصور والأشرطة، مجموعة كتب وروايات أجنبية كان مولع بها ورسائله الخاصة ولم تسلم الا رسالة كتبها لفتاة ولم يرسلها بعد ولم نعرف من هي لنؤدي المهمة عنه، ولم تسلم الغرف الأخرى من التفتيش حتى غرفة البنات وحقائبهن المدرسية وغرفة جمال وخم الدجاج المجاور للبيت، نكثوا البيت قلبوه رأسا على عقب، سألوا عن حسن اقتحموا بيته واعتقلوه هو الآخر، قال لهم انه لا يعرف شيئا عن كمال وانه يقاطع أهلي منذ ست شهور وليس مسئولا عن تصرفاته، غير أنهم اعتقلوه و أطلقوا سراحه في الصباح.
هو إذن في أمان لن يهدم بيته ولن يجر إلى السجن، في تلك الليلة أيضا اعتقلوا جارنا السكير وهو عائد بعد منتصف الليل إلى البيت، سلم على الكابتن كأنه صديق أو رب عمل واستأذنه أن يضرب زوجته، غير انه تلقى ضربا موجعا من الجنود ووضع في عربة الاعتقال لتجرأه على الكابتن، قي تلك الليلة لم يبذل مجهودا فقط ضرب وتألم.
كانت والدتي قوية وجريئة ، تخلت عن الضعف الذي اعرفه ، قال لها الضابط قي الجيب : الليلة الليلة سيأتي كمال.
أجابته : ليكن ابحثوا عنه واعتقلوه.
قال : تعرفين مكانه أين هو ؟
أجابتهم: ألستم الحكومة وهذه مهمتكم
أبى في جيب آخر يوجه إليه الجنود أقذع الشتائم بصفته والد مخرب لم يحسن تأديبه.
جمال كان في جيب ثالث يستجوب ويضرب في محاولة غبية لانتزاع حرف عن مكان كمال.
في الصباح أطلقوا سراح والدي وحسن وابلغوه أن جمال رهن الاعتقال حتى يسلمهم المخرب المطلوب، تكررت زياراتهم كثيرا لم يعد أي من أهلي يخشاها، ينتظرونهم ويعدوا الأيام أن تأخروا، كسر حاجز الخوف، اعتقلوا مجموعة من أصدقاء كمال، وأفرج عن جمال بعد أسبوع بعد أن تأكدوا انه لا يعرف شيئا عن كمال، غير أن الضغط عليه استمر باستمرار طلبه لمقابلة الكابتن الذي يحمل اسما عربيا ويتحدث العربية بطلاقة ، لا يقابله،يبقيه طوال النهار طوال الأسبوع ويتكرم بمقابلته مرة ، يمارس قي نقس الجلسة الترهيب بالضرب والتعذيب والترغيب بالنقود ولا يكف عن السؤال عن كمال ومحاولة إغرائه بالعمل لحسابهم.
كمال كان في سجن العريش يجوع و يتسلل البرد من مسام جلده وينخر عظامه ويعذب، يسكن الضياع والوحدة نقسه ويتمكن القنوط ومرارة الخسران من قلبه، ويزداد كرها لحسن الذي أسقطه في الجحيم، بل هو من أشعل نيرانها دون دعوة واحدة منه بان تكون بردا وسلاما.
كان حسن يعلم بذلك ثاني يوم من خروجه، ابلغه الخونة الذين سلموه، لم يحاسبهم على فعلتهم، بل حاسبهم أوفى وعده بالمبلغ المتبقي بعد إتمام العملية.
سامح الله أبى الذي سماه حسن، حين كان كمال يأتي إلي غاضبا أو يذكره مرورا، كان يقول لي أخوك السيئ أو غراب أمك كنت أعلم عندها انه يتحدث عن أخي الكبير.
كمال كان غريبا في كل السجون كما إبراهيم غريبا في كل الدول، لم يلتقي القريبان ولم يلتقى الغريبان وما عاد كل غريب للغريب نسيب، كان كذلك في زمن امرؤ القيس وربما أزمان أخرى غير زماننا.
.ما تبقى لي أمنية: لعل كمال يتعثر بإبراهيم و يصبح كل قريب للقريب نسيب وينتهي من مخيلتي إلى الأبد امرؤ القيس وينهار جبل عسيب.



#سوسن_العطار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة : حالة فصام
- شمعتين لياسر
- قصة قصيرة: سائق تاكسي نزق
- حياتي التي اعيشها
- أحلام مستغانمي وأحلام الرجال.... عابرون في خيال عابر
- قصة قصيرة : شرفة في القمر
- الكوتا النسائية تمييز ضد المجتمع
- طفلة في العائلة


المزيد.....




- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-
- أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة
- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سوسن العطار - حالة فصام – الجزء الثاني