أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سوسن العطار - قصة قصيرة : حالة فصام















المزيد.....


قصة قصيرة : حالة فصام


سوسن العطار

الحوار المتمدن-العدد: 1025 - 2004 / 11 / 22 - 08:21
المحور: الادب والفن
    


حالة فصام

عقارب الساعة تدق، وقلبي الواهن يخفق بشدة لا تتناسب وجسدي الذي نحل بتسارع كتحلل جثة، اهرب من الساعة إلى المرآة المعلقة على الحائط الأخر، الآن أرى شبحي على ميناء عقارب الساعة، أين اهرب ؟ انظر في عيني لأول مرة منذ مدة و أحدق في شبحي الذي تحول لونه إلى اصفر قاني،
كم تبقى لي من زمن في الوطن ساعة، ساعات، يوم، ربما لحظات وينتهي كل شيء، كم بقي لي من ماؤه من هواؤه، أظن أن لا زاد تبقى فانا منذ ثلاثة أيام اجبر على تناول الكفاف لا شهية، هو الرحيل إذن أو لنقلها صراحة هو الهروب إلى المجهول إلى العدم، إلى الموت الذي ينتظر والقادم حتما.
القرار بيدك، تتوسل إلي أمي: لا ترحل، لا تذهب، سجن كباقي الشباب هي مجرد سنوات وتخرج.
تقول أختي: لا تغادر قد تسجن اليوم وغدا في أول صفقة تبادل أسرى تخرج.
يحاصرنني بدموعهن، ليس خياري الهروب و وليس بيدي البقاء، لا اعرف ماذا أريد لا أستطيع أن أقرر
هم لا يعلمون، أنا وحدي من يعلم أن مثلي إذا دخل السجن لا يخرج على قدميه أبدا ،وان مثلي إذا دخل السجن لا يخرجونه على قدميه ابدآ،دماؤهم على يدي، قنابلهم هي التي فجرتها، رصاصهم الذي كنت أحشو به مسدسي، لا يعلمون ... لو يعلمون
اجلس على البلاط البارد منذ ثلاثة أيام، تعد لي أختي ملابس نظيفة وتدعني للاستحمام، أخاف لو خلعت ملابسي ينقض علي احدهم فجأة ويجبرني على حسم قراره والرضوخ، بنطلون الجينز الأزرق وبلوزتي الزرقاء كم لها من ذكريات تعيسة معي ؟


لا زلت اجلس على البلاط البارد، بدأت أتحسس برد بعد العصر في أواخر سبتمبر الذي اخذ يغزو جسدي، سخرت من نفسي كيف سأحتمل برد الزنزانة !
تقول الطفلة: اجلس يا خال على الكرسي، إذا أردت النوم احضر لك فرشة،
قلت لا يا حلوتي اريد أن اعتاد برد بلاط الزنزانة ،تبتسم لي ،لا نفهم ما هي الزنزانة.
بدأت أختي في البكاء مرة أخرى، إذن تنوي تسليم نفسك، تشهق ولا أستطيع تهدئتها أو مواساتها،
لم اعد احتمل، صرخت فيها: لا اعلم ماذا تريدين منذ قليل لا تغادر والآن لا تسلم نفسك، لا يمكنني العيش مطارد طول العمر، قد لا احتمل هكذا حياة لو استطعت الإفلات منهم وعدم الرحيل .
جميعهم في حالة حيرة وارتباك لا تقل عني، وحسبك من أمرين أحلاهما موت:
رحيل إلى المجهول بدون هوية بدون عمر بلا بداية بلا تواصل مع ذاكرتك وسنين عمرك، تختزل من ذاكرتك، تجتث، عليك أن تنساها وتعيش كشخص مختلف عنك قد لا يروقك، وفي النهاية عدو وحرب وموت ودمار.

سجن يأكل زهرة العمر والشباب والصحة والأعصاب، ويدمر نصف خلايا مخك، ويخرجك إن خرجت عاجزا عن ممارسة الحياة، إذا تبقى منها زمنا، العودة للزنزانة ورطوبة الزنزانة، الاشيتاق لرؤية الشمس ولمس الدفء المتسلل إلى يدي، المسالة هنا ستكون مختلفة، لم اعد طالب ثانوي يرشق الحجارة في يوم الأرض، لسنا هنا مجموعة من الصبية ترشق الزجاجات الحارقة على جيب عسكري، شهر واحد فقط كدت افقد فيه نصف دماغي، كم دماغا يلزمني لأفقده، وكم عمرا يلزمني لأخرج من السجن حيا وبكامل عقلي، لا اعرف عدد قتلاهم لأعرف كم يلزمني من الأعمار، لا اعرف كم مؤبد سيحكم علي.
قال لي المحامي تدخل وزملاؤك المحكمة معترفا بالذنب، وتكمل الشهر وتخرج، ستكون تهمتك رشق حجارة فقط، سنسقط تهمة الزجاجات الحارقة، الضابط الذي أصيب لم يتمكن من تشخيص أي منكم، ماذا تقول؟ اسمع نصيحتي، شهر وتعود لمدرستك، أو تدخل المحكمة غير مذنب وتحكم ستة شهور وتضيع السنة الدراسية، سلمته أمري ودخلت المحكمة معترفا!
شعور رديء وفاسد كان علي أن ابلع ريقي عدة مرات والتردد، لم استطع النظر إلى والدي وزملائي في المحكمة، استطعت بعد دهر أن أقول مذنب، رأيت والدي يتنفس الصعداء هو الذي يعرف نزقي وعنادي، ابلغهم الصليب والمحامي أكثر من مرة أنني ارفض الصفقة، لم أكن أفكر بالسنة الدراسية حين قبلت، جل همي كان الخروج من السجن بأي شكل، أريد العودة للبيت للشارع للمدرسة، اشتقت لمغازلة بنات المدرسة الثانوية واستقبال ابتساماتهن، العودة للعب كرة السلة، الهرب من رطوبة الزنزانة وبردها، اشتقت للتدخين وسرقة السجاير من علبة أبي وأخي الكبير، والتحايل على أمي وابتزازها، وأحيانا إرضائها من اجل سيجارة وعلبة بيرة، ابتزها طوال السنة، اسمعها مواويلي التي تعرفها جيدا عن حياتي معهم: هل انتم من ربانا، ماذا تنفقون علينا:الطعام والماء تصرفه وكالة غوث اللاجئين، والملابس أيضا، نحن أبناء الأمم المتحدة، مصروفي الشخصي من توفير عملي في مطاعم تل أبيب في العطل الصيفية، وأمي تصمت أحيانا وتردد الموال معي أحيانا أخرى، طوال السنة آكل والبس وأدخن واشرب بيرة على حساب الأمم المتحدة ومن عمل إجازة الصيف في مطاعم تل أبيب، حيث أواعد السائحات بعد العمل، ويفضلني المعلم على زملائي لأنني أجيد الإنجليزية، ولأنني اسمر وسيم تفضل السائحات تناول الشراب من يديه، ويجيد مجاملتهن والسهر معهن حتى الفجر على الشاطيء.

انقضى الشهر الدهر وخرجت من السجن اشد نحافة واقل سمرة وحليق الرأس على الصفر،شعرت بأسى شديد على شعري الناعم الطويل الذي أتفنن في تلوينه ،لم يستطع مدرسي ولا ناظر المدرسة إجباري على تقصيره وها هو الاحتلال يؤدي المهمة عنهم ويجتثه .
استقبلت في الحارة استقبال الأبطال، أمي تزداد حنوا علي تمارس أمومتها معي ، أصبحت تعتني بي قبل العناية بدجاجاتها وتفضلني على ذكر البط ، تصحو مبكرة وتعد لي إفطارا لا أتناوله فانا لم اعتد ذلك ولا وقت لدي لأنني أصحو متأخرا ، ولا احمل في حقيبة المدرسة ساندويتش لأنني اذهب إلى المدرسة بلا حقيبة بدفتر واحد وقلم واحد اضعهما في جيب البنطلون الخلفي واقفز دوما عن السور وادخل الحصة الثانية ، وأفضل شراء السجاير بمصروفي إن توفر ، وأعود إلى البيت ولا يكون الغذاء جاهر ، أتناول أي شيء واذهب إلى النادي أتدرب عل تصويب السلة ولعب الحديد لتزيين عضلاتي ، أبي يتركني وشاني، حتى نهاية العام لم اطرد ولا مرة من البيت مهما عدت متأخرا ،لدرجة أن أختي ظنت أنني عقلت وشكر زوجها السجن الذي أحسن تأديبي فهي لم تستضفني في بيتها مدة .
أما فتيات الحارة فقد حصلت منهن على السلامات الدافئة والقبلات الطائرة في الهواء، وبعض زجاجات عطر وأصيص ورد ادفع لأختي الصغيرة نقودا كي تراه جارتنا معتنى به جيدا وتغدق علي المزيد من الحب،
مشاعر فياضة من الحب والحنان والدفء العائلي الذي خسرته بنزقي وتمردي منذ مراهقتي الأولى، الجميع يريد تعويضي ذلك الشهر - الدهر، إلا شقيقي الكبير، عند خروجي قال ساخرا أهلا بالبطل، لا تصدق نفسك، أرينا بطولتك في امتحان نهاية العام.
لا زلت اذكر موقفه يوم ضبطتنا الشرطة ببضاعة كنا اشتريناها من لصوص كانت دخان وعطور، لم يشك للحظة أنني فعلا سرقتها، قال اتركوه في السجن قليلا ليتأدب ويتعلم السلوك القويم، وعند خروجي بعد ثلاثة أيام رحب بي على طريقته، نعق في وجهي لعلك تأدبت وتعلمت درسا، يقيني انك ستجر علينا الويلات يوما.
تسري قراراته على الجميع إلا اثنين، شقيقتي الكبرى وحتى قبل زواجها وأنا المتمرد الآبق، الميئوس منه ذو المستقبل الفاشل حتى قبل هذا،لا احد يرده ، لا احد يقول له لا ، يقرر للجميع والجميع ينفذ.
يا للغراب كأن بيننا ثارا لم يستده بعد، كأنني احتللت أرضا تخصه وطردته منها، كأنني عبدا ابق ملزم بطاعته ولا افعل ، ولم افعل ولو كنت عبدا.

كم تبقى على اتخاذ القرار
كم تبقى على الانفصال عن الذاكرة
كم تبقى على دخول مرحلة النسيان والهذيان.
إخوة السلاح خانوا، لا مجرد خذلوا المبادئ والقسم من فرط هول الزنزانة، حتى الآن لا ألومهم فانا لا اعرف كيف سيكون أدائي على الصراط المستقيم المؤدي إلى السجن/ جهنم، هم اعترفوا وكفى من قائد المجموعة حتى آخر "شبل" اعترضت على وجوده في الخلية.
لماذا الرحيل؟ إلى أين، أين الدولة المارقة التي تقبل بي، هناك لبنان حيث المرور اليها علي المرور من بوابة الاعداء وبوابة أصدقاء الأعداء وبحر كبير والموت ينتظرني هناك،
إذن البقاء ، هناك الزنزانة وعذاب الزنزانة ، وعمر أراقب زهراته تذبل ، وسنين من جهنم علي تنفسها مع الهواء إن توفر.
انظر في المرآة مرة أخرى أحاول التعرف على الشبح الذي يطل منها علي ،من هو ؟ من أنا ؟أنا الموبوء ، أنا المخرب ، أنا ماذا تبقى لي ، ماذا أبقيت لهم بعد الآن، بيتهم سيصبح العراء ، جيرانهم يتجنبون الحديث معهم خوفا، إخوتي سيزج بهم في الزنازين حتى اسلم نفسي أو اعترف لو هم اعتقلوني ، وربما يتعرض للاعتقال والدي العجوز ووالدتي ،تفتيش، كبسيات ليلية استدعاءات و.... تنغيص يومي لحياتهم.
من أنا ...أنا البطل المهاب، أنا الأستاذ منذ قليل، قدوة الأطفال وزير فتيات الحارة، لم أكمل دورة الحب معهن، لم أكمل رسائلي إليهن، لم أرسل بعضها، لم أتلق منهن هدايا عيد ميلادي هذا العام بعد، لم افرغ زجاجات عطري بعد، لم أوزع كل ابتساماتي مع قبلاتي الطائرة عن بعد إليهن، صدقاتي عن شبابي ووسامتي، طريقتي الخاصة في شكر الله على نعمه ويبدو أنها لن تدوم،
لم أجرب ملابسي الجديدة لحفل زفاف شقيقتي لم... و لم.. ما أكثر ما في جدول حياتي فكل ما عشته حتى الآن جموح ومغامرات وبضع عشرين سنة وأخرى لم تكتمل بعد.
لم أكمل تعبئة طلب العمل في الخليج، قد تخرجت توا من دار المعلمين، وعلي الرحيل لممارسة مهنة أخرى غير التدريس أراها مهنة الموت أو الموت ولا أريد ان أموت.
أليس هذا ما تخيرت لنفسي، الست أمارس مبادئي، أليست هي الثورة التي تعشش بداخلي، هو النضال وشعارات دحر الاحتلال... وكل ما أؤمن به، ما كنت احسب أن زمني قصير هكذا.
اعترفت للتو لامي وتحت ضغط دموعها بجزء من التهم، بهتت لنت منظم وصفقت يديها: يا للعذاب الذي ينتظرك! يا لهول ما ينتظرنا!
هل ألوم رفاقي، هل سأصمد كما لم يفعلوا ، أنا الذي اعترف تحت ضغط دمعتين ، هل سأصمد تحت سوطين ، وتحت شبح وكيس في الرأس يصل حتى الكتفين ، ونافورة ماء هادئة مسترخية ليست في عجلة من أمرها تسقط على راسي قطراتها قطرة ... قطرة... بعد قطرة بعد قطرة ، ساجن وسأفقد نصف عقلي.

أصيخ السمع إلى الشارع في انتظار إحدى عربتين ، عربة الجيش التي ستأتي لاعتقالي ، عندما يبلغهم جواسيسهم عن مكمني أو عربة الرحيل التي ستفصلني عن الوطن
من تأتي أولا.....
تخيلت للحظة أنني اسلم نفسي واجتاز التحقيق إلى المؤبدات التي سأعرف منها كم جنديا خسروا في العملية ، أحاول ترتيب مؤبداتي هل املك خيارات ، كيف سيكون عمري هناك ، كم سجينا حافظ على اتزانه النفسي والعقلي ، وأنا الذي يعلم تماما أن روحي سريعة العطب وأعصابي قابلة للخدش والاستفزاز السريع ، هل ساكون مثل جارنا احمد الذي يتجشم أهله مشاق السفر إلى السجن الصحراوي وعندما يصلوا يبصق في وجههم ويرفض رؤيتهم دون خطيبته التي طلقها بإرادته بعد النطق بالحكم مباشرة و التي أصبحت زوجة غيره وأم أولاده ، أم مثل جارنا سعيد السعيد في مؤبداته، هو الأخر يتجشم أهله مشاق السفر وعندما يصلوا السجن يكتشفون أن لا زيارات له وانه في الحبس الانفرادي للمرة كذا على التوالي .
وان اجتزت البحر ووصلت إلى لبنان سأكون على راس أول عملية تنطلق من الجنوب اللبناني وتقتحم شمال الوطن المحتل وإما الأسر أو الموت .
ما الأفضل الرحيل؟ أم السجن؟

سأسلم أمري إلى الله وانتظر، سأكون سلبيا مستسلما، مهزوما مستكينا على غير عادتي، أضع قلبي وعقلي إلى جانبي واسند راسي ربما للمرة الأخيرة في بيت أختي وأراود النوم المستعصي المتمرد علي في انتظار ما اعلمه جيدا......
هو ليس نوم أو شبه صحو، حالة عشتها كثيرا، اقرب إلى السكر على جوع وحزن، غمامة من الهذيان تطوف براسي تشق دماغي، أصوات لا اعرفها ... صوت اعرفه افيق فزعا، أتنفس الصعداء، لم يحضر احدهم، هو صوت شقيقتي تدعوني للمرة لا اعلم للطعام، اتركيني لا أريد، لا أستطيع أن ابلع، جفاف في فمي وفي حلقي،
تهاجمني الطفلة، تخرمش وجهي وتضرب خدي وتشد شعري : انهض أريدك أن تأكل لأشرب معك الشاي ونلعب.
مضطر للابتسام للملاك الذي لا يدري، الوجه الوحيد الضاحك منذ أيام، كلها وجوه كالحة مسودة عابسة، تستعد للاسوا القادم حتما، تدعوني منذ ثلاثة أيام للعب معها ومداعبتها، أحيانا اضغط على نفسي واستجيب، هي لعبتي الصغيرة ،أناديها دوما عروستي ،تلاعبني الملاكمة وتغلبني ، عودتها أن أموت بالضربة القاضية تحت سطوة لكماتها الناعمة ، احملها على كتفي وألف بها البيت كله لأعلن انتصارها علي ، وهي ترفع يديها للأعلى منتشية تتقبل تحية الجمهور وتصفيقه،وعندما انزلها عن كتفي تهرب لحضن والدتها كي لا استد ثأري قبلات وقرصات على خديها قد تؤدي إلى بكائها و غضب ابيها، كثيرا ما تسال أمها عن أبيها الذي ترك البيت يوم دخلته محتميا ، يدعي انه تشاجر مع زوجته وترك لها البيت ، يخشى عواقب وجودي في بيته ، لا يجرؤ على طردي خوفا من التنظيم ولان شقيقتي لا تسمح بمجرد التفكير في ذلك.
لو يمهلوني قليلا لاودع من أودع، ولأعتذر لأبي عن شقاواتي، واقبل يد أمي بدون سخرية كما افعل يوم العيد فقط، لو يمهلوني لأسوي بعض أمري مع أصدقائي، وأوزع ما تبقى من ابتسامات –لم تعد كثيرة- علي بنات الحارة، ليست صدقاتي، ستكون ابتساماتهن هذه المرة المشفقة والحزينة علي والمغلفة بدمع اعلم أنه من القلب، ستكون صدقاتهن لفتى أصبح عابر سبيل، عن شباب وجمال قد لا يجد من يقدره بعدي ،اعلم انهم لن يمهلوني لبعد العيد ولن يمهلوني للصيف القادم لحضور حفل زفاف شقيقتي لو.. لو..

جلست على البلاط البارد مرة أخرى، بنطلون الجينز والقميص الرمادي بكم طويل، علها تقيني البرد لو حصل احد الأمرين فجأة، آكل إن أكلت على عجل، امسك كوب الشاي وأتوقع ألا أكمله، بي رغبة شديدة لرشف الشاي والاسترخاء أمام التلفزيون ومتابعة حلقات مسلسلي المفضل دالاس، مؤكد لا شهية لاستقبال الأصدقاء، سأرسل اختى الصغيرة لتخبرهم أنني غير موجود.
ادخل الحمام واستحم على عجل شديد، ارتدي ملابسي كلها داخل الحمام، تركت عادتي الرديئة بالخروج عاريا إلا من منشفة صغيرة تلف وسطي، والدي ليس هنا لاستفزه بذلك وأتلقى لعناته وغضبه بالضحك والتعليقات السخيفة، لماذا افعلها الآن، لن تمر ببيت أختي إحدى بنات الجيران وتراني استعرض جسدي الرياضي وعضلاتي، لا استعراض بعد الآن إلا لقوة القلب ورباطة الجأش التي اعترف أنني لا املك منها الكثير،بأي قوة كنت أتسلح حين ألقيت القنابل واشتبكت معهم قبل صدور الأمر بالانسحاب من قائدنا- الذي اعترف هو الآخر- كان ينتظرنا على بعد قليل بالسيارة التي أوصلتنا المكان وأعادتنا إلى المخيم، لم يدم الاشتباك طويلا، كان الجيب يشتعل والجنود بداخله يصرخون، توقف إطلاق النار من قبلهم أولا، الجندي الذي قتل على الفور هو الذي حاول الخلاص والخروج من الجيب، لم يحتمل النيران في الجيب، عاجلته برصاصة في رأسه، تمكنت منه على ضوء اللهب المشتعل.
كمنا للدورية في شارع صلاح الدين، الشريان الرئيسي لقطاع غزة، اجبرنا الجيب علي التوقف بعد انفجار إحدى إطاراته نتيجة مسامير زرعناها على الطريق، كان بحوزتنا ثلاث قنابل يدوية من صنع إسرائيلي، لكل منا واحدة، علينا إصابة الهدف وبالذات القنبلة الأولى، إذا اخطات الهدف تمكن منا الجنود وفشلت على الأقل العملية، هذا إن لم يلق القبض علينا بسهولة، وبصفتي لاعب سلة أجيد التصويب، ألقيت القنبلة الأولى وكان يمكن أن تكون كافية، ولكن زملائي عليهم أن يشاركونني مجد النصر في العملية فالقوا قنابلهم، واعترفوا في التحقيق أن المجد مجدي أنا وحدي وان من ألقى القنابل وأطلق الرصاص هو أنا، وهم مجرد مرافقين،هل ألومهم، ليس بعد خوض غمار التحقيق، والخروج منتصرا على الزنزانة و الجلاد، ما قالوه عن فترة التحقيق يشبه عذاب القبر، يمتد من لحظة الموت حتى قيام القيامة، التي تودي بأمثالي إلى جحيم مقيم، وعذاب القبر- التحقيق ليس كله مباح للعلن، هناك أشياء تمتهن الرجولة ولا تستطيع الرد عليها أو مناقشتها مع أصدقاءك ، عليك أن تبتلعها وتصمت وتعيش باقي عمرك في محاولات فاشلة للتغلب على أثارها المدمرة ، ولا تفكر أبدا في نسيانها ، هي رابضة في الذاكرة غير قابلة للنسيان،في القبر لا يمتهنون رجولتك فقط يحاسبونك على ما اقترفت.
أغوص في صحوي وفي سكري مرة أخرى، الآن ينفصل جسدي عني، أراه يحلق يصطدم في سقف الغرفة وينزل ثقيلا كاسفنجة متمهلة، ويصعد مرة أخرى ببطء وينزل، أحاول الإمساك به ولا أستطيع، يحاول النفاذ من السقف ولا يستطيع، يتفكك في الهواء ويبقى معلق فيه كمحلول غروي، يتجمع مرة أخرى ويحاول الصعود بل الهبوط، يبقى معلق.
صوت لا يخفى علي، صوت أمي وصوت أخي الأكبر، تصرخ في وجهه لا أريد له الرحيل، السجن ارحم، نبقى نزوره ونتردد عليه،
يرد أخي لا وقت لدينا، الأمر تم.

كيف لم اسمع صوت عربة ؟، استعيد جسدي وأقف على قدمي فزع،انظر إلى المشهد الأخير من حياتي الحاضرة في الوطن،
أمي تبكي بصمت، أختي تشهق، ابنتها حائرة لا تدري ماذا يدور حولها، أخي الكبير يزداد لونه اسودادا وعيناه الجاحظة احمرارا، عبوس وكآبة وفوضى ودموع.
هو الرحيل إذن...
تتمسك أمي بقميصي وترجوني ألا اذهب:لا تذهب لا تحرمنا منك، ستحرم حتى رؤية هذه الطفلة الصغيرة
بدأت بلوم أخي على ما يرتب وترجوه أن يلغي الموضوع، يقول لها بنزق: قولي له هذا الكلام، هو الذي اجبرنا على ذلك، بعد قليل سنجر كلنا إلى الزنازين، وستهدم بيوتنا وهو المسئول.
لا زال هذا الغراب ينعق في وجهي ويلومني،
تقول أختي في محاولتها الأخيرة لإقناعه: من قال لك أن المصريين سيحمونه، أنسيت معاهدة كامب ديفيد لا زالت طازجة لم تمر عليها 3 سنوات بعد، أنسيت ما فعلوا بجارنا رغم أن أمه مصرية حين هرب عندهم، أنسيت كيف سجنوه وعذبوه ومنعوا أخواله من رؤيته، وعند ترحيله إلى لبنان اجبروه أن يشحذ ثمن تذكرة الطائرة من طلبة الجامعات الفلسطينيين في القاهرة، أنسيت ...
يقاطعها صارخا ويقول: هذا مختلف، الشعب المصري لا يزال عربي ، هو مجرد سلام حكومات
- من قال انه سيكون في حماية الشعب، سوف تتلقفه الشرطة وحرس حكومة كامب ديفيد
- يقول كفاك دروسا ليس أوانها

لا وقت للوداع هيا

العربة كانت تنتظر قبل الغروب بقليل، اثنان من بدو سيناء في شاحنة، رتبت معهم مسالة تهريبي إلى العريش، يعدون برعايتي حتى تسليمي لمن سيقوم بتهريبي إلى لبنان بحرا، وكان أن تركوني في العريش في العراء وأرسلوا الشرطة المصرية لاعتقالي ،سجن العريش حلقة من الجحيم في طريق الجحيم.

في لحظة الفصام انقلبت أختي إلى لبؤة شرسة تصرخ في وجه أخي وتقف كسد تحاول أن تحميني منه،
- 1ذن المسالة جد، لن ادعك تأخذه، من أنت لتقرر مصيره، سانشب أظافري في وجهك لو اقتربت منه أكثر، أمي لم تعد تقوى على الوقوف، أصيبت بفشل في الركب وخارت على الأرض
أفقت من غيبوبتي القصيرة على صوت صفعة على وجه أختي، وصوت أخي ينعق في وجهها: ابتعدي،
تتحداه أكثر: لن ابتعد، لن ادعك تأخذه،
تتوسل إلي وتقول: ارفض لا تذهب معه، هو يخاف على نفسه فقط،
وأنا كطفل يقف حائر بين أمه وأبيه لحظة طلاق، يشدها من ذراعها ويلقي بها أرضا،
أمي الضعيفة المسكينة تمارس عادتها، الهزيمة عند أول مواجهة، أختي الشرسة اللبؤة ذات الشخصية الطاغية، شقيقتنا الكبرى الوحيدة التي لا تسري عليها قرارات أخي حتى قبل زواجها الذي تم دون رضاه، لا تستسلم بسهولة، وبعد أن ترفع الراية تنهار وتحتاج جيلا لتتعافي وتستعيد جزءا من قواها التي استنفذتها كلها في المعركة.
لا زال يرن في أذني بكاء الطفلة التي لم أجرؤ على وداعها، لو نظرت في عينيها مباشرة لربما رفضت الرحيل ولذلك لم انظر، لأنني سأرحل مرغما بكل الأحوال،حدثتني نفسي لبرهة أن ارفض لو قلت لا لن يجبرني احد فالجميع إلى جانبي ولكن ثم ماذا ؟ اسلم نفسي للزبانية أم انتظرهم بصدر رحب ، هل اهرب وأتوارى؟ أين؟ لا غابات ولا خرائب ولا كهوف تاويني ، هل اخرج فورا في عملية أخرى أموت فيها ، أنا الذي لم يشبع من عمره بعد لا أريد الموت لم يكن يوما في قائمة خياراتي ، المسالة محسومة قلت كمن ينفذ قرارا هو خياره :كفى أنا خارج معك وخرجت.
سأخرج من بيتهم من عمرهم، لعله يكون أكثر استقرارا واقل ايذاءا برحيلي، لعلي اخفف وطأة العذاب عنهم، وأجنبهم شرورا لا ذنب اقترفوه لتطالهم،هل علي أن اشعر بالذنب لأجلهم أنا الذي كان يؤدي خدمة العلم نيابة عنهم، هل علي أن اطفي شموعي عندما يقررون النوم، واحبس عصافيري لأنها تزعجهم في الصباح الذي لا يعلمون كيف تكون شمسه، يريدون النوم ساعة أكثر ليس أوان البلابل، اهل الكهف الذين لا يجيدون سوى النوم.



#سوسن_العطار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شمعتين لياسر
- قصة قصيرة: سائق تاكسي نزق
- حياتي التي اعيشها
- أحلام مستغانمي وأحلام الرجال.... عابرون في خيال عابر
- قصة قصيرة : شرفة في القمر
- الكوتا النسائية تمييز ضد المجتمع
- طفلة في العائلة


المزيد.....




- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...
- اصدار جديد لجميل السلحوت
- من الكوميديا إلى كوكب تحكمه القردة، قائمة بأفضل الأفلام التي ...
- انهيار فنانة مصرية على الهواء بسبب عالم أزهري
- الزنداني.. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان
- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سوسن العطار - قصة قصيرة : حالة فصام