أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 1033 - 2004 / 11 / 30 - 10:55
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في برنامج حواري بثته قناة المستقلة، مساء يوم 21 تشرين الثاني 2004، طل علينا قوميون عرب من بلدان عربية مختلفة، الدكتور محمد المسفر من قطر، والأستاذ هارون محمد من العراق، والسيدة سميرة رجب من البحرين، وهم نخبة عربية تعمل في مجال الثقافة والفكر والإعلام، أمتلكتني الدهشة حين وجدتهم يلعنون احتلال العراق، ولكنهم مقتنعون باتفاقيات التواجد الأمريكي في دول الخليج، يتوحدون في التحريض على أعمال عنف يذهب ضحيتها الأبرياء من العراقيين قبل غيرهم، تسعى لإشاعة الفوضى واللااستقرار، تستهدف محطات توليد الكهرباء، وتصفية المياه، تنشر الحرائق لتبديد الثروات الوطنية، وتمارس تلك الشائنات زوراً تحت لافتة مقاومة المحتل من وراء اللثام من قبل فلول النظام البائد، ومناصريهم ذوي القلوب المتحجرة الوافدين من خارج البلد، من أجلاف التفخيخ، وعتاة المجرمين الذين وجدوا في هذه الفسحة مناخاً مناسباً لنوازعهم المريضة.
انطلاقاً من مبدأ الرأي والرأي الأخر، وثقافة الاختلاف التي أطمح أن تتسع الصدور لها، وأن لا تفسد للود قضية، مع كوني لست بصدد الرد على كل ما طرح ودار في تلك الندوة، ولكن ما أثارني بحق، وجعلني أرثي حال نخب الفكر القومي التي تحاول أن تزم الأمور على هواها، وتسوق المواقف وفق مصالحها، عبر ما رأيت من منحى تتوافق عليه جميع الطروحات، وبالذات حينما توحدوا في الإعلان عن موقف الرضا حول اتفاقيات تجيز تواجد القواعد الأجنبية (للشيطان الأكبر) في الاراضي العربية، متناسين الف باء الفكر القومي عندما راحوا يشرعنون التواجد الأمريكي في دول الخليج، ويتغاضون عن كونها منصات انطلق منها الهجوم على العراق العربي (البوابة الشرقية آنذاك)، فذلك يعني بأن دورة الزمن قد جعلت كل شئ قابلاً للمط والتجزأة، حتى الثوابت والمبادئ، مما ينذر بأن داء الكيل بمكيالين الذي توسم به الشريرة امريكا، قد استشرى ووصل الى مدارك النخب العربية، وخصوصاً عندما تشيح هذه النخبة بنظرها عن فتاوى حليف الغفلة بخصوص محاربة الكفار في جزيرة العرب، وترفضها باعتبارها ارهاباً، ولكنها تتمسك بها في حال العراق، وتجعل تقافزهم اليه نصراً، تحاول أن توظف كل إمكانياتها لإقناع الملأ عبر الأثير، بأن لا ضير ولا جناح إذا ما وقفت اليوم مع فتاوى الظلاميين التي يجيزون بها ذبح العراقيين على يد البدو الأجلاف، بالسيف العربي الصدئ.
هكذا إذاً يتم تبرير وتسويق التواجد الأمريكي في الدول العربية، بحجج واهية (لان هنالك اتفاقيات دولية)، ولم يقف الرضا العروبوي الى هذا الحد بل يضيف عليه أحد الحاضرين عبارة تجميلية، (مادام الشعب راضياً)، ترى هل حقاً إنكم تناسيتم أن هذه الدول قد ضربت عرض الحائط ما خرجت به قمة بيروت 2002، من أن الهجوم على العراق هو هجوم على كل الدول العربية، أين ذهبت عن بالكم، اتفاقيات الدفاع العربي المشترك التي تناستها الأنظمة العربية قبلكم في مؤتمر القمة في شرم الشيخ 2003، حينما عقد على عجل في أجواء الترقب، قبل شهر تقريبا من الهجوم على العراق، ولم تخطر على بالها تلك المدونات من الوثائق، وفضلت عليها الالتزام بالاتفاقيات مع أمريكا التي تستسيغونها اليوم، لماذا غضضتم الطرف حينما شرعت دول العربية فاتحةً فخذيها عن طيب خاطر، تستقبل طلائع القوات العسكرية الأمريكية، أين كانت فتاوى جهادكم آنذاك أو عندما قامت دول مجلس التعاون الخليجي بتحريك قوات درع الجزيرة التابعة لها الى الكويت قرب الحدود العراقية متناغمة مع المتطلبات الأمريكية، وما كان ذلك طبعاً لإشراكها أو فاعليتها القتالية في الحرب، وإنما لدورها الإعلامي في تغطية وتمرير خيار الحرب الاستباقية على العراق.
ندرك جيداً بأن هذه المواقف والآراء التي تتبنون اليوم، بعيدة عن حقيقة واقع العراق الجريح، ملتبسة، متناقضة مع نفسها، قد جاءت متأخرة، وتفسير ذلك لا يحتاج الى مشقة، لان هذا الخندق يتيح لكم إمكانية الدفاع عن المشروع القومي المأزوم في فضاء العرب، والمهزوم في العراق، قلعته ما قبل الأخيرة، من خلال تجيش العواطف لا العقول، واجترار الأفكار والرؤى العائمة الفضفاضة، المستندة على أرضية هشة كما الرمال المتحركة، التي أفضت بقضية الأمة المركزية في الماضي القريب الى كامب ديفيد، واوسلو ووادي عربه، والى حالة الوهن والتشتت المزمنة، فعلى مدار الزمن الفائت، ساهمت تلك المواقف والآراء في طقوس التنويم القسري، ومازالت الى اللحظة الراهنة تبارك بخواء وفاضها سنن الاحتراب وقيود التكبيل وأوهام التغريب ومراسيم التغيب.
وهنا أود أن أضع طروحات هذه النخبة المرسومة في أخيلة أصحابها بوصفها متعالية على الأحداث، وحينما يصور أنها تعبر عن منطق الوعي الجمعي، مثلما فعلت سميرة رجب بأحكامها بالنيابة المطلقة عن الآخرين، أضعها أمام ما يشخصه المفكر علي حرب في كتابه الأختام الأصولية والشعائر التقدمية، (مصائر المشروع العربي الثقافي العربي)، في الصفحة 140 في فصل المزاعم النخبوية، عندما يذكر جوانب العائق النخبوي الثلاثة بالنص (الأول: اعتقاد شريحة من الناس هم العاملون في القطاع الثقافي، أنهم يجسدون عقل الأمة وصفوة البشرية، والثاني: ممارستهم الوصاية على القيم العامة المتعلقة بالحقيقية والحرية أو بالعدالة والمساواة. والثالث: ادعائهم امتلاك مفاتيح الخلاص والسعادة من خلال مشاريع للإصلاح والنهوض أو للتحرير والتغيير أو التنمية والتقدم).
ستبقى تلك الأفكار في مثابات الوهم والمغامرة تحارب طواحين الهواء، ما لم تخرج من سوح النضال المتهالك، وعقلية الإحباط المستوطن جراء تتابع الهزائم والانتكاسات، فنرى ما يورده حرب بعد ذلك بالنص (هذا الدور النخبوي فقد مصداقيته، وبات من عوائق الفهم لمجريات العالم، بل أمسى مصدراً لعقم التفكير الخلاق وللإخفاق في مجالات العمل وعلى ساحات النضال، ربما كان الدور النخبوي فعالا منذ عقود. ولكنه قد استنفذ اليوم راهنيته، بعد أن استهلكت الشعارات وانكشف زيف المواقف، في ضوء ما يشهده العالم من التحولات الهائلة والطفرات المفاجئة أو في ضوء ما تكتبه الوقائع الصارخة من النهايات الفاشلة للنظريات السائدة والمشاريع المتداولة منذ عقود).
ما عدنا بحاجة للتنظيرات التي تؤسس وهماً لاستعادة مجد زائف، ولسنا نحبذ خوض تجربة استنساخ بطل أسطوري فذ، فتلك محطة قد لفظت، ودفعنا أثمانها باهضة، خراباً واحتلالاً، فتملي الواقع والحال، أجدى من المكابرة، والقفز على الزمن بطنين الشعارات، ذلك ما أراه متناغماً مع ما يتطرق اليه حرب في الصفحة 142 بالنص(من باب أولى أن تكون هذه حال النخب في العالم العربي، فقد تعيشوا في الغالب على فلسفات ونظريات وادلوجات مبتكرة، لم يستطيعوا تطويرها أو تجديدها، بل هي استحالت في عقولهم وممارساتهم الى سجون فكرية أو الى شعارات خاوية تنتج أضدادها).
بشكل عام هنالك أسباب عديدة أدت الى الاختلاف والتباين مع الموقف الذي يتوافق عليه غالبية العراقيين في طريقة التعامل مع قوات الاحتلال، وعلى وجه الخصوص السبل والكيفية الواجب انتهاجها لإنهاء الاحتلال، وبالذات في خيار مقاومة الاحتلال بالطرق السلمية واللاعنف في هذه المرحلة، كأولوية وطنية، وبالتحديد في الوقت الحاضر، متزامنة مع بذل أقصى الجهود لدعم سيرورة العملية السياسية الجارية في البلد، والنهوض بإعادة أعمار البنى التحتية، ومهام استتباب الأمن والأمان والاستقرار، لإخراج البلد والبشر، بأسرع وقت، وأقل تكاليف، من عناء المكابدات في هذا المنعطف التاريخي الحرج، حتى يتم بذار المقومات الأساسية في مختلف الصعد، السياسية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية لتأسيس وترسخ مسار النهج الديمقراطي، الأفق المعلن والمتفق عليه من معظم أطياف ومكونات الشعب العراقي، ولعل من أهم أسباب نشوء التباين والتناقض في الرؤى والمواقف، على افتراض حسن النوايا، يعود الى تناول وقراءة مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق، كحدث مجرد قائم بذاته، من دون متعلقات، منفصل عن جذوره وخلفيته الماضية، وحيثياته ومعطياته الحاضرة، وأفاقه وتبعياته المستقبلية، لذا فأن ما سيبنى على النظرة المجردة من تحليلات ومواقف، حتماً ستكون واقعة تحت رحى التسرع والتسطيح وقصر النظر، وبالتالي الابتعاد عن الواقع الفعلي لمجريات الحدث، مما سيؤدي في الأخير الى الانجرار وراء منهجية القياس على القرائن، والانحسار في أطر مسلمات اليقين الراسخ، سواء كانت أدياناً أم أيديولوجيات، تلك التي تحتمل العديد من الوجوه، والقابلة في نفس الوقت على استنباط العديد من التأويلات المتناقضة، التي تبتز بها المواطنة العراقية الآن، ويجري توظيفها على الدوام من المزايدين كي تضفي هالة من القدسية والثورية، على أرائهم الخلافية مع توافق أغلبية العراقيين، وهي لا تشكل أكثر من شعارات تحاكي العواطف والمشاعر، مبهرجة باعتبارات معنوية غير واقعية، تشهر من قبل البعض لجلد العراقيين، بسياط التخوين والعملنة، ومن قبل البعض الاخر أجلاف الحقد والغل والتصحر، لإشاعة التقتيل بالمفخخات وغدر الاغتيالات.
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟