أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - أطوار قصة قصيرة















المزيد.....

أطوار قصة قصيرة


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 3457 - 2011 / 8 / 15 - 16:13
المحور: الادب والفن
    


أطوار

ـــــ 1 ــــ


كانت زوجتي قد لاحظت ما طرأ عليّ من تغيير منذ تسلمت الجريدة الى لحظة هممت فيها بمغادرة مكتبي. لأجل ذلك صاحت بي بجزع وهي تلوّح لي بالجريدة:
ـــ هل لك صلة بصاحب الصورة؟
قلت و انا أنتزع منها جريدة "الصباح".
ــ أجل و لكن ليس كما تعتقدين.
كانت تتبعني و انا أسرع نحو المصعد حين كرّرت عليّ السؤال:
ـــ طمأنّي.. أرجوك.. هل لك صلة بالإرهابي صاحب الصورة؟
كانت دفتا باب المصعد تغيبّان زوجتي حين صحت فيها بصبر نافذّ:
ــ سأخبرك بكل شيء دعيني الآن .
كان لا بدّ لي ان اخلو بنفسي حتى استوعب ما حدث.. اتجهت الي أسفل العمارة.. أخذت سيارتي ثم انطلقت شاقا شوارع تونس العاصمة.. حال وصولي الى حديقة البلفيدير، إنتقيت مكانا قصيّأ.. جلست بجانب بركة ماء.. ثم أرخيت لخيالي العنان.


ــــ 2 ـــ

منذ خمس سنوات تعرفت على نور الأسود ( صاحب الصورة) . . كان ذلك خلال تردّدي أيام السبت و الأحد، على نادي كرديّ قليل الروّاد، لنقل شبه مهجور، يقع في شارع بور قاتا في أوسلو عاصمة النرويج، و يوفـّر أكلات شهية و رخيصة الثمن، كما يوفـّر لي ــ و هذا الأهمّ ــ مكانا يشعرني بالإنتماء في هذا الخضم النرويجي المتلاطم من الشعر الأشقر و الوجوه الشاحبة و السحنات المكفهرّة .

لأكثر من سنتين، ظللت أبادل نور الأسود ـــ أكثر الرواد حضورا و أقلهم كلاما ــ تحية مقتضبة، غير انني لم أشأ تجاوزها إلى أكثر من ذلك.. فقد كان يفوقني سنا، كما كنت أفوقه تحفظا،هذا بالإضافة الى تهيّبي الشديد من بدء علاقات جديدة قد تشغلني عن تحصيلي العلميّ الذي تغرّبت من أجله..

كانت قد بقيت لي سنة جامعية واحدة انهيها بسلام لأرجع بدكتوراه تعزز

مكانتي الوظيفيّة، حين فاجأني تسونامي عائلي أستهلّ بوفاة والدتي التي كانت تشرف على إدارة مصنع لنا، و ثنّى بخيانة صهري باختلاساته المتكررة التي أزعجت والدي، و حملته على الإلحاح عليّ بترك جامعتي و الرجوع الفوريّ الى أرض الوطن، تحت طائلة التهديد بغضبه عليّ إلى يوم يبعثون.
" لم التغرّب في النرويج، و في إمكانك الدّراسة في تونس؟" هكذا كان يصرخ فيّ عند كل مكالمة، حتى حملني على أخذ قرار عودة شفعته بقطع تذكرة رجوع نهائيّ.

قبل رحيلي بساعات قليلة، لذت بالنادي الكردّي، كان ذلك صباح يوم أحد مزعج.. ما أن جلست على أقرب أريكة، حتى تقدّم منى النادل الكرديّ الوسيم أرسلان، سلمّ علي ثم ناولني بطاقة هويتي:
ــ لقد أسقطتها ليلة الأمس و أنت تغادر.
أضاف أرسلان وهو يشير الى حيث جلس نور الأسود.
ــ عثر عليها الأخ نور.
كنت مجبرا علي التوجه نحو الرجل لشكره.
حين اقتربت منه هبّ واقفا.. قدّم لي نفسه:
ــ نور الأسود تونسي ناج من محرقة السّابع من نوفمبر87!!
حييته معلقا:
ـــ أشرف عبد القدير لاعن أبديّ لصانع التغيير!
عقّب عليّ نور الأسود ضاحكا:
ـــ لأول مرّة اسمع تونسيا غير لاجئ يتكلم بمثل جرأتك..
قلت له مقاطعا:
ــ كنت اعتقد أنك مصريّ.
ردّ ضاحكا:
ـــ و أنا ظننتك عراقي.
تابع نور الأسود وهو يزيح صحيفة مفرودة على اريكة بجواره:
ـــ لن يفهمني أحد لو تكلمت بلهجتنا التونسية.
قلت موافقا:
ــ صحيح فقد اكتشفت شخصيا مدى غموضها.
ــ تفضل اجلس.
مما شجّعني على الجلوس، رحيل وشيك سيجنّبني علاقة جديدة.. كما شجعتني حماسة نور الأسود و حفاوته البالغة بي، على إطالة الجلسة، خصوصا وقد وجدت بعض أفكاره تنسجم مع أفكاري، الى درجة ألفيت نفسي أسرد عليه معاناتي الشخصية و أوجاعي النرويجية و أشجاني العائلية.. و حين افضيت له بما يكابده والدي من وحدة قاتلة و آلام نفسية حادة نتيجة وفاة و الدتي و خصوصا خيانة صهري، نصحني بالإستعانة بخدمات صديق قديم له يدعى نذير حمدي ( مفتش شرطة سابق) يشتغل
محاسبا .. ناولني رقم هاتفه الثابت وهو يبشرني :
" سيمثل صاعقة حقيقية على هامة صهرك المختلس، فنذير حمدي هذا، ماكر و شديد الذكاء" و حين اخبرته باستعجالية الوضع، وعدني بالإتصال به في نفس الليلة، حتى يحيطه علما بالقضية و هوامشها.. بعد ذلك و دّعت نور الأسود معانقا، و كلانا يكرّر صادق أسفه و كبير حسرته لتأخّر معرفتنا ببعض، ثم تركته و في حسباني انه الفراق الأبديّ، خصوصا و قد أخبرني بأنه قد سئم المناخ النرويجي القاتل، و سينتقل قريبا الى الجنوب الفرنسي كي يكمل أيامه هناك.

في ليلة سفرى اتصل بي والدي.. فور شكواه لي وحدته القاتلة ومعاناته الشديدة، وافيته برقم نذير حمدي، ثم تمنيت له ليلة سعيدة، في انتظار لقاء تونسيّ يجمعنا غدا.

في ظهيرة الغد، و قبل التوجّه إلى المطار، أحطت علما بأنّ كافّة الرّحلات الجويّة قد ألغيت إلى أجل غير مسمّى، بسبب الغبار المتطاير الذي سببه البركان الذي انفجر حديثا في استراليا..

في الوقت الافتراضي لوصولي الى تونس، خابرت والدي. ما أن فرغت من تبليغه بما جدّ من أحداث بركانية حالت دون رجوعي الى ارض الوطن، حتى أخبرني بأنه التقى نذير حمدي و أعجب كثيرا بقدراته المهنية و البوليسية معا" تصوّر يا بني، لقد رضي الخائن من الغنيمة بالسّلامة، بعد أن شدّد عليه السيد نذير حمدي الحصار، و هدّده بأكثر من دليل يودعه السّجن، حتى أجبره أخيرا على إمضاء تعهّد بإرجاع كلّ الأموال المختلسة على آخر ملّيم".

مرّ اسبوع كامل في انتظاراستئناف الرحلات الجويّة، أنفقت معظمه في التردّد على النادي الكرديّ و الإستمتاع بمجالسة نور الأسود.. ذات يوم سألني الأخير بعد أن شكوت إليه الوحدة القاتلة التي يكابدها الوالد:
ـــ قل لي متى توفيت الوالدة؟
ــ منذ أربعة أشهر.
سكت قليلا، ثم أضاف مستنتجا:
ــ لو كان الوالد يريدك لشخصك، لسارع باستقدامك فور وفاة الوالدة.
ــ ماذا تعني؟
أجابني بين ضحكتين:
ــ الحاج يريدك أن تزوجّه!
ضحكت كثيرا لما ذهب إليه نور الأسود، لكنه واصل بجدّ :
ــ ما رأيك في إصابة عصفورين بحجر واحد؟
ــ يعني؟
ــ تزويج الوالد و إكمال دراستك!
قلت حالما:
ـــ يا ريت... هذا حلم جميل.
خبط نور الأسود على طاولة كانت أمامنا ثم قال:
ــ و أنا كفيل بتحقيقه!
ــ كيف ذاك.. جعلت فداك؟
تناول نور الأسود رشفة من كوب قهوة سوداء بلا سكر ثم اعلن باسما:
ــ نفس الكلمة السحرية ... نذير حمدي!
سألته متعجبا:
ــ هل يدير وكالة تزويج أيضا؟
ضحك نور الأسود ثم أجاب:
ــ كلا... بل له شقيقة.
سكت قليلا .. حلّق بعينية في فضاء النادي، ثم شرع يترنم :
ــ " لها مقــــلة لـو أنها نظــرت بها.
إلى راهــب قد صام لله و أبتهل
لأصبح مفـــتونا معنّى بحـــبها
كأن لم يصم لله يوما و لم يصلّ"
قبل أن أعلق بشيء واصل بحماس:
ـــ هي في سن الثامنة أو التاسعة و الثلاثين.. مات زوجها منذ سنتين .. جميلة جدا و متدينة و ذات خلق.. و هذا جيّد بالنسبة لأبيك ..
ـــ ...
ـــ ثم انها عاقر .. وهذا جيد بالنسبة لك!
ـــ ...
ــــ ستسلب عقله دون أدنى ريب، خصوصا و قد أعلمتني ان الوالد بصباص، و من المدمنين على المسلسلات التركية المدبلجة!!.
ما ان نطقت ب " يا ريت " حتى اخرج هاتفه الجوال.. نقر عليه..انتظر قليلا ثم صاح:
ــ نذير كيف الحال.. الحمد لله .. قل لي بربّك.. متي ستجتمع بالحاج.. لا.. لا .. مش الحاج فودكا.. الحاج جيلاني عبد القدير.. حسنا.. هل يمكنك أخذ لبنى معك؟.. نعم.. أنا جادّ.. لا.. لا .. للحاج نفسه.. ألو نذير.. هذا الأمر في صالحك.. خصوصا و انك ستتزوج قريبا و لا يعقل ان تظل لبنى ملازمة لك و انت حديث عهد بعسل..

بعد أقل من يومين من مكالمة نور الأسود، اتصل بي والدي ليخبرني بعقد قرانه على لبنى حمدي!! حين أعلمته بأنني سأكون في تونس بعد سويعات قليلة نصحنى بمراجعة قرار العودة..حين شكوت له شوقي اليه قال لي بان كل شيء يهون في طلب العلم!!، حين افضيت له عن ضيقي بالنرويج التي تفصلني عنه الآف الكيلومترات ذكرني بالحديث النبوي الشريف" أطلبوا العلم و لو بالصين"!! حينذاك آمنت بما ذهب اليه نور الأسود فقررت البقاء .

ــــ 3 ـــــ
ظللت مرافقا لنور الأسود مدة خمسة أشهر كاملة كنت قبلها( رغم احتلالي مركزا قياديا في حركة النهضة ذات الاتجاه الإخواني) كأطرش في زفة أو لنقل كنت قبل التقائي بنور الأسود أميّا من ناحيتي السياسة و الدين، لأجل ذلك فقد"منحني جهلي حلولا و فرضيات كثيرة" كلها وردية، و كلها ذات نهايات سعيدة، الى درجة ان سيناريوهات التغيير الأسلامي القريب كانت تتقاتل على مخيلتي أيها يسبق صاحبه.. كما كانت الجهات التي ستحقق " نصر الله و الفتح " تتزاحم في مخيلتي الساذجة.. هل سيكون التغيير السعيد بامضاء ااخواني أم سلفي أم شيعي، أم تكون الطفرة ثلاثية الأبعاد و المنطلقات.

كنت قبل لقاء نور الأسود اراهن على كيان شيعي و حركة اخوانية و منظومة سلفية سنية تبين لي فيما بعد انها لم تكن جميعها سوى جثث نخرها الدود و أكلها
الصدأ.

علمني نور الأسود أن أفكر لا أن احلم، و أن أسأل لا ان اكتفي بالقوالب الفكرية الجاهزة، كما علمني أن أركز على ما قيل لا على من قال مهما بلغت قداسة من قال.
"كيف ترجو بناء بيت لا تزال أركانه تتساقط.. يجب عليك أولا تقويضه بالكامل ثم رفع الأنقاض، قبل الشروع في البناء"
" لن يتحقق أي نجاح دون مراجعة فكرية و نقد ذاتي. فالمنظومة السلفية بشقيها الحنبلي و الأشعري، ثم الشيعة تمثلان اكبر عائق أمام بعث حقيقي".
" لا بد من إجراء تطهير فكري يسقط القدسية عن رموز عاجزة ،و يميط مسلّمات كثيرة، و يعصف بثوابت بائسة لا يسندها أي دليل شرعي" هكذا كان نور الأسود يردد على مسامعي بين الحين و الحين.

ازددت إيمانا بكل ما قاله نور الأسود حين عاينت إيران تصادق إسرائيل ، والإخوان يدخلون الفراش الأمريكي، والسلفية الوهابية تبيح السلام مع اليهود و تستقدم القوات الأمريكية الي ارض الحرمين لقصف جيران مسلمين قبل أن تعلن أخيرا و على لسان كهنتها بوجوب اعطاء السياسة لقيصر و الطقوس لله، بل و هي تصرّح بان الحاكمية لا تدخل في باب التوحيد بل و أن من واجب المسلمين اطاعة الحاكم المسلم الذي يعينه الكافر من وراء البحار !!!.


ـــ 4 ـــ

ظللت مصاحبا لنور الأسود حتى حلّ يوم كئيب وجدتني أودعه قبيل سفره إلى الجنوب الفرنسي.. تعجبنا معا من تصاريف الأيام و تقلبها..
ـــ من كان يظن، ان مجرّد ضياع بطاقة هويتي، سيحملني على التعرّف عليك في آخر يوم لي في النرويج، بعد أن تجاهلنا معا وجود بعضنا خلال سنتين كاملتين؟، و من كان يتصوّر أيضا، أن معرفتي بك ستزوّج أبي و تتيح لي إكمال دراستي، ثم ــ وهذا الأهم في اعتقادي ــ ستقلب حياتي الفكرية رأسا على عقب!؟
أطرق نور الأسود ثم أجاب مؤيدا:
ـــ فعلا.. فما أعجب الأطوار التي قد تمرّ بالإنسان.
سكت قليلا، ابتسم ثم اضاف:
ـــ سأقص عليك لك بعض اطوار حياتي.. فقد تقاذفتي الدنيا بين زواياها الأربع، فصرت أنقل من نقيض الي نقيض بشكل يدعو غيري الى الإستغراب و الضحك، و يدعوني أنا إلى الخوف و الجزع.
نادى نور الأسود الفتي الكردي ارسلان طلب، لنفسه مزيدا من القهوة السوداء الخالية من السكر.كما طلب لي مشروبا إضافيا ثم استمر يقول:
ـــ حين كنت صبياّ، كنت شديد التعلق بوالدتي اللطيفة. كما كنت شديد النفور من والدي الفظّ، حتى أنني تمنيت موته.. فقد كان يؤذيني بقدر ما كان يؤذي والدتي... كان رحمه الله لا يعرف غير السّكر و التعنيف.
هرش نور السود قفاه تنهد طويلا ثم استمر:
ــ الذي حدث، أن ملاك الرحمة الذي كان يرعاني قد غيبه موت مفاجئ، أما خازن النار الذي كان يعذبني فقد ظل حيا ليكمل بي مسيرة الآلام.. و هذه أول المفاجآت في درب الحياة، و في جري الرّياح على عكس ما تشتهيه سفني...
شكر نور الأسود الفتى ارسلان على تلبية الطلبات، ثم طفق يقول:
ـــ حتى لا أحوّل هاته الجلسة الختامية اللطيفة إلى مأساة.. و على ذكر السفن، فقد سئل أرمنيّ ذات مرّة: "هل تعرف المتنبي؟" صاح مجيبا:" معلوم معلوم مين ما يعرفشي المتنبي!؟" حين قيل له:" ماذا تعرف عنه؟" أجاب: " مش هو الشاعر الذي يقول: بابور يمشي هيك، هواء يمشي هيك؟!!".
صحت سائلا:
ــ هل يقصد "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؟ّ"
هز نور الأسود رأسه مؤيدا ثم أضاف وقد عاودت وجهه مسحة حزن:
ـــ اليك ثاني المفاجآت.
ــــ ....
ــــ منذ عقلت، أكتشفت أن ميولي أدبية.. كانت الأرقام و القواعد و المعادلات الرياضية أبغض شيء إلى نفسي. لأجل ذلك كنت شديد النفور منها، الى حد كنت أتعمّد إهمال كل المواد العلمية على حسابها، بيد أن عناية والدتي بي، و تشديد رقابتها عليّ، مكننى من إيجاد توازن يمكنني من استمرار مسيرتي الدراسية. غير أن وفاتها المفاجئة و حالة الإكتئاب التي لفتني من بعدها، جعلت عزائي في القراءة الأدبية على حساب كل المواد الأخرى مما أخلّ بتوازني و عجّل بطردي من المعهد.. هكذا دون سابق انذار، و لمّا أكمل المرحلة الإعدادية.
ـــ ....
تنهد نور الأسود، تناول رشفة من قهوته المرّة ثم استمرّ:
ــ حين كفلني خالي بعيد وفاة أبي، أدخلني معهدا حرّا لم أجد فيه أي إختصاص متاح غير المحاسبة فدخلت مكرها الى عالم الأرقام و المعادلات الرياضية رغم اتجاهي الأدبي.. وهذه ثاني الإتجاهات المعاكسة التي قذفت اليها!
ـــ ....
ابتسم نور الأسود بسخرية ثم أضاف:
ـــ كنت شخصا مسالما. كما كنت أنفر بطبعي من الأزياء الرسمية.. شرطة و جيشا و دركا و حتى رجال مطافئ، لكن الفساد الإداري و غلبة المحسوبية و كلف أصحاب المؤسسات و مديري الشركات بتوظيف الأقارب و الفاتنات على حساب ذوي الكفاءات و حاملي الشهادات دفعني الى التطوع في الجيش كي أتجنب بطالة لا مناص منها.. فوجدت نفسي و انا المسالم، بين أصحاب الخوذات و الهراوات أشارك في قمع المظاهرات و تفريق المسيرات و سفك دماء...
ثم وهو يستدرك:
ـــ لم اسفك دماء و الحمد لله، و لكنني وجدت نفسي أشارك في ترويع المواطنين و المواطنات. وهذه ثالث الاتجاهات المعاكسة التي رميت نحوها.
ـــ ...!
ـــ كنت أميل الي العزلة و تجنب الناس صحبة و أختلاطا. لكن طبيعة عملي العسكري وضعتني في خلية نحل حقيقية وهذه رابع المفاجآت التعيسة!
ـــ ...!!
ــــ كنت انفر من السياسة غير أنني وجدت نفسي بين عشية و ضحاها في صميمها
ـــ ...؟
ـــ فقد دفعني خوف النار الى التدين، و حملني التدين على وجوب تغيير المنكر الأكبر التي هي السلطة، فلم ألبث أن وجدت نفسي أشارك في انقلاب.. وهذه خامس المفاجآت الغريبة!
ـــ ...!!
ـــ منذ شبابي الباكر كنت أرفض هجرة الوطن، لم تغرني بلاد الغرب و لا العيش فيها.. كما لم تجذبني حضارتها البرّاقة كما أغرت أبناء حيّي و أصدقائي و جذبتهم، غير أن فشل الإنقلاب المذكور، دفع تنظيمي الى تهريبي خارج البلاد تخلصا من مشاكلي... فنقلت للعيش في الغرب وهذه سادس العجائب!
ـــ .!!!
ـــ كان كل أملى من التغيير السياسي بعد "سحق" أعداء الإنسان، و" كنس" كل علماني مستغرب، أسلمة المجتمع بشكل يتيح لي التعبير عن هويتي و ممارسة "مثلي" العليا بعد القضاء على التخلف، لكنني ألفيت نفسي في بلاد الغرب بين جار" مثليّ"، و جارة "سحاقية"، و أنا أعيش في بيت خلف "كنيسة" وهذه سابع الغرائبياّت!
كنت أضحك حين سألني نور الأسود:
ـــ ألا تحملني كل هاته الإتفاقات العجائبيّة والإتجاهات العكسية التي قذفت فيها رغم كرهي لها و اختياري أضدادها، على الخشية من أن أساق الى النار أنا الذي أرجو الجنة؟! "
كررت عليه استغرابي من عجائبية الأطوار التي مرت به حتى انني هتفت قائلا .
ـــ لقد ذكرني حالك بما قال المتنبي ذات مرة.
سألني نور الأسود ضاحكا:
ـــ تعرفه؟
أجبته بين ضحكتين:
ـــ معلوم معلوم.. اليس هو القائل بابور يمشي هيك هوا يمشي هيك؟

ـــــ 5 ــــ

كنت ابتسم حين أعادني صوت نادل البلفيدير الى واقعي...

بعد أن طلبت قهوة .. فتحت جريدة" الصباح".. طالعتني من جديد صورة نور الأسود. قرأت ثانية " بعد تنسيق أمني مشترك، المملكة العربية السعودية تساهم في القبض على مطلوب من الدرجة الأولى" ثم كعنوان فرعي " انتحار الإرهابي نور الأسود حال تسلمه من قبل السلطات التونسية".

رحم الله نور الأسود.. لقد غاب عنه ان القدر يحمل له اتجاها معاكسا آخر لم يكن يتصوره... لو بعث اللحظة لقال لي:
ــ أضف اليك يا صديقي: قصدت السعودية الخضراء، فالفيت نفسي معلقا كذبيحة في تونس الحمراء.. وهذه ثامن الغرائب و الإتجاهات المعاكسة التي قذفت نحوها! فهل سمعت بأقبح و أكفر من هذا! خادم الحرمين الشريفين يسلّم حجيج بيت الله للذبح!؟"

كنت أهم بمغادرة حديقة البلفيدير حين تلقيت مكالمة هاتفية من طرف نذير حمدي. لم أكن في حاجة الى من يؤكد لي بان مقتل نور الأسود قد تم على يد البوليس التونسي.
ليهنأ نور الأسود بمستقره الأخير.. خصوصا وقد أمن ما خاف، و نال ما كان يرجو.
أوسلو 28 ماي 2010



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علكة قصة قصيرة
- شربة !! قصة قصيرة
- في أوطاننا حتى المجانين يخشون إرهاب الدولة !!
- بخل قصة قصيرة
- الإخوان هم بغال المرحلة الأمريكة القادمة
- من هبوطيات الكاهن السلفي البوطي 2/2
- من هبوطيات الكاهن السلفي البوطي 1/2
- التسنن و التشيع وجهان لعملة واحدة اسمها الخيانة
- زمزم قصة قصيرة
- لماذا لم ينزع سلاح حزب حسن نصر الله الشيعي؟
- حوار مع بيانو 2
- حوار مع بيانو 1
- اردغان أو فيفي عبده تركيا يطاول السماء بمؤخرته الإخوانية الع ...
- عن موت بن لادن
- عن العداء المستحكم بين السنة و الشيعة قصة بالمناسبة
- بشرى قصة قصيرة
- رجم قصة قصيرة
- لا رجم في الإسلام
- دناءة قصة قصيرة
- ركاكة قصة قصيرة


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - أطوار قصة قصيرة