أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنور مكسيموس - الشبيط...الشوك الدامي.الفصل الأول















المزيد.....


الشبيط...الشوك الدامي.الفصل الأول


أنور مكسيموس

الحوار المتمدن-العدد: 3429 - 2011 / 7 / 17 - 09:54
المحور: الادب والفن
    


الشبيط…الشوك الدامي.
وضع بلال أبو سنة-الشهير بأبو سنة- عصاه الخيزران تحت إبطه, وحمل مقعدين وعبر بهما الشارع في خفة, الى الجهة الأخرى من الطريق الممهد , ووضعهما حيث اعتاد عبد الرحمن بك المفتش أن يجلس, قليلا, قبيل ذهابه الى مكتبه.
لقد نظم عبد الرحمن بك يوم عمله, بالمرور نهارا على الزراعات ومصنع السكر, ثم يعود ليستريح قليلا في بيته, ليعاود الذهاب الى المكتب لضبط أعمال التفتيش.
وقد اعتاد-لبدانته وضخامته- أن يجلس على المقعدين, تظلل وجهه الأبيض المشرب بالحمرة برنيطة عريضة بيضاء.
وكانت هيئته وسلوكه يدلان على نبل المحتد والمنشأ, والذكاء والجدية.
كان بيت عبد الرحمن بك -أو فيلا عبد الرحمن بك- كما كان يسميه أهل البلدة, مواجها للنيل,وهو في ذات الوقت, جزء من أملاك الباشا الكبير.
وكان من عادته-أي عبد الرحمن بك- أن يجلس على المقعدين ,موجها نظره نحو النيل عبر الغاب والبوص والحشائش الشيطانية, و أشجار النخيل القصيرة.
كان يحب أن يتأمل غروب الشمس في هدوء واطمئنان, راضيا عما أداه من أعمال في يومه هذا, متطلعا لما يجب أن يؤديه غدا وهذا الموسم. لكن هذا الهدوء وذلك الإطئمنان لم يمنع عن قلبه وخياله, رهبة وغموض وسحر الليل قي تلك البلاد. حيث يجري النيل هادرا, يسمع بين الحين والحين صوت تلاطم مياهه, كأنه يصفع متمردا يقف في طريقه.
يعود عبد الرحمن بك من تأملاته, فينظر أمامه, كأنه يتوجس شيئا يخرج فجأة من بين كل تلك الحشائش والغاب والبوص المليئة بالغرابة والتي تشكل مع الأضواء الخافتة والمترامية أشكالا لا تحصى أو تعد, تعلن عن وجودها, لكنها لا تعلن عن طبيعتها أو حقيقتها, أو تفاصيلها!.
يقف خلفه, في هدوء وترقب, بلال أبو سنة, على استعداد دائم لتلبية أي طلب أو الرد على أي سؤال أو استفسار, وعينيه تجولان طوال الوقت بين عبد الرحمن بك و النيل وضفتيه…!.
وبلال أبو سنة هذا, هو الخادم الشخصي, والمرافق الدائم لعبد الرحمن بك في كل مكان يذهب اليه. لايفارقه إلا عندما يذهب الى بيته مساءا بعد انتهاء كل اعمال يومه. وبلال أبو سنة يعرف أهل تلك البلاد فردا فردا, ويعرف نواحيها حيث تمتد أملاك الباشا الكبير . ويتندر عليه أهل قريته لطوله ونحافته ونظافة جلبابه القصير, دون أن يجرؤ أحد على التصريح بذلك. وبلال يعرف ذلك, ويعرف أيضا أن أي منهم يتمنى لو يجلس تحت قدمي عبد الرحمن بك يمسح له حذائه. لكنهم يتندرون لأنهم لا يستطيعون ذلك!. وقد كانت قناعته وتفانيه وطاعته سببا للإبقاء الدائم عليه!...
-بلال!. هكذا فجأة ناداه عبد الرحمن بك حال أن أفاق من تأملاته, فأفزع بلال ليفيق وينتبه :
-أفندم يا باشا. قالها سريعا وانحنى بأذنه لمستوى فم عبد الرحمن بك.
-لقد كثرت جدا, هذه الحشائش والعبل وهذا الغاب قد طال جدا في هذه الناحية, أريدك أن تجمع كل العمال وتزيل كل هذا الهيش والعبل والبوص... كل هذه النفايات!.
-حاضر يا باشا!
سكت عبد الرحمن بك قليلا ثم أردف: تفعل هذا بمجرد أن ننتهي من موسم عصير القصب, ذكرني بذلك!...أريد أن يكون المنظر جيدا أمام الفيلا.
-حاضر يا باشا!.
-هل صرفت العمال؟
-ليس قبل أن تأذن سيادتكم بذلك.
دعا بلال عمال الفيلا الواقفين بعيدا منتظرين إشارة الانصراف. فهرولوا ناحيته منكسي الرؤوس, على يسار بلال أبو سنة حتى لا يكونوا قريبين من عبد الرحمن بك فيشتم رائحتهم, وقد حدد بلال مكان اصطفافهم بعصاه وقال بأدب جم:
"خدامينك" يا باشا.
قالها وهو ينقل بصره في سرعة وقلق, بين البك والفلاحين, حتى لا يأتوا بحركة قد تلفت نظر عبد الرحمن بك ومضى يقول:
حسيني وأمه نظفوا الفيلا…وهمام يافندم هذا, واشار الى رجل قصير, عريض الكتفين ممتلئ, وحافي القدمين رث الثياب, وهو يكمل: نظف عشش الطيور والزريبة ونقل السباخ والروث, وعلى الجنايني وضب الجنينة وحوض الزهور الذي تحبه الهانم الصغيرة, ومر أيضا على أشجار الفاكهة… وعبد القادر "الكلاف"…وبالنسبة لغرفة المؤن والشونة… وتم تموين الشونة…
قاطعه عبد الرحمن بك: "خلاص"!. لا تصدع رأسي, أعط كل واحد منهم عشرة قروش, وأعط لحسيني ايضا عشرة قروش لأمه, ودعهم يذهبون.
رفعوا-أي الوقوف- أيديهم فوق رؤوسهم عدة مرات بالتحية والدعاء, ثم اصطفوا بعيدا, ماديين أيديهم ليعطيهم بلال بحسب ما أمر عبد الرحمن بك, وانصرفوا.
كانت مرتبات عمال الفيلا, تصرف أيضا, من ميزانية التفتيش, بحسب أمر الباشا الكبير, الذي وضع ثقته في عبد الرحمن بك, وجعله رئيسا للتفتيش, لأمانته, وإخلاصه, وهمته في إنجاح التفتيش والارتقاء بأعماله, وتحقيق انتاجية وأرباح غير مسبوقة, تصب أخيرا في خزانة الباشا والبلد.
وقد كان من سخاء الباشا الكبير-أيضا- انه عين خدام لكبار موظفيه, وخواجات أهل البلدة من العاملين في التفتيش!…ليتفرغ -هو-لعمله في السياسة ومجلس النواب, فقد كان أحد أعمدة الاقتصاد في القطر المصري!.
بقى بلال أبو سنة في مكانه, لا يغادره , فهو أول من يأتي, وأخر من يذهب الى منزله, وقد كان مسرورا بذلك اشد السرور.
لكن الهم كل الهم, عندما يقرر عبد الرحمن بك, ركوب دابته !. فقد كان علي بلال أن يحضر الدابة الى موضع معين مرتفع قليلا ويتحامل عليه عبد الرحمن بك وهو يهتز ويترنح ليركب الدابة.
ويحدث ذلك مرات عديدة في اليوم, عندما يذهب الى مكتبه,عندما يصل الى مكتبه, وفى طريق عودته الى المنزل. وخبر ولا حرج عندما يذهب لتفقد زراعات القصب, وتحديد أراضى الباشا الكبير, أو المرور على شون القصب, ومصنع السكر, ومعاينة محاصيل قصب السكر الأهلية للذين يريدون بيع محاصيلهم. كم مرة ينزل وكم مرة يركب!!. رجل غاية في النشاط والهمة, بالرغم من بدانته المفرطة ووزنه الثقيل!!.
لقد كانت الدابة العفية تنحني وتنثني ساقاها عندما يسقط فوقها عبد الرحمن بك سقوطا.
وقد كان بلال في كل هذه المشاوير يجرى لاهثا خلف عبد الرحمن بك ممسكا بالمظلة يحمي رأس سيده من الشمس ,ويمسك بيده الأخرى بطرف عصاه , واضعا الطرف الآخر للعصا على كتفه مائلة جدا خلف ظهره, كأنها أحدا يلازمه ويجري خلفه!...
لم يطل قلق أبو سنة كثيرا حتى قال له عبد الرحمن بك:
-بلال!
-أفندم يا باشا
-أحضر الدابة.
-حاضر يا أفندم. قالها وانزل عصاه الخيزران من تحت إبطه الى يده وهرول حيث تقف دابة عفية!.
قال عبد الرحمن بك وهو في طريقه الى مكتبه: ذكرني بان نجعل أجرتهم كل شهر, بدل من أن تصدع رأسي كل أسبوع.
-حاضر يا باشا. قالها وهو يجرى ويلهث ومعه صوت جلبابه…ثم أردف وهو يبتسم:
-فلاحين يا باشا, ولا يعرفوا النظافة…
-اجعل لكل منهم, خمسة وأربعون قرشا!.
-حاضر يا باشا!.
***********
كان يوما شاقا على بلال. فقد قام عبد الرحمن بك بالمرور على الزراعات ومتابعة أعمال الخواجات والأفندية, ثم ذهب معه الى المكتب حتى عاد الى منزله-اي عبد الرحمن بك-في المساء.
ترك بلال عبد الرحمن بك, وهو يتنفس الصعداء, وعرج على منزل همام "الزرايبى" في طريق عودته الى بيته.
طرق بعصاه الخيزران,بخيلاء وغرور ,الباب البدائي, المصنوع من شرائح النخيل, ففتحت الباب, ربة الدار, سيدة أو أم حجاج كما كانوا يدعونها.
رحبت سيدة ببلال, وهى تقول وتكرر منبهة زوجها: بلال أفندي, "يابو" حجاج!.
كان بلال, قد انساب الى داخل المنزل, وكأنه من أهل البيت, وهو لازال في خيلائه وغروره يطرقع بعصاه فوق جلبابه. ونادى بصوت عال: "واد" يا همام!...
لم يعتدل همام من رقدته, إلا عندما وقف بلال فوق رأسه. فقام يرحب بذلك الضيف الثقيل, وهو ينظف له المصطبة الطينية, ويضع خرق من القماش ليجلس عليها, متصنعا حرصه على نظافة ملابس ضيفه.
لكن عينيه كانت تدوران, في خبث ولؤم حول بلال, عله يستطلع ما الذي أتى بذلك المغرور في ذلك الوقت,ألم يتركه منذ فترة ليست بالطويلة.
جلس بلال ثم جلس همام أول الأمر قبالته على الأرض مسندا ظهره الى الحائط. قال همام مرحبا بضيفه:
-أهلا, أهلا بلال أفندي. ثم أكمل متعجلا زوجته: الشاي يا "بت".
رمقه بلال بنظره, فترة ليست بالقصيرة…يغلق عين, ويفتح الأخرى, ثم ينظر إليه بعينين نصف مغلقتين, كمن يريد محاصرة من أمامه ووضعه في المصيدة…
ظل همام على بروده وخبثه,يرفع رأسه ثم يخفضها لأسفل لكن عينيه-مثل الذئب- في معظم الأوقات لأعلى, وهو يتابع بلال في تركيز وحذر. يريد استطلاع أسباب تلك الزيارة الغير عادية, دون أن يشعر ذلك المغرور بعيونه حوله!.
قال بلال: البك المفتش, يشك انه توجد سرقات من الفيلا وقد أبلغتاه الخادمتين اللتين أتي بهما من مصر بذلك ما هو قولك؟.
-ومالي أنا وتلك الأمور؟.
-أنت أحد الذين يسرقون!.
كانت زيارة بلال, وفى ذلك الوقت هي زيارة غريبة, ولكن ما لم يكن يتوقعه همام هو اتهام بلال له بالسرقة,فاندفع يقسم بأغلظ الإيمان بأنه لا يفعل ذلك, وانه أمين, ولا يخون المكان الذي يطعمه هو وأهل بيته, ثم أكمل في هدوء: أنا لا أدخل بيتي الحرام, أنا رجل أصون العشرة وأعرف الأصول وحق ربنا!.
سخر منه بلال وهو يردد كلماته: تصون العشرة, ولا تدخل بيتك حرام…تعرف الأصول وحق ربنا…وماذا ايضا؟…
-لا تسخر منى يا بلال أفندي…نحن أناس فقراء ولكن شرفاء…
علا صوت بلال وهو يطلب منه أن يصمت, ثم أردف قائلا: رايتك بعيني رأسي…ثم أشار الى عينيه: هل تنكر؟…هل تظن أنى غافل عما يحدث!…لقد انتظرت كثيرا حتى أتأكد بنفسي…كلكم تسرقون!…أنت وحسيني والجنايني وعلى زفت الكلاف, تسرقون الرجل الذي تعملون عنده, وتأكلون من خيره!.
انتقل همام ليجلس على المسطبة على يسار بلال, وهو لا زال يرقبه من جانب, ووجهه مطأطأ الى أسفل.
لكزه بلال بعصاه وهو يستكمل حديثه الغاضب: أتريد أن تعرف أنني أعلم الكثير ... أعرف كل شئ يدور داخل الفيلا وخارجها…
أشار بلال بيده وهو يقول: هل تعرف الحجر الذي في الجهة الخلفية للفيلا!…طبعا تعرفه!…
ارتفع الدم في رأس همام, وطأطأ برأسه يفكر, ولم ينبس ببنت كلمة, وهو يتابع بلال, يستكمل حديثه, والذي قصد, أن يكون كمشهد تمثيلي, حتى يتأكد, من يقف أمامه أنه فعلا رآه: تنزع الحجر... ويكون ابنك حجاج في انتظارك… في الجهة الخلفية للفيلا…تسرب له ما طالت يدك…لبن…بيض…دجاجه…بطه…
أظلمت الدنيا في وجه همام, ودار في رأسه الخلاص من بلال, وفورا, قبل أن يخرج من هذا المنزل!. كيف يتركه يخرج ويفقد وظيفته!...
ويا ليت الموضوع ينتهي عند هذا الحد. فعبد الرحمن بك بالرغم من طيبته, وكرمه مع العاملين الذين تحت إمرته, إلا أن الجميع يعرفون عنه شدته وقسوته في مثل هذه الأمور, من سرقة أو إهمال أو ضياع أشياء. لذلك نهضت صناعة السكر, في ذلك الوقت, مع مثيلاتها في بقية أقطار مصر بفضل هؤلاء الجنود المجهولون, الذين قد يقتلون فوق طموح الدهماء.
كما أن وضع عبد الرحمن بك في التفتيش, وخدمته المتفانية مع الباشا, ومنزلته عنده, كل ذلك أعطاه مركزا محترما ونفوذا بلا حدود, مع مأمور المركز وضباطه وقضاة المديرية ووكلاء النيابة. الكل يحترمه ويخافه, ويهابه!. لكنه!...مع كل هذا ,لم يسلم من القتل!؟... و لقد قال الباشا ذاته عن عبد الرحمن بك عندما قتل: يا خسارة التفتيش من بعدك ياعبد الرحمن, وقالها أيضا, كل من عرفه وتعامل معه!.
أدركت سيدة بحسها ما يمكن أن يحدث, ولم يعد هناك شئ يمكن مداراته, ففتحت باب الحديث على مصراعيه وقالت بصوت عال, وبغير حذر: وماذا حدث يا بلال أفندي؟!…الباشا يأكل ويشرب ويفيض منه الكثير, وأنت أعلم بذلك…
سكتت برهة, قبل أن تستكمل حديثها وتقول, وكأنها مرغمة على الكلام: أليست ابنتك نحمده, تمر عليك كل يوم في المغربية, وتعطيها ما فاض عن حاجة البيت والست هانم…
قاطعها بلال صائحا: نعم هذا يحدث, ولكن بإذن وسماح من الباشا, ولكنكم تسرقون…
كانت عينيه تنطق بالشرر, للإهانة التى وجهتها له سيدة, فأقسم بإغلاظ, بأن زوجها لن يعمل بالتفتيش بعد اليوم, وهم بالانصراف…
عادت سيدة سريعا الى المسكنة والتذلل, وقد أمسكت بيده وهى تتوسل إليه أن يبقى, ويتحدث. تربت على يده, ثم ترفع يدها لتضعها على صدرها وهي ترجوه…
في تلك الأثناء, كان همام قد انسل الى الغرفة الأخرى, وامسك بعصاه الغليظة, وتربص خلف الحائط, منتظرا أن يستدير بلال ويخرج, فينقض عليه, ويضربه ضربة قاضيه ومميتة…
وكانت سيدة تنظر بذعر حيث يختفي همام, وحيث يجلس بلال, وهى تخشى أن يخرج همام من مكمنه, فيرتكب جريمته إذا ما أصر بلال على موقفه, واستدار ليخرج…
استطاعت سيدة, بصعوبة بالغة, أن تقنع بلال بالانتظار, وهى تتوسل وتتضرع, وترجوه أن يبقى حتى تعد له الشاي…
ثم جرت حيث يقف همام بعصاه, يعوي كالذئب, في انتظار دم ضحيته!…
دخلت عليه, وهي تحاول دفعه الى الداخل, وتجذبه من ملابسه, ويده وكتفه, بعيدا, لئلا يراه بلال, وهمست إليه: تعقل واصبر وانظر, وإذا لم تفلح معه محاولاتي, سوف أدعك تفعل ما تريد…
هدأ غضب همام قليلا, ولكن قلبه لازال يتسارع, وصدره يعلو ويهبط, فأسند طرف عصاه على الارض, واستند على طرفها الأخر, وأصاخ السمع, لكن شخير ولده, الذي يغط في نوم عميق, جعله لا يستطيع أن يتابع كل ما يحدث خارج مكمنه!…
عادت سيدة, تهرول نحو بلال, تزيد من ترحيبها به, وقد أقسمت عليه وترجته أن يبقى, ويتعشى معهم!.
وسيدة هذه, امرأة مليحة, تعلم بحاستها الأنثوية أن بلال يختلس النظر إليها, وانه يريدها. فتركته يمرح في أمانيه. وقد قرت في دخيلة نفسها ألا ينال منها شيئا. فكلهم صنف واحد, هو أو زوجها, لا يختلفون إلا في ملابسهم وكميات الأتربة والقاذورات على أجسادهم!…
وسيدة, قد حدست بذكائها الفطري, أنه-أي بلال-لو كان جادا, لأمسكه, وسلمه فورا للباشا, ليرفته فورا, من العمل!…
لكنه!. أراد أن يضغط عليه أمامها, كي يريها, مدى سطوته وصولجانه!…
فان النساء في الصعيد تشتهى السطوة والعنف والقسوة!… هذا ما قر في فكر رجل تلك النواحي, وارتضته وعملت به نساء تلك البلاد!.
تصنعت سيدة المرح, وهى تقول: سوف تتعشى معنا , أنت لم تذق بعد أكل أم حجاج, ذكر بط يستحق فمك!. ثم أكملت في دلال وخبث: من "عشة" الباشا…
انزعج بلال أول الأمر, ولام أم حجاج على ذلك ووبخها على هذرها بهذا الحديث, وتظاهر بالانصراف.
فكيف يشاركهم هذا, وهو الذي آتى يهددهم, ويتوعدهم… لا, لا...لن يحدث هذا!...هذا ثمن غير عادل. على الأقل لا يجب أن يلين هكذا سريعا, ويستسلم. على الأقل خلال تلك الزيارة, وليتركهم قلقين مرتعبين, يضربون أشواطا طويلة في ظنونهم ونخميناتهم!.
لكنه!…تحت ضغط توسلاتها-أي سيدة- وهى تضع يديه بين يديها وترجوه, استسلم واتخذ جلسة الحافز المترقب. لكنه, مع حديث سيدة ومرحها بدأ يتخذ جلسته المريحة كمعظم أهل الصعيد, وقد أحضرت له متكأ, فأخذه, واستراح أكثر.
تذكر بلال, فجأة انه لا يرى همام فسألها بصوت عال: أين ذهب ذلك "العويل"؟!.
دخلت سيدة على همام, وأسرت إليه ببعض التنبيهات, ثم علا صوتها وهى تقول له: قم ,اغسل وجهك, بلال أفندي في انتظارك…لقد سامح…قم!…هل تجلس, وتبكى مثل الصغار, والرجل في انتظارك!…
دخل همام, وهو يمسح وجهه, بكم جلبابه, كأنه كان يبكي, تدفعه سيدة دفعا, وهى تضحك, وترى تأثير ذلك على بلال.
جلس همام صامتا, الى جوار بلال كما كان قبل أن ينسل الى الغرفة. وهو بين الحين والحين, يرفع كم جلبابه محدثا صوتا, عل بلال يراه وهويمسح عينيه.
تركتهم سيدة لتعد لهم العشاء بعد أن اطمأنت انه لم يلحظ شيئا, سواها!.
كان بلال يختلس النظر الى سيدة, وهى تشعل "الكانون", والدخان يتصاعد منه, ثم ينظر الى همام, ليرى إن كان يلحظ شيئا من نظراته لزوجته.
ولغروره الشديد, لم يلحظ همام, وهو الجالس مطأطأ الرأس, يرفع عينيه ويراقبه دون أن يرفع وجهه نحوه.
أيقظت سيدة ولدها الوحيد حجاج, وجذبته من ذراعه, ثم أوقفته عنوة على قدميه, كي ينتبه, ويعينها على سرعة إنهاء العشاء, وتقديم الشاي بين الحين والحين, حتى يتم إنضاج الطعام, والانتهاء من ذلك اليوم العصيب على خير.
أخيرا, قدمت سيدة العشاء. والتهم بلال ما استطاع أن يلتهمه. فبجانب انه شره للطعام, فهو يوفر وجبة, وكل وجبة يوفرها, تقربه من هدفه, ولا يهم إن ذاق أهل بيته اللحم أم لا!...
فهو يطمح, أن يصبح من أصحاب الأملاك في بلدته. نعم هو يملك فدانين وعدة قراريط متناثرة. وهو معروف ومميز بهذه الملكية الكبيرة في نظر أهل بلدته, لكنه يطمح في الامتلاك اكثر, دون أن يصل طموحه, الى منافسة أحد من هؤلاء الأكابر في البلد!.
شرب شايا مرة تلو الأخرى, حتى وقت متأخر من الليل, وهم بالانصراف, وهو راض عن كل شئ, ومتمنيا قرب الوصال.
قال وهو ينصرف, بلهجة تمني: أرجوك يا همام, لا تسبب لي حرجا مع الباشا بعد اليوم. سأحاول مع الباشا, أن يزيدك خمسة عشرة قرشا. ثم انصرف راجيا, آملا في كل شئ. وهو يعلم كيف يزيد أجر همام, لو أراد, إرضاءا لسيدة, و وكله من أموال الباشا.
بصق همام خلف بلال وهو يقول: "راجل نطع". لن أستطيع إحضار شيئا بعد اليوم…يكفيك ما لديك من طيور ومعزة وجدي…كنت على وشك تهشيم رأسه بالعصا.لا تطلبي منى شيئا بعد اليوم…
قاطعته سيدة وهى تضيف: اصمت! اصمت!…أنت رجل "عويل", أبعد أن أكل معنا, وهو يعلم انه طير مسروق من فيلا عبد الرحمن بك, أنه سوف يمنعك!. هذا رجل "نطع", لا يهمه سوى بطنه…
طأطأ همام برأسه مرهقا - بعد كل ذلك الوقت العصيب والمتوتر- وهو يستمع الى زوجته, متفكرا فيما تقول, وهى لازالت تحاصره بنظراتها الطموحة:
لا تخشى شيئا!…"الود وده" لو استطاع أن يأتي هنا كل يوم ويتعشى…يوفر وجبة من هنا, ووجبة من هناك…يشترى قيراطين من أبو عيطه, قيراط من أبو عثمان…سوف يظل يشترى, ويشترى, ونحن في هذا البيت, لا نملك ولو حتى قيراط واحد, يعمل فيه ابنك الوحيد, الذي, ترجيناه من الدنيا!…
كانت سيدة تتحدث بسرعة, وحدة, وهمام لا زال مطأطأ الرأس, لا يقدر أن يجاري سطوتها. ثم لكزته في كتفه بقوة وثورة, حتى سقط على جانبه, وهو ينظر إليها ولا يستطيع تحريك ساكنا. لقد حلت له اليوم مشكلة, ما توقع أبدا أن تنتهي بهذا الوضع…
وفى ذات الوقت, أحست سيدة , ولأول مرة, بقدراتها وقوتها وسطوتها. تأملت ما فعلته ببلال, ثم بزوجها همام, وكيف حلت المشكلة, دون إراقة دماء. لقد استكان لها الجميع…كل بحسب حاله…
لقد كانت هذه المرأة-مثل كل نساء القطر المصري- تراقب ما حولها. تنظر وترى وتعرف, لكنها لم تجرؤ من قبل, أن تأتي بما أتت به اليوم!…



#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعرف كيف يفكر الآخر:داود الملك والنبي...النسر واليمامة
- إعرف كيف يفكر الآخر:صعب عليك أن ترفس مناخس...
- إعرف كيف يفكر الأخر: الله وقيصر
- إعرف كيف يفكر الأخر - الفقراء
- أجنحة ضعيفة


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنور مكسيموس - الشبيط...الشوك الدامي.الفصل الأول