أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - ما لا يُفهم














المزيد.....

ما لا يُفهم


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 1012 - 2004 / 11 / 9 - 09:01
المحور: الادب والفن
    


هو الشاعر القديم صاحب القول العتيق، الذي كانت الحداثة الشعرية العربية بأمسّ الحاجة إلى اقتباسه مرّة بعد مرّة! دخل على الخليفة المتوكل، فمدحه بقصيدة جميلة، لكنّ أحد حاسديه أراد أن يحطّ من شأنه، فسأله على الملأ: "لِمَ تقول ما لا يُفهم"؟ وردّ الشاعر الكبير: "ولِمَ لا تفهم ما يُقال"؟ الجميع يعرف أنّ القائل هو أبو تمام حجر بن أوس الطائي، ولعلّ البعض لا يعرف أنّ السائل لم يكن حاسداً عادياً، وزيراً أو والياً أو تاجراً، ولم يكن من بسطاء العامّة كما هو شائع، بل كان فيلسوف العرب الأشهر أبو يوسف يعقوب الكندي!
أغلب الظنّ أن الفيلسوف اعترض على الغموض في أبيات مثل هذه:

والحمد بُردُ جَمالٍ اختالت به
غُرَرُ الفعال وليس بُردَ لباسِ
فرعٌ نما من هاشم في تُربةٍ
كان الكفيء لها من الأغراس
لا تهجرُ الأنواءُ منبتَها ولا
قلبُ الثري القاسي عليها قاسي
وكأنّ بينهما رضاع الثدي من
فرط التَصَافي أو رضاعَ الكاسِ

فماذا كان الكندي سيقول عن حركة التخييل وطلاقة المخيّلة في هذين البيتين، من أبي تمام أيضاً، واللذين أعتبرهما شخصياً أبدع ما جادت به قريحة شاعر عربيّ قديم:

تاهَـتْ على صورة الأشياء صورتُه
حتى إذا كَمَلت تاهـت على التيه
ما استُجمعت فِرَق الحسن التي افَتَرقتْ
عن يوسف الحُسنِ حتى استُجمعت فيهِ

ولقد ألحّ عليّ شخص أبي تمام وشعره قبل أيّام، حين بادرني صديق يوناني محبّ للشعر العربي، ممـــازحاً: ألم تهُــــدِكم اليونان أعظـــــم شــــعراء العربية! بالطــــبع، كان الصــــديق يشير إلى ما يتردد من أنّ أصول أبي تمام، رغم انتسابه إلى الطائيين وولادته في بلدة جاســــم من أعمال حوران السورية، تعود إلى بلاد الإغريق. وقلت للصديق: لست متأكداً من أنه أعظم شعراء العربية، ولكن قد يوافقك الكثيرون في أنه أعظم شعراء العروبة!
وحين شدّني حديث أبي تمام، فرويت للصديق اليوناني حكاية السجال بين الشــــاعر والفيلسوف حول الموقف من معاني الشعر، ذُهل تماماً وتـــــرك جانباً حكاية الأصول اليونانية للشاعر، وأمطرني بأسئلة متتالية حول هذا القول تحديداً، وهل كانت له انعكاسات فكرية وجمالية، وكيف نظرت إليه الأجيال اللاحقة، ولماذا يجهل معظم الأوروبيين هذه الواقعة ذات المغزى العميق...
بذلت قصارى جهدي، وسخّرت ما أملك من معرفة متواضعة عن أبي تمام، ولكني في نهاية المطاف أحلت صديقي إلى كتاب "أبو تمام وشعريات العصر العباسي" للمستعربة والناقدة الأمريكية الأوكرانية الأصل سوزان ب. ستيتكيفيتش، الذي ــ رغم تحفظات مبدئية حول اعتماد منهجية التأصيل الأنثروبولوجي لجذور الشعر الجاهلي ــ يظلّ العمل الكلاسيكي الأبرز، ولعلّه الأعمق أيضاً، في أية لغة أوروبية.
ستيتكيفيتش توافق أنّ أبا تمام كان من أهمّ شعراء العصر العباسي، ولكنها تجزم أيضاً أنه كان الأبرز في استخدام البديع، الأمر الذي جرّ عليه موجات من النقد حيناً والإعجاب المبطّن بالحسد حيناً آخر. وهي تستفيض في مناقشة معنى البديع في شعره، وتساجل على نحو مقنع بأنّه لم ينهض على الصنعة والتكلّف أو التجميل الشكلاني، وكان توظيف الكناية والاستعارة ركناً أساسياً في الطـــــراز الفكري الذي نهـــض عليه شعر أبي تمام، وجزءاً مكوِّناً في العمارة الوصفية التي أعطتنا أعظم نماذج شعره. كما يستهويها أن تستقصي المحيط الأسطوري الذي اكتنف شعر أبي تمام، ورموزه الكونية (السيف، الفرس، الخباء...)، وعناصر بيئته الطقسية ـ الروحية (الفصول، المطر، العواصف...)، فضلاً عن أغراضه التي أقامت ميزان ذهب نادراً بين المديح والرثاء.
وعلى سبيل استكمال متعة الحكاية، أسوق في الختام تفصيلاً ثانياً لما جرى بين أبي تمام والكندي. كان الشاعر قد بلغ هذا البيت في المديح:

إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس

حين قاطعه الفيلسوف قائلاً: "الأمير فوق ما وصفت". أطرق الشاعر قليلاً، ثمّ أجاب:

لا تذكروا ضربي له من دونه
مثلاً شَروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقـلَّ لنوره
مثلاً من المشكـاة والنبراس

وبالطبع، كان من الصعب أن أقنع الصديق اليوناني بأنّ هذا التفصيل ليس أقــــلّ جاذبية من ذاك الأوّل الذي يخصّ قول ما يُفهم وفهم ما يُقال، لأنّ بديع أبي تمام هو هنا من النوع الرفيع الذي لا يمكن للترجمة إلا أن تلحق به الغبن الشديد، فوق الخيانة المعتادة، والتي ستــكون في البيتين السالفين خيانة عظمى دون ريب.
ولكن... أليس هذا الاستعصاء بعض المعنى والسحر والفتنة في شعر يُقال، لا لكي يُفهم؟



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديمقراطية الأمريكية: مأزق قوّة كونية تتكلّم كالأساقفة
- ميشيما 9/11
- كولومبيا والإرهاب الآخر الذي تصنّعه الولايات المتحدة
- رامبو الأفضل
- المؤسسة الصهيونية: فحشاء القوّة في الطور البربري
- رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004): مَن بعده سيتو ...
- جدران محاكم التفتيش
- في أيّ سوق نصرف وعيد إياد علاوي ودموع برهم صالح؟
- دريدا والزرقاوي
- التعديل الوزاري في سورية: مَن سيرمي رامي مخلوف بباقة زهور؟
- أشواق المستهام
- توني بلير الأحدث: صوت سيّده أكثر فأكثر
- ما الذي يمنع سيّد العالم من اعتلاء العالم
- طبيب -طاسة الرعبة-
- واشنطن ودمشق: الضجيج الذي قد ينذر بالعاصفة
- العمل الفني الأعظم
- -الخطر الأخضر- الذي عوّض الغرب عن -الخطر الأحمر-
- طرزانات أمريكا
- من دمشق إلى بيروت: تمديد الرئاسة أم تقزيم الوجود السوري؟
- طبقات الشعراء


المزيد.....




- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبحي حديدي - ما لا يُفهم