أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صبحي حديدي - رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004): مَن بعده سيتولى التفكيك، وتفكيك التفكيك؟















المزيد.....

رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004): مَن بعده سيتولى التفكيك، وتفكيك التفكيك؟


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 992 - 2004 / 10 / 20 - 09:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في أواسط العام 1992 قررت جامعة كامبرج البريطانية العريقة منح درجة الدكتوراه الفخرية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004). وبالطبع، كان القرار أقل من عادي ضمن اعتبارات كثيرة في رأسها أن الرجل يستحق اللقب عن جدارة تامة، وفي ذيلها أن هذه الدرجة تُمنح لأساب فخرية... تماماً كما تشير تسميتها! لكن صحيفة الـ "تايمز" البريطانية (المحافظة، للتذكير) نشرت، بتاريخ 9 أيار (مايو) وقبل أسبوع من مراسم منح الدرجة، رسالة عجيبة اتخذت صيغة العريضة أو نداء المناشدة، وقعها عشرون من كبار نساء ورجال الفلسفة في أوروبا وأمريكا وأستراليا، تحتج بشدة على قرار كامبرج، بل وتكاد تنزع عن دريدا صفة الفيلسوف في الأساس!
والأسماء الموقعة على هذه الرسالة ـ العريضة كانت تمثل دوائر الفلسفة في جامعات مانهايم، سيدني، ييل، نوشاتيل، غراز، فلورنسا، جنيف، مدريد، هارفارد، انسبروك، أوتريخت، سالزبورغ، لوس أنجليس، كراكوف، فضلاً عن رئيس تحرير الدورية الفلسفية الشهيرة The Monist، والأكاديمية الدولية للفلسفة. وفي أحد مقاطع الرسالة يقول الموقعون: "في أعين الفلاسفة، وكذلك بالتأكيد في صفوف أولئك المشتغلين في كليات طليعية للفلسفة على امتداد العالم، لا تنطبق على عمل السيد دريدا المعايير المقبولة للوضوح والدقة". وبعد أن تتهم العريضة دريدا بالاعتماد على الألعاب اللفظية، كما في اللعب على مصطلح المغالطة المنطقية Fallacy ليصبح عنده القضيبية Phallusies، تواصل الهجوم العنيف على نحو مدهش حقاً: "وفي نظرنا، يبدو السيد دريدا وكأنه على وشك تأسيس موقعه المهني اعتماداً على ما نعتبره ترجمة إلى الحقل الأكاديمي لعدد من الحِيَل وأدوات الحاوي المشابهة للدادائيين..." !
ولقد كان للرسالة ـ العريضة تلك، فضلاً عن التحرك الواسع والحملة المنظمة نسبياً، أثر لا يخفي في قرار مجلس الجامعة طرح الأمر على التصويت... في سابقة نادرة تماماً! صحيح أن النتيجة كانت لصالح دريدا في نهاية المطاف، الا أن فارق الأصوات (336 ضد 204) كان يشير إلى حجم المعارضة وجدية الاعتراض. وصحيفة الـ "إندبندنت" البريطانية، وكانت في الواقع تمثل وجهة نظر عريضة واسعة النطاق، لم تتوقف عند الحدث في حد ذاته، بل اعتبرت أنه "يمكن أن يؤشر على نهاية أربعة عقود من التعصب الفكري".
والحال أن هذا التقدير لا ينطوي على مبالغة، إذ أن تلك البرهة كانت تمثل أقصى مناسبات احتكاك التفكيكية، الفلسفة التي سُجلت باسم دريدا واحتُسبت له وعليه، بواحدة من أرفع قلاع الدفاع عن الفلسفة الغربية منعة وحصانة وسمعة ومحافظة، خصوصاً في جانب التمترس خلف التراث الفلسفي الميتافيزيقي بالذات، ذاك التي جاءت أفكار دريدا بمثابة معاول تستهدف هدمه أو تقويضه أو... تفكيك ركائزه في أقل تقدير.
آنذاك، مطلع التسعينيات، كان دريدا الفيلسوف الأشهر على نطاق العالم دون ريب. وكان، من جانب آخر، الأكثر إشكالية وصعوبة وسوء فهم ورواجاً في آن معاً، حيث كانت أعماله ومحاضراته لا تكتفي بإشعال الحرائق في مختلف مدارس الفلسفة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية (تيارات البنيوية بصفة خاصة ومركزية، وإعادة قراءة الماركسية على يد أمثال لوي ألتوسير، أو إعادة قراءة سيغموند فرويد والتحليل النفسي على يد جاك لاكان...)، بل كان اللهيب يمتد أيضاً وأساساً إلى مجمل التراث الفلسفي الغربي الميتافيزيقي.
وكان دريدا قد اقتحم الحياة الفكرية الفرنسية بثلاثة كتب، صدرت دفعة واحدة في العام 1967: عن الكتابية أو الغراماتولوجي De la Grammatologie لأنه ما من مقابل عربي يحظي بإجماع كافٍ حول ترجمة مفردة العنوان، و الكتابة والاختلاف ، و الكلام والظواهر . ومنذ ذلك العام وهو يطور أفكار تلك الأعمال الأولي التي نهضت أساساً على نقد راديكالي تقويضي للافتراضات الميتافيزيقية ومحاولات تأسيس المعرفة على قواعد وضعية منهجية.
والعمود الفقري في منهجيته هو نقد النظريات الغربية حول اللغة والاستخدام اللغوي، واعتبارها قائمة على مركزية كلامية Logocentric (أي أنها قائمة على الحضور الميتافيزيقي )، لأنها أساساً قائمة على مركزية صوتية Phonocentric (أي أنها نظام يعطي الأولوية والأفضلية للصوت على الكتابة في تحليل مجمل الخطاب اللغوي). وهكذا تسلل مصطلح الحضور إلى ترسانة التفكيك المبكرة، وأخذ يعني المدلول المتسامي الذي انقلب إلى قاعدة مطلقة خارج حركة اللغة نفسها، وبات قادراً على مركزة النظام اللغوي وتثبيت معني محدد لعبارة منطوقة أو مكتوبة داخل ذلك النظام.
الخطوة التالية كانت البرهنة على أن جميع المحاولات الفلسفية لتبيان تلك القاعدة المطلقة في الحضور تظل محاولات واهمة، خصوصاً ما كان منها يتعلق بافتراضات المركزية الصوتية بصفة خاصة. ولقد ذكر دريدا أن مغزى الكلمات التي ينطق بها المتكلم هو المغزى الوحيد الذي يصبح حاضراً وتاماً في وعيه، وعلى الفور. وكما أشرنا قبل أيام في مناسبة رحيل الفيلسوف الفرنسي الكبير، كان بين أبرز إجراءات دريدا في كشف (وبالتالي: تفكيك) ذلك الحضور الافتراضي لمعنى محدد سلفاً، هو قلب الهَرَمية التقليدية التي تقول بأسبقية الكلام على الكتابة (ومن هنا الأهمية الفائقة لكراسة دريدا الشهيرة "صيدلية أفلاطون"، التي ترجمها الصديق الشاعر العراقي كاظم جهاد). الإجراء التالي هو استبدال هذه الهرمية المقلوبة عن طريق إدخال كتابة بَدْئية - écriture Archi ليست سوى تكوين مُختلق لكنه مع ذلك يمكن أن يدل على الكلام والكتابة في آن.
غير أن واحدة من أهم محاججاته التشكيكية مستمدة في الواقع من أبحاث اللساني السويسري فردينان دو سوسور، وهي تلك القائلة بأن العناصر الكلامية والكتابية (أو "الدال" في العبارة التقنية) والمعاني (أو "المدلول") داخل شبكات لغة ما، إنما تدين بهويتها ليس إلى سماتها الوضعية أو الموضوعية، بل إلى اختلافها عن سواها من أصوات كلامية، وعلامات كتابية، أو تصريحات مفهومية. واستنتج دريدا أن السمات المميزة للدال والمدلول ــ وهي السمات التي تدخل على الدوام في شبكة من الاختلافات ــ ليست حاضرة أبداً، كما أنها في الآن ذاته ليست غائبة أيضاً. نتيجة كهذه قادته إلى نحت مفردة Différance أو "الاخـ(تـ)ـلاف" حسب اجتهاد كاظم جهاد، الذي سبق له أن ترجم أيضاً مختارات من دريدا صدرت بعنوان "الكتابة والاختلاف"، والتي تعني "الاختلاف" و"الإخلاف" في آن معاً. وفي رأي دريدا أن المعنى يولد عن طريق دخوله في حال اختلاف مع عدد لا حصر له من المعاني الأخرى البديلة، وأن مغزاه بالتالي يخضع لعمليات إرجاء واختلاف وانتثار Dissémination.
فإذا تخيل المرء تطبيق دريدا لهذه المبادئ على قراءات نقدية معمقة للتراث الفلسفي الغربي بأسره، فان من السهل للمرء ذاته أن يتخيل مدى التفكيك الذي مارسه الرجل على عشرات النصوص الكبرى التي لاح (وما يزال يلوح عند الكثيرين) أنها معصومة عن قوانين ذلك اللعب الخفي الخبيث بين الدال والمدلول، بين الاختلاف والإخلاف. و "صيدلية أفلاطون" (1) ، مثلاً، نموذج أساسي ومبكر على قراءة دريدا لمحاورة "الفيدروس" لأفلاطون، وللنقد السقراطي العريق، وكيف أن أفلاطون استخدم الحيلة البارعة المتمثلة في الزعم بأنه لا يقوم بما هو أكثر من إعادة تسجيل كلام أستاذه وأبيه الفلسفي سقراط. والحال أن أفلاطون كان يقوم بإحياء سقراط حين يعيد كتابة أقواله، وكان أيضاً يقتل سقراط حين يخرق قانون الأخير في تحريم الكتابة. وهكذا فان صيدلية أفلاطون تأسست على مبدأ الكتابة بوصفها السمّ الذي يقتل ويعالج في آن.
والتفكيك، باختصار شديد وشبه مدرسي، هو تفجير عنيف لمزاعم المدرسة البنيوية في ادعاء الإجابة على جميع الأسئلة الفكرية والفلسفية التي كانت تشغل العصر. وبدلاً من تشييد البنى في البنيوية، شرع دريدا في تقويض تلك البنى، وكل بنى سواها في النصّ واللغة. كان البنيويون سعداء بالتوصل إلى سلسلة هياكل داخلية هي التي تحدد طبيعة الأشياء والظواهر (2)، حتى جاء الرجل ليقلب الأمور رأساً على عقب، ولكي يبرهن أن البنى محض تكوينات ميتافيزيقية. وهو دمر، دونما مبالغة، الفكرة البنيوية المدللة القائلة بأن العلامة ثابتة على يد الذات المتكلمة، مشيراً إلى سلسلة لا نهاية لها من الاختلافات والارجاءات في معاني اللغة.
والتفكيك سعى إلى زعزعة أسطورة المعنى الثابت، وإضاءة تطرف اللغة، واللعب اللانهائي داخل حركة المعنى، الكفيل بنسف كل النصوص والأنظمة الموحدة. وهو أيضاً زعزع استقرار الثنائيات الكونية الشهيرة: كلام/كتابة، حضور/غياب، حياة/موت، هوية/اختلاف، امتلاء/خواء، معنى/لامعنى، عقلاني/عاطفي... ذلك لأن تلك الثنائيات انقلبت إلى أدوات جبارة لإيضاح (أو، حسب التفكيك، الزعم بإيضاح) البنية الجوهرية للفكر الإنساني، وللثقافة، واللغة.
وفي نص شهير بعنوان "رسالة إلى صديق ياباني"، 1983، اعتبر دريدا أن "مشكلة مصطلح التفكيك لا تكمن في صعوبته أو اشكاليات ترجمته إلى لغات أخري فحسب، بل أساساً في أن جميع اشتقاقاته ومفرداته ومتعلقاته اللغوية والفلسفية قابلة بدورها للتفكيك، أو هي فُككت لتوها"! ويتابع دريدا، في عبارة تضيف المزيد من الغموض بدل إجلاء بعضه: "ما الذي ليس تفكيكياً؟ كل شيء، بالطبع! ما التفكيك؟ لا شيء بالطبع! ولا أعتقد، لهذه الأسباب، أن الكلمة جيدة Un bon mot. إنها بالتأكيد ليست حسنة Beau. ولا ريب البتة في أن لها فائدة في موقف شديد التحديد. ولكي نعرف ما الذي تم إقحامه عليها في سلسلة إبدالات ممكنة، وذلك رغم نقائصها الجوهرية، فإن ذلك الموقف شديد التحديد يحتاج إلى تحليل وتفكيك. وهذه مهمة صعبة ولا أنوي القيام بها هنا"!
وأما في ميدان النقد الأدبي، فليس ثمة وضوح (دعْ جانباً إمكانية الاتفاق) حول طرائق القراءة التفكيكية، وأواليات تحليل النص الأدبي في سياق تفكيكه، وهذا رغم انتشار التفكيك في أربع رياح الأرض، خصوصاً في الولايات المتحدة ولدى نقاد فاعلين من أمثال بول دي مان وجيوفري هارتمان وهارولد بلوم وجوناثان كللر وستانلي فيش وغاياتري شاكرافورتي سبيفاك وبرباره جونسون وج. هيلليس ميللر. وهذا الأخير يشرح منهجيته التفكيكية في نقد النصوص الأدبية، كما يلي:
"التفكيك كطراز في التأويل يعمل عن طريق الدخول الحَذِر والمحترس إلى كل متاهة نصية... والناقد التفكيكي يسعى، عن طريق سيرورة إعادة الإقتفاء هذه، إلى العثور في باطن النظام الخاضع للدراسة على العنصر المجافي للمنطق، وعلى خيط في النص المعني كفيل بحل كل الخيوط، أو على الحجر الرخو الذي سيقوض البناء بأسره. والأحرى القول إن التفكيك يعدم الأساس الذي ينهض عليه البناء، عن طريق تبيان أن النص قوّض البناء لتوّه، عن دراية أو عن جهل. التفكيك ليس فك تركيب البنية في نص ما، بل هو الكشف على أنها نفسها فكت تركيب بنفسها" (3).
وغني عن القول إن هذا الاقتباس يغني عن أي تعليق حول غموض الموقف في جبهة النقد التفكيكي للنصوص الأدبية. وثمة، بالطبع، اعتراضات جدية واسعة النطاق على مثل المقاربة التي يقترحها ميللر. ولعل كتاب مايكل فيشر "هل يشكل التفكيك أي فارق؟ ما بعد البنيوية والدفاع عن الشعر في النقد الحديث" (4) هو أبرز الأعمال التي تساجل ضد التفكيك في ميدان الدراسة الأدبية.
وفيشر لا يخفي انشغاله الأساسي الذي يدور حول زعم العديد من النقاد المعاصرين بأن النص لا يملك معنى وحيداً منفرداً، بل هو تقاطع طرق لمعانٍ متضاعفة غامضة ، كما لا يمكن اختزاله إلى بيان واحد منفرد الصوت، إذ أنه موحد الصوت أو متعدد الأصوات على حد تعبير ج. هيليس ميللر. اهتمام المؤلف هنا لا ينصب على التفكيك وحده، بل على التيارات الأعرض التي يلخصها التفكيك، تلك التي تسائل (بطرق متنوعة) قدرتنا على تحديد معنى النصوص الأدبية وغير الأدبية. والانتقال من التفكيك إلى ما بعد البنيوية في عنوان الكتاب، يشير إلى عزم المؤلف على مناقشة نقاد من أمثال بلوم وفيش وهارتمان وسواهم ممن ينتمون إلى معسكر التفكيك، لكنهم يعتمدون الكثير من افتراضات التشكيك بالمعنى، تلك التي يذهب بها التفكيك إلى الدرجات القصوى. وبدل التركيز على الفوارق بين هؤلاء النقاد، يحاول المؤلف مناقشة الافتراض الكبير الذي يجمعهم: المبدأ القائل بأن الأعمال الأدبية غير قابلة للتحديد.
وراء سؤال الكتاب، كما يطرحه العنوان، ثمة معادلة ذكية: حين يحاجج التفكيكيون ضدّ إمكانية تحديد المعنى، ألا يسعون في نهاية المطاف إلى إيجاد فارق ايجابي في سُبُل تعاملنا مع الأعمال الأدبية؟ صحيح أنهم يستبدلون الدفاع عن الأدب بادعاء الهجوم عليه، سيما في امتيازه كخطاب خاص، ووظيفته كمستقرّ للقِيَم الإنسانية، وصلابته كمؤسسة ثقافية. لكن هذا الحطّ الجلي من منزلة الأدب، في عرف التفكيك ذاته، يقوم في واقع الحال بتحريره من التخطيطات التفسيرية الجاهزة التي خنقته على الدوام. والعوائق التي وُضعت من حول الأدب لم تسفر سوى عن تطويعه وحمايتنا من انفجار الحقائق المقحمة عليه، بصرف النظر عن تعقيدها.
ويدور نقد فيشر للتفكيكيين حول تدميرهم لموضوعاتهم ذاتها، بوسيلة التشكيك في الوضع المعرفي للأدب والنقد. السلاح الذي يحرر الأدب في رأي التفكيك (أي تعذر تحديد المعنى الأدبي) ينتهي إلى إخضاع الأدب في المؤسسة الأكاديمية التي يحتج عليها التفكيكيون. بكلمات أخرى، التفكيك في استنتاج فيشر مرآة تعكس الشروط التي ينهال عليها التفكيكيون بالنقد، ومن هنا تواطؤهم مع الجيوب التأويلية التي لا يكفون عن إدانتها. ورداً على جملة شكوك التفكيك حول اللغة، يشدد فيشر على الثمن الباهظ الواجب سداده لقاء تحويل تلك الشكوك إلى مسلمات ومعايير. والتفكيكيون لا يزعمون بأن النقد (الفكري والسياسي) غير وارد فقط، بل يذهبون إلى حد الجزم بتعذر حدوثه، وتقديم الضمانات اللازمة أيضاً! ها هو هارتمان، مقتدياً بتمارين دريدا، يقفز من استحالة تمرير حكم نهائي محدد على القراءة، إلى استحالة التوصل إلى تقييم عقلاني للقراءة ذاتها. وفي غياب أية وسيلة دفاعية للسيطرة على النصوص، فان السبيل الوحيد لابعادها عن خطر التلوث الروتيني بقراءات لا نهاية لها هو الإعراض عن تدريسها أو إخضاعها لنقد "بيروقراطي".
وفيشر حريص، من جهة ثانية، على مناقشة الأصول الفكرية للتفكيك. وبدل اقتفاء تلك الأصول في أعمال سابقة تؤسس للتفكيك (عند نيتشة وسوسور وفرويد وهايدغر)، يلجأ إلى ناقدين أبديا مقاومة شديدة مبكرة أمام جميع التنظيرات التي ستسرّع ولادة التفكيك: ماثيو أرنولد، ونورثروب فراي. لقد فعلا ذلك عن طريق دفاعهما عن الشعر، وتمييزهما الأدب عن الكتابة خارج الأدب (بما في ذلك النقد)، وتحويلهما الدراسة الأدبية إلى مصدر للقِيَم الجمالية والأخلاقية، وترخيص الإحالة إلى الواقع في الكتابة الخطابية (إذا لم نقل الأدب)، وبالتشديد على فكرة التقدم.
أرنولد وفراي قاوما التفكيك، ومن هنا رغبة بعض النقاد في استخدام أعمالهما كردّ على التفكيك. بيد أنهما تكهنا بقدوم التفكيك، فشددا على السلطة الأخلاقية للأدب والموقع المعرفي للكتابة الخطابية والنقد الأدبي. دفاعهما الناجح عن الشعر تمحور حول أهمية الأدب في همومنا الفكرية والجمالية والعملية، وحاجتنا إليه في السلوك مثل حاجتنا إلى الجمال. الدفاع عن الأدب يقتضي، أولاً، أن ندافع عن مزاعم الحقيقة الخاصة بالأدب، أي عن قدرة ذلك الدفاع في إزالة العوائق الموضوعية أمام الأدب. وادعاء وظيفة مهنية للأدب لا يمكن أن يعتمد على سياق آخر غير تأنيس العمل وتنظيمه حول القيم التي يمكن للأدب أن يوطدها.
ويشير فيشر إلى صعوبة الجزم حول ما إذا كان بمقدور دريدا وحلفائه الأمريكيين التوصل إلى نتائج عملية لجهدهم التنظيري الهائل، وما إذا كانوا راغبين في إحداث فارق ما في سُبُل تناولنا للعمل الأدبي. وكما هي الحال في كل حركة تواجه معارضة شديدة، تعكس مزاعم التفكيكيين الاتهامات العنيفة ذاتها التي تولدت عن جملة إجاباتهم على أسئلة الأدب. وهكذا، حين يقرن الخصوم المحافظون أو التقليديون التفكيك بتحقير العلوم الانسانية وتدمير القيم التقليدية، يردّ المدافعون عن التفكيك بالتشديد على افتتان الفلسفة الصريح بممارسة اللهو الحر باللغة واستعراض مهارات القراءة البطيئة!
ويختتم فيشر كتابه بالقول إن التفكيك يصنع فارقاً واضحاً: إنه يقوّي الترتيبات السياسية والتربوية الناجزة بدل إضعافها أو تدميرها أو إبقائها على الحال التي هي عليه. إنه يوحي بإضاءة أرض جديدة، لكنه يتابع إقامته في الحرفة ذاتها التي حقّرها وحطّ من قدرها. الفارق الذي يشكله التفكيك ليس ذاك الذي افترضه المدافعون أو الخصوم، وبدل هز أركان الغطرسة النظرية الأكاديمية حول الأدب، يقوم التفكيك بتعزيز استراتيجيات تلك الغطرسة ويجعلها أكثر أماناً وسطوة. وفيشر لا ينكر عنصر الجدة في التفكيك، لكنه يحاول البرهنة على أن القوى التي تفجرت في ميدان التفكيك ليست جديدة على الإطلاق، ولعلها ماثلة بهذا القدر أو ذاك في مجمل تاريخ النقد الأدبي.
جديدة وليست جديدة في آن، ومستقرة وإشكالية، وغامضة بقدر ما هي رائجة منتشرة! هذه النقائض ليست ثنائيات جديدة في وجه التفكيك، غير أنه ليس من الإجحاف القول إن رحيل جاك دريدا سوف يفقد التفكيكيين سلطة كبرى، إذا لم تكن الوحيدة من عيارها، يصعب عليهم بعدها ممارسة الفلسفة كما أرادها صاحبها: منهجاً في قراءة النصوص، وفي تفكيكها، وفي تفكيك التفكيك!



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدران محاكم التفتيش
- في أيّ سوق نصرف وعيد إياد علاوي ودموع برهم صالح؟
- دريدا والزرقاوي
- التعديل الوزاري في سورية: مَن سيرمي رامي مخلوف بباقة زهور؟
- أشواق المستهام
- توني بلير الأحدث: صوت سيّده أكثر فأكثر
- ما الذي يمنع سيّد العالم من اعتلاء العالم
- طبيب -طاسة الرعبة-
- واشنطن ودمشق: الضجيج الذي قد ينذر بالعاصفة
- العمل الفني الأعظم
- -الخطر الأخضر- الذي عوّض الغرب عن -الخطر الأحمر-
- طرزانات أمريكا
- من دمشق إلى بيروت: تمديد الرئاسة أم تقزيم الوجود السوري؟
- طبقات الشعراء
- بيريس وحزب العمل : زالت المصطلحات وبقيت الانتهازية العتيقة
- حكمة الوقواق
- بعد نصف قرن على المصطلح: ما الذي يتبقى من كتلة عدم الإنحياز؟
- نوستالجيا الأبيض والأسود
- فرنسيس فوكوياما وتفكك اليمين الأمريكي المعاصر
- إقليم دارفور بين -لعبة الأمم- و-بورنوغرافيا الكوارث-


المزيد.....




- -لم أستطع حمايتها-: أب يبكي طفلته التي ماتت خلال المحاولة ال ...
- على وقع قمع الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين بالجامعات.. النواب ال ...
- الصين تتيح للمستخدمين إمكانية للوصول السحابي إلى كمبيوتر كمي ...
- -الخامس من نوعه-.. التلسكوب الفضائي الروسي يكمل مسحا آخر للس ...
- الجيش الروسي يستخدم منظومات جديدة تحسّن عمل الدرونات
- Honor تعلن عن هاتف مميز لهواة التصوير
- الأمن الروسي يعتقل أحد سكان بريموريه بعد الاشتباه بضلوعه بال ...
- ??مباشر: الولايات المتحدة تكمل 50 في المائة من بناء الرصيف ا ...
- عشرات النواب الديمقراطيين يضغطون على بايدن لمنع إسرائيل من ا ...
- أوامر بفض اعتصام جامعة كاليفورنيا المؤيد لفلسطين ورقعة الحرا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - صبحي حديدي - رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004): مَن بعده سيتولى التفكيك، وتفكيك التفكيك؟