أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك مسلماوي - تحولات لغة الزئبق ( قراءة في اشجار الجهة العليا)















المزيد.....


تحولات لغة الزئبق ( قراءة في اشجار الجهة العليا)


مالك مسلماوي

الحوار المتمدن-العدد: 3395 - 2011 / 6 / 13 - 14:59
المحور: الادب والفن
    



الزمن وان كان بليدا وفارغا, فهولا يخلو من مفاجأة, لا أقول (حلوة) , إنما استعير كلمة (مزة) التي ترددت في نصوص (أشجار الجهة العليا)1 , فهي الأدق في موضع الإثارة وتحريك الإحساس بالوجود.
في تلك الأمسية الجهنمية وقع النص بين يدي, فانزلقت في نهر الشعر العميق فورا إذ قرأت : أي اله في الجهة العليا للأشجار.. سؤال لا يصل إلى القاع , كالغيوم الناصعة..
قلت لنديمي الموبوء بسحر الكلمة :"لدي الرغبة في الكتابة عن الشعر, تضاهي الرغبة في كتابة الشعر.". فما كان منه إلا أن خطف القلم , ودوَّن العبارة على الصفحة الأولى من الكتاب, واضعاً علامة تعجب في نهايتها..فتذكرت, إن على المتكلم مسك أفكاره بالكتابة , وإلا فمصيرها الضياع ما لم توثق في لحظة وجودها الخاطف !
منذ تلك الأمسية كان "السؤال" على لساني, وربما سمعه احدهم فظن أني في سورة هذيان .. (أي اله في الجهة العليا للأشجار؟) ...قد يكون منشئ النص أراد النداء أو الدعاء , لكني أميل إلى صيغة السؤال , بما فيه من انفتاح وترقب , بينما يحيل النداء إلى غائية ضيقة..لذا قرأت (أيّ) على إنها اسم استفهام معرب , بينما في النداء تكون حرف ساكن لا يجوز تحريكه . وعلى أية حال فقد صيغ من العبارة عنوان المجموعة الشعرية: (أشجار الجهة العليا) بمهارة فائقة...
وإذا كان عنوان النص له من الأهمية المفترضة في كشف طبيعة وسيكولوجية النص, فانه هنا يعبر عن الفضاء الحر الذي تتحطم فيه أقفاص الكلمة وحشمتها المعهودة , نائية عن جذورها العميقة , لتتحرك نحو فضاءاتها العليا كما الأشجار.. وللوهلة الأولى تعقبت العناوين الداخلية , كانت تتشكل من كلمتين ترتبطان ب(عامل الإضافة) أو (الجر) باستثناء العنوان الأخير فجاء (ضميرا) , وعنوانين آخرَين معرفين ب(أل) .. فالعناوين في مجملها (معارف),وهذا يدعم الانطباع, بان النص ينهض من ثيمة معلومة ومحددة وينطلق في تداعيات لا نهائية... ثم أنها شكلت بؤرا مشعة, وحدّا لافتا من الاختزال , مثل "رجل من رصاص" و"عازف الأحجار" و "صياد النجوم" و"أشلاء الشعور" .. ومن العناوين ما جنح نحو"الفنتازيا" مثل: "سوق ألراس" و"إعالة التحديق" و"أحذية فمي".
وإذا كان لنص الحداثة مستويات قرائية بحسب طبيعة التلقي, فان "أشجار الجهة العليا" لا تنأى عن هذا الإقرار, إنما تنماز بخاصية الجنوح نحو العمق باحثة عن قناعة ما.. في تشابك ما هو يومي, سطحي مع ما هو خطير وعميق في تجليات النص. فالنص هنا" له مقوماته الفكرية.." كما ورد في مقدمة الناقد رشيد هارون , وانه يتنكر للافتعال و"الصناعة" , وينمو نموا طبيعيا تلقائيا معولا على لغة متحررة من "القصديات" الجامدة.. إضافة إلى كونها لغة بسيطة لا تستهلك الذهن بقدر ما تنتجه من تخيلات باهرة تتوالد باستمرار وتمنح القارئ متعة الاكتشاف..(فقصيدة النثر لا تعطي معاني ثابتة محددة بل تخلق إيحاءات يولدها عادة مولد لساني – كلمة أو جملة أو صورة – ثم تبنى عليها استطرادات سردية تؤدي إلى خلق اثر الشعر...)2 , فالقصد هو المعنى المحدد, من هنا حمل مصطلح "القصيدة"في بنيتها الكلاسيكية ارتهانه بالمعنى أي القصد الذي يسعى إليه الشاعر , وينتظره المتلقي ..لكن المتن الشعري الحديث كسر هذا الارتهان ليحل محله "الأثر"..يقول احد النقاد: (وليس الشعر في المعنى , انه في ما يثيره من نبض الحياة ..)3 وهذا ما يتمثله نص "فريدون بينجويني"..
تفتتح المجموعة بنص مبلل بالحزن المقصود المعبر عنه بالبكاء.. ولكن أي بكاء ؟انه الطاقة التي تدفعنا إلى الحركة والغناء والرقص:
كي اجعل من تهوراتي غناء
لا بد أن ابكي على إيقاع رقصة (الدبكه)...
كي أتمكن من البكاء
لا بد أن ابلل كاملا
في صميم الاماسي
تحت هطول الغروب ! رجل من رصاص ص17

على هذا الإيقاع المحرك للأحاسيس والمشاعر والأفكار دفعة واحدة, يتناغم الوجود بسكونه وحركته بجموده وحيويته بهمجيته وإنسانيته , أمام أسئلة الإنسان ووعيه المشاكس .. ثم يتتابع النص مشحونا بالانفعال والرؤية المضطربة:
(ارغب في البكاء في الطقوس العقائدية
أكثر وأعمق من البكاء عند السكر في صميم الاماسي
ولا عقيدة لي
أحب بندقية الثورة , أكثر
وأجمل من أية وسيلة انتحار
ولا اعرف شيئا عن الثورة ) رجل من رصاص ص20

وإزاء انكشاف الذات الخارجة من براءتها لتقف بالضد مرة, والانفصال مرة مع مظاهر اجتماعية ووجودية راسخة,يلح النص سعيا لخلخلة القيم والنواميس الجائرة , وفك الاشتباك مع التاريخ والنظم والايدولوجيا وما خلفته من صراعات مازالت تنز الدماء :
(راكبو الكلاب الأقزام
عادوا من الحروب الضارية
كانت إحدى قدميهم حافية
والأخرى تنأى في جزمة مليئة بالدماء
وهي من جلد الرجال الثيران ) العائدون ص52
ويصل هذا الانفصال حد الاحتكاك بالمقدسات واتهامها بالخديعة والانهزامية:
(حينما عادوا لم يكن يعرف من منهم عيسى ؟
من منهم موسى ؟
من منهم محمد ؟
عانقوا الناس المخدوعين بشدة
منتحبين باكين
مثل القادة المذلولين النادمين ) العائدون ص52

هكذا تمحور النص على مقاربات ذكية للتاريخ والواقع والمفاهيم الراكدة , بغية إسقاطها وسلخها عن مسوغاتها الموضوعية ... ولا تنجو الذات المتمردة من الاعتراف بالضعف والابتزاز وغياب الإرادة:-
(هذه ليست يدي
إذ تصفقان بالإيعاز من السحرة
هذا ليس وجهي
إذ أكلته اللحية
هذه ليست بصيرتي إذ ترى الأشياء في حالة سكونها وجمودها فقط
وهذا ليس أنا ) العائدون ص 54
إن الذات المتمردة على شكل وروح الحياة القائمة هي حقل للقناعات السالبة, حيث تزدهر براعم القلق الوجودي ابتداء من الطفولة الضائعة والأحلام المحطمة , وتأخذ النظرة إلى الأشياء ملامحها المحيرة وانكساراتها المفاجئة خارج المهيمنات الاجتماعية و السياسية السائدة.. في الوقت التي تعمل على استفزاز تلك المهيمنات والتصدي لها , وإظهار ما تنطوي عليه من حيف وزيف:
(اذهب ولا أبالي بعلم بلادي العملية المومس
التي منكس إلى قدميها دوما
مثل مايوهات بنات هوليود
أغرد وأتجنب الخجل
أمام أي مجلس شريف
أتمشى في ثقوب النايات جميعا
ذهابا وإيابا
منتعلا أفكارا وآراء
جميع ذوي اللحى البيضاء) سوق الرأس ص45
إن النص دائما في بنيته الشكلية يتفجر من(بؤرة) أو (مولّد لساني) نحو تحولات غزيرة تماما كعين الماء المتدفقة وهي تفيض على ما حولها وتنصرف إلى مساحات شاسعة..وغالبا ما تكون البؤرة "عبارة أو كلمة " تتكرر بإلحاح في أنحاء النص , وتنبني عليها تنويعات وتلوينات أسلوبية تأخذ شكل الحكاية غالبا . وهذا الميل الواضح إلى السرد هو محاولة للامساك بتفاصيل الواقع واللعب معها أو محاكمتها بجرأة ووضوح . ولذا فان النص يبدو خليطا من ثيمات وحوادث ومفارقات لا يجمعها جامع على سطح الرؤية , تلتقي أو لا تلتقي في النهاية على حدود النص, إنما تتكدس في أفق مطلق يمارس فيه الشاعر حريته على أوسع نطاق, صادرا عن منطلقات (بؤر) تأخذ دور (اللازمة) في الأغاني الشعبية .. على سبيل المثال تكرر كلمات مثل:- رجل , جميع, أي اله , الهي . في نص " رجل من رصاص".وعبارة "أسوق دراجتي " في "سوق الرأس" و " التحديق " في "إعالة التحديق" و "أعطيني يديك الصغيرتين " في"سهل الضحك " و " شخص " في "الشخص الوحيد " و "النهر , الغجرية " في "عاصفة الألوان "..................الخ واعتقد إن هذه " اللازمة" الشعرية تحفظ النص من التشتت المفرط وتديم الصلة بروحه ...وهذا نموذج من الدوران حول بؤرة " أسوق دراجتي " في نص " سوق الرأس " وهو نص يفيض بالسريالية :
(أسوق دراجتي
عبر شارع سريالي
يمتد من وسط مخيلتي ويتوارى في المغيب ..
أسوق دراجتي
دون الانتباه إلى اللذة العارية
التي دفعتني إلى قضم شفة كأسي
أمام الناس كلها....
أسوق دراجتي
متتبعا خيوط الألوان
التي تتساقط من كيس مشقوق
وهو على كتف حمال...) ص43
وعودا على السمة الأكثر بروزا في المجموعة , تلك هي المنحى السردي, فالنص الشعري الحديث لا ينجو من السرد , بعدّه جسرا للواقع لان الشعر الحقيقي هو ما يسير على الأرض , يرى ويسمع ويصف , ويقاتل ... و (أشجار الجهة العليا) حفلت بالانعطافات السردية التي أغنت النص بالحركة والسعة والإمتاع:
(... فمرة حين كنت احمل بيضات ثلاث هبة إلى معلم الرياضيات مرتعش اليد أكثر من ارتعاشة القلب, كانوا قد حرضوا – بازه – الكلب علي. بازه كان ولدا طيبا أطيب منهم جميعا.... فحين سقطت على الأرض تماما لم يأكلني, وتكسرت البيضات في حقيبتي, لم يمزق كتبي ..) رجل من رصاص ص 13
والسرد في المجموعة إما يتواطأ مع الواقع - كما في النص المتقدم - أو يهدم الواقع ويعيد بناءه من جديد بحيث تبدو الأشياء أكثر لمعانا باقترابها من الأجواء الأسطورية والحكايات الشعبية ,في إطار رؤيا خاصة تعتمد لغة "براجماتية" مؤنسة :
(مرة
كنت ممدا على فراشي
حركت المخدة تحت رأسي
حرك الجميع في شتى أنحاء العالم
من ذكر وأنثى
مخداتهم
وهم نيام
قمت وناولت شفتي نايا
وبدأت بتدخينه كأنه سيجارة بلا دخان
فعل الجميع ما فعلته
..............
ضحكت فضحكوا جميعا
نزعت ملابسي
فنزع الجميع "من ذكر وأنثى"
ملابسهم !
وهكذا
حينما شاهدت الناس عراة
فورت فورانا
ففضت على نفسي ..) الشخص الوحيد ص70
ويتجلى السرد بأصدق صورة في (عاصفة الألوان ) حيث يتحول النص إلى رؤيا سردية متشعبة يهيمن فيها الخيال وينكسر الواقع وينفصم الزمن , ليحل الماضي محل الحاضر الغائب ويستتر المستقبل فلا ينبئ عن شيء . ويتلون السرد تبعا لمزاج السارد فهو محايد ولا محايد , عقلاني ولا عقلاني , "جواني" و "لا جواني" , جرئ ولا جرئ... وهكذا
أما لغة السرد الشعري فهي لغة زئبقية متحولة أيضا ,تطفح بالإشارة والإيماء والرمز, وتلجأ –في أحيان كثيرة- إلى الكناية "غير التقليدية" , فهي لا تركن إلى منطق ولا يحكمها سياق , مما يضعنا إزاء "بنية ديناميكية متحركة", وفق التوصيف الذي أورده الدكتور "سعيد حسن بحيرى" إذ يقول :( وربما يجنح عدد غير قليل من الباحثين إلى عدم الالتزام بحد معين للنص , ونجد لدى بعضهم تلك المزاوجة والانتقال بين الاتساع والتضييق ... واستنتاج تصورين كبيرين للنص:احدهما "استاتيكي" والأخر "ديناميكي" ..)4 :
("النهر" كان بنتا غجرية تبيع الخردة و"العتيق"
جاءت إلى هنا مغردة
من الأضواء المضيئة خلف الجغرافيا
كان لديها من جنس المخلوقات
عددا واحدا للبيع والمقايضة
باعت امرأة عجوزا لكلب ذكي
فاشترت بنقودها
مكنسة قديمة من الإعشاب اليابسة
ذات السيقان الطويلة....) ص88
و يتشظى السرد بهذه الديناميكية , بين التاريخي والديني والسياسي والجنسي , ويعود إلى اللازمة "البؤرة" بعد كل مقطع , والمقاطع تبقى سائبة ,وقد تنتهي بشكل حاسم :
("النهر" كان بنتا لعوب وغاوية
قايضتني ملابسها الداخلية بقلبي
فلم يمض وقت طويل
حيث هاجرتني بصيرتي وراءها اثر قلبي
........................
أنا الآن
أخاف أن يصدر الدكتاتور الأوامر ثانية لهذا الإقليم
بالهجرة الجماعية
لذا ابحث عن الغجرية
لكنهم يقولون أنها ذاهبة إلى بيت الرياح
أخاف أن يجعلوا من بيت "كوران" ثانية
مختبرا للتحليلات الكيماوية
لذا ابحث عن الغجرية ) ص91
ومن الواضح أن النص يعمل على استدراج اللغة خارج أطرها الدلالية والسياقية الرصينة, ويعبر بها حاجز الانفلات لتكون قادرة على توفير حمولاتها الجمالية والبلاغية , ومسك وجدان المتلقي باتجاه التحفيز الذهني وفتح أفق التأمل.. فقراءة النص "هي لذة وليست واجبا.." وفق ما طرحه "بارت" من مفهوم "سيميولوجي" للقراءة, لكني أرى النص هذا يوفر الفرصتين معا.. واللذة هي (المتعة) التي تحدث عنها " اليوت " في مقاله عن مهمة الشعر الاجتماعية , حيث عدها أولا , ثم ذكر التغيير الذي يحدثه الشعر: (أظن أن أول مهمة من مهمات الشعر هي على وجه اليقين إثارة المتعة... وأظن أننا جميعا ندرك نوع التغبير الذي يحدثه الشعر في حياتنا ذلك التغيير الذي هو ابعد مدى من المتعة...)5
في البحث عن "الغجرية"التي هي رمز العفوية والبساطة والحنين إلى الحرية , أجد خيطا يصل بين "فريدون" و"لوركا" في مفرداته البريئة والأداء "المصطبغ من حيث التناول بالسريالية.."ونبرة الحزن التي نستشفها وراء النص ,إضافة إلى حتمية الوقوع في السرد... وامتلائه بالحركة والتوثب. يقول "ادونيس" :(واعلى مستويات هذه الوظيفة "وظيفة الشعر" هو المستوى الذي يوقظ في الإنسان رغبته الدائمة في تجاوز المعطى الراهن, ويدفعه إلى اكتشاف ما يبقي الحياة لهبا دائما من الحركة والتوثب والتطلع ..)6
وإذا تدبرنا النص من جهة بعض المصطلحات النصية " إطار النص-مغزى النص-حدود النص..." فليس من اليسير بلوغ الثمرة العالية, ويكفينا أن نرصدها عن بعد . ليس بالإمكان توصيف النص ضمن "كليشيات" نقدية صارمة.. كونه يسبح في فضاء مطلق, فهو حر على المستويين : الأفقي "السياقي" والعمودي "الدلالي" وهذا ما منحه سعة التأثير..واستيعاب مناشط الذات النصية ووعيها المتقدم ..و(سعة التأثير) تحيلنا إلى "مفهوم الأثر"عند دريدا "أو ( القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص ويتصيدها كل قراء الأدب , فالأثر هو التشكيل الناتج عن الكتابة وما الكتابة إلا وجه واحد من تجليات الأثر..)7..والأثر الذي يخلقه نص ما , يتحقق عن طريق وعي الذات , وقدرتها على التعبير عن هذا الوعي.. ولما كانت الذات عرضة للإحباط والهزيمة تعود إلى "ذاتها" علها تحقق شيئا ما , يعيد لها الالفة والانسجام والرضا ولو على حساب قطع الصلة مع الوجود القائم :
(ناديت
يا قلبا خلف الريح .. ارجع
لعلي أستطيع أن اقتل لك في ليلة ما
نجمة سوداء لامعة
...................
يا قلبا خلف خرير الرمان
هنا انفجر
مئة قلب من قلوبي
إذ إنها لم تكن تطيق البقاء بعد..) صياد النجوم ص140

في"قصة الخليقة" إغراق سريالي وعبثية عاكسة للتعايش مع الواقع المهلهل. فتفترض الذات "معادلا " تملي عليه من وحي إرادتها المغدورة ,وتاريخا المشوه :
(اصغ "فرامرز"
سنمر من الأول على أقصى الحكايات المهدمة
هنا كان موطن بائعي المياه الروس
عهد ذاك
كانت النهود تثمر حبات توت مزة الطعم
بدلا من حلمات سود...) ص164
وحيث تفرغ اللغة من طاقتها تهرب إلى العلامة واللغز واسترجاع الأحلام , لمواصلة البث وتبرير فرضية الحوار مع الآخر- العالم :
أصغ "فرامرز"
سنعيد تفسير الأحلام من الأول
كانت بعيدة كل البعد
كلما كانت تقترب كانت تصغر أكثر وأكثر
حينما اقتربت تماما تبددت في عيني
_ عذراء
+ عيسى
_ انوي الذهاب للعب معا
+ على الشاطئ !
_ تحت الشمس
+ سوف لن نعود
_ اذهب بعيدا فرامرز
ارجع بعيدا فرامرز
قارن فرامرز
أيهما أكثر صفر واحد أم صفران اثنان ؟
دع لعبة العروس هذه
لنمر من الأول على أنقاض المجالس المهدمة..) ص168
وإذا كانت "البؤر" النصية شكلت منطلقات نحو فتوحات وتحولات النص , نجد "فرام رز" بؤرة مقعرة استهلاكية , بكونها مستودعا لفيوضات واسترجاعات الذات وانغمارها في التقصي "الميتافيزيقي" للتاريخ , لتناسي ما هو قائم , وإهانته بتمركز الفعل "كان" ومشتقاته.. ويتجه الحوار المفترض نحو معطيات مختلفة و تفاصيل مثيرة ذات ملمح أسطوري:
(سنمر على فضيحة الخليقة من الأول..
هنا كان معسكر الشيوخ الخالدين..
يوما ما
تمخضت بستانة الأعناب ضحكا
فولدت "عمر الخيام"...
سقطت رمانة على حجر
فطار منها خروجا ألف واحد
من طيور ذات أجنحة شرابية
زلت قدم الله عند شجيرة , فسقط ! ص180

إن نزعة النص "التدميرية" لا تستثني التاريخ ولا العلة الأولى "فضيحة الخليقة" وما يجاورها من شك ..فوق انشغاله بهدم الواقع , لذا دائما ما يصعد النص باتجاه "المقدس" الأعلى باحثا عن اليقين المفقود:
(...الباقي هو الريح!
معترضا أنا:
الباقي هو الله!
وقائلا أنا تارة أخرى:
الباقي هو الريح!
معترضا أنت:
الباقي هو الله ! ص183
ويبقى السؤال الكبير- عن الله - معلقا منذ الشروع في رحلة النص ,ليس على أساس التبشير الإلحادي, إنما الذهاب بالوعي إلى اخطر درجاته ومناوشته ل "التابوات"المتحجرة على مدى التاريخ..لذا يشكل المقدس حضوره ألعمدي على مساحة النص بأساليب مختلفة: استفهام , تقرير,إنكار....الخ:
( أخاف
أن لا أتمكن نهائيا
من تصور شكل عرش الرب..) سوق ألراس ص49

(كان النهر ينتظر خلف أكوام
من صخور كبيرة
ليرى ماذا يحدث عند وصولك !
وكان الله مترددا
يقدم أي منا على الآخر؟ ) أشلاء الشعور ص12

(اذهب إلى الله وقل له:
عتبنا عليه
فهناك بين كورده
من ينام فوق الورود
ومن ينام فوق التراب..) صياد النجوم ص152

(انظر إلى أحذيتي
لتعرف كم ضيق قلبي؟
انظر إلى مدينتي
لتعرف كم هو ضيق قبري؟
انظر إلى جيبي
لتعرف كم أنا بدون رب؟ ) أحذية فمي ص159

"النص"- كما رأينا- متحرر, تلقائي, ممتلئ ... ثم السمة الأكثر رواجا في شعر الحداثة وهي "الجرأة" في ملاحقة كل "الممنوعات" الاجتماعية والدينية والسياسية.وهذا ما يجعل الشعر- رديفا للحرية التي هي جوهر العملية الإبداعية..لكن النص له ميزة مضافة, إذ انه في اقترابه من "الممنوع" لا يثير ضجة ولا استعداء وإنما يتعالق معه ببراءة وبراعة وحذر وتمويه أحيانا :
(زوجتي
حينما كانت تدفع نهدها إلى فمي
لم تكن مثل أمي منكمشة النهد!
وا أسفاه
لم اشبع من أي منهما! ) رجل من رصاص ص28
لكن هذه الطبيعة "التعرضية" التي أنبنى عليها النص تتحول في النهاية إلى مهادنة مع الذات ومع الخارج , حيث تهدأ العاصفة وتنكشف الرؤيا , فتتحول اللغة تبعا لتحولات الذات الخارجة من حروبها الضارية .. وإذا كانت الذات النصية تحتمي ب"ذاتها" وتقف غريبة وسط عالم يمور بالزيف والخديعة والموت , باتت تستسلم , وتفتح قلبها للطبيعة والمكان والحبيبة .. لذا يزدحم النص بأعلام وأمكنة ومسميات شتى مما يشير إلى تحول العلاقة مع "الخارج" وحتمية الانسجام معه ... (تجدر الإشارة هنا إلى أن النص ولد في أواخر التسعينيات وآخر عنوان كتب في عام 2004 ).
و" النص ابن زمانه" كما يقال..فنراه يجمع أشلاءه وشتاته ويتقصى المعاني الشاخصة في "أحاديتها" , لاغية ذلك التعدد المضني والانشغال ب "اللاشيء":
(قلت له:اذهب
ما مدى ارتفاع "اللاشيء" ؟...) صياد النجوم ص143
إما الآن وقد هدأت المشاعر واتضحت الصورة أخذت الذات المحبطة تبحث عن ما هو ممكن وحميم في المعاني القريبة الشاخصة:
(مسرعا اخرج من عيون المعاني كلها
من العيون العمياء للمعاني المكسورة
من العيون المقتلعة للمعاني العمياء كلها
اخرج صوب أحادية المعنى لعينيك ..) انتم ص 211
ويمتد ذلك إلى الشعور بالانتماء إلى الجماعة :
(يا انتم الأكثر أنا "فريدون"
تفقموا على عيني من الأطراف الأربعة
واتركوا فيهما شقا أفقيا ضيقا
كي أراكم انتم فقط عبره
واحجبوا فضاءات وخلفيات الصورة كلها..) انتم ص212
وفي الختام اخلص إلى إن مجموعة (أشجار الجهة العليا) تضعنا أمام تجربة شعرية حقيقية , غنية بالوعي ومرتكزة على لغة أليفة تستوعب النظرة الجمالية للأشياء. والنص –كما نوه الشاعر- مكتوب أصلا باللغة الكوردية وقد نقله هو إلى اللغة العربية. واعتقد انه قد نجح إلى حد بعيد , بالرغم من تواضعه بقوله : إن أية ترجمة أخرى ستكون أفضل.. ولا اتفق معه في ذلك لان الشاعر يعرف نفسه أكثر من ما يعرف الآخرون..
ومن الأهمية أن أعرج على غلاف المجموعة الذي صممه "جبار صابر" بشاعرية غير مؤطرة, تتساوق مع انفتاح النص "المحسوب" على الطبيعة والإنسان لتقف عناصر اللوحة في المنطقة الفاصلة بين المنظور الواقعي والتجريدي , مدعوما بمعطيات لونية هادئة .
-----------------------------------------------------------------------------
1 - اسم المجموعة :( أشجار الجهة العليا ) للشاعر : فريدون بينجويتي
الطبعة : الأولى . الناشر : مركز كه لاويز(سلسلة خاصة بمهرجان "كه لاويز" الثالث عشر 2009) . تقديم : رشيد هارون
2- حلم الفراشة : الايقاع الداخلي والخصائص الفنية في قصيدة النثر د. حاتم الصكر إصدارات وزارة الثقافة والسياحة – صنعاء 2004
3- لوركا . مجموعة مقالات نقدية الناقد ج.ب ترند . أعداد وتحرير مانويل دوران. ترجمها وعلق عليها وقدم لها د. عناد غزوان وجعفر صادق الخليلي.دار الرشيد للنشر. يغداد 1980
4- علم لغة النص . المفاهيم والاتجاهات أ.د سعيد حسن بحيري . مؤسسة المختار للنشر والتوزيع.
5- مقالات في النقد الأدبي . ت.س اليوت . ترجمة الدكتورة لطيفه الزيات . مكتبة الانجلو المصرية
6- الحوارات الكاملة الجزء الأول . ادونيس . الحوار المنشور في جريدة السفير بيروت 1978. أجرى الحوار محمد العبد لله
7- جاك دريدا في العقل والكتابة والختان د. أمينة غصن . منشورات المدى 2002

الحلة 2010-08-11



#مالك_مسلماوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توهجات حكاية المقهى.. تتمة المنشور قبلا
- توهجات حكاية المقهى (قراءة من الداخل)
- في صحة الديمقراطية
- جدلية المعرفي والجمالي في الخطاب الادبي
- شهوة الانتماء
- زمن بسعر الغبار
- زمن بسعر الغيار
- من مؤسسِّات العنف في الفكر الإسلامي


المزيد.....




- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر
- الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت ...
- مصر.. القبض على مغني المهرجانات -مجدي شطة- وبحوزته مخدرات
- أجمل مغامرات القط والفار.. نزل تردد توم وجيري الجديد TOM and ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك مسلماوي - تحولات لغة الزئبق ( قراءة في اشجار الجهة العليا)