ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 1004 - 2004 / 11 / 1 - 05:35
المحور:
الادب والفن
بعد أن تسربلت بالإحباط من فراغ جارور الخزانة من راتبها الشهري من جرّاء شراء مستلزمات العام الدراسي لأطفالها الأربعة .. وتبخّر آمالها من الإعلان عن المنحة الرئاسية .. أو زيادة الرواتب أو الربح باليانصيب أو تشكيل حكومة جديدة تبحث وتبدأ بالإصلاح السياسي أولاً ويفرج عن زوجها المعتقل منذ سنتين وخمسة أيام .. أحستْ بانقباض شديد ! تمددتْ على السرير وبدأت تراقب خيوط العنكبوت المتسخة العالقة في زوايا السقف .. وثب إلى ذاكرتها مشهد آخر مرة نظفت فيها السقف . كان زوجها معها يعاونها وسط تعليقاتها الساخرة والمحببة له , بأنه لا يمكن أن يرتقي إلى مرتبة المرأة بتنظيمها وترتيبها لأثاث البيت مهما حاول .. واصفة معاونته لها بأنها ( رفع عتب ) .
فجأة , رنّ جرس الهاتف القابع على الكومدينة قرب رأسها ... جفلت وأسرعت بالردّ لئلاّ يواصل رنينه الرافع للضغط كما كان يسميه زوجها دائماً . كانت على الطرف الآخر ابنة أختها ( بتول ) :
• مرحبا خالتو ! كيفك ! ألن تحضري حفل تخريج طلاب البيت العربي للموسيقا ؟
تسرّب إليها شيء من الارتياح يخالطه شعور بالحسد , فهي غير قادرة على تسجيل أي من أطفالها في أي معهد على الإطلاق . أجابتها وهي ساهمة :
طبعاً خالتو طبعاً , كيف استعدادك ؟
• بوجودكم خالتو أنا في أتم الاستعداد , أرجوك احضري معك ( يارا وربيع ) !
( قالت في نفسها : جاءت هذه الدعوة في الوقت المناسب , عساها تخفف شيئاً من توتري وانقباضي ) حاضر خالتو تكرم عينك ! متى موعد الحفل ؟
• اليوم الساعة السادسة مساءً في المركز الثقافي!
في الموعد المحدد اصطحبت ولديها الأصغرين وأخذت مكاناً متقدماً في القاعة ..
هي تعشق الموسيقى بشكل عام , والكلاسيكية منها بوجه خاص . ما إن بدأت الأمسية , حتى احتشد ثلاثة مصورين فيديو , وبرفقة كل منهم مساعد يحمل كبل التغذية الكهربائية للكاميرا . وبدؤوا يطوفون أمام خشبة المسرح لتصوير الحضور . وشرعت أضواؤهم بصفع العيون , وحرارتها بلفح الوجوه . قالت في نفسها : ( من الطبيعي أن يقوموا بتصوير مقاطع من هذه الأمسية لعرضها على شاشات التلفزيون , ولا بأس من التحمّل قليلاً .. ) وما هي إلاّ لحظات حتى قفزوا إلى خشبة المسرح من أجل تصوير العازفين , وحجبوا بأجسادهم ومعداتهم كل ما هو جميل على المسرح .. فلم تعد تستطيع رؤية أنامل العازفين وهي تلعب على الأوتار بمهارة , مما زاد في قنوطها ( سوف أعتبر نفسي وكأنني في بيتي وأكتفي بالسماع , إذ ليس من الضروري رؤية العازفين ... حاولت إقناع نفسها ) وعندما طال مكوثهم على الخشبة يتنقلون ببطء من مكان إلى آخر .. فقد خطفوا الأنظار تماماً , وأصبح شغلها الشاغل ترقّب متى سيحلّون عن خلقتها ... ! لم يعد بوسعها الانتباه إلى عذوبة الموسيقى والتمتع بها. وصار تفكيرها منحصراً بكيفية إيصال نظرها إلى أصابع العازفين للتمتع بأدائهم . وبدأت تخوض معركة حرق الأعصاب ؛ تارةً تميل برأسها إلى أقصى اليمين , فينتقل أحد المصورين إلى الزاوية التي تنظر إليها ! تميل برأسها إلى الجهة المعاكسة , فيتبعه مصور آخر أو مساعده إلى ذات الزاوية التي سددت إليها نظرها ! تكررت هذه الحالة مرات ومرات ...! أصابها تشنج في خاصرتها , بدأت تحرك جزعها يمنةً ويسرةً وتطقطق فقرات ظهرها ونقرتها ... وأخذ العرق يتفصّد من كافة أنحاء جسدها .
زفرت .. تململت .. حوقلت .. تصاعد توترها إلى عتبة الانفجار ! والمصورون ومساعدوهم يروحون ويجيئون على الخشبة .. ! ( أمعقول هذا ؟ !! ولا شخص يعترض على هذه الإهانة ؟ على هذا الاستهتار والاستخفاف بمشاعر الناس ؟!! ) تمتمت بصوت مسموع مؤملةً أن تدقّ النخوة بأحدهم فيقوم ويتلحلح نيابةً عنها ... ولكن عبثاً ! تفاقم غضبها واستفحل ! وصلت إلى درجة لم تعد تنفع معها كل مهدئات العالم .. ! ضاعفت للمرة الأخيرة جهدها لقمع انفعالها , أحست أنها بلا كرامة بلا عزة لا هي ولا غيرها من الجمهور الجبان . وأدركت أنها بحاجة فورية لاستعادة بعض الاعتبار الذاتي , فاستعذبت الموت ونهضت من مطرحها واتجهت إلى الخشبة وأمسكت بساق أحد المصورين وشدّته بعنف ! التفت إليها مذعوراً بعد أن فقد توازنه وكاد يسقط ! كلّمته من بين أسنانها : ألا تستطيع التصوير أنت وزملاءك إلاّ بهذه الطريقة المتخلفة ؟ ! يا بني آدم ! هذه أمسية موسيقية وليست حفلة طرب ورقص .. نزعتم متعتنا وأفسدتموها ! ينزعلك عيشتك انشاالله !
بُهتَ المصور وكاد أن يردّ عليها بذات اللغة , لكنه عندما لاحظ الشرر يتقافز من عينيها .. تمهّل متفرساً متسائلاً من تكون هذه المرأة الوقحة التي تجرأت واحتجّت أمام هذا الجمهور العريض ؟! وعندما أدرك بحدسه أن الشجار مع هذه الغاضبة ليس في مصلحته .. انكفأ إلى زاوية أخرى مبتعداً عنها وتخلى عن المجابهة طلباً للسلامة وخوفاً من سوء العاقبة . وقد لاحظ زميله هذه المناوشة , فنظر إليها بازدراء واحتقار ! تطلّعت إليه متحديةً راغبةً بتفريغ عدوانيتها الداخلية مع أي كان : ألم يعجبك ؟ فأجابها على الحارك : لا , لم يعجبني ! وتقدم خطوة باتجاهها !
توقف العازفون عن العزف ! وتدخّل بعض الحضور للتهدئة منعاً للاشتباك .. حاول المصور الثالث أن يوضح طبيعة عملهم قائلاً : إننا محكومون بهذه الطريقة للتصوير يا جماعة ! ولا توجد طريقة أخرى ...
فكرتْ أن تذكرهم وبأعلى صوت , بطرائق الأجهزة الأمنية بالتنصّت والإحصاء والتصوير ... وأن بإمكانهم الخضوع لدورة تدريبية لدى هذه الأجهزة تجعلهم يقومون بمهمتهم وهم في منأى عن الظهور ! لكنها آثرت السلامة وتذكرتْ أطفالها الأربعة وزوجها المعتقل وحاجتهم إليها ...
مسحت الجمهور بنظرة مستنجدة للوقوف إلى جانبها , وجدتهم في حالة من الذهول والترقب ! تنهدت .. أغمضت عينيها و سحبت نفساً طويلاً طويلا ... زفرت متمهلة .. وعادت إلى كرسيها .. ضمّت ولديها المضطربين بحنان , فأشرقت عيناها بضياء الموسيقا التي عادت تصدح بعد أن هبط مصور ومساعده عن الخشبة .. ورمقها الآخران بنظرة حادة ..
انتابها شعور بالانتصار الجزئي , فقد قذفت الماء الراكد بالحجر , وقد تتناسل الدوائر وتتسع , ولكن رويداً رويدا ...
ضيا اسكندر – اللاذقية
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟