أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - معقل زهور عدي - نعوم تشومسكي-الهيمنة أم البقاء















المزيد.....


نعوم تشومسكي-الهيمنة أم البقاء


معقل زهور عدي

الحوار المتمدن-العدد: 995 - 2004 / 10 / 23 - 05:53
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


يعتبر نعوم تشو مسكي بحق واحدا من أهم المفكرين السياسيين في العالم اليوم إلى جانب كونه أستاذا للفلسفة وعلم اللغات وتظهر أصالته الفكرية في انسجام منطقه وتماسكه ونزعته الإنسانية والأخلاقية وقدرته على التحرر من مؤثرات مواطنيته الأمريكية واصله اليهودي حيثما كانت تلك المؤثرات عقبة في طريق العقل والضمير، انه مفكر الإنسانية وضميرها أولا وقبل كل شيء.
يشير فكر تشو مسكي إلى الانتصار الأخلاقي والمعرفي لليسار في العالم ولراهنية مسألة اليسار بمعناها الأوسع ، ويظهر ذلك بمجرد أن نتساء ل : هل كان ممكنا لنعوم تشو مسكي أن يقف بصلابة وشرف ويمد إصبعه مدينا الظلم والجبروت ومنتصرا للحق والعدل دون أن يصعد على منصة اليسار ويشرف منها على حقيقة وجوهر الصراع المحتدم على نطاق العالم ؟ ، مع ذلك فمن الصعب ملاحظة أي اندفاع إيديولوجي في كتابات تشو مسكي ، ويرجع ذلك للموضوعية الصارمة والدقة العلمية التي الزم نفسه بهما دأب العالم الحقيقي .
في كتابه ( الهيمنة أم البقاء ) يعالج تشو مسكي أزمة نزعة الهيمنة الأمريكية ، ليس فقط فيما تجره على العالم من ويلات وحروب ومظالم ، ولكن أيضا بما تطرحه من مخاطر محدقة على أمريكا والحضارة الغربية ، والمسألة هنا متعددة الجوانب:
فالهيمنة من أحد الوجوه تمثل سقوطا أخلاقيا ، فهي بحاجة دوما لدعم مشروعيتها من النظرة العنصرية التي ترى في جنس معين عنصر تفوق مرسل من السماء لطرد المتخلفين والأشرار ، ومن تلك الجرثومة الأخلاقية تنحدر مساوئ وجرائم لا تحصى منها افتقاد العدل والكيل بمكيالين ، والاستهتار بقدسية وحق الحياة وتشريع الظلم والنهب ، وتمتد آثار تلك الجرثومة للطرف المهيمن ذاته حيث يضطر النظام للكذب على الشعب وفبركة الوقائع وحجبها حسب الضرورة ، والتلاعب بالديمقراطية وتحجيمها ، وخرق خصوصيات الأفراد ، وحقوق الإنسان التي ناضلت البشرية طويلا لاكتسابها ، وشق المجتمع وملاحقة الأقليات .
والهيمنة من جانب آخر تمثل أزمة تتفاقم باطراد للطرف المهيمن فهو في سعيه المحموم نحو تصفية أعدائه ومنافسيه يخلق بدون وعي أعداء جددا ، ويعمق الأحقاد ، ويدفع الكتل الجماهيرية الواسعة نحو التطرف والعنف ، وإذ يرتد العنف عليه يقف صارخا باعتباره الضحية ، وحين يصبح بإمكان( الأعداء )الذين صنعتهم الهيمنة في الحقيقة التمادي في الإيذاء على غرار ما حدث في أيلول / سبتمبر 2001 ، وتبرز إمكانية دخول الأسلحة النووية في معمعان ذلك الصراع يصبح من المحتم على العقلاء التفكير مليا والتبصر في عواقب الاندفاع في مشروع صناعة الأعداء الذي لانهاية له .( يكشف نعوم تشو مسكي عن احتمالات خطيرة وجدتها الاستخبارات الأمريكية في انتقال أسلحة نووية صغيرة الحجم لايدي المجموعات المعادية لأمريكا والتي توصف عادة بالإرهابية وسهولة نقلها واستعمالها وهناك 40000سلاح نووي من ذلك النوع في جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنحل .) هنا يصبح من العبث تجاهل السبب الأصلي لانتشار الكراهية لأمريكا مع ما يرافقها من نزعة عنف والاطمئنان لدور القوة في سحق الخصوم ، فالعولمة تخلق بصورة موضوعية مع نزعة الهيمنة الأمريكية عوامل زعزعة تلك الهيمنة ، ولا تقتصر تلك العوامل على احتمالات خطرة للغاية مثل استخدام الأسلحة النووية أو الكيميائية أو الجرثومية ولكنها تمتد إلى عناصر متعددة منها على سبيل المثال ما يتيحه استخدام الحاسوب من اختراق للأنظمة الخاصة بالمعلومات أو التحكم أو المؤسسات المالية وكذلك استخدام الإنترنت والاتصالات وغير ذلك من تسهيلات غير مسبوقة لتأمين التواصل لمجموعات ( إرهابية) عالمية.
ويكمن نوع آخر من المخاطر المحتملة في انزلاق الولايات المتحدة الأمريكية تحت ضغط الصراع الناشئ عن نزعة الهيمنة إلى استخدام مخزونها الرهيب من الأسلحة غير التقليدية التي يتم تطويرها بثبات دون أية قيود وبمعزل عن المساءلة وهنا يكشف نعوم تشو مسكي أنه ولأول مرة أصبح معروفا وبحكم المؤكد أن العالم كان على بعد خطوة واحدة من استعمال القوة النووية واطلاق الصواريخ عابرة القارات التي تحملها وذلك أثناء أزمة كوبا في تشرين الأول / أكتوبر عام 1962 وأن فتى يدعى أرخيبوف هو الذي أنقذ العالم في ذلك اليوم على ما روى توماس بلانتون من أرشيف الأمن القومي في واشنطن وأرخيبوف الضابط في سلاح الغواصات السوفييتي عرقل أمرا صدر إليه بإطلاق طوربيدات نووية في 7 تشرين أول/أكتوبر أي في أشد لحظات الأزمة توترا حين كانت الغواصات تتعرض للهجوم من جانب المدمرات الأمريكية وقد كان من شبه المؤكد حصول رد ماحق على ذلك الهجوم وهذا بدوره كان سيفضي إلى اندلاع حرب كبرى .
أفرد نعوم تشومسكي فصلين لكل من العراق والمسألة الفلسطينية ، وفي الفصل الخاص بالعراق يظهر تشومسكي أن عملية احتلال العراق قد جاءت ضمن إستراتيجية أمريكية شاملة للمنطقة العربية ترتبط أوثق الارتباط بالاستيلاء على منابع النفط ووضع الأوربيين والآسيويين تحت سيف السيطرة على إمدادات النفط ، وان الخطط التفصيلية لذلك الاحتلال قد وضعت قبل وقت طويل ، وان حكم صدام قد اطيل عمره بصورة متعمدة بعد حرب الخليج الثانية 1991 ليتسنى مواجهة الاحتمالات الخطرة غير المرغوب فيها في ثورة شعبية على الطريقة الخمينية ، ومن الحقائق المذهلة التي يكشف عنها نعوم تشومسكي أن الجيش الأمريكي المتقدم داخل العراق في عام 1991 قد ارتكب مجازر فظيعة بحق قطعات الجيش العراقي المنهزمة أمامه حيث قامت الجرافات المرافقة للدبابات الأمريكية بجرف الجنود وهم أحياء ودفنهم في مقابر جماعية ، من أجل ذلك ينبغي على المسؤولين في الإدارة الأمريكية أن يشعروا بالخجل وهم يتبجحون بإدانة المقابر الجماعية خلال حكم صدام 0
يناقش الكتاب الاحتمالات الأخرى التي كانت مطروحة لعزل صدام دون المساس بمصالح الشعب العراقي وكيف أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لجأت عن قصد للخيارات التي ألحقت أكبر الأذى بالشعب العراقي منذ حرب 1991 وأسهمت بصورة غير مباشرة في تمكين نظام صدام واضعاف المعارضة ، وحين دقت لحظة شن الحرب صم صقور الإدارة الأمريكية أسماعهم عن سماع أصوات المعارضة الشعبية العالمية الشاملة للحرب والتي لم يسبق لها مثيل ، وتجاهلوا بازدراء الأمم المتحدة ومجلس الأمن في مثال ساطع لغطرسة القوة ومدى التفرد والعزلة التي يمكن أن تنجم عن تفاقم نزعة الهيمنة 0
يقول تشو مسكي في معرض حديثه عن نتائج حرب العراق : ( لاشك أن الإدارة الأمريكية كانت تعي حتى من غير تحذيرات صادرة عن مرجعيات محترمة ، أن حربها العتيدة على العراق ، والأعمال الأخرى المتصلة بها ، من الجائز أن تضاعف من خطر انتشار أسلحة التدمير الشامل ومن الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة وحلفائها ، لكن من الجلي أن الإدارة لم تعط هذه التهديدات سوى أهمية ثانوية بالقياس للأهداف الأخرى) ولا أظن أن من الصعب تخمين نوعية الأهداف الأخرى ويكفي الإشارة لارتباطها المؤكد بمشروع الهيمنة0
ثمة مسألة هامة للغاية لم يتطرق إليها نعوم تشو مسكي وهي مسألة العواقب المحتملة لفشل الحملة العسكرية على العراق .
بعد أشهر قليلة من الحرب وقف جورج دبليو بوش على ظهر حاملة للطائرات وأعلن في حركة مسرحية لافتة أن الحرب قد أنجزت أهدافها ، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت التصريحات الصادرة عن وزارة الدفاع والخارجية تضج بالشكوى والتحذير من أن المقاومة العراقية قد تجاوزت كل التوقعات بل ذهب تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي نشر في جريدة نيويورك تايمز بتاريخ أيلول / 2004 / إلى أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ ، كما كثر الحديث في الصحافة الأمريكية والعالمية عن المأزق الذي يواجه أمريكا في العراق ( مقالة باتريك سيل في الحياة بتاريخ 17/9/2004 ، مقالة توماس فريدمان في نيويورك تايمز بتاريخ 3/10/2004) ومن وجهة النظر الاستراتيجية فان إسقاط صدام حسين بدون التمكن من إرساء نظام سياسي مستقر تابع للولايات المتحدة الأمريكية لا يعتبر فشلا فقط ولكن يمكن النظر إليه ككارثة خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تزايد انتشار القوى الشعبية المسلحة المعادية للولايات المتحدة الأمريكية واحتمال سيطرتها على الأوضاع مستقبلا ، ويمكن لنا القول دون خشية في الوقوع بالمبالغات أن واحدا من أكبر التحديات التي ظهرت للهيمنة الأمريكية يكمن في العجز عن إنهاء معركة العراق .
لقد أوضح نعوم تشو مسكي بصورة رائعة كيف أن نزعة الهيمنة الأمريكية تحفر قبرها بيدها حين يدفعها الجنون نحو الإفراط في استعمال القوة وتوسيع دائرة العنف ، ولكنه لم يعط معركة العراق ما تستحقه من اهتمام في هذا السياق ، وعلى أية حال فربما لم تكن الأحداث قد تفاقمت في العراق إلى الحد الذي آلت إليه أثناء وضع الكتاب ، وتبقى تلك المسألة الجديرة بالتفكير.
تناول تشو مسكي المسألة الفلسطينية تحت عنوان ملتبس ( مرجل الأحقاد) ملمحا في دلك لما يثيره الصراع العربي – الصهيوني من مشاعر الغضب والإحباط والانتقام ، وتناول العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية والدور الأمريكي في دعم السياسات الإسرائيلية ، ووفق تحليله فان إسرائيل حين نقلت ولاءها الكامل لأمريكا رضيت بالتبعية لها ، من أجل ذلك فان قسما كبيرا من آثام الأعمال الإجرامية التي تقترفها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني يقع على عاتق أمريكا باعتبارها الراعي والداعم الأهم لإسرائيل، بينما تجد أمريكا في إسرائيل ركيزة لاغنى عنها في أي نظام للسيطرة في الشرق الأوسط .
وهنا ثمة ملاحظة تتعلق بالتغيير الذي لابد أن يلحق بالعلاقة بين أمريكا وإسرائيل من جراء الاحتلال الأمريكي للعراق ، فلو أن أمريكا تمكنت من إنجاز معركة العراق بالفعل وليس بالأقوال الفارغة والخطابات المسرحية لأسهم ذلك بالتأكيد في تعديل العلاقة التبادلية مع إسرائيل ، هنا تصبح الحاجة لإسرائيل أقل بمالايقاس ، وكما يقول المثل ( إذا جاء الأصيل بطل الوكيل) ، بل ربما تبدأ أمريكا بالعمل لتحجيم دور إسرائيل في المنطقة حيث لايمكن أن تقبل منافسة لها مهما كانت محدودة في هذه المنطقة من العالم دون أن يعني ذلك أنها ستقوم بالضغط لصالح الشعب الفلسطيني فذلك أمر مختلف كليا .
لكن حين تصبح معركة العراق مفتوحة على شتى الاحتمالات ولا يظهر بالأفق أي أمل بالنصر الحقيقي بل إن أشباح التورط والغرق تتكاثر لتصبح كابوسا مزمنا ومخيفا فمن السخف الاعتقاد بان أمريكا سوف ترمي عصاها الإسرائيلية ، بل تصبح الحكمة الموجودة ضمن جنون الهيمنة - كما عبر عن ذلك تشو مسكي بطرقة أخاذة ( المنطق ضمن اللامنطق ، والعقل ضمن الجنون ) – تفرض على أمريكا أن تمعن في تدليل كلبها الأمين وغض النظر عن أفعاله الوحشية وذلك على الأقل ريثما تنهي ورطتها في العراق ، دون أن تخرج مهزومة أو تفقد مصالحها وهيبتها وتلك لعمري معادلة صعبة الحل .
ترى هل نخالف المنطق حين نتوقع حاليا مزيدا من التساهل والدعم لإسرائيل ؟ لا أظن ذلك. ربما يجادل البعض في أن استنزاف أمريكا في العراق سيسهم في تعديل ميزان القوى في المنطقة لصالح العرب والفلسطينيين خاصة ، ويدفع أمريكا للسعي لارضائهم ولو جزئيا باتخاذ موقف اقل انحيازا لإسرائيل وهذه وجهة نظر جديرة بالاهتمام لكن ذلك لن يحدث بالتأكيد في هذه المرحلة من الصراع على الأقل.
يشرح تشومسكي بصورة لالبس فيها أن السياسات الإسرائيلية لم تكن في وقت من الأوقات لتسلم بكيان فلسطيني في الضفة والقطاع ، وبغض النظر عن الخلافات بين حزب العمل والليكود فان حدود ما يمكن إعادته للفلسطينيين كانت دوما أقل بكثير مما تحاول إسرائيل وأمريكا الإيحاء به بصورة مخادعة، ويكشف تشومسكي عن حقيقة ما جرى في كامب ديفيد-2 بين باراك وعرفات وكلينتون ، وفي حين لاينفك الإعلام الأمريكي والإسرائيلي عن القول بأن عرفات قد ضيع عرضا ذهبيا بإعادة أكثر من 90% من الضفة وكامل القطاع وذلك بعناده الأرعن فان الحقيقة تكمن في مكان آخر مختلف كل الاختلاف.
فالعرض المقدم فعلا لعرفات كان تحويل الضفة إلى ثلاثة معازل ( كانتونات) شبه منفصلة بأحزمة من المستوطنات الاسرائيلية التي سيتم إلحاق مساحات واسعة بها من الضفة بحيث أن المساحة المتبقية لاتزيد عن نصف أراضي الضفة سوى بقليل ، إضافة لمصادرة مخزون المياه الجوفية الرئيسي وأفضل الأراضي الزراعية ولاداعي للحديث عن مصير القدس ، فهل كان بإمكان عرفات قبول مثل ذلك الحل؟
يذهب تشومسكي إلى أن مشروع الدولة الفلسطينية يلفظ في الواقع اليوم أنفاسه ، وهو في حين لايخفي تعاطفه مع محنة الشعب الفلسطيني وتنديده بجرائم الاحتلال لايرى كيف سينتهي ذلك الصراع مع إشارة للحل القائم على اساس تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية متعددة القوميات والأديان، ولكن كيف سيتم ذلك التحول على فرض قبول الفلسطينيين به ؟ ، ويزيد من المفارقة ما نشهده من تحول المزيد من الرأي العام في إسرائيل نحو اليمين ، وهيمنة المؤسسة العسكرية على القرار ، والدعم الأمريكي غير المحدود لسياسة الليكود، والانهيار العربي الشامل ، كل ذلك ينبئ بابتعاد مثل ذلك الحل وتفاقم الصراع وديمومته وتلك هي الحقيقة الصعبة التي لابد من مواجهتها، وحدها النظرة الشاملة للصراع تتيح وضع اليد على مفاتيح الحل ، الولايات المتحدة الأمريكية تريد المنطقة العربية ساحة واحدة للهيمنة ( أليس ذلك معنى مشروع الشرق الأوسط الكبير؟) حسنا فلماذا لا ننظر إليها نحن أيضا كساحة واحدة للصراع؟، فلو تصورنا أن العرب قد تمكنوا من إلحاق الهزيمة ( السياسية بالطبع ) بأمريكا في معركة العراق باستعمال كافة أشكال المقاومة العنيفة والسلمية ، وحشد الرأي العام العالمي ونقل المعركة السياسية للمعسكر الآخر ، فذلك سيكون دون ريب اسهاما كبيرا في تحييد أمريكا عن الصراع العربي الصهيوني ويشكل ذلك أحد مفاتيح حل ذلك الصراع ، العنصر الاستراتيجي الآخر يتمثل في تحريك الكتل الشعبية العربية بصورة متناسقة في الضفة والقطاع والأراضي الفلسطينية المحتلة قبل 1948 وفي البلدان العربية لتشكيل قوى ضغط سياسية فاعلة ، وتشكل المبادرة الوطنية الفلسطينية التي يقودها السيد مصطفى البرغوثي مثالا حيا للعمل الوطني السياسي الجماهيري بشكله الجنيني يتوجب على العرب التفكير فيه ونقله وتعميمه ، العنصر الاستراتيجي الثالث هو تحريك الرأي العام العالمي بطريقة ترتقي لمستوى العصر سواء لجهة الخطاب السياسي أو لجهة العمل الدؤوب لبناء الروابط مع المنظمات الشعبية والأهلية في العالم ، ومرة أخرى يتوجب على العرب دراسة تجربة المبادرة الوطنية الفلسطينية بهذا الصدد وتعميمها .
لايمكن التنكر لدماء الشهداء والتقليل من دور تضحياتهم ، وإغفال حالة الدفاع عن النفس التي زج فيها الشعب الفلسطيني الأعزل في وجه وحشية لامثيل لها في التاريخ الحديث ، وانه لأمر يبعث على الخجل حقا أن يقوم البعض ممن يعيشون في غاية الاطمئنان والرفاهية بوعظ الشعب الفلسطيني حول ما يجب فعله وما لايجب فعله ليدافع عن أرضه المهددة بالمصادرة ، وبيوته المهددة بالهدم ، وأطفاله المهددين بالقتل . في حين لا يكلف أولئك السادة المثقفين أنفسهم عناء التفكير في إيجاد أي طريقة للمساهمة في وقف الاعتداء على ذلك الشعب والتخفيف من معاناته ومد اليد له حيث يعتبر ذلك كله خارج أجندتهم المتخمة .
إن تحويل السؤال : أي شكل للنضال أكثر مناسبة اليوم؟ من سؤال تكتيكي إلى مسألة مبدئية ينم عن سوء إدراك لمتطلبات الصراع ، وقد يتطلب الصراع تضافر أشكال متعددة في وقت واحد، وهذا أمر يفترض أن يخضع للحسابات الدقيقة وفق تبدل الظروف.
في نهاية الفصل الخاص بالمسألة الفلسطينية ثمة ملاحظة لا تخلو من المغزى حين يشير تشو مسكي إلى سر الغضب المحموم الأمريكي على الأعمال ( الوحشية) للمقاومة الفلسطينية الموجهة ضد المدنيين فتغير نسبة القتلى الفلسطينيين إلى القتلى الإسرائيليين من 20 إلى 1 لنحو 3الى 1 أشعلت الضوء الأحمر في واشنطن بعد تل أبيب.
في الفصل الثامن من الكتاب وتحت عنوان ( الإرهاب والعدالة ) يناقش نعوم تشومسكي موضوع الإرهاب من زاويتين إحداهما أخلاقية حيث يفترض إدانة إرهاب الدول قبل إرهاب الأفراد ، كما يفترض إدانة كل أنواع الإرهاب بصورة متساوية دونما تمييز، والأخرى سياسية إذ لايمكن تجاهل المظالم وعناصر الغضب والإحباط التي تولد الإرهاب ، وبالتالي فان فصل ظاهرة الإرهاب عن أساسها الاجتماعي- السياسي يعتبر ضربا من العبث ، فطالما وجد الاضطهاد والظلم فالإرهاب لايمكن مواجهته بصورة ناجعة، يقول تشو مسكي:( جاءت فظا عات أيلول/سبتمبر2001 تذكيرا مثيرا بما كان معلوما منذ أمد بعيد إذ لم يعد الأغنياء والأقوياء يضمنون بعد الآن الاحتكار شبه التام للعنف الذي ساد بدرجة كبيرة عبر التاريخ) فالإرهاب هو وسيلة الضعفاء والفقراء ليس للانتقام فحسب ولكن – وذلك هو الأهم- لزعزعة أسس استقرار نظام الهيمنة الذي ساد الظن لفترة طويلة أنه بمنأى عن أن تطاله أيدي ضحاياه .
ثمة فكرة شائعة في الغرب مفادها أن الإرهاب هو أحد نواتج العولمة ، وحين ترد تلك الفكرة فانها تفهم على الفور بأن الارهاب يتحرك بفضل تسهيلات العولمة وخاصة الانترنت ووسائل الاتصالات الحديثة وخفض الحواجز على الحدود وزيادة التبادل السكاني وحركة الانتقال للأموال والبشر وذلك صحيح الى حد كبير لكنه ليس سوى جانب من الحقيقة ، أما الجانب الآخر الذي غالبا ما يتم تجاهله فهو أن العولمة قد خرقت كل الحواجز القومية والوطنية والدينية وأنها مصممة على التدخل في أخص خصوصيات الحياة والثقافة ومنظومات القيم للشعوب ، ولكون ذلك التدخل كثيرا ما يرتدي شكل التدمير الممنهج للهويات الحضارية والثقافية والمقدسات إضافة للمصالح الاقتصادية للفئات الواسعة التي يتم إفقارها وتهميشها فمن المنطقي أن يأتي الرد عنيفا ووفق طريقة الطرف الضعيف بل ربما كان من الغريب عدم توقعه . وحسب تشومسكي (توقع مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي NIC في استشرافه للسنوات القادمة أن تتواصل النسخة الرسمية من العولمة في الاتجاه المرسوم وسيكون تطورها شائكا كثير الصعاب ويتسم بالتقلبات المالية المزمنة والفجوات الاقتصادية المتسعة ، وتعني التقلبات المالية على الأرجح نموا أكثر بطءا مع وصول ثمار العولمة الليبرالية الجديدة إلى ( من يتبع القواعد المقررة) وايقاعها الأذى بالفقراء في الغالب ) ويستطرد مجلس الاستخبارات القومي ليتنبأ بأنه( مع مضي هذا الشكل من العولمة قدما فان تعمق الركود الاقتصادي والاضطراب السياسي والاغتراب الثقافي سوف يغذي التطرف الاثني والإيديولوجي والديني إلى جانب العنف الذي غالبا ما يلازمه ومعظمه سيكون موجها نحو الولايات المتحدة الأمريكية ) .
بعد كل هذا الوضوح في التحليل الصادر عن خبراء الاستخبارات الأمريكية أليس من السخف أن يقف رجل مثل جورج بوش فاتحا فمه متسائلا بدهشة : لماذا يكرهوننا؟ يجيب نعوم تشو مسكي:" انهم لا يكرهوننا نحن ولكن يكرهون سياسات حكومتنا وهذا أمر مختلف كل الاختلاف" .
في الفصل الأخير من الكتاب المعنون ( كابوس عابر) يستعرض تشومسكي المخاطر التي تهدد ليس فقط نظام الهيمنة ولكن الوجود البشري ذاته "لقد دفعت أحداث أيلول/سبتمبر العقلاء للتحديق في الهاوية التي ننحدر إليها كجنس بشري في المقام الأول" أجل فقد أيقظت تلك الأحداث - ضمن ما أيقظت – نزعة الرد الوحشي الذي يستنفر ويستخدم أحدث مبتكرات تكنولوجيا التدمير والإبادة لدى نظام مفلس أصلا من القيم الإنسانية ، وقد جرى بالفعل استخدام العديد من احدث طبعات تكنولوجيا الإبادة والتدمير في أفغانستان والعراق مثل القنابل ذات اليورانيوم المنضب وتوحي كل الدلائل بعزم الإدارة الأمريكية على استعمال أية وسيلة للتدمير يتطلبها الموقف دون أي رادع ، وإذ تجد السياسة الأمريكية نفسها تغوص في مأزق تلو مأزق ، وتلوح في الأفق إمكانية انتشار العنف بصورة غير مسبوقة فان من البديهي توقع الأسوأ مالم يبادر العقلاء على هذا الكوكب بأخذ المبادرة.
"ان التداعيات غير المتوقعة للتهديد بالقوة أو استعمالها قد تكون في منتهى الخطورة في حقبتنا الراهنة ، ويزيد من خطورة الأمر أن العقول التي تمسك بالقيادة في واشنطن تستلهم مثل تلك الاستراتيجية المقدمة في وثيقة مهمة ترجع الى عام 1995 والتي تنصح( ان لايصور المخططون أنفسهم على أنهم اناس عقلانيون بالتمام ورابطو الجـأش أكثر من اللازم ..فالإمكانية بأن تنقلب الولايات المتحدة دولة غير عقلانية ومتعطشة للانتقام إذا ما تعرضت مصالحها الحيوية للهجوم ينبغي أن تكون جزءا من الشخصية القومية التي نخطط لها ) ونظرية المجنون هذه المشهورة أيام نيكسون تم تطبيقها في الاستنفار النووي في تشرين الأول/ أكتوبر/1969 مع كيسنجر وكان الظن بأن الأمر لا ينطوي على أية مخاطر لكن كان من الجائز جدا أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة " .
لقد ادت أحداث ايلول /سبتمبر/2001 وما تبعها الى رفع حرارة المناخ الذي تتصارع ضمنه الارادات وتزدهر فيه مختلف التناقضات ، وينبغي ألا يغيب عن البال تلك التناقضات النائمة أو المقيدة أو التي هي قيد التشكل ، فحرب النجوم أو ما يعرف بمبادرة الدفاع الاستراتيجي SDI تبدو وكأنها مسعى إلى تجريد الخصوم من أسلحتهم ، والخصوم هنا ليسوا تلك المجموعات ذات الأسلحة البدائية ، ولكنهم دول كبرى وتكتلات عالمية ، مثل روسيا والصين وربما الاتحاد الأوربي مستقبلا ، وبحلول أيلول/سبتمبر عام 2001 كان الإنفاق العسكري الأمريكي قد تجاوز فعلا إنفاق الدول الخمس عشرة التالية لأمريكا مجتمعة وذلك نتيجة توسيع برنامج الدفاع الصاروخي والمبادرات المتصلة به .
والمسألة التي يجدر التفكير بها يمكن أن تصاغ بالسؤال الآتي : ألا يحمل مثل ذلك المشروع وما يتصل به استفزازا للقوى الدولية الكبرى؟ وبالتالي التفكير في عواقب ردود الفعل لدى هذه الدول والتكتلات حين تقرر عدم الاستسلام للرادع الاستراتيجي الأمريكي للأبد، وأخيرا إلى أين تقود العالم مثل تلك الاستراتيجيات المبنية على اساس إدامة هيمنة القطب الواحد؟
ينهي تشومسكي كتابه بتلخيص رائع يقول فيه: "يستطيع المرء التمييز بين مسارين اثنين في تاريخنا المعاصر واحد يتجه نحو الهيمنة وهو يعمل بمعقولية ضمن إطار عقائدي مجنون إذ انه يتهدد البقاء بأفدح الأخطار والثاني يكرس نفسه للأيمان بأن عالما آخر ممكن " ويقصد تشومسكي بالاتجاه الثاني ذلك التيار العريض والمتنوع على نطاق العالم الذي يرفض بعقلانية وروح إنسانية نظام هيمنة العولمة ويسعى إلى خلق بدائل في الفكر والعمل والمؤسسات فأي المسارين سيسود؟
لا أدري إن كان من حسن حظ أمتنا العربية أم من سوء حظها أنها أصبحت بالفعل في قلب ذلك النزاع ، ويعني انتصار المسار الأول ( الهيمنة) تصفية وجودها كأمة وهوية دون مبالغة ، كما يعني انتصار المسار الثاني انتصارها هي كوجود أولا وكمثل حضارية .
يقدم تشومسكي المسار الثاني كمن يبشر بأمل غامض، ومخلص لم يولد بعد ، لكننا نشعر بقوة أن ذلك الأمل يخصنا نحن كعرب بصورة مصيرية ، كما أننا لا نستغرب أن يكون المخلص وثيق الصلة بحضارتنا التي لم يمنحها التاريخ فرصة لتقول كلمتها منذ فترة طويلة.



#معقل_زهور_عدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو بديل عقلاني في مواجهة العولمة
- الليبرالية الجديدة والمسألة الديمقراطية
- جدار الفصل العنصري-علامة مميزة في تاريخ الصراع العربي الصهيو ...
- الاحتلال وأزمة المقاومة في العراق
- الموقف من ظاهرة المقاومة في العراق كمؤشر للفرز داخل التيارات ...
- التحول الديمقراطي داخل الفكر الاشتراكي


المزيد.....




- زرافة -لا تستطيع المضغ- تقوم بردة فعل لا تُصدق بعد تقويم طبي ...
- كتاب --من إسطنبول إلى حيفا--: كيف غيّر خمسة إخوة وجه التاريخ ...
- بمشاركة دولية.. انطلاق مهرجان ياسمين الحمامات في تونس
- مصرع 8 أشخاص وإصابة 2 جراء انفجار في مطعم وسط بيروت
- لبنان بين أزمتي نزوح.. داخلية وسورية
- تجمع احتجاجي أمام مقر أولمبياد باريس 2024 للمطالبة بحظر مشار ...
- المبادرة المصرية تحصل على حكم بتعويض مليون جنيه من -تيتان لل ...
- بماذا اعترفت أسترازينيكا بشأن لقاحها المضاد لكورونا؟
- -أنتِ مجرمة حرب-.. مؤيدة لفلسطين تصرخ غاضبة في وجه رئيسة الم ...
- البيت الأبيض يكشف: المقترح الأخير لصفقة التبادل مع حماس يتضم ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - معقل زهور عدي - نعوم تشومسكي-الهيمنة أم البقاء