أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - الفصل الأخير من رواية المريض الشيوعي















المزيد.....



الفصل الأخير من رواية المريض الشيوعي


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 984 - 2004 / 10 / 12 - 09:24
المحور: الادب والفن
    


( الفصل التاسع والأخير من رواية جديدة )


(9)
سحابة من الكآبة تقترب وتشتد على وجه ماريّا .

طار يوسف العراقي قبل يوم احتفاله بعيد ميلاده السبعين متجاوزا جبال الألب وبحار الشمال والأبيض المتوسط وإيجة . حط قلبه في مدينة الزبير فتراءت له صورة امرأة بديعة الجمال . هل هي عشتار أم ماريّا ..؟

وثقا بطلعة يوم الميلاد السبعين . همست شمسه بنور جديد بعد أن أرخى ليل الظلم سدوله في بلاد الرافدين حتى شعر بنعيم المنفي عن وطنه الأم في بطن وطن أم ٍ أخرى .. راحة بالغة العمق يستنشقها الآن فعيون الزبيريين والعراقيين كلها تبرق بلمعان جديد تحسه روحه وهو على بعد خمسة آلاف كيلومتر عن ضوء فجر البرجسية التي لا يجف عمق ثراها من نفط ولا مرعاها من عشب .

أهي عشتار أم ماريا هذه التي يراها عن قرب ..؟

من يفتح الأبواب كي يسمع لحن قيثارة سومر تعزف ألحانا متعددة لكن بانسجام ..؟

- تعذبني روحي أيها الأصدقاء وللمرة الأولى أشعر بإمكانية وقوفي على قدمي المعذبتين بجلد سياط سود مارسه بتلذذ مقدم الأمن العامة ويّس الدليمي ومارسه الحارس القومي بقسوة محمود الادغم ومارسه عضو شعبة قضاء الزبير البعثي أدهم الأدهم .

نظر إلى قدميه المرتبطتين بثبات في الكرسي الحديدي متأوهاً :

- آه يا قدمي ..



صرخته وصلت إلى مسمعها كقرع طبل .

زعمت ماريّا لنفسها أن بوابة بيتها ستفتح على مصراعيها فمن المأمول أن يعيش الحي حفلا كبيرا ببلوغ يوسف العراقي عامه السبعين سليما بعد أن زال حجاب الضباب عن عينيه ، يستشعر بهجته الطفولية رغم تدثره برداء المرض الخطير ، الصعب والخشن . ماريا هيأت سبعين كرسيا لاستقبال رفاقه وبعض أصدقائه . الطعام الهولندي النوع والعراقي جاهز لأكثر من سبعين شخصا . المشروبات من كل الأصناف جاهزة . صار الوقت بين النور والظلمة وماريا تقترب من الدهشة وهي في مهابة الماكياج وتصفيف شعرها بعد ساعتين قضتها بروح الشباب المحض تحت يد جديرة بأكبر صالون حلاقة في مدينة هورن . كانت ترتدي معطف فراء أسود جالسة قبلة مريضها يوسف العراقي . بان جمالها الساحر في عينيه كبرق لامع وتهرب نظراته بين الحين والآخر إلى ركبتيها المكشوفتين الأخاذتين ، ويسأل :

- هل من اجله يعيش جسدها طوال سنوات في أسكن سكون .

كان يقول لنفسه في تلك اللحظات :

- يا قدماي خذيني إليها .

تقترب الظلمة أكثر والنور يغيب وهي تنتظر أن ينتهي صمتها وصمته وصمت البيت كله عندما تتحرك مفصلات الأبواب وتتطاير المزاليج منبئة بحضور الضيوف والمهنئين . تتلفت حواليها إلى الباب والى الحديقة وإلى الظلام بين لحظة وأخرى . تتصور حصول معجزة الوفاء لميلاد يوسف العراقي بوقار أصدقائه ورفاقه . ليست معجزة بل أمر مسلم به أن يشمل تاريخ العيد السبعيني لميلاد يوسف العراقي تعدد وجوه الحاضرين وتعدد أنواع الاحتفاء والاحترام الموجه لجهوده في سبيل قضية الشعب محتملا عذابها طوال نصف قرن من حياته السياسية قدّم فيها زهراتها بشكل خيال مرة وبشكل أوهام مرة أخرى وفي اغلب الأحيان كان شكلا من فعاليات ثورية نال نصيبه فيها سجنا وعذابا قدمته تدريجيا بظاهرة مرضية لا يقاومها إلا بجلوسه مقعدا لا يتحرك إلا بكرسي تصيغ حركته ماريا .

حدسها يزداد مع كل لحظة أن ذاكرتها ستحتفظ هذه الليلة بأريج حفيف لأجمل احتفال تشاهده بعد حفل زفافها .

رن جرس التلفون في تمام التاسعة مساء :

- أنا سليم عبد الله يا ماريا . أنا آسف بشدة .. لقد صادتني شبكة عمل استثنائي منعتني من مشاركتكِ ومشاركة الرفيق يوسف هذه المناسبة السعيدة . إليكما تمنياتي بالسعادة ولجميع الحاضرين وقتا ممتعا .

- لك الشكر الجزيل يا سليم . سأبلغه لحن تمنياتك الطيبة . سيشعر بالراحة . لكن لا توجد نسمة أخرى لأحد غير يوسف العراقي وحيدا وقد غلبه النعاس بعد طول انتظار ولم يحضر أحد لا من رفاقه ولا من أصحابه .

كانت أضواء الزينة الملونة والبالونات تغطي المكان . في الحديقة كان الظلام يتمشى تحت سماء يسرع فيها سحاب أسود كثيف . كل شيء في البيت وحواليه أصبح لحنا معزولا عن إيقاع يوسف العراقي.

- يبدو أن أصحابك الأصحاء يا يوسف نفروا من مرضك ..

- ربما ..

قال كلمة ربما بتثاقل معبرا عن استغرابه .

ما يقوله من كلام يسمعه بنفسه بنبرة مضاعفة . أما هي فتفهم ما يفكر به سواء كان مدحا أو توبيخا أو استفساراً :

قالت بكلام فيه تأكيد :

- لن يحضر أحد منهم كما يبدو .

- ربما ضاع عنوان بيتنا عليهم أو أضاعوه ..

- كل عنوان له لوح . اللوح محفوظ في دفاترهم كما في سجلات البلدية والبريد ودائرة التلفونات . أنهم جميعا يعرفون رقم التلفون ولم يتصل أحدهم لا للاستفسار ولا للاعتذار.. بعضهم زار البيت كثيرا من قبل فهم لا يخطئون العنوان .

- ماذا إذن يا ماريّا ..؟

- أنه عدم وفاء على وجه أصح يا يوسف .. بعضكم أيها البابليون ينسى بعضكم . انه الفساد يجول بين الطيبين أيضا .. أخطاؤكم لا تنساكم .. أنتم وحدكم تنسونها .. أنتم تتفرقون أكثر مما تتجمعون .. لا يوجد بينكم قاض يعدل أخطاءكم .. من يدري ربما حتى قضاتكم مثل كل القضاة ينامون على وسادة من حرير غير مبالين بأخطائهم وأخطائكم .. ..

- أخطاؤنا .. !!

- بلى يا يوسف .. تجيدون عرض الشكوى بلطم الصدور لكن لا يوجد من يسمعها .. الشاكون في بلاد الرافدين كثيرون .. جمهور غاضب يتزايد غضبه كل يوم وقضاتكم يغلقون باب عزلتهم على أنفسهم بالمزاليج القوية .. حتى أصدقاؤك تناسوا خفية أو علانية رابطة صداقتهم معك .. لن يحضروا ..



خلعت معطفها وبان نصف صدرها العاري ممسكة بكأسها تمزمز فيها شفتيها بالواين الأحمر . اقتربت منه.. أسندت ذراعها على رأسه برقة بالغة :

- نخب صحتك يا يوسف العراقي .

رمقته بنظرة محبة وهي تقول :

- أنك حيّ يا يوسف .. العالم يسير إلى أمام.. الحياة انتصار يا يوسف سواء كان فيها هناء كما في بلادنا أو كان فيها آلام كما في بلاد ما بين النهرين .

احتفلا وحدهما كأنهما يطيران حول العالم جالسين على بساط الريح يتأملان العالم وطبيعة الناس فيه يحاولان اكتشاف العراقيين المهمومين بمآسي المنافي وبرجاء أن تتوقف زمجرة العاصفة في الوطن قبل أن تقلب جذوع الأشجار . ترى هل انحل العالم إلى رماد جعل أصدقاء يوسف العراقي لا ينشدون في عامه السبعين كي يخلصوا بدنه من روح المرض الشرير .

ماذا تفعل ماريّا لو وجدت نفسها وحيدة بعد رحيل يوسف العراقي إلى وطنه . ستظل في وحدة تامة . تتطلع إلى أعلى فتجد صورته معلقة على الجدار . تظل الصورة صامتة تماما مثل لوحة فان كوخ . تتطلع إلى الصورة مرة وإلى اللوحة مرة أخرى . حركة عقيمة ترتطم بالوحدة فتخاطب يوسف العراقي :

- قل لي يا يوسف أية فكرة استولت عليك وأنت ذاهب بالحلم إلى بلد موحش ..؟

- الوطن ..

- الوطن ليس سوى كتل من الصخور الجبلية المتشققة وكتل من رمال صحراوية تغشي أبصاركم .. أنا أعرف وطنك من النشرات الأخبارية المتلاحقة على شاشات التلفزيون مع مطلع كل ساعة .

- لو كان وطني جحيما فهو ليس سيئا للغاية .

- لكنه منتفخ الآن بروائح كريهة .

- كل بحر يهيج ينقل إلى شواطئه أشياء كريهة . وطننا هائج تجمعت على شواطئ عقود وعقود من سنين عمره روائح وقاذورات وأشياء كثيرة أخرى . أجبروا الناس على تنفسها وأجبروا الطبيعة والأشجار والأنهار أن تكون جزء منها .. دوامات حمقاء ينبغي أن تتوقف . ربما لا تتوقف إلا بمطرقة .

- لكن الطبيعة لا تتغير هكذا خلقها الله لا يستطيع أحد أن يغير ما أراده الله ..

- ليكن كل شيء كما خلقه الله لكننا نريد أن نجعله بلا شياطين .

- لا زمان بلا شياطين ولا مكان بلا شياطين . في هولندا شياطين وفي العراق شياطين . في الرأسمالية شياطين وفي الاشتراكية شياطين .. في الحكام شياطين وبين المحكومين شياطين .. حتى في الكنائس شياطين مثلما في مواخير القحبات والقواويد شياطين .

بقيا ليلتهما كما كانا في السنين السابقة ، يتحدثان معا ً ، يفرحان ، يغضبان ، يتشاجران ، يتصالحان ، يعيشان معا لكن ليس كآدم وحواء لذلك بقي بيتهما بلا خطيئة وبلا تفاحة ، بل مثل ملكوت صغير تظهر فيه ألفة من نوع خاص ووجود من نوع خاص لا يحاول أحدهما إغواء الآخر .

شربت تلك الليلة كثيرا من النبيذ الفرنسي وأحسّت بأسى كبير لأن حلم يوسف العراقي بلقاء أصدقائه لم يتحقق .. هل تغيّر خلق رفاقه الشيوعيين الأصحاء فما عادوا يسألون عن المريض الشيوعي . . ؟ ماذا يمكن أن يقول لنفسه في هذه اللحظات . هل انتهت الثورة الشيوعية .. هل دخل العالم حقا إلى مرحلة نهاية التاريخ كما يتنبأ فيلسوف المخابرات المركزية الأمريكية فوكوياما أم أن العالم يحتاج إلى ماركس يولد من جديد .. ؟ لا يريد أن يفهم العالم بصورة خاطئة فهؤلاء الذين لم يشاركوا احتفاله السبعيني ليسوا شيوعيين سوى ببطاقاتهم .. حالهم مثل حال شيوعيين روس أو عرب حين كانوا يساندون عدو الشيوعية وهو يسفك دماء شيوعيي العراق لزمن طويل مرير .

- صدقني يا يوسف أن أصحابك الغائبين عنك هذه الليلة لا يعرفون إذا ما كانت السماء غائمة أم مشمسة .

قالت ماريّا وفي نفسها لوعة تسري في جميع خلاياها .. نظرت إلى لوحة فان كوخ وقالت :

- كم أتمنى أن يكون جماعتك داخل الوطن من نوع آخر . أتمنى من الرب أن يحفظكم ويحفظ بلدكم من الشياطين .













تناولت كأس الواين بيدها اليمنى وسيكَارة بيدها اليسرى . هكذا عادتها عندما تشرب وتدخن . ثم نظرت إلى نقطة ما في الجدار المقابل لتقول :

- نحن الكاثوليك محاطون بالشياطين والمسلمون محاطون بنفس المقدار منهم . أليس أسامة بن لادن واحداً من الشياطين الماهرين ..؟

أراد أن يتكلم لكنها استمرت بالحديث :

- أليس ارتفاع الضرائب في بلدنا شيئا من عمل الشيطان . قفزات الأسعار أليست هي من قفزات الشيطان .. بقاء الأجور والرواتب ثابتة أو زاحفة أليس ذلك من فعل الشيطان ..؟

استدركت للمرة الثانية بمقاطعته الحديث فاستمرت :

- صديقتي سندازا ذهبت في رحلة عمل إلى استراليا لبضعة أعوام وعندما عادت اشترت لها بيتا يصاحبها شاب تونسي بعمر ولدها . طلقت زوجها وتزوجت التونسي . أليس هو شيطان الجنس فاعل هذا الفعل ..

لا تترنح ماريا أمام صعوبات قاسية عانتها في حياتها أو أمام ما يعاني منها يوسف العراقي لحظة بلحظة . اصبح العالم عندها كل 24 ساعة لكل ستة أيام في الأسبوع مخصص لقضائه مع هذا المريض . في اليوم السابع هي حرة بعد أن تكون ممرضة بديلة أخرى قد حضرت إلى البيت لرعايته .
حريتها أن تتخلص لمدة أربع وعشرين ساعة من تشغيل ومراقبة تكنولوجيا رجل مريض في كل بقعة من بدنه.. رجل لا يعرف أحد هل هو حي أم ميت أو متى سيذهب إلى قبره كما تقول الممرضة البديلة التي تقضي هامشا ضيقا من حياتها في كل يوم جمعة حالما تغادر ماريـّا بيتها ورعاية مريضها للتمتع بكل ساعة من وقتها الحر منشغلة بأمور تنكفئ بها إلى وراء أحيانا دون ان يصدر منها أي تلميح إلى كيفية قضاء ساعات حريتها ولا يعرف أحد هل تفكر ماريـّا بالمستقبل هل تفكر بالحب أو الزواج أو الجنس..
لماذا لا تفكر ماريـّا في المستقبل ..؟
طيلة ساعات ممتدة من ظهيرة يوم الجمعة حتى ظهيرة يوم السبت من كل أسبوع تغيب فيها ماريـّا عنه وعن البيت ينتابه قلق بالغ وحزن شديد سرعان ما تلاحظه الممرضة البديلة . يركز نظره على الساعة الجدارية أمامه يتابع حركة عقرب الدقائق فيها حتى يتوقف العقربان على الساعة الثالثة من بعد ظهر كل يوم سبت حيث تدخل فجأة تحمل بوجهه ابتسامتها الجميلة .


كل من يراها اليوم يجدها كما كانت قبل عام عندما يتحدث إليها لا يشك في أنها تملك تفكيرا حرا من دون عقد نفسية في حياتها.. الناس من أصدقائها قلقون عليها .. ابنتها في بيت خليلها روبرت بامستردام قلقة لا تكف عن محادثتها تلفونيا كل يوم . تظن أن أمها مهددة بفقدان توازنها الصحي . الأطباء والممرضون والممرضات قلقون فقد يكون محتملا رؤية مرض عصبي يغزو عقل يوسف العراقي أو يتزايد احتمال انهيار في أعصاب ماريـّا نفسها .
لكن ماريـّا تظل صبورة . صورة حياتها يوم الجمعة مرغوبة لديها ترتدي قبل مغادرتها المنزل اجمل ثوب واضعة ماكياجا على وجهها الجميل كي تغدو اجمل.. لن يصدق من يراها أن ماريّا جميلة بهذا الشكل وأنها بمثل هذه الدرجة من الوسامة . تعود شابة أو يعود شبابها إليها بهذا الشكل .. في كل يوم جمعة تبدو كملاك وهي تقود سيارتها الحديثة الجميلة .
ماذا يمكن أن يعني كل هذا .
يسرها أن لا تكون مقيدة يوم الجمعة. تجول في الأسواق مع صديق مرة ومع صديقة مرة أخرى بحثا عن موديلات حديثة وعن منتجات علمية وتكنولوجية حديثة الصنع تجعل حياة كل إنسان في هذا الكون أفضل وأسهل . تستمتع في جلسة مطعم أو مقهى أو بار . تنظر إلى الأماكن الجميلة بمودة دون أن تنسى يوسف العراقي الذي ودعته بأيدي ممرضات أمينات . لكنها تظل تعد الساعات لحين عودتها لتدخل سرورا جديدا مفاجئا في أعماق يوسف العراقي حالما يسمع صوت مَغلق الباب وهي تدخل كأنه يسمع مطلع لحن جميل .كل يوم جمعة يسال يوسف العراقي نفسه حال انتهاء مراسم استلام وتسليم المريض المقعد فوق كرسيه اللعين .

- إلى أين تذهب ماريـّا يا ترى ..؟
يطعن روحه بهذا السؤال كما يطعن المنتحر صدره بسكين ثم يغمض جفنيه كي لا يرى ضوءا بلا وجه ماريـّا ولا بيتا لا يتحرك فيه جسدها . أفكار متضاربة من كل لون تتوالى على دماغه المتعب شبه المتوقف . تزداد الصور بلبلة كلما مضت ساعة من ساعات نهار يوم الجمعة وليله . هل ذهبتْ مع صديق . هل احتضنتْ عشيق .
تضج أسئلة كثيرة تحرك أعصابه الميتة فتحييها لتتحول إلى كابوس ثقيل اعتاد أن يسميه كابوس اليوم السابع تتوزع مفردات لغته مع نفسه كأنها لغة الرياضيات .. نفس اللغة التي واجهها أثناء سنوات المدرسة الثانوية حين كان يجدها ثقيلة في نفسه كثقل جبل سنام على صحراء الزبير . يواجه في اليوم السابع لغة قسرية مع ممرضة يوم الجمعة لا يعني له وجودها شيئا غير استكمال الأجهزة الميكانيكية التي تغذيه بأوقات محددة وتستقبل بوله وخروجه بأوقات أخرى إما لغة السياسة والاقتصاد عن أمريكا والعراق و أسامة بن لادن وحسني مبارك فإنها تختفي ذلك اليوم لا يسمع غير كلمات مختلطة عن الدواء والماء وعن نسبة ارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه أو عن نسبة زيادة البلغم في بلعومه.. تتحرك الآلات الطبية واحدة بعد أخرى من دون أي إحساس بنعمة يد الممرضة الثانية كما هي نعمة يد ماريـّا .
لم يعد يسمع غير صوت ماريـّا . تلك إذنْ حياته كلها . إن سمع صوتها فذلك يعني أنه حي وإن غاب صوتها فيعني أنه بلا حياة .
صار يلعن في قلبه كل يوم جمعة حين يغيب صوتها بغياب صورتها . الكرسي الجالس عليه يتحول في أعماقه إلى هيكل الموت والحساب . ليس هو في بيت بل في قبر .
يغضب لكن لا أحد ينصتُ إلى غضبه . فليس العالم الآن غير ماريـّا وليس للحياة وجود. تتهادى داخل روحه المقدمات عن غيابها 24 ساعة كاملة فتموت أمنياته كلها وتدور في صدره أمنيات جديدة تتضاءل كلما اقتربت الساعة الرابعة والعشرون حين تضج ماريـّا ضاحكة لحظة دخولها البيت عائدة من عطلة السرور والحبور فتهمهم مع الممرضة الخفر بكلام اللغة الهولندية وهو كلام لا يخرج من مراسيم استلام وتسليم مريض .
ينصتُ بكل جوارحه كمن يريد أن يلتقط شيئاً يفهم معناه ، لكن دون جدوى.
ذهبت الممرضة شيرا الغريبة وأشرقت على البيت كله الممرضة الحبيبة ماريـّا . لم تكن الأصوات متساوية عنده منذ سنوات . ليس في الحياة صوت اجمل من صوت ماريـّا يدور غائبا ويدور حاضرا ليدخل إلى أعماق قلبه ..
مرت ساعات وساعات .. انبثقت أفكار وأفكار . بعضها غريب وبعضها ملهم لأفكار أخرى .. كلها ترفرف بصوت هادر كأنه شلال من مسؤوليات تصرخ بوجه الحياة : لا يحق لإنسان التخلي عن موقع الإنسانية .. ولا يحق لأحد أن يرغم أحدا على هذا التخلي .
مضت 24 ساعة الآن لم ينم فيها ولا لحظة واحدة على غير عادته.. سأل نفسه كثيرا عن أشياء الإنسانية على غير عادته .. سألته مبادئ الإنسانية عن نفسها وتأثيرها في حياته على غير عادته.. شعر انه يصحو بصراحة منعشة تحرك عقله عن الموت والحياة والعلم والدين وعن متناقضات الحياة.

- ترى هل أمرّ بيقظة ما قبل الموت لأكتشف أن كوناً ما صار لي وصار لي وجود جديد وصار لي دور آخر في عملية الخلق ..؟

تنتابني الآن رغبة عارمة في التخلص من ضيق أفقي .. هل أنا مريض حقا .. هل أموت غدا .. من يشيّع جثماني إلى المقبرة .. هل يحتفل بموتي من غاب حضوره عن الاحتفال بحياتي في ذكراها السبعين .. هل ضعفت ثقتي بنفسي إلى هذا الحد من اليأس ..؟ شيء سخيف حقا مثل هذا التفكير لكن لا توجد حياة بلا سخف فالسخف هو شيء وحيد لا يحتاج إلى جدل ولا يؤدي إلى خلاف بين الناس ولا بين الأحزاب ولا بين البلدان .. إنني منزعج من مرضي ومن خطاياي .. لا يوجد في الكون من لا يمرض ولا يوجد من لا يخطأ .. فكل شيء يولد وينمو ويموت محاطاً بالفضائل وبالأخطاء .. لا جدال في أن هذا القول ينطبق على الإنسان العراقي أيضا ولا استبعد انطباقه عليّ بالذات منذ يوم ولادتي في صحراء الزبيرعام 1933 يوم وُلدتْ أحياء كثيرة العدد والأنواع في البحر القريب من الصحراء ، كما في شط العرب تولد اسماك لم تتألم لا في ولادتها ولا في حياتها ..

أما أنا يوسف العراقي فقد ولدتُ بألم بعد عسر واجه أمي في بيتها .

استأجر البوليس السري فتوتي كلها للملاحقة والسجون والعذاب ..

للحزب الشيوعي أقسمت .

وقد أعجبتني أفكار الاشتراكية .

- نظرتُ إلى البعيد فأبصرت من العلوم كثيرا .آمنت أن الشمس مركز الكون لا يمكن التطلع إليها بما يقوله رجل الدين الشيخ عمر بن محمد أبن مسعود الزبيري رغم أنه شقيق والدي ، بل يمكن الوثوق فقط بما يقوله تلسكوب غاليلو . وأبصرتُ في ما يسوس بلدي وأيقنتُ أن السياسة ليست سوى ألعاب إلكترونية يلهو بها السياسيون كي يضحكوا على غيرهم أو يمرحون .

في أحلامه وهو نائم على كرسيه يجد نفسه رفيقا للحلاج مرة وصديقا لعنزة المهاتما غاندي مرة أخرى زبلا صديق في مرة ثالثة .. يتصور شكل الحرية كما قدمها له هيجل حين قال : الحرية وجدان ..

يسأل نفسه :

- هل يكون موتي نهاية الحرية .. هل من الحق أن أكون بعيدا عن لحظة الحرية في وطني .. هل من الوجدان أن لا أشارك الآخرين لحظة تأسيس الحرية في بلادي بعد ضياع حريتها منذ قرون عديدة ..؟

أعجبتني عيون الزبيريات السود وأرضاني مقامها الأول .

وأعجبتني عينا ماريّا في مقامي الآن .

ربما أموت اليوم .. ربما لا أموت لكن أكيد أنني سأموت غدا . ذلك حق لا يستطيع القاضي استجوابه ليخبر أحداً عن موعد مجيئه . لكن بعد جيل أو جيلين سيكون بمقدور أولادي وأحفادي استخدام الفيزياء الرائعة في السياسة لاكتشاف حقيقة أن الكون خلق من اجل الإنسان ولكي يعمل الكون لصالح الناس فان آمل انفصال الأديان عن العلوم سوف يتحقق ويكون على كل مؤمن أن يتقبل حكمة الله في الكنيسة والمسجد والمعبد بدون أن تنزل على ظهره عصا حزب إسلامي أو شيعي أو سني لتعويق معتقده أو نظرته الخاصة للحياة أو إجباره على قبول ثرثرة رجال الدين في السياسة أو لغو رجال السياسة في الدين .. سوف لا يجد حفيدي أية صعوبة في القول أن الدين شيء والعلم شيء آخر أحدهما منفصل عن الآخر ليس له من معارض كما فعل معي أبى الحاج عبد الكريم وكما فعل عمي الشيخ عمر .. سيقول لهم حفيد يوسف العراقي: لكم عصر ولي عصر لكم نتاجكم ولي إنتاجي .. سيضغط حفيدي على زر صغير في جهاز كومبيوتر صغير مشدود على معصمه ليجد التاريخ يأتيه تباعا ويجد أرقام الرياضيات كلها على شاشة زجاجية صغيرة يجول بواسطتها الفضاء والكون كله متحدثا مع النجوم والكواكب من على ظهر قوس قزح .

يا ألهي لماذا ينقسم العراقيون ليتقاتلوا .. ألأن آباءنا من شياطين أم لأن الناس أنفسهم عاجزون عن ترديد أشهر كلمات المسيح وموسى ومحمد وعمر وعلي وجيتة ونير ودا والجواهري وماريا ..؟

ما عاد حذاء صدام حسين من أدوات التعذيب وما عاد منطقه يلعب دور الشيطان فلماذا يلعب بعض الناس بعقول بسطاء الناس الآخرين كما يلعب الشياطين والسحرة والعفاريت .. يا كوبيد يا إله الحب .. إنظم لفقراء بلادنا قصائد الحب والعناق والسعادة والرفاه والجنس .. اجعلنا ننشد في كل حين أنشودة غرامية ..

استمر يحدث نفسه داخل الحمّام وهو ينظر كعادته كل يوم إلى حركة يدي ماريّا في أنحاء جسده كأنها تهرول . يحس جرس الهياج في ظهره مثلما يحس في كل مرة بأن هذا اليوم هو اليوم الأخير في حياته . طرقات شديدة تدق على جمجمته .

شيء ما يدفعه ليرفس الكرسي متحررا من قيوده ملتصقا بموضع ما في جسد ماريا . يجول بنظراته في كل أنحاء جسمها . يضغط على صدره بقوة . يرتجف من اللهب الذي يحرق جسده كأنما يدفعه لاقتحام الغابة .





بعد خروجه هذا اليوم من الحمام ظل يحس ألم جرح ٍ في حنكه بموس الحلاقة . أول مرة يصاب بجرح من يد حلاقته الماهرة ماريا . خيل إليه انه يجلس في غابة اسند ظهره إلى شجيرة كثيفة بينما كانت ماريا تبحث عن مرآة صغيرة طلب إحضارها ليرى مدى تغلغل الجرح بوجهه . حين أمسكت المرآة نظر إلى وجهه بدقة فظهرت صورة صعب عليه التمييز بينها.. هل هي صورته في الماضي الذي يريد طرحه إلى وراء الشجيرة الكثيفة أم هي صورة أبنه يعقوب..؟ نعم هذا يعقوب وهو في شبابه الدائم وقوته لكنه محاط بصخور ممتدة إلى طرقات وعرة .. هل يحلم يعقوب يا ترى.. هل يستطيع أن يتحرك في مدينة الزبير برشاقة من دون أن تلاحقه عين بوليسية.. هل انتمى إلى جوقة موسيقية أم إلى جوقة حزبية أم إلى جوقة عبادة .. . ؟ كلا .. لا أظن أنه سيروح بجوقة عبادة ففي هذا الزمان لم تعد المساجد تُفتحُ للعبادة .. حولوها إلى حلم ليلة صيف تجول فيها عفاريت السياسة يقفلون بها أدمغة الشبان بأقفال الأفغان وبلاد العميان ..‏

يا إلهي : هل هو في الضوء أم في الظلال ..؟
سمع صوت يعقوب :
- أبتاه .. يا لسعادتي برؤيتك .. أنا ماض في حياتي بوثب سريع ..
- اتصل بمرتبتي يا يعقوب باستمرار الوثب وليس بسرعته حسب لقد تحطمت سفينتي بسرعة انحدارها وبكثير من أخطاء مسارها .. يا بني .. تشتت البحّارون في بلاد الدنيا الواسعة..
- لكن اسمك محفوظ في لوح عالٍ بمدينة الزبير .. البحارة يرددون اسمك كل يوم..
- ربما وجب عليّ أن اكتب لك رسالة قبل أن يحل موعد موتي في الساعة الثانية عشر من يوم غد . لكن فرصة الحديث معك واتتني بهذه المرآة .. اعتقد أن أحلامي قد انتهت منذ أن أقعدوني على كرسي وشدوني إليه بقوة فصرت به شيئا من أشيائه تشتغل أزراره من دون عواطف .. تحتك أصابع ماريـّا بأزراره فتصبح أوامر تحيلني إلى أفق لا أرى فيه غير الضباب رغم أنني اكتب لك هذه الرسالة في اليوم الأول من السنة الجديدة التي تتأصل بزمان الناس وأجزاء حياتهم .. انه العيد الذي يستبشر بقدومه كل البشر إلا أنا لأنني أحس أن اليوم الجديد في العام الجديد يستجيب لحاجة عميقة موجودة في داخلي .. حاجة ميتافيزيقية تجعل وجود حياتي المقرونة بالموت عبئا على ماريـّا يربك نظام حياتها وإيقاعه بمسؤولياتها عن رعاية هذا الكرسي .. لا يجدد الكرسي طاقاتي بل يسلب طاقاتها .. حيويتها الطبية تقسرها وتحاصرها رغم أن الضيق لا يظهر على وجهها لكنني أحس أن إفراطها في رعايتي يولد الصمت أحيانا والتمرد في أحيان أخرى . فقدتُ في قيود الكرسي طعم الحرية إلى الأبد بل فقدتُ طعم الحياة حتى صرت أتذكر كل يوم ما قاله ذات يوم صموئيل بيكيت : إن الموت نعيشه كما نعيش الحياة .
نعم يا ولدي لم تعد الحياة مفضلة بالنسبة لي منذ أعوام مرضي إلا لسبب واحد هو متابعة كيف أعيش بدون حرية في بلاد الحرية وكيف تعيش ماريـّا الهولندية بدون حرية في نفس البلاد الحرة .
في وطني ما ظهرت فرصة الحرية.. تصورتُ الحرية في بدء شبابي أنها حقي وحق كل مواطن في أن لا يكون معرضا للتهديد والقتل والسجون والعذاب.. تصورت أن مهمة الحكومة تثبيت الحدود ليمارس المواطنون حرياتهم .. كانت هذه التصورات وهمية وأقساطها غير متساوية في زمان وادي الرافدين .. اعترف لك الآن أن الحرية لا يتمتع بها غير الحكام وأصحاب المال الوفير .. كنا جماعة محرومة تماما من الحرية .. بلغتُ وعي الحرية عندما تعرفت إلى كارل ماركس .. تعرفت إلى جانب بسيط من عبقريته منطلقا بواسطتها إلى البحث عن حريتي وحرية وطني لكن هاهي الحرية تتحول عندي اليوم إلى مجرد صعود نفسَي في صدري بزر كهربائي ونزوله بآلة وحشية .. صارت حياتي مجرد نظام ممل لكن ليس من صنع حكومة شبيهة بحكومة العراق لا ينتج منها غير هموم وعواء بل انه نظام ينطوي على حرية البقاء على قيد الكرسي في النهار وعلى فراش خاص بالليل .
لم يكن وصولي لهذه الدولة الغربية أمراً صعباً . لكنني كنتُ أخشى أن يرفضني شعبها أو على الأقل يرفضني شرطي في المطار ليعيدني بنفس الطائرة إلى مطار دمشق ثانية . فأنا رجل فقير ، محروم من القدرة على الحركة والكلام . ربما يلفظني مطار أمستردام كما كانت موانئ روتردام ونيويورك ولندن وغيرها تلفظ الواصلين إليها برميهم على أرصفة الشوارع بحثاً عن عمل في مزبلة مطعم أو في مكان كنس الفنادق أو في حمل الفضلات . كنتُ قد سمعتُ وقرأتُ وعرفتُ كل مأساة الغريب القادم من الشرق المشوه إلى الغرب المزيّن بالشقراوات . لكن يبدو أن العالم تغير . فقد أصبحتْ في جيبي حال وصولي إلى هذه الأرض هوية عليها صورة وفيها رقم ولي بموجبها حقوق إنسان مريض كالمعافى .. يا للغرابة ليس عليّ أي واجب في هذا الوطن لأنني مريض بينما يموت المرضى في الوطن الأم بلا دواء .
في الليل يا يعقوب يأتيني صمت قاهر بلا صوت ماريـّا النائمة في غرفة مجاورة وبلا نور فقد أطفأته قبل ذهابها إلى فراشها . يأتيني صمت الليل برعب شديد . لا صوت فيروز ولا صوت فؤاد سالم ولا حضيري أبو عزيز ولا صوت رفيق أو صديق ..هو ذا صوت يدوي في صمتي؟ هل هو صوت الله.. هل سمع الله تضرعي بالموت ..؟ صوت قوي يفيض بالقوة والجلال .. هل اقترف أثما بالانتحار إذا لم يستجب الله لرجائي أن يرسل لي عزرائيل ليقتحم مسكني ويغتالني في هذه الساعة بعد أن تمردت ماريـّا على يقظتها فغطت في نوم عميق ..؟ تعال يا عزرائيل وناصر عمري .. تعال وتغلب على ماريـّا وجميع الأطباء والمعدات الطبية.
من المؤكد يا ولدي أن الصبر ثروة وهي ثروتي في هذه الساعات كما كانت هي نفسها ثروتي حين مرّت أيامي في مدينة البصرة الكبيرة ومدينة الزبير الصغيرة مصاحبا الثوريين فيهما يوم كنا نعتقد أن الصبر ثروة عظيمة يحملها كل واحد منا في صدره وفي عقله . لولا هذه الثروة ما بقي شيوعي واحد له حق المواطنة في العراق إلا إذا كان داخل زنزانة .
بيني وبين الحياة جدار سميك . لستُ حراً . لستُ قادرا على المساهمة في تغيير الوطن . لستُ قادراً على وضع يدي على أية آلة عمل . تصور أنني بحاجة إلى التعبير عن حبي لماريـّا . عندي رغبة جامحة في تقبيلها .. حتى في النوم معها أو إلى جانبها . لكن الكرسي يبدد كل أحلامي . فلا أملك قدماً تتحرك ولا يدا تستطيع أن تحتضن شيئاً ولا شفة قادرة على البوح برغبتي في الكلام أو القبل . حتى موهبة النسيان حرمني منها الله . أحاول أن أنسى كل شيء . أحاول أن أنساكم . أحاول أن أنسى كلمة الحرية . أحاول أن أنسى كلمات الشيوعية والديمقراطية والدكتاتورية لكن دون جدوى فتأنس نفسي إلى صمت يجعلني كالصخر . كل شيء من الماضي والحاضر مستيقظ الآن في داخلي حين يتكلم الناس عن حرية عادت إليكم لكن الحرية اختلطت عندي بالصمت و كانت الدكتاتورية تخنق حريتي .. اليوم هو الصمت يخنق حريتي بل اغتصب حياتي كلها .. قوة الصمت صارت تجسيدا أخيرا للمرض.. صارت قوة قاهرة اكبر من قهر هذا الكرسي المشدود إليه مانعا إياي عن تصفح جريدة أو إدارة مشغل تلفزيون .. هي ماريـّا نفسها تدير كل شيء حتى جوعي وشبعي تديرهما إلا حريتي. تمضي أيامي متمتعا بأكل طعام تعده ماريـّا وبخمر تقدمه لي بقلب منشرح.. ثيابي تجعلها بيضاء دائما ووجهي تحلقه كل يوم وتضع عليه عطرا طيبا . هكذا تمشي حياتي المريضة في غرفة الكرسي تقابلني امرأة جميلة أحببتها.. لا اسمع كلاما من أحمق ولا أخشى من حية تلدغني.
هل تنصحني بالانتحار يا ولدي ..أنا محروم من هذه النعمة . هي ماريـّا تمنع عني استلهام أو ممارسة هذه الوسيلة . كم أتمنى أن أحقق هدف الاستيلاء على سلطة الكرسي في هذا البيت الصغير ليس بوسائل استيلاء البورجوازية أو العمال على سلطة وطن صغير أو كبير بأساليب اليساريين أو اليمينيين . ليس أمامي أي أمل أو فرصة فأنا ميت غدا كما يقول الأطباء . لم اعد قادرا على ممارسة التمرد أو الفوضى أو الثورة أو السريالية أو التروتسكية فالكرسي أقوى وسيلة تكنوقراطية تديرها ماريـّا وأنا في مواجهتها غير مسلح وغير منظم . كل الاحتمالات ضعيفة. هدف ماريـّا هو الحفاظ على جسد يوسف العراقي حيا على كرسي حتى الموت . تريد أن تمنحني حدا أقصى من الإحساس بأنني حي . تلك هي وظيفتها الإنسانية الطبية . هل هو إحساس مناسب لي في أن امتلك جسدا لا يتحرك.. لا يتكلم.. ولا يملك قدرة التعبير عن حب كبير نما في أعماقي لماريـّا.. هل هو إحساس مناسب في الحياة وأنا غير قادر على ممارسة الحب ..؟
أنا يا ولدي أعيش في عصر غير عصري . أحمل ذاكرة أيام عمري لكنها ذاكرة ليست للمستقبل . أنها ذاكرة منتهية في الماضي أنهاها مرضي الذي عوضني عن حركة الحياة بالجلوس الأبدي فوق هذا الكرسي . ذاكرتي بعد موتي محفوظة في ذاكرة ماريـّا .. ربما تجدها لدى أبنائها وأقاربها وأصدقائها ممن يمنحوني خيرهم بزيارتي أو زيارتها . هذه وصيتي لك ولمن حولك من شيوخ وشباب .. لا أتمنى أن تتألموا كما تألمت ولا أن تتغربوا كما تغربت ولا أن تخطئوا كما أخطأت ولا تذنبوا كما أذنبت ولا تمسكوا بالقديم كأنه الروح وحده للأبد .. ابحث يا ولدي عن الجديد حتى ولو كان في البعيد أو في الدرب الوعر أو في العلى .. اقبل توبتي عن موتي وأنا بعيد عنك .. لم تجاذب جسمي رعشة خوف منذ أول يوم وقفت فيه أمام البوليس السري يجلدون ظهري بسياطهم في زاوية غرفة مظلمة وحتى هذه اللحظة التي يريد فيها اجلي أن يوافيني كنت ألهو منذ شبابي مع الشيوعية من دون أن اسأل أحدا عن يوم تحقيقها في الزبير أو غيرها.. لم اكن خائفا ولا خجلا من السؤال ..


ها أنذا أفتح عيني فلا أرى غير ظلمة الغرفة وقسوة الكرسي , أحاول اختراق الظلمة والقسوة لكنني سأموت غداً . ادفنوني في هذه المدينة كي أرى وجه ماريـّا كل يوم يوقظني من قسوة القبر ..
****

كانت ماريّأ تحس كأنها مصابة بمرض الخنّاق وهي تسمع صوته ينساب عبر المرآة إلى يعقوب من مدينة هورن المزدانة بخضرة الرأسمالية إلى مدينة الزبير حيث كان يحلم أن تكون مدينة اشتراكية فاضلة في قلب صحراء جافة .

ارتبكت يدها .. سقطت المرآة إلى الأرض . هبط بصرها إلى الزجاج المهشم ثم رفعت يديها إلى الله متضرعة أن يغفر للجميع أخطاء لا يرتكبها غير الجهلة في هذا الزمان .



- انصره أيها الرب ما دام باستطاعته أن يختار بإرادته فكرة الحرية فليست الحرية غير القدرة الإنسانية وليست القدرة غير الحرية .. انهما ، القدرة والحرية ، حلمه الذي يسميه حلم فقراء العراق .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنتهت



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسامير 712
- مسامير عن وفدنا العراقي في مؤتمر الصحفيين العرب ..!...!
- مسامير جاسم المطير 709
- مسامير عن خط بارليف الزرقاوي 707
- مسامير جاسم المطير706
- مسامير نداء الملــّة جويبر
- مسامير جاسم المطير
- المريض الشيوعي - الفصل السابع من رواية جديدة
- مسامير- المزاج السياسي والمسألة الكبرى
- مسامير 701 تايه عبد الكريم ..تايه ..!
- مسامير 700 يا عواذل فلفلوا ..!
- مسامير جاسم المطير 698
- المريض الشيوعي - الفصل السادس
- مسامير جاسم المطير 696
- مسامير 697 إعادة هيكلة الجامعات العراقية إسلامياً ..!
- 694مسامير لكل مواطن شطفة أرض
- المريض الشيوعي- الفصل الخامس من رواية جديدة
- مسامير693ستراتيجية السمفونية الأمنية ..!!
- مسامير صغيرة 691 جوائز السينما العراقية
- مسامير 692 سبتمبر لا حس ولا خبر


المزيد.....




- توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف ...
- كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟ ...
- شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي ...
- رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس ...
- أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما ...
- فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن ...
- بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل ...
- “حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال ...
- جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
- التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!


المزيد.....

- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - الفصل الأخير من رواية المريض الشيوعي