|
الكومونة والسوفييتات -13: حركات التحرر الوطنية
أنور نجم الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3230 - 2010 / 12 / 29 - 10:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
السوفييت في الشرق:
انطلاقًا من ثورة عام 1905 السوفييتية الروسية، شهدت شوارع أوروبا مظاهرات ومتاريس العمالية -النمسا وبراغ على سبيل المثال، واستثارت هذه الثورة من جهة ثانية حركة في عمق آسيا، وخاصة بعد انطلاق الثورة الروسية الثانية عام 1917، فأصبحت الثورة السوفييتية ثورة أممية بالمعنى التاريخي للعبارة؛ نتيجة لتأزم الرأسمالية العالمية، وتدمير الجيوش الرأسمالية في الحرب العالمية الأولى، ثم أمام الثورات البروليتارية التي صاحبت هذه الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الشاملة العميقة التي كانت بالفعل تهدد النظام العالمي لرأس المال من أوروبا إلى أسيا، فانطلقت الثورات في الكثير من الدول الأوروبية: هنغاريا، النمسا، ألمانيا، ايطاليا، أوكرانيا، وانتشرت الثورة بسرعة إلى آسيا أيضًا: الصين، وتركيا، وإيران، والهند. وهذا يعني أدت الثورة الروسية بالفعل إلى نشوب ثورة شيوعية أممية في العالم أجمع، فأصبحت السوفييتات نقطة انطلاق لتطور شيوعي في العالم، حسب تعبير ماركس في مقدمة الطبعة الثانية لـ (لبيان الشيوعي) عام 1882، فيشير ماركس باهتمام إلى احتمال نشوب ثورة مثل ثورة السوفييتات في روسيا واندماجها مع الثورة في الغرب. فلو كان ساهم السياسيين في الثورة باتجاه السوفييتات لا مطامحهم الحزبية الخاصة، لكان تاريخ العالم كله قد أخذ منعطفًا شيوعيًا.
أما حسب لينين فلم تظهر الثورة الروسية الثانية أيضًا، إلا بوصفها خليط من الثورة البرجوازية والثورة الاشتراكية، فالثورة البرجوازية الروسية التي انطلقت في عام 1825م، أي قبل قرابة قرن من ثورة السوفييتات البروليتارية، لا نهاية لها لدى لينين، والثورات في الشرق لم تظهر إلى السطح إلا بوصفها ممثلة البرجوازية الوطنية المتحررة من الاستعمار، حسب لينين، فحاولت االامبراطورية السوفييتية منذ البداية تكييف كل هذه الحركات مع مطامحها القومية المستقبلية.
الصين:
بدأت الصين بجر آسيا النائمة في أحضان العالم القديم إلى مسرح التاريخ السياسي العالمي الحديث منذ بداية القرن العشرين. فصن يات صن (1866 - 1925)، قام في سنة 1912م بإقامة حكومة جمهورية برجوازية مؤقتة في الصين بعد الإطاحة بأسرة تشينغ التي قامت بحكم البلد أكثر من قرنين ونصف القرن.
لذلك، فلغرض جلب آسيا إلى مدار المنافسة العالمية مع الغرب وأمريكا لصالح الامبراطورية السوفييتية، أي للمصلحة القومية الروسية، فلم يتأخر لينين في المحاولات لجر الصين والشرق عمومًا إلى مدار سياسته الدولية، وحتى في تقديم المساعدات لصن يات صن، بعد فشل هذا الأخير في الحصول على مساعدات من الغرب. فمن هذا الـ (صن يات صن)؟
"صن يات صن شاهد غريب جدير فوق العادة .. وهذا الرجل المثقف ثقافة أوروبية، ممثل الديمقراطية الصينية المناضلة والمظفرة، الديمقراطية التي اكتسبت الجمهورية"، "ونرى هنا الآسيوي، الرئيس المؤقت للجمهورية، ديمقراطيًّا- ثوريًّا، زاخرًا بما تزخر به من النبل والبطولة تلك الطبقة التي لا تسير انحدارًا بل تصعد صعودًا، والتي لا تخشى المستقبل، بل تؤمن به وتناضل بِتَفَانٍ في سبيله" (لينين، استيقاظ آسيا، ص 9، و11).
السوفييت والشرق:
دخل السوفييت الشرق، ولكن ليس في لباسه البروليتاري الأصيل، أي ليس بالمعنى البروليتاري للكلمة: الإدارة الذاتية للتعاونيات! بل في لباس مزيف: الدولة السوفييتية! فمع نهوض البرجوازية في الشرق، وقبل الفترة التي تسبق الحقبة الجنينية من الصراع الطبقي بين طبقات المجتمع الحديث، تسللت أفكار إلى الشرق باسم البروليتاريا لا علاقة لها ألبتة بهذه الطبقة، فقامت الدولة السوفييتية بتصدير أيديولوجيتها الاشتراكية الجاهزة إلى الشرق، فالشرق لم يصرف لذاته أي جهد لصياغة مبادئه الاجتماعية الحديثة عن البروليتاريا ومهماتها، كما لم يقم باستعارة هذه المبادئ من مصدرها الأصلي، أي الأوروبي، فقامت الدولة السوفييتية بزرع أفكار في الشرق تتناسب ومصلحة الروس القومية، ومن خلال هذه الأفكار الجاهزة، جعلت الدولة السوفييتية من البروليتاريا في الشرق ذيلا هزيلا وراء مطامح البرجوازية الوطنية قبل أن تقف هذه الطبقة على قدميها بوصفها طبقة اجتماعية مستقلة لها مصالحها وأهدافها الخاصة، فجعل السوفييت من التحرر الوطني بديلَ التحرر الاجتماعي لدى بروليتاريا حديثة التطور في الشرق.
وهكذا، فالفكر الشيوعي في الشرق بما فيه الشرق العربي، لم ينشأ من الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، بل قام الشرق باستعارته من غير مصدره الأصلي -أي من البلاشفة بدل الكومونة والسوفييتات- لذلك فظهر الفكر الشيوعي في الشرق وكأنه تعبير عن التحرر من الاستعمار بدل التعبير عن الكومونات الإنتاجية - التعاونيات. فحاول البلاشفة أن يجعل من البروليتاريا في الشرق خادمة البرجوازية الوطنية التي كانت مدعوة للتحالف مع الامبراطورية السوفييتية في مزاحمتها المقبلة مع مستعمريها.
وهكذا، فعلى هذه الطريقة، فقدت البروليتاريا ذاتها منذ البداية ضمن حركة غريبة بحياتها، حركة لم تعبر في تطورها إلا عن سيادة أعدائها عليها، فكل عنصر اقتصادي هدام برز في التاريخ، أصبح عنصرًا سياسيًّا لتطوير التناحر لصالح البرجوازية الوطنية. ورغم كل نمو في الصراع الطبقي الذي كان يواكب بالضرورة التقدم الصناعي في الشرق، فلم يتبين أي فعل بروليتاري دون خلطه بأفعال البرجوازية الوطنية من خلال ممثلي البلاشفة في الشرق ونعني بهم الأحزاب الشيوعية، وكأن البروليتاريا لا تجد الشرط المادي التاريخي لتحررها من سيادة البرجوازية بما فيها البرجوازية الاستعمارية من دون اللجوء إلى مضطهديها! هذا ورغم تطور النضالات الطبقية البروليتارية وانتفاضات الشغيلة في الشرق والتي ليست لها علاقة قطعًا بأهداف البرجوازية الوطنية. هذا هو كان مشروع لينين: معالجة الأمراض المزمنة للمجتمع الرأسمالي، بمعنى آخر: التحاق الشرق أيضًا بالمدنية المعاصرة، مدنية البرجوازية بدل الثورات السوفييتية!
السوفييت والأحزاب الشيوعية في الشرق:
لندع الآن الاستاذ (بهاء الدين نوري) المعروف بـ (باسم) في خمسينات القرن الماضي، وهو كان يشغل منصب سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، يعيد ذاكرة التاريخ إلينا حول دور السوفييت في الشرق، ونتائج أعظم انتفاضة بروليتارية في العراق ألا وهي (انتفاضة تشرين الثاني عام 1952)، فدور البروليتاريا في هذه الانتفاضة التي ظهرت عفويًّا لا يقل إطلاقًا عن دور البروليتاريا في أكبر الانتفاضات البروليتارية في العالم، وهي كانت جنين الكومونات - التعاونيات الإنتاجية الخاضعة للإدارة الذاتية- لو كانت تتخذ مسارها مستقلا عن المطامح البرجوازية الوطنية وتلحق أهداف البروليتاريين الكومونيين.
يقول الاستاذ بهاء الدين نوري: "لا أكتم اعتزازي وفخري، وأنا أتحدث عن انتفاضة تشرين 1952. ذلك ليس لأنها كانت هَبَّةً جماهيرية فريدة من نوعها طيلة سِنِي العهد الملكي وحسب، بل كذلك لأن نفوذ الحزب الشيوعي العراقي قد برز فيها بشكل لم يسبق له مثيل ... قامت الانتفاضة كتتويج لسلسلة طويلة من الاضرابات والمظاهرات والنضالات التي شارك فيها العمال والطلاب والحرفيون والمثقفون والفلاحون في عامي 1951 - 1952. ويكفي أن أشير إلى إضراب عمال السجاير -شركة الدخان الأهلية- الذي قام قبيل الانتفاضة في بغداد، تحت قيادة مناضلين شيوعيين وحقق زيادة في الأجور، فضلا عن تحديد الحد الأدنى للأجور، لأول مرة في تلك المؤسسة، وإلى عصيان فلاحي آل ازيرج، الذين رفعوا السلاح في وجه الإقطاع والسلطة معًا في جنوب العراق، وإلى إضراب طلبة كلية الصيدلة والكيمياء، الذي كان عود الكبريت لإشعال نيران هذه الانتفاضة".
وإلى أين اتجهت هذه الانتفاضة البروليتارية الخالصة العظيمة التي لم تعبر إلا عن المطامح الطبقية للشغيلة؟
يواصل الاستاذ بهاء الدين نوري ويقول: "أصبح المطلب الأساسي للانتفاضة إقامة وزارة ائتلافية برئاسة الجادرجي. ويعنى ذلك أننا لم نطرح شعار الاشتراكية كهدف مباشر".
وما سبب ذلك؟
"من المرجح أن تحليلاتنا للوضع في ذلك الوقت كانت تستند إلى خليط من المسائل الواقعية ومن الأفكار العقائدية الجامدة المأخوذة من الكتب" (مذكرات بهاء الدين نوري، ص 121، و133).
وما هذه الكتب إن لم تكن الكتب الحمراء السوفييتية المقدسة؟ وما هذه الأفكار ان لم تكن خليطًا من الوقائع التاريخية لانتفاضة بروليتارية حَقَّة تستهدف ما لم تستهدفها هذه الكتب اللينينية، وأفكار لم تستهدف منذ البداية سوى سحق الثورات الكومونية من خلال توجيه الانتفاضات البروليتارية في الشرق كلها لمصلحة البرجوازية الوطنية المتحالفة مع الامبراطورية السوفييتية؟
وهكذا، فقد زرع البلاشفة أفكارًا في الشرق تتطابق ومصالح القومية الروسية في السوق التنافسية العالمية. وإذا رجعنا إلى الدور العملي للسوفييت في الشرق عمومًا والشرق العربي على الأخص، فنجد أن السوفييت هو الذي كان يوجه كل الأحزاب الشيوعية في هذه المنطقة لصالحها. فمن خلال حديث الاستاذ (بهاء الدين نوري) عن العلاقة بين دولة عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي ودور السوفييت في رسم هذه العلاقة في الخمسينات، نستنتج أن برنامج هذه الأحزاب كان جزءًا من برنامج الامبراطورية السوفييتية سياسيًّا، وأيديولوجيًّا، وتنظيميًّا، ففي أواخر الخمسينات كان يشغل (سلام عادل) منصب سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، وعندما يظهر شعار من الجماهير "مشاركة الحزب الشيوعي في الحكم في تظاهرة 1 آيار 1959"، فيفاجئ الحزب الشيوعي العراقي الموقف الآتي من السوفييت:
"في اليوم التالي اجتمعنا لدراسة وتقييم نتائج المظاهرة. وبعد نقاش ضافٍ قررنا في المكتب السياسي تَبَنِّي شعار المشاركة في الحكم باعتباره تعبيرًا عن إرادة العمال والجماهير .. كانت حملتنا مستمرةً وسط حماس أعضاء الحزب ومؤيديه عندما تلقينا مذكرة من قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وهي توجه لنا النقد على مطالبتنا بالمشاركة في الحكم وتعتبر موقفنا تطرفًا يساريًّا وتؤكد أن من الضروري دعم سلطة قاسم ضد ما تتعرض له من دسائس ومؤامرات إمبريالية هادفة إلى إسقاطها .. وكنا من جانبنا أسرى التقاليد والتقديرات السائدة في نظام العلاقات داخل الحركة الشيوعية آنئذ. كنا دراويش للقيادة السوفييتية معتقدين بأنها أكثر فهما لأوضاع بلدنا، فامتثلنا للأمر وتخلينا عن شعار المشاركة في الحكم .. أظن اننا كنا نرفض طلب السوفييت فيما لو كنا أكثر تجربة ونضجًا .. منذ أن تخلينا عن محاولة الوصول إلى السلطة في أواسط 1959، استقر خطنا السياسي العام على نهج يميني ذيلي إزاء نظام قاسم وإزاء قضية السلطة بوجه عام" (مذكرات بهاء الدين نوري، ص 204، 205).
هكذا كانت العلاقة بين السوفييت وأحزابها المزروعة في الشرق، فهذه الأحزاب وأيديولوجيتها، وسياساتها تعبر عن مصالح غير مصالح هذه الأحزاب ذاتها، فمصلحة الجماهير الغفيرة لا شيء، أما مصلحة الامبراطورية السوفييتية فهي كل شيء.
يواصل الاستاذ بهاء الدين نوري ويقول: "كانت العلاقات بيننا وبين قاسم تسير نحو مزيد من التدهور والتعقيد رغم جمودنا على سياستنا في الدفاع عن نظامه ضد أي محاولة رامية إلى إسقاطه. وكان البعض من المسؤولين في حزبنا يحلم بتجاوز هذه الصعوبات وإعادة العلاقة الى عهدها الذهبي السابق .. اقترح عضو المكتب السياسي عزيز محمد في 1960، حل تنظيماتنا الحزبية داخل الجيش بهدف بعث الطمأنينية لدى شخص قاسم واستعادة ثقته .. وقد جرت مناقشات طويلة حول هذه المسألة استغرقت أيامًا دون أن نتوصل الى الحسم .. واتفقنا بالإجماع على أن نستشير قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي باعتبارها صاحبة تجربة أوسع بهذا الصدد (مذكرات بهاء الدين نوري، ص 213، 214).
هكذا كان حال الشرق في علاقته مع الإمبرطورية السوفييتية، فكل شيء لأجل مصلحة السوفييت. فبفضل السوفييت وأفكاره المنشورة في الشرق، لم يضع الشيوعيون مصالح طبقة الشغيلة في المقدمة بل المصلحة البرجوازية الوطنية -قاسم مثلا- هي التي لها الأولوية، علمًا في المصدر الأصلي للحركة البروليتارية، كان تعبر الأممية الأولى عن دور البروليتاريا في هذه الحركات بشكل مغاير تمامًا عن البلاشفة، ففي كل ثورة برجوازية تشارك فيها مختلف الطبقات، تختلف أهداف البروليتاريا كل الاختلاف عن هدف كل الطبقات المشاركة الأخرى في الثورة، لذلك فيختلف دور الشيوعيين من دور البرجوازيين في تحريك الحركة، أو كما يقول ماركس:
"إن الشيوعيين يناضلون في سبيل المصالح والأهداف المباشرة للطبقة العاملة، إلا أنهم في الحركة الحالية يدافعون عن مستقبل الحركة .. وفي كل هذه الحركات يضعون في المقدمة مسألة الملكية باعتبار أنها المسألة الأساسية في الحركة، مهما كانت الدرجة التي بلغتها هذه المسألة في تطورها" (كارل ماركس، البيان الشيوعي، ص 83، 85).
وهكذا، أصبحت الدولة السوفييتية منبرًا مزيفًا للبروليتاريا العالمية، وأصبح المناضلون ضحية لجهلهم ازاء دور امبراطورية عملاقة مقنعة بالشيوعية. أما منذ انهيار الدولة السوفييتية فتلاشت معها أيضًا الأوهام الخاصة بعظمة البرجوازية الوطنية. وخاصة في ظروف للشرق فيها تجربة خاصة عن البرجوازية الوطنية التي دبرت عشرات المجازر للبروليتاريين، ومن خلال هذه التجارب التاريخية، والتطور الصناعي والتجاري في الشرق، يحل إدراك واقعي محل الأوهام القديمة، وسَيَحِلّ تنظيم طبقي محل التنظيم الحديدي للحزب الذي لم يكن سوى عامل السيطرة على البروليتاريين، وذلك بإنشاء الكومونات التي تأخذ البروليتاريا من خلالها لا إدارة الفعلية لثورتها فحسب، بل والإدارة الذاتية لأسلوب انتاجي كوموني يظهر على أساسه أسلوب كوموني في التوزيع أيضًا.
الكومونة والحركة الوطنية في الشرق:
من خلال الدروس أعلاه، نتوصل إلى أن المصلحة الوطنية، والتحالف مع البرجوازية الوطنية، وتعظيم دور القيادات البرجوازية الوطنية، أخذت مركز الصدارة في الآداب الاشتراكية والشيوعية في الشرق، أما الكومونة فلم نعرفها إلا بوصفها فكرة شيطانية طرحتها الثورة الباريسية كـ (جنون فوضوي)، فعلى البروليتاريا محاربة الكومونة وكل ما شاركت فيه، فلم نجد إذًا بلانكي وباكونين إلا بوصفهما أعداء البروليتاريا، أما صن يات صن، فهو برجوازي متعلم، أو عبدالكريم قاسم، وهو معادٍ للغرب، بمستطاعه أن يخلف أثرًا على التاريخ العالمي من خلال ثورته البرجوازية الوطنية، حسب لينين. وهذا هو أساس الآداب الاشتراكية والشيوعية العربية أيضًا.
الآداب الاشتراكية والشيوعية العربية:
بدأت الآداب الاشتراكية والشيوعية العربية بنقد المجتمع البرجوازي من منظار المثقفين البرجوازيين، ومن معيار الفلاحيين الصغار، والصراع الدائر بين الاستعمار والبرجوازية الوطنية. وقبل أن تظهر طبقة البروليتاريا إلى السطح، فأصبح المثقف البرجوازي المنحاز إليها ممثلها في الساحة العربية، ويدا في يد البرجوازية الوطنية، بدؤوا بتحريك البروليتاريا نحو الاستقلالية الوطنية، وقبل أن تعلن البروليتاريا أهدافها بنفسها، فقد أعلن المثقفون -باسمها- أهدافها التي تتلخص في المنهج اللينيني الآتي: "الأمم الظالمة" و"الأمم المظلومة". لذلك، فلم تعبر الآداب الاشتراكية والشيوعية العربية إلا عن المطامح المقبلة "للأمم المظلومة" التي تتلخص في مطامح البرجوازية الوطنية "المظلومة". وبما أن هذا الأدب كان نتاج المصلحة الوطنية، فلم يدافع عن المصلحة التاريخية للبروليتاريا، بل عن مصلحة الأمة بأسرها، وبحجة حق تقرير المصير للبرجوازية الوطنية.
هكذا جعل البلاشفة من الشيوعية فكرة وطنية، تستخدم المصلحة الوطنية العظمي التي تتألف من مصلحة الأمة كلها. هكذا قام البلاشفة باحتواء الحركة البروليتارية في الشرق لمصلحة البرجوازية الوطنية المتحالفة مع الإمبراطورية السوفييتية. هكذا أصبحت الوطنية -الدفاع عن الرأسمال الوطني- قياس إخلاص الشيوعيين للطبقة البروليتارية. هكذا أصبح كل تأميم، أو ملكية للدولة ملكية جماعية. هكذا أصبح حق الأمم المظلومة في تقرير مصيرها، أي في إقامة دولتها الوطنية المستقلة، أممية بروليتارية. هكذا أصبح صن يات صن، وجمال عبدالناصر، ومصطفى البارزاني محبوبي الجماهير البروليتاريين الشيوعيين. هكذا أصبح بلانكي وباكونين أعداء الشيوعية. هكذا أصبحت الكومونة فكرة شيطانية. هكذا أصبح الانضباط التايلوري في العمل انضباطًا بروليتاريًّا. هكذا أصبحت الإدارة الذاتية دولة مجالسية. هكذا أصبحت الدولة السوفييتية قلعة البرجوازية الوطنية في الشرق. وهكذا أصبح مناضلو البروليتاريا في العالم أجمع وفي الشرق على الأخص ضحايا لمصلحة الروس القومية، والضحايا الأُوَل هم هؤلاء الألوف الذين قدموا حياتهم لأجل الشيوعية، ولكن لم تتوجه نضالاتهم في آخر الأمر إلا لأجل السيادة السياسية للبرجوازية الوطنية، وحتى قادات الأحزاب الشيوعية هم أنفسهم ضحايا الأولى للخدعة السوفييتية، فلو توجهت نشاطات البروليتاريين في الشرق نحو النضالات الكومونية، واكتملت نضالاتهم الطبقية في حينه هدف البروليتاريا الروسية والأوروبية من ثورة 1917 - 1923، أي مجتمع تعاوني، فلكان يكفي أن تأخذ المشاعات الروسية، والاسترالية، والهندية طريق السوفييتات البروليتارية، أي التعاونيات الشيوعية لا طريق البلاشفة، أي طريق الرأسمالية الدولتية التي تسمى فترة انتقالية طويلة إلى الاشتراكية. ويكفي أن نذكر قصة بطولية من بين مئات القصص للمناضلين في الشرق، بما فيها قصص النساء البطلات التي لم تعبِّر معاناتهن إلا عن المعاناة الاجتماعية للرجال، فيذكر الاستاذ بهاء الدين نوري قصة من هذه القصص تتعلق بزوجته (مادلين) في السجن، وهي كانت بالفعل امرأة مناضلة، نادرة من نوعها، فيطلق سراح بهاء الدين نوري بعد انقلاب عام 1958 قبل زوجته (مادلين) بأيام، وبهذا الصدد فيقول الاستاذ بهاء الدين نوري:
"تأخر اطلاق سراح زوجتي مادلين لبعض الوقت .... وأصبح ابني سلام مع والديه لأول مرة في حياته، بعد أن كان سابقًا مع والدته في السجن، ولسلام، الطفل الذي ولد وتربى في السجن، قصص لا تحدث إلا لطفل في مثل ظروفه. فهو عاش السنوات الخمس الأولى في السجن النسائي تصور خلالها أن العالم كله عبارة عن مبنى السجن الصغير ذلك والجدران المحيطة به، لأنه لم يشهد شيئًا آخر من هذه الدنيا الفسيحة. في السجن رأى السجينات ومديرة السجن والسجانات وربما السجانين أيضًا في بعض الأحوال. كما رأى الحمامات والقطط ولا شيء سواها. ولما شهد ذات يوم حمارًا يدخل السجن حاملا بعض ما اشترته الإدارة استغرب وصرخ: - شوفو، شوفو، شلون بزونة كبيرة! - مو بزونة يا سلومي! أجابت السجينات وهن يضحكن. - لعد شنو؛ حمامة؟ غادر السجن لأول مرة بصحبة امرأة صديقة من المواجهات. أخذته إلى منزلها. لم يتصور الطفل، وهو يدخل منزل المرأة، إلا الانتقال من سجن إلى سجن آخر. فتجول في الغرف واستغرب من ان تكون كلها فارغة. فما كان منه إلا أن يسأل: - خالة! وين السجينات؟ ليش القواويش كلها فارغات؟" (مذكرات بهاء الدين نوري، ص 188). Email: [email protected]
ستنشر بقية الموضوع في فرصة أخرى في مجال آخر.
#أنور_نجم_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رأسمالية الدولة
-
الكومونة والسوفييتات -12: ماركس والثورة الروسية
-
الكومونة والسوفييتات -11: ماركس وباكونين
-
الإدارة الذاتية في ضوء تكنولوجيا المعلومات
-
الكومونة والسوفييتات -10: الفترة الانتقالية
-
الكومونة والسوفييتات -9: الجنة الموعودة
-
الكومونة والسوفييتات -8: ثورة السوفييتات عام 1917
-
الكومونة والسوفييتات -7 : ثورتي البرجوازية والبروليتارية الر
...
-
بولندة عام 1980: ثورة الكومونة من جديد!
-
الكومونة والسوفييتات -6
-
ثورة السوفييتات الهنغارية عام 1956
-
الكومونة والسوفييتات -5
-
الكومونة والسوفييتات -4
-
الكومونة والسوفييتات -3
-
الكومونة والسوفييتات -2
-
الكومونة والسوفييتات -1
-
جاسم محمد كاظم وفؤاد النمري: 3) خرافات جديدة في الاقتصاد الس
...
-
جاسم محمد كاظم وفؤاد النمري: 2) خرافة انهيار الاشتراكية
-
جاسم محمد كاظم وفؤاد النمري: 1) خرافة عودة لينين
-
نظام لينين نظام العمل المأجور: 3- التخطيط الشيوعي للإنتاج
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي: لا للتهميش والاقصاء للجهة الشر
...
-
الشيخ قيس الخزعلي: من يحكم الكيان الان وهو اليمين المتطرف هم
...
-
التقدم والاشتراكية والشيوعي الفيتنامي يبحثان تعزيز التعاون و
...
-
أبو عبيدة: نثمن بكل اعتزاز الحراك الشعبي العظيم في اليمن الح
...
-
نهاية إسرائيل.. حل مانديلا أم متلازمة شمشون؟
-
جورج عبد الله مناضل لبناني مسجون بفرنسا منذ عقود
-
عام على «طوفان الأقصى» و«حرب 7 أكتوبر» / «الديمقراطية»: بالم
...
-
? أخبار الاشتراكي: 4/10/2024
-
من مصر إلى تونس “مسرحية الانتخابات” تنطلق في تونس غدًا
-
سمير لزعر// الصراع ضد البيروقراطية النقابية هو صراع ضد كل م
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|