أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الثيمات المُستفِزَّة في فيلم (بصرة) لأحمد رشوان















المزيد.....


الثيمات المُستفِزَّة في فيلم (بصرة) لأحمد رشوان


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3203 - 2010 / 12 / 2 - 12:14
المحور: الادب والفن
    


إشترك فيلم "بصرة" للمخرج المصري أحمد رشوان في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة التاسعة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام. وقد فاز بطل الفيلم باسم سمرة بجائزة أفضل ممثل وذلك "لكارزماتيته، وصدقه، وتفرّده في تصوير شخصية مركّبة، مبنية من طبقات متعددة". كما حصلت الممثلة الشابة فاطمة عادل على تنويه خاص من لجنة التحكيم عن دورها المميز في فيلم "بصرة" لأحمد رشوان، وقد كان حضورها "أشبه بنسمةٍ عذبة" أنعشت المشاهدين بحسب التقيّيم الذي ورد في قرار لجنة التحكيم.
لا بد من الإعتراف أولاً بأن "بصرة" هو فيلم مثير للجدل على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية. وقد إستطاع المخرج الجريء أحمد رشوان أن يتناول التابوهات أو المحرّمات الثلاثة، وهي الدين والجنس والسياسة، ولم يكتفِ بأن يمسّها مساً خفيفاً بُغية الشهرة أو تحقيق الهاجس الدعائي الذي يلهث خلفهُ بعضُ المخرجين الذين خاضوا التجربة الإخراجية من دون أن يتمترسوا وراء موهبة راسخة، محددة الملامح، أو يستندوا الى رؤية إخراجية قادرة على الرصد والإلتقاط، وإضافة شيء جديد الى مخيلة المتلقي المدربة بفعل التعوّد على المشاهدة الإيجابية والفعالة في آنٍ معاً.
إشكالية العنوان
لا شك في أن عنوان الفيلم أو عنوان أي موضوع إبداعي يقدّم قراءة مبسّطة أو أولية للولوج الى عالم الفيلم والتعرف على قصته السينمائية التي قد ينتابها اللبِس أو الغموض المقصود من جهة المؤلف أو السينارست أو المخرج أو المنتج ربما، كما حصل في هذا الفيلم. إذ أقدم المنتج السوري هيثم حقي على تغيّير عنوان الفيلم من "100% حي" الى "بصرة" وقد استحسن المخرج أحمد رشوان هذا المقترح، ووافق على التغيّير من دون الخوض في سجالات عقيمة لا تُحمد عقباها. فكلمة "بصرة" لها علاقة جوهرية وطيدة في ثيمة الفيلم وموضوعه الأساس. وسواء أكانت هذه "البصرة" هي بصرة العراق التي تعرضت للغزو الأنكلو-أميركي عام 2003 أو "بصرة" الموجودة في "الكوتشينة" التي انفتحت أول مرة أمام نهلة "يارا جبران" وأوحت لها بأن هناك مصوراً فوتوغرافياً سوف يصوِّرها ويرتبط معها بعلاقة حب حميمة تفضي بهما الى فراش اللذة الإنسانية الكبيرة التي نتشوّف إليها بطريقة شرعية أو غير شرعية في بعض الأحيان.
موضوعات الفيلم
إن منْ يشاهد هذا الفيلم سيكتشف دون عناءٍ كبير أنه يتناول موضوعاتٍ شتى، من بينها الحرب الإنكلو-أميركية على العراق، وقصة المصوِّر الفوتوغرافي طارق "باسم سمرة" الذي يترك باريس، حاضرة الدنيا والنور، ويتخلى عن دراساته العليا في القانون، ويعود الى القاهرة التي يمحضها حُباً من نوعٍ خاص، لكي يمارس مهنة يحبها جداً، وهي التصوير الفوتوغرافي، آخذاً بنصيحة مصور فوتوغرافي فرنسي غير مشهور، مفادها أن الإنسان يجب أن يمارس مهنة يحبها كي يكون سعيداً في حياته. هذا المصور المصري طارق يجد نفسه في مواجهة سؤال الوجود "ربما تموت غداً!" كما نبّهه المصور الفرنسي الذي يعيش في ضاحية من ضواحي باريس. وقد عالج المخرج أحمد رشوان هذه الثيمة بحرفية عالية تؤكد انتباهه لهذه الثيمة وإدراكه العميق لها. فلا غرابة أن نرى الموت ثيمة رئيسة ومهمة من ثيمات هذا الفيلم. بل أنها تنبِّه بشدة الى هادم اللذات، ومفرق المحبّين الذي يتربص بنا جميعاً. وربما يكون مشهد مراسيم الدفن من المشاهد المعبِّرة والمؤثرة في هذا الفيلم. الجنس من الثيمات الرئيسة في هذا الفيلم. وربما تكون العلاقة المحورية بين طارق ونهلة هي خير أنموذج لمفهوم الجنس بمعناه الحضاري والمتطور. فهي ليس لديها مشكلة في أن تنام معه، ولكنها تنتظر، وهي المُطلّقة منذ سنة، أن تتعرف عليه، وتحبه، ويعتاد جسدها على جسده، لكي تمارس معه الجنس بالطريقة التي تراها مناسبة. وعلى الرغم من أن لديه علاقات متعددة، كما شاهدناها في صور "اللابتوب" وسمعنا الاتصالات الهاتفية مع صديقاته اللواتي تعرف عليهن سابقاً، إلا أن سؤال الشعور بالأبوة كان أكثر أهمية من العلاقات العابرة، والملذات التي قد تنتهي بانتهاء اللحظة الجنسية الشبقة. فلأول مرة يشعر طارق بأنه أب لهذه الشابة اليافعة هند "فاطمة عادل" التي أدت الدور بعفوية نادرة، وقد أحسستُ أنا كمتلقٍ لا غير، بأنه أبوها فعلاً، وأنها ابنته التي يحرص عليها من المرض والبرد والجوع ومن أية غائلة أخرى. ثمة موضوعات مهمة أخرى مثل العلاقات العابرة، كما هو الحال بين حمادة وبثينة، فقد أحببنا كمشاهدين حمادة، ربما لأنه خفيف الظل، جميل الحضور، يحلم في أن يحقق بعض أحلامه البسيطة والمتواضعة مثل شراء فيللا والإستقرار فيها ومواصلة حياته اليومية كمساعد مخرج. أما الموضوع الأخير الذي أحب أن أتناوله فهو موضوع المخدرات الذي ركز عليه المخرج أحمد رشوان وإعتبره ركيزة من ركائز هذا الفيلم المُستفِز الذي يضعنا في الأقل في مواجهة أنفسنا في العالم العربي. فأغلب شخصيات هذا الفيلم تلتجئ الى المخدرات كحلٍ للمشكلات الكبيرة التي نواجهها. فحمادة هذا المساعد مخرج والذي يعتاش على مهنة الإعلانات التي يصورها لا يجد مخرجاً من مشكلاته اليومية سوى المخدرات التي يتناولها مع أقرانه الشباب من النساء والرجال. أما الموضوع الجوهري في هذا الفيلم فهو غزو العراق وإحتلاله من قبل القوات الإنكلو-أميركية كما ورد في قرار الأمم المتحدة، أو تحريره من الدكتاتورية، كما تعتقد الأحزاب السياسية الستة التي وصلت الى سدة السلطة في العراق. المعروف أن العرب يناصرون العراق العربي، وهذا خطأ فادح وكبير، فنحن في العراق عرب وكرد وتركمان وآشوريون ويزيديون وشبك ويهود وعراقيون من أصول إيرانية وأرمنية وأفغانية وهندية وأناس متحدرون من شعوب أخرى تاقوا الى المجيء الى العراق والإستقرار فيه. فعلى العرب أن يعترفوا بالعراق ومن فيه من قوميات، لأننا، نحن العراقيين، لا نفرق بين مكوناتنا الأصلية التي ذكرناها سابقاً. ونحن نريد عراقنا بمن فيه. أما موضوعة الإحتلال التي تناولها مخرج الفيلم أحمد رشوان فهي المثيرة للجدل كما أسلفنا سابقاً. ونحن نعرف أن معظم العرب يقفون ضد فكرة إحتلال العراق، كما أن جل العراقيين يقفون ضد فكرة إحتلال بلدهم. هل سمعتم أن بلداً يرحب بإحتلال بلاده؟ اللهم إلا الممسوخين الذين لا شخصية لهم، ولا كرامة لهم! هذه الفكرة الشائكة التي ناقشها أحمد رشوان هي دليل على جرأته وشجاعته، ولا غرابة في أن يناقشه هذا الطرف أو ذاك، وهذا من حقهم. ولكننا نبقى الأجدر في صناعة تاريخنا ومستقبلنا، فكل الطغاة والمتجبرين ذاهبون الى "مكب النفايات" والشعب العراقي هو الباقي بفسيفسائة المتنوعة والغنية التي سوف تصنع مستقبلاً أفضل لهذا الشعب الذي لم يتذوق طعم الراحة والهناء والعيش الرغيد.
شخصيات الفيلم
جدير بنا أن نتوقف في هذا الفيلم عند الشخصية المحورية طارق "باسم سمرة" ونسّلط عليها الضوء الكافي الذي أراده كاتب النص ومخرجه أحمد رشوان. فطارق أنهى دراسة القانون في القاهرة وقد قرر السفر الى باريس لإستكمال دراسته العليا بغية نيل شهادة الدكتوراه. وهناك تعرّف على مصور فوتوغرافي يدعى فيليب ويعيش في ضواحي باريس. لقد غيّر هذا المصور الفوتوغرافي قناعات طارق حينما تحاور معه بشأن فكرتين أساسيتين وهما "أتعرف متى تموت، ربما تموت غداَ أو بعد غد؟. وعليك أن تعمل في المهنة التي تحبها! فهناك الملايين المملينة التي تعمل في مهن لا تحبها كما هو حال %95 من المصريين الذين يعملون في مهن لا يحبونها أو أنها خارج إختصاصاتهم. وهنا تكمن المحنة الكبرى، فلا غرابة أن يقفل طارق عائداً من باريس لكي يعيش في القاهرة، والقاهرة للمناسبة ليست قليلة، فهي في الأقل، ضمن تصوراتنا ، نحن الشرقيين، بأنها أم الدنيا. هل أن عودة هذا الرجل الدارس للقانون مبررة ومقنعة أم أنه عاد لأنه فشل في تعلم اللغة الفرنسية التي يواصل بواسطتها دراسة القانون الفرنسي؟ هذه أسئلة جانبية لم يوضحها الفيلم. وحينما عاد طارق لماذا سقط فجأة في خانق السؤال الوجودي؟ لماذا لم يتزوج مثلاً وينجب بعض الأطفال الذين سيغيرون حياته حتماً؟ ولماذا لجأ الى الحلول السهلة وهي تكوين علاقات عابرة مع بعض من صديقاته وآخرهن نهلة؟ ولماذا لجأ الى المخدرات وإنحشر مع ثلة أصدقائه المدمنين على الحشيش ولم يختر أناساً عاديين يحتفون بالحياة ويمجدونها على الرغم من مصاعبها الجمة؟ هل أن المصريين كلهم يلجاؤون الى المخدرات لحل مشكلاتهم، أم أن هناك طرقاً ووسائل أخرى لحل مثل هذه المشكلات العويصة؟ فمن غير المعقول أن هذه الثلة برمتها لا تجد إلا في المخدرات حلاً لمشكلاتها المستعصية. وعلى الرغم من ذلك فإن طارقاً يمضي في علاقته الإشكالية مع نهلة "يارا جبران" ويذهبان الى الإسكندرية، ولكنهما لا ينامان في غرفة واحدة لأنها تحتاج الى مزيد من الوقت كي تتعرف على صديقها وتحبه ثم تمارس معه الحب بقناعة. لقد بذلت نهلة جهداً كبيراً من أجل ترويض نفسها على إقامة علاقة حب طبيعية مع طارق، غير أن هذه العلاقة إستغرقتها وقتاً طويلاً كانت تثور فيه على مجمل تصرفات طارق الذي أراد أن يشتري فستاناً، ولكنها قالت له بأن لديها العديد من الفساتين، وأراد أن يدعوها الى منزل صديقه حمادة لكنها رفضت هذه الدعوة المفاجئة من دون سابق إنذار، كما رفضت الذهاب الى الإسكندرية إلا بعد جهد جهيد حيث أخبرها بأنهما سينامان في غرفة واحدة لكنها إعترضت وقدّمت أسباب هذا الإعتراض وبدت مقنعة الى أن إستجابت في نهاية المطاف، وطلبت من طارق أن يصورها ولم تجد غضاضة في أخذها الى الفراش الذي كانت تحتاج إليه خصوصاً وانها كانت مطلقة منذ عام أو يزيد، وهو المطلَّق منذ بضعة أسابيع. وللتذكير فقط فإن بداية الفيلم كانت مرسومة بعناية على الرغم من هيمنة الوازع التشاؤمي أو إنطلاقه من دائرة اليأس الخانقة التي كانت تشعر بها نايرة فؤاد، زوجة طارق في الأقل، فقد كانت متوترة ومنفعلة تكظم غيظها وهي تواصل،على مضض، إجراءات الطلاق التي بدت لنا كمشاهدين غير مبررة، أو أن أسباب الطلاق كانت شخصية وغامضة جداً الى الدرجة التي لم يستطع طارق أن يبوح بها. فقانون الفراق من وجهة نظره واقع لا محالة، ولا أحد يستطيع الهروب منه سواء عن طريق الطلاق أو موت أحد الزوجين. وحينما يلملم طارق بعض حاجياته العزيزة على نفسه يشاهد نايرة وهي تنضو الثياب عن جسدها فيشتهيها في تلك اللحظة، ويبدأ بتقبيل قفا عنقها لكنها تتملص منه وترفض مداعباته الى أن يوضِّح بطريقة غريبة بعض الشيء وجهة نظره في قانون الفراق ومفادها، حسب رأيه، "أن الفراق لا يمكن أن يطبّق إلا بعد العشاء الأخير والحضن الأخير!" أي بمعنى أن طارقاً لا بد أن يقضي مع طليقته ليلة حمراء أخيرة قبل أن تصلها أوراق الطلاق الرسمية. وبالفعل نراهما يحتسيان نخب بعضهما، ثم نراهما على فراش الزوجية يقبِّلان بعضهما البعض قٌبلاً حارة غير أن نايرة تسقط في النشيح ثم تنسحب من بين ذراعيه. أما نهلة التي بدت أقل يأساً، إلا أنها لم تخرج بعيداً عن دائرة التشاؤم التي تلف معظم شخصيات الفيلم. فعلاقتها بطارق على مدار الفيلم كانت مشوبة بالتوتر والإنفعال، بل أنها لم تكن أكثر من وعاء إنثوي لغرائزه الجنسية التي تتفاقم بحكم الحاجة الجسدية. وللمناسبة فإن عمر طارق الذي لم يجتز الخامسة والثلاثين عاماً، هو نفس عمر المخرج أحمد رشوان الذي حمّل بطله بالكثير من معالم سيرته الذاتية. كما أن معظم الأسئلة التي كان يطرحها طارق إنما هي نابعة في الأساس من ذهنية أحمد رشوان وطريقة تفكيره. كان طارق يحتاج نهلة حاجة إيروسية واضحة، والدليل أنه حجز لها في نفس الغرفة في أحد فنادق الإسكندرية، لكنها أصرّت على المبيت في غرفة منفصلة. كما أن حقيبته كانت مثقلة بعدد كبير من "العوازل" التي صنع منها بالونات ملأت أرضية الغرفة في موقف لا يخلو من طرافة وخفة دم. ولكي لا نطيل في هذا المضمار لا بد من التنويه الى أن نهلة قد قررت ألا تنتحر مُقنعة طارق بعزوفها عن هذا المشروع اليائس حينما خاطبته قائلة: " أحنا مش حننتحر ها؟" ثم يبدءان بإلقاء أوراق الكوتشينة على سطح النيل حيث تعوم ورقة الدكتاتور ليجرفها تيار النيل الى برزخ النسيان. أما شخصية حمادة التي جسّدها بإتقان الفنان السوري إياد نصار فهي أنموذج دقيق للإنسان الذي لا يستطيع أن يجد نفسه إلا من خلال المخدرات، أو أن الحياة العربية التي لا تطاق لا يمكن إحتمالها ما لم يستعن هذا الشاب بالمخدرات وسط ثلة من الأصدقاء الذين لا يفهمون ما يحدث في العالم من دون تنشيط المخيلة البشرية ببعض المحفزات المشجعة على التفكير. بعض الشخصيات الأخرى تبدو منقطعة الى العبث واللاجدوى كما هو حال بثينة "كريستين سليمان" المرتبطة مع حمادة بعلاقة جسدية عابرة قد تنتهي في أية لحظة. وإذا كانت لحمادة بعض الأهداف المرسومة سلفاً مثل مواصلة العمل وشراء فيللا حتى ولو كانت في الصحراء، فإن بثنية كانت ضائعة بين المخدرات ولحظات الجنس العابرة. ثمة شخصيات تتحرك في مساحة غامضة ورجراجة، فلا هي منقطعة الى الحشيش والمخدرات والعلاقات العابرة، ولا هي منحازة تماماً الى الحياة الطبيعية التي يحياها معظم المصريين. فزياد "محمد الأحمدي" الذي يعمل في السياحة ويخسر زبائنه، وربما مشروعه بالكامل، بسبب الحرب الأنكلو-أميركية على العراق، يلتجئ هو الآخر الى المخدرات التي قد تنسيه المواقف الصعبة التي يمر فيها. وعلى الرغم من أنه متزوج حديثاً من مها "بثينة السباعي" ويفترض أن يكون أكثر إسترخاءً من الآخرين، إلا أننا نشاهده على مدار الفيلم الشخصية الأكثر توتراً وإنفعالاً سواء في التعامل مع زوجته أو مع نفسه. كما أنه غير مقتنع تماماً بالعمل في مهنة لا يحبها ولا يريد أن يخوض غمارها على الرغم من تطمينات زوجته التي كانت تعده بالوقوف الى جنبه في مثل هذه الظروف الصعبة التي سوف تنتهي إن عاجلاً أم آجلا.
شبح الحرب
إن كل منْ يشاهد هذا الفيلم بعين محايدة سيكتشف من دون عناء كبير أن المخرج أحمد رشوان يقف ضد فكرة الحرب والاحتلال، سواء شُنت هذه الحرب على العراق أو على أي بلد آخر في العالم. ولكون العراق جزءاً من الأمة العربية فلا بد أن ينتصر للعراق، كما فعل في نهاية الفيلم تماماً حينما ترك البطلين يرميان ورق الكوتشينة على سطح النيل، ويطفو معه صدام حسين كالزبد الذي يذهب جفاء. غير أن الشخصية الرئيسة في الفيلم طارق الرجائي الذي عاش مشاعر الانكسار والهزيمة من زمن أبيه عام 1967 يبحث مثل أي مواطن عربي مدحور عن لوح النجاة الذي ينقذه من الغرق ساعة اشتداد المحنة. وهذا المواطن العربي يحمل في داخلة مجموعة كبيرة من التناقضات. ففي الوقت الذي يحتج فيه طارق على لف رأس صدام حسين بالعلم الأمريكي يقول مستدركاً" أنا مبحبش صدام. أنا عارف إنه حاكم ظالم زيّهم كلهم، بس دي بغداد، وده العلم الأميركي". ولكنه نسي أو تناسى أن صدام حسين لم يدافع عن بغداد التي سقطت أسرع من لمح البصر، وفضّل أن يلوذ بتلك الحفرة البائسة التي لا تليق برئيس دولة على الأقل! أما كان الأجدر به أن يموت على جدران القصر الجمهوري ليضعه العراقيون، سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين له، في سويداء القلب؟ ربما لا يفهم هذه الحقيقة الدامغة إلا العراقيون الذين عانوا الأمرّين، ظلم الدكتاتورية، وبشاعة الاحتلال. الملاحظ أن شبح الحرب يهيمن على أجواء الفيلم، بل أن وحشية الحرب وأهوالها هي الهاجس الذي يتسيد على مدار الفيلم. والدليل أن طارق قد قرر الالتزام بـ "قانون العزلة" وعدم مشاهدة التلفاز نهائياً، لأنه أيقن، على ما يبدو، أن العقول الجبارة التي تتحكم بمصير العالم أكبر بكثير من الاهتمامات الفردية لمواطن عادي، خصوصاً إذا كان هذا المواطن منقطع الى عمل فني أو إبداعي خالص، ولا غرابة في أن يستجير زياد بالحشيشة لكي يفهم ما يدور في أدمغة الساسة الكبار في العالم مثل توني بلير أو جورج دبليو بوش وغيرهم من الشخصيات التي أسهمت في تغيير الخارطة السياسية للعديد من المناطق الإستراتيجية في العالم. وفي السياق ذاته لا بد من الإشارة الى أن أحمد رشوان قد أخرج العديد من الأفلام الوثائقية، وتمرّس في هذا المضمار، فلا غرابة أن يرى المُشاهد العديد من اللقطات والمشاهد التسجيلية التي جاءت ضمن سياق الفيلم ولم تُقحم فيه إقحاماً قسرياً. أي أن المزاوجة بين تقنية الفيلم الروائي والوثائقي كانت موفقة وأمدّت الفيلم بزخمٍ كبير من التلاقح بين الأنواع الفنية التي تجمع بين الحس التوثيقي والتخييلي في آن معا.
ثيمات مستفِزة
كما أشرنا سلفاً أن بنية فيلم "بصرة" تعتمد على عدد غير قليل من الثيمات المستفِزة أولها الحرب الأنكلو-أميركية واحتلال العراق الذي يراه البعض تحريراً على الرغم من الأمم المتحدة قد اعتبرته احتلالا. وقد لعب المخرج أحمد رشوان على طبيعة المشاعر المزدوجة والشائكة للعرب من جهة، وللعراقيين الذين وقعوا بين مطرقة الدكتاتورية وسندان الاحتلال من جهة أخرى، غير أن المخرج قد انتصر في خاتمة للفيلم للشعب العراقي بعد أن قطّع أنفاس المشاهدين الذين يرومون مواقف صريحة لا لفَّ فيها ولا دوران. أما الثيمة المستفزة الأخرى فهي ثيمة تعاطي المخدرات التي لفتت عناية المخرج وجعلته يركز عليها الى هذه الدرجة المتطرفة التي تستدعي منا أن نتساءل بجدية: هل أن الشباب المصري منقطع فعلاً لتناول المخدرات، ومستسلم إليها الى هذه الدرجة، أم أن في الأمر مبالغة لا يجب السكوت عليها؟ أما الثيمة المستفزة الثالثة والتي تستحق أن نتوقف عندها في مقالة قادمة هي ثيمة الجنس التي أثارت لدى المتلقي العديد من الأسئلة ومن بينها: هل أن الحرية الجنسية قد بلغت الى هذه الدرجة التي تقول فيها نهلة بأنها ليست لديها مشكلة في ممارسة الجنس مع صديقها الجديد طارق الذي لم تمضِ على علاقتهما سوى مدة زمنية قصيرة لا تبعث على الاطمئنان؟ كما أن السؤال نفسه يُثار بصدد علاقات طارق وحمادة مع بقية الفتيات اللواتي قدمهن المخرج وكأنهن أوعية أو مجرد كائنات طارئة تؤثث مخيلات الشخوص الرئيسة في الفيلم. وفي الختام لا بد أن أشير الى أن المخرج أحمد رشوان كان جريئاً في طرح مسألة الحريات الشخصية التي تُغيّب بين أوان وآخر، ولعل مشهد ملاحقة المصور طارق من قبل عناصر الأمن المصرية هي خير دليل على لغة القمع الواضحة التي تتسيد على الشارع المصري ساعة اشتداد الأزمات مثل التظاهرات الشعبية التي خرجت منددة بالحرب على العراق واحتلاله. كما أن التفاتة المخرج الى نقاط التفتيش داخل المدن المصرية هي دليل آخر على مصادرة الحريات الشخصية والتقليل من شأن المواطن العربي الذي يتعرض في معظم البلدان العربية الى إهانات متواصلة تحط من كرامته الإنسانية. ومن الجدير ذكره أن الفيلم قد انطوى على العديد من اللقطات والمَشاهد المصورة بطريقة ابداعية تبعث على المتعة، وتُشعر المتلقي بأنه يقف أمام خطاب بصري بليغ. من هنا يتوجب علينا أن نحيي كل من مدير التصوير فيكتور كريدي، والمونتيرة نادية حسن التي تفننت في عملها التقني الرائع ومزجت مزجاً رائعاً بين تقنيات الفيلم الوثائقي والروائي. كما يجب أن نحيي شريف الوسيمي وموسيقاه الجميلة التي أمتعنا بها على مدار الفيلم.
ملاحظة: إضافة الى الجوائز التي ورد ذكرها في مستهل المقال حاز الفيلم على الجائزتين التاليتين:
- أفضل تصوير من مهرجان فالنسيا لدول البحر المتوسط
- جائزة أحسن سيناريو - مسابقة الأفلام العربية - مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2008
- أفضل سيناريو في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2008
- أفضل مخرج "للفيلم الأول" مهرجان الفيلم الوطني في القاهرة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ( كتاب الصيف) لسيفي تيومان. . قصة غير درامية، وايقاع بطئ، وك ...
- محمد توفيق وتقنية البنية الرباعية في فيلم (نورا)
- مقاومة الرؤية النازية عبر الخطاب السينمائي . . (عازف البيانو ...
- فيلم -اللقالق- وقضية التمييز العنصري في الدنمارك. . المُهاجر ...
- باسم فرات. . الرائي المُحترِف
- تقنية النص المهجّن
- مَنْ لا يعرف ماذا يريد لسميرة المانع . . أنموذج للرواية الوا ...
- بنية النص الكابوسي. . قراءة نقدية لرواية (وحدَها شجرة الرمّا ...
- (ليل، وثلج وأوتار) لمحمد توفيق . . قراءة نقدية في ماهيّة الص ...
- -سيدات زحل- للكاتبة العراقية لطفية الدليمي: سيرة بغداد من ال ...
- إكليل موسيقى . . لجواد الحطّاب: لغة تحريضيّة وسخرية سوداء وم ...
- بيلما باش في فيلمها الجديد (زفير). . سويّة فنية وخطاب بصري ر ...
- شريط (أرواح صامتة) لأليكسي فيدورتشنكو. .تحفة فنية ترصد قصة ح ...
- في مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي: ثلاثة أفلام إيرانية قصير ...
- الأمل والانعتاق في (كرنتينة) عدي رشيد. . دراسة نقدية للشخصيا ...
- (روداج) نضال الدبس. . النبوّ عن الواقع والجنوح الى الخيال. . ...
- (طيّب، خلّص، يلّلا) لرانيا عطيّة ودانييل غارسيا. . يرصد الشخ ...
- كيارستمي في فيلمه التجريبي الجديد - شيرين - مُجدِّد لم يكف ع ...
- على خطى هاينكة سليم إيفجي يعرّي الطبقة الوسطى، وينشر غسيلها ...
- بلا نقاب: فن جديد قادم من الشرق الأوسط وشمال القارة السمراء


المزيد.....




- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - الثيمات المُستفِزَّة في فيلم (بصرة) لأحمد رشوان