أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - مَنْ لا يعرف ماذا يريد لسميرة المانع . . أنموذج للرواية الواقعية النقدية في العراق















المزيد.....


مَنْ لا يعرف ماذا يريد لسميرة المانع . . أنموذج للرواية الواقعية النقدية في العراق


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3195 - 2010 / 11 / 24 - 19:11
المحور: الادب والفن
    


صدرت عن (دار المدى) في دمشق رواية جديدة للكاتبة العراقية سميرة المانع تحمل عنوان ( مَنْ لا يعرف ماذا يريد). وكدأبها في بعض أعمالها الروائية السابقة تلجأ سميرة المانع الى رصد الواقع العراقي ومتابعة نماذج محددة من شخوصه الواقعيين الذين يمكن أن نصادفهم في العراق أو في مختلف أرجاء المعمورة. وهذه النماذج المُصغرّة توحي من دون شك الى صورة العراق الكبرى الراسخة في الذاكرة الجمعية للناس.
إن أوّل ما يلفت النظر في هذه الرواية هو الانسان العراقي بوصفه ضحيةً مُزدوجة لنفسه وللجلاد الذي يمكن تلمسّه بسهولة بين طيّات هذا النص الروائي. وبواسطة (ثنائية القامع والمقموع) تتحدد الحركة الزمكانية للنص الروائي. ففي هذه الرواية تحديداً حاولت سميرة المانع أن تُمسِك بالواقع الراهن وما يتخللهُ من أحداثٍ كارثيةٍ مفجعة تهزّ الضمير البشري في كل مكان. ولعلي هنا أشير الى الحقبة الزمنية المحصورة منذ سقوط الطاغية وحتى الوقت الحاضر. كما أنها لم تجد ضيراً في رصد مختلف أنواع الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي خلال سنوات الحكم الدكتاتوري السابق على مدى خمس وثلاثين عاماً كانت حافلة في بثّ الرعب في قلوب العراقيين، ومحاولة تركيعهم وإذلالهم الى أجلٍ غير مسمّى. وقد تصحبنا الروائية زمانياً، ولو بشكل رمزي، الى عام (311 م)، أي أننا نقطع معها ما يقارب (1700) عام لنتخيّل شكل (دير مار عوديشو) في قرية (ديرني) التابعة لمحافظة دهوك وكيف توالت أيادي الهدم والتخريب على تفجير هذا الأثر العمراني الديني وتقويضه خلال هيمنة الأحزاب القومية المتعصبة في حقبتي عبد السلام عارف وصدام حسين.
تنطلق الرواية مكانياً من عيادة لطبيب مختص في الأمراض النسائية ببغداد. ومن خلال الحوارات المتواصلة بين المُدرِّستين مريم وسالمة نفهم أن هذه الأخيرة مصابة بمرض ما في الرحم. وجلَّ ما تخشاه سالمة أن يكون مرضها خبيثاً. لا شك في أن القارئ الكريم سيلاحظ منذ الجملة الاستهلالية لهذا النص الروائي وحتى جملته الختامية أن الروائية سميرة المانع تتوفر على حسٍ انتقادي لاذع للعديد من الآراء الهدّامة والظواهر السلبية في المجتمع العراقي. كما أن هذه الانتقادات تمتد لتشمل بعض المهاجرين الأجانب الذين وفدوا الى لندن كما هو الحال مع المرأة الأفغانية المحجبة من سمت رأسها الى أخمص قدميها.
قد لا يجد الباحث أو الناقد ضيراً أن يصنّف هذه الرواية على أنها رواية واقعية نقدية، لأنها تسعى الى تفكيك الواقع وإعادته الى عناصره الأساسية، ومن ثم تحليله للوصول في خاتمة المطاف الى نتائج منطقية لا تتعارض مع السياقات العقلانية السائدة. ففي الفصل الأول من هذا النص الروائي، تمثيلاً لا حصراً، تنتقد الكاتبة المختبئة خلف قناع (الكائن السردي أو الراوي العليم) العديد من الظواهر المتخلفة في المجتمع العراقي مثل التجاوز على الطوابير، والدخول في مشادات كلامية لا تخلو من بعض الكلمات النابية التي تخدش الحياء. ثم تتوسع دائرة الانتقاد ليمارسها أغلب شخصيات الرواية تقريباً، وخاصة الشخصيات النسائية التي تسعى الى ترسيخ الحريات الشخصية، وتبحث عن تكافؤ الفرص، وتناضل من أجل تحقيق المساواة مع الرجل.
لا تقتصر هذه الانتقادات على الجانب الاجتماعي، وإنما تتعداه الى الجوانب السياسية والثقافية والدينية. وهنا تكمن جرأة الروائية سميرة المانع التي تعلن بالفم الملآن أنها تقف ضد فكرة تحجيب المرأة وتنقيبها وفصلها عن التيار العام لحركة الحياة المحكومة بالتقدّم الى أمام. فمن غير المعقول أن نمشي بالمقلوب صوب الماضي وأن نتحول الى أسرى لأفكاره المظلمة، في حين أن الجزء الأكبر من هذا العالم يعيش الحاضر، ويحاول استشراف والمستقبل.
قد تبدو الشخصيات التي تتحرك في الحيّز المكاني في العراق يائسة وقاطنة مثل (سالمة) و (مريم) غير أن هذه الأخيرة تفادت المرور في شارع (أم المؤمنين) الذي كان مُستهدفاً بالتفجيرات وعرضة لإلقاء القنابل اليدوية على السيارات التي تقودها نساء حاسرات الرؤوس. وأن تفادي المرور في الشوارع الخطرة يكشف أن (مريم) كانت تخاف من الموت وتحب الحياة، مثلما كانت (سالمة) تبغض المرض وتخشاه، لأنها تحب الحياة أيضاً وتتحرق شوقاً للشفاء من الورم الخبيث.
أشرنا قبل قليل الى أن أحداث الرواية تنطلق من بغداد لتنقل المُدرِّسة (سالمة) الى لندن. وبسبب الظواهر المتخلفة التي أشرنا اليها سلفاً، والمناخ البيروقراطي الذي كان مهيمناً خلال حقبة الحكم الشوفيني السابق، تأخر سفر (سالمة) الى لندن، الأمر الذي أدى الى تفاقم الورم الخبيث ووصوله الى مراحل متقدمة، فلا غرابة أن يتلقى القارئ خبر وفاتها في لندن، ثم يأخذ السياق السردي بُعداً مكانياً مغايراً حيث نتابع (لمياء) وهي تقود سيارتها من (وتفورد) في شمالي لندن الى (آبسم) في جنوبها والى جانبها صديقتها (ناهدة). وطوال الطريق الذي يستغرق ساعة ونصف الساعة كانت الحوارات مُنصبّةً على انتقاد العديد من الظواهر السلبية مثل ارتداء الحجاب وتحريم مصافحة النساء وأكثر من ذلك هو صدور بعض الفتاوى الغريبة التي (تحرِّم اهداء الزهور للمرضى بحجة أنها تقاليد غربية) أو الفتوى الأكثر غرابة التي (يُحرَّم فيها على المرأة أن تكشف أجزاء من جسدها حتى مع زوجها في الفراش!) ص19. إن خلاصة الحوار المحتدم بين سالمة وناهدة يفضي بنا الى عنوان الرواية حيث تصل ناهدة الى نتيجة كارثية مفادها (بأننا لا نعرف ماذا نريد) وهنا تكمن الطامّة الكبرى لأننا سنكون أشبة بأمة هائمة على وجهها، تمشي على غير هدىً، وتسوقها المقادير الى جهة مجهولة تماماً. كما ينبغي أن نلفت الانتباه الى أن لمياء باتت تتحدث الى نفسها وهي تقود السيارة أو حينما تدهمها الوحدة، والدليل على تشوشها وارتباكها أنها نسيت مفتاح البيت في حقبيتها التي تركتها في المنزل وأخذت أخرى تناسب مراسيم العزاء.
تستثمر سميرة المانع وجود الأجانب القادمين من مختلف أصقاع العالم الى المملكة لتضعهم تحت مجهرها الروائي متفحصةً أفكارهم ومبادئهم الأساسية مقاربةً إياها مع القيم والمفاهيم الأوروبية. فمن خلال العائلة الهندية، صاحبة محل (خان بهادر) القريب من بيت لمياء نفهم أن الروائية تصطف الى جانب الهنود وتعتبرهم شجعاناً وأذكياء لأنهم اندمجوا مع المجتمع البريطاني، فقد خلعت الفتيات الهنديات (الساري) ولبسنَ الجينز، وكتب شبابهم من الجنسين رواياتٍ جميلةً ظفرت بالعديد من الجوائز البريطانية المهمة. بينما لم ترضَ الكاتبة ضمنياً (عبر شخصيتها الرئيسة لمياء) عن بعض النسوة الأفغانيات اللواتي توارينَ خلف أحجبة ثقيلة لا يستسيغها المواطن البريطاني، أو لم يألفها في الأقل. والغريب أن هذه المرأة الأفغانية لا تجد ضيراً في أن يأكل زوجها لحم الخنزير لمجرد أنه رجل، بينما تمنع نفسها عن أكل الهمبركر لأنها امرأة!
تلعب شخصية (نُهى) دوراً محورياً في هذه الرواية لا يقل أهمية عن دور شقيقتها (لمياء). فهي مفتونة بمتابعة القنوات الفضائية التي تبثّ وابلاً من الأخبار المُستقاة من مختلف أرجاء العالم، غير أن أخبار العراق تحتل مكان الصدارة بوصفه البلد الساخن الذي تشتعل في الحروب والأزمات المتلاحقة، فلا غرابة أن نسمع أنباء متواصلة عن التفجيرات، وأعمال العنف، والاعتداءات المسلحة، والنداءات الأخيرة التي تُطلق بحق بعض المليشيات التي تطالب برحيل القوات المحتلة. ربما تكون (نُهى) خير أنموذجٍ للمرأة العراقية التي تلاعبت سلطة الطاغية بمقدراتها وأحلامها في العيش الكريم. فلقد زجّوا خطيبها في الحرب العراقية- الايرانية التي استمرت ثماني سنوات، وقبل أن يلتقط أنفاسه استدعوه ثانية للمشاركة في غزو الكويت حيث لاقى مصيره المحتوم هناك ودفنت جثته في رمال الصحراء المترامية الأطراف. وحينما ألحّت في البحث عن ملابسات موته هددّها أزلام السلطة من مغبة الطعن أو التجريح في نهج (القائد الضرورة). هناك آلاف مؤلفة من النساء العراقيات اللواتي يشبهن (نُهى) فقدنَ الحبيب أو الأب أو الزوج أو فلّذة الكبد. وربما تبدو (نُهى) محظوظةً لأنها غادرت وتخلصت من جحيمه المُطبِق، فيما ظلت الأخريات رهن الحصار والجوع والمرض والقلق وملاحقة المخبرين السرّيين الذين يحصون للناس أنفاسهم.
حينما انتهت هذه الأجواء الكابوسية المُفزعة وبعد مرور أكثر من سنة على سقوط النظام السابق بعثت الأم بيد الأستاذ عباس رسالة الى ابنتيها لمياء ونُهى تخبرهما عن موعد اللقاء الذي سيكون في شهر آغسطس (آب) وفي مدينة دهوك تحديداً بسبب توفر الأمن والكهرباء، وسوف يحضر معها ابنها نزار. كما تفصح الرسالة أن الأم قد باتت تتحدث بحرية عن كل شيء، فلقد تحطّم حاجز الخوف الذي بناه النظام الدموي السابق على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد، وتبيّن للقاصي والداني على حد سواء أن النظام السابق لم يكن سوى نمر ورقي أوهمَ العالم بقوته الزائفة وشعاراته الجوفاء. فها هو يغيب ويتلاشى في لمح البصر. لم تنسَ الأم أن ترسل تحياتها الى (عماد) زوج لمياء والى أحفادها الذين لم ترهم حتى الآن.
ترصد الروائية المبدعة سميرة المانع الواقع العراقي الراهن بدقةٍ وحياديةٍ عاليتين، كما أشرنا سابقاً، لذلك لم تحدد مكان اللقاء في بغداد أو في أيٍ من المناطق الوسطى والجنوبية المضطربة قياساً بكردستان العراق التي تعتبر آمنة، ولا تزال كذلك حتى الآن. لذلك فإن حركة الشقيقتين سوف تتجه لاحقاً صوب تركيا التي تعد ممراً طبيعياً الى شمال العراق لتنتهي الرواية هناك في لقاء مثير يجمع عدداً كبيراً من العراقيين الذين عادوا الى العراق وإلتقوا بعوائلهم في مصائف دهوك، وعبّروا بحرية تامة عما يدور في أذهانهم.
وخلال المسافة الزمنية المحصورة بين وصول رسالة الأم واللقاء الحقيقي بها في مدينة دهوك ثمة أحداث ومعطيات كثيرة أفادت منها الروائية سميرة المانع في تأثيث نصها الروائي عبر الشخصيات العراقية التي تعيش في لندن وبعض الوافدين الأجانب الذين يعززون الثيمات الأساسية التي تعاطت معها كاتبة النص ومبدعته. ففي الفصل المعنون (يا حبيبي) ومن خلال شخصية نُهى المدمنة على متابعة الأخبار في الفضائيات العربية نفهم المصير القاسي للمرأة في عدد كبير من البلدان العربية والاسلامية حيث الحجاب أو ربما النقاب أمر لا مفرّ منه. وتتساءل نُهى عن مظاهرات النساء اللواتي كنَّ يطالبن بالسفور في بداية القرن العشرين، وأين ذهبت جهود صفية سعد زغلول وهدى شعراوي وغيرهنَّ من النساء اللواتي كرسن حياتهن لمحاربة العادات والتقاليد البالية؟ ثمة فصل آخر أسمته الروائية (انتصار) تتحدث من خلاله عن جملة من الأفكار والمظاهر الجديدة من بينها أن غانم المهنا وهو مغترب في لندن قد اتصل بأحد أقربائه في العراق وقال له ما يلي: (يا أخي لقد سمحوا لنا كي نشتم حسب راحتنا) ص57. وعلى الرغم من أهمية التعبير عن الرأي، وانتقاد الحاكم بشدة، أو سبّه إذا لزم الأمر، إلا أن هناك أمراً أكثر أهمية وهو العمل الجاد والدؤوب لبناء البلد وإعادة اعماره بغية تجاوز نكبات الماضي وأخطائه القاتلة.
إن ما يميز سميرة المانع عن غيرها من الروائيات العراقيات هو توظيفها لبعض المفاهيم والآراء الأساسية في ثقافة الشعوب الأخرى. فاللقاء الذي تم بين عماد، زوج لمياء، ووالد أناندا البوذية يسلّط الضوء على الثقافة البوذية من جهة، وعلى الشخصية العراقية الحادة والمنفعلة من جهة أخرى. فوالد أناندا يؤمن بمفهوم الكَرْما الذي يعني (العاقبة الأخلاقية لأعمال المرء أثناء وجوده في الحياة، بوصفها العامل الذي يقرر مصيره في الحياة) ص 58. ويسوق مثالاً في هذا الاتجاه بما فعلته حركة طالبان التي دمّرت تمثال بوذا بمعدات وآلات مهلكة، ثم واجهوا المصير نفسه بذات العدة الجبّارة. وردّ الفعل هذا يعتبر فكرة جوهرية في الديانة البوذية. وفي السياق ذاته تكشف سميرة المانع جانباً من طبيعة الشخصية العراقية الحادة. فعلى الرغم من أن زوجها عماد الناطق هو أكاديمي ومثقف ثقافة عامة أيضاً إلا أنه ينفعل ويفقد السيطرة على أعصابه ويحاول من خلال النقاش الدائر بينه وبين والد أناندا البوذية أن يفحمه وينسف أفكاره على الرغم من أن هذا الأخير هو ضيف عنده، وتقتضي شروط الضيافة في كل مكان في هذا العالم أن نحترم الضيف ونحسن وفادته.
تنتقل سميرة المانع من لندن الى العراق بسهولة ويسر لأنهما الفضاءان الأساسيان لحركة الشخصيات الروائية. ففي فصل (وزّة الخليج) الذي تدين الكاتبة من خلاله نظام صدام حسين الذي كان السبب وراء كارثة الخليج المعروفة التي تسببت في تسريب كميات كبيرة من النفط الكويتي بعد تلغيم الآبار الكويتية وإحراقها حيث ركزّت وسائل الاعلام المرئية على وزّة ملطخة بالنفط الأسود لا تتحرك إلا بصعوبة بالغة، وهي اشارة ضمنية الى أن صدام حسين قد ألحق الضرر بالطبيعة والطيور والكائنات البحرية، فضلاً عن الإنسان الذي يعتبر أثمن شيء في الوجود.
تأكيداً على رصد الواقع الراهن وتوظيفه في النص الروائي التقطت الروائية سميرة المانع ظاهرتين تتكرران باستمرار في البريدين الأليكتروني والعادي، أولهما ظاهرة الرسائل الأليكترونية التي يبعثها أناس مجهولون لمئات، وربما آلاف العناوين الأليكترونية، تماماً كما فعلت أيما أحمد كيكو، ابنة تاجر الماس والذهب في ليبيريا، حينما بعثت أيميلاً الى لمياء تبيّن فيه أن والدها قد أُغتيل من قبل زمرة مسلّحة الأمر الذي أجبر العائلة على الهرب الى ساحل العاج. وكجزء من هذه اللعبة المدبرة فإن هذا الوالد الثري القتيل قد أودع في حسابه البنكي مبلغاً قدره (156) مليون دولار، وكل الذي يطلبونه من لمياء هو الموافقة على تحويل هذا المبلغ الكبير الى رقم حسابها الشخصي مقابل مبلغ مادي كبير أيضاً.
أما اللعبة الثانية والتي لا تزال شائعة أيضاً فهي لعبة اليانصيب، إذ يصل للفائز ظرف كبير يحتوي على عدد كبيرمن الأوراق والاستمارات التي يجب أن تملأ بالمعلومات الشخصية الكاملة إضافة الى تعزيزها بالرقم البنكي الذي يفترض أن يتحول اليه المبلغ المرصود للجائزة. كانت لمياء على وشك السقوط في هذا الفخ المنصوب لها بعناية فائقة غير أن انشغالها بتوزيع بعض الحصص الوهمية الصغيرة من هذه الجائزة لأختها نُهى وبعض أفراد أسرتها، ولصديقتها جمانة التي تذكرتها مصادفة هو الذي قادها الى الاتصال بجمانة التي تقيم في مدريد، ولولا حكنة هذه الأخيرة ومعرفتها بعمليات النصب والاحتيال التي تقوم بها عصابات عالمية مدربة على تقنية الاتصالات الحديثة لارتكبت لمياء خطأً فادحاً لا تُحمد عقباه. فهؤلاء المحتالون يستعملون أرقام الحسابات التي يحصلون عليها من المغلفين في غسيل الأموال الضخمة التي تأتيهم من بيع المخدرات أو من بعض الساسة المفسدين الذين يتلاعبون بأموال شعوب العالم الثالث. وعلى الرغم من خطورة هذه التجربة التي خاضتها لمياء مع جائزة اليانصيب الوهمية إلا أنها كشفت لها في الأقل عن أنانيتها لأنها لم تفكر إلا بنفسها وأهلها وصديقتها الحميمة جمانة.
لا يمكن الوقوف عند كل فصل من فصول الرواية على حدة، ولكننا سنمر على أبرز المحاور التي تعالجها الروائية سميرة المانع سواء من خلال شخوص الرواية أو عبر تقنية الراوية العليمة التي تتبناها في مواضع كثيرة من النص الروائي. فمثلما تتوفر لمياء على عدد من الصديقات والمعارف الذين تتعاطى معهم، وتدخل معهم في حوارات متنوعة، فإن زوجها عماد الناطق يمتلك عدداً من الأصدقاء أيضاً، ويخوض معهم في نقاشات عسيرة قد لا تلقى صدى طيباً في نفسه، ولكن لابد دون الشهد من إبر النحل. ففي فصل (تورا بورا) يسمّي عماد الوجود الأميركي في العراق احتلالاً، فيجيبه المُتحدَّث اليه بأنه تحرير. يقول له بأن عدي وقصي قد قُتلا في نينوى، فيرد عليه الآخر بأن الخبر هو مجرد اشاعة أميركية. يسأله عن المكان الذي اختبأ فيه صدام حسين، فيجيبه بأن الأميركيين قد نقلوه بطائرة خاصة الى أميركا يوم دخولهم الى بغداد.
ثمة شخصيات انتهازية منافقة مثل د. رشيد الفحامي الذي بعث برسالة مليئة بالدجل والتزلف الى صدام حسين يقترح فيها أن ينسحب الجيش العراقي من الكويت مقابل انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية. وحينما سقط النظام السابق كان د. رشيد الفحامي هو أول من عاد الى العراق على أمل أن يصبح وزيراً أو سفيراً ضمن تشكيلة الحكومة الجديدة. غير أن الأحزاب المتكالبة على السلطة والمتعطشة للمناصب لم تستقبله بالأحضان فعاد الى لندن بخفيّ حُنين وحمدَ الله أنه لم يتخلَ عن وظيفته كأستاذ جامعي. وفكر ملياً في أن يؤسس منظمةً تدافع عن حقوق الانسان العراقي غير أن انهماكه في الظهور على شاشات المحطات الفضائية العربية والاجنبية، واجراء اللقاءات الصحفية في عددٍ غير قليل من الصحف العربية والأجنبية لم تتح له الوقت الكافي لتنفيذ كل ما يطرأ على ذهنه من أفكار خاطفة.
تشكو لمياء من صديقاتها العراقيات (نجوى، حذام وسهام). فعلى الرغم من حصولهن على شهادات عليا إلا أنهن يتأثرنَ بالأخبار والمقالات التي تنشر على صفحات الانترنيت ويتناقلنَ الاشاعات وكأنها أخبار مؤكدة لا غبار عليها. وهنا يأتي دور الراوية العليمة التي تقدّم مسوّغاتها المنطقية التي تقنع القارئ وتفنّد الشكوك أو الأخبار الضعيفة التي تنشرها هذه الصحيفة أو تلك الشبكة العنكبوتية. لم تجد لمياء ضيراً في الاندماج مع المجتمع البريطاني، بل أنها تؤمن بضرورة التكامل مع هذا المجتمع الذي استضاف كل هذا العدد الكبير من الجاليات الأجنبية من مختلف بلدان العالم. ولعل مشاركة طفليها تارا ومثنى في حفلة عيد ميلاد ديفيد هو دليل دامغ على هذا الاندماج. كما أن مشاركة أختها نُهى في(نادي الكتاب)الذي يناقشنَ فيه شهرياً إحدى الروايات التي يتفقنَ على قراءتها يعزز هذا النزوع الاندماجي لدى الأسرة برمتها.
حاولت نُهى بشيء من الحذر أن تطور علاقتها الحميمة بخالد الوراقي، غير أنها سرعان ما تركته حينما اكتشفت أكاذيبه، وعرفت أنه متزوج، ويريد أن يحوّلها الى مجرّد محظية لا غير.
تأخذ الرواية منحىً آخر حينما تتجه الشقيقتان الى هيثرو لتبدءان رحلة معاكسة لم يتوقعها أحد. فبعد ربع قرن أو يزيد من الغربة والنفي القسري تقرر الشقيقتان العودة الى الوطن بغية لمّ الشمل الذي تفرّق منذ ثلاثة عقود. وطوال الطريق الطويل من هيثرو الى استانبول، مروراً بديار بكر ومعبر ابراهيم الخليل وانتهاء بمصيف سرسنك في حافظة دهوك تكتظ الرواية بالعديد من المواقف والأحداث التي تستحق الرصد والدراسة والتحليل، خصوصاً وان العين الروائية الفاحصة تحاول أن تلّم كل شيء. فمن خلال اللقاء المقتضب الذي دار بين الشقيقتين وأحد المواطنين التونسيين في أثناء تأخر الطائرة في مطار هيثرو نتعرف على المنجزات التي حققها الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبه. مثلما نتعرف أيضاً من خلال اللقاء الخاطف الذي حدث في مطار استانبول بين لمياء وثلاث موظفات عراقيات موفدات الى الصين على حجم التغيير الذي طرأ على هذا البلد المغلق الذي يضم ثلث سكان العالم.
لا شك في أن هذه الرواية الواسعة والمتشعبة والتي تشير من طرف غير خفي الى ثقافات وديانات متنوعة حاولت الكاتبة أن تصهرها في متن عملها الروائي الذي يتحرك في أزمنة وأمكنة مختلفة تبدأ من العراق ثم تنتهي اليه بعد أن تقطع الشخصيات الرئيسة شوطاً طويلاً في لندن، وتمر مروراً عابراً في استانبول وديار بكر ومعبر ابراهيم الخليل لتلج الى حاضنة العراق حيث تضعنا الكاتبة في نهاية النص الروائي أمام نخبة من العراقيين الذين تركوا المنافي الأوروبية وبلدان الشتات وجاؤا كي يقاصص بعضهم البعض. ثمة آراء كثيرة متشابكة ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار. غير أن ما يساعدنا في الاستدلال على حجم التغيير المهول الذي طرأ على الشخصية العراقية خلال العقود الأربعة الماضية. فالفتاة التي كانت تقرأ ماركيز قبل خمس وعشرين سنة صارت الآن تقرأ أدعية! فلا غرابة إذاً، حينما تقترح سميرة المانع على العراقيين المقيمين في الخارج أن يبكوا ويلطموا الصدور حزناً وألماً على العراقيين في الداخل الذين يبكون ويلطمون على الامام علي والحسين وبقية الأئمة الصالحين.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بنية النص الكابوسي. . قراءة نقدية لرواية (وحدَها شجرة الرمّا ...
- (ليل، وثلج وأوتار) لمحمد توفيق . . قراءة نقدية في ماهيّة الص ...
- -سيدات زحل- للكاتبة العراقية لطفية الدليمي: سيرة بغداد من ال ...
- إكليل موسيقى . . لجواد الحطّاب: لغة تحريضيّة وسخرية سوداء وم ...
- بيلما باش في فيلمها الجديد (زفير). . سويّة فنية وخطاب بصري ر ...
- شريط (أرواح صامتة) لأليكسي فيدورتشنكو. .تحفة فنية ترصد قصة ح ...
- في مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي: ثلاثة أفلام إيرانية قصير ...
- الأمل والانعتاق في (كرنتينة) عدي رشيد. . دراسة نقدية للشخصيا ...
- (روداج) نضال الدبس. . النبوّ عن الواقع والجنوح الى الخيال. . ...
- (طيّب، خلّص، يلّلا) لرانيا عطيّة ودانييل غارسيا. . يرصد الشخ ...
- كيارستمي في فيلمه التجريبي الجديد - شيرين - مُجدِّد لم يكف ع ...
- على خطى هاينكة سليم إيفجي يعرّي الطبقة الوسطى، وينشر غسيلها ...
- بلا نقاب: فن جديد قادم من الشرق الأوسط وشمال القارة السمراء
- يشيم أستا أوغلو و - رحلة الى الشمس -
- في فيلمه الروائي الجديد - خريف - أوزجان ألبير يرصد قمع المنا ...
- تشتّت الرؤية الاخراجية لعمرو سلامة: - زي النهاردة - فيلم يتر ...
- الفيلم الوثائقي- طفل الحرب - لكريم شروبورغ محاولة لنبذ العنف ...
- فيلم - بورات - للاري تشارلس . . . من السخرية الوثائقية المُر ...
- أهمية القصة السينمائية في صناعة الفيلم الناجح
- في فيلمه الروائي الجديد - الحقل البرّي - ميخائيل كالاتوزيشفي ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - مَنْ لا يعرف ماذا يريد لسميرة المانع . . أنموذج للرواية الواقعية النقدية في العراق