|
طبيعة الأزمات الاقتصادية ودوريتها
سامح سعيد عبود
الحوار المتمدن-العدد: 3145 - 2010 / 10 / 5 - 12:47
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
طبيعة الأزمات الاقتصادية ودوريتها
منذ سبعينات القرن العشرين شهد العالم اندلاع عدد من الأزمات الهيكلية على نطاق عالمى، ومن هذه الأزمات، النظام النقدي الدولي، و الطاقة، و المواد الخام، و الدين الخارجي، و الغذاء، و البيئة، و قد تفاعلت هذه الأزمات الهيكلية لتتضايف مع أزمة فيض الإنتاج لتزيدها تعقيداً، و من ثم فقد أصبح الخروج منها أصعب بكثير من ذي قبل، ومن أبرز الأزمات الهيكلية بشكل خاص: البطالة الهيكلية، و العجز الهيكلي في الموازنات العامة، و الركود التضخمى، ولكى نفهم الأزمة الممتدة منذ السبعينات لا بد أن نضع فى اعتبارنا التغيرات الهيكلية الجارية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ذلك لأن هناك تشابك واضح بين الأزمة الدورية و الأزمات الهيكلية، ومن ثم تشابكت الظواهر ذات الطابع الدوري مع الأزمات الهيكلية طويلة الأمد، في الفروع الأساسية للاقتصاد الرأسمالي. هناك ثلاثة أنواع من الأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها الاقتصاد الرأسمالي، من الضرورى التفريق بينها، وفق حتمية أو عدم حتمية ظهورها في سياق الدورة الاقتصادية، وكذلك مدى عمق الأزمة وأثرها في الاقتصاد القومى أو العالمى، ثم تضمنها أو عدم تضمنها فى كل قطاعات الاقتصاد القومى أو العالمى ، مع التأكيد على إن كل أنواع الأزمات تأتى من تناقضات و من اختلال التوازن في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي، ولكن بأشكال مختلفة، وأن لكل منها آثارها المختلفة في الاقتصاد العالمي أو القومى. الأزمة الدورية، التي تدعى أحياناً «الأزمة العامة» والتى سبق تناولها، هى (أزمة فيض الإنتاج)، و هى تصيب عمليات إعادة الإنتاج، وتشمل كل عمليات إعادة للإنتاج، وهى الإنتاج والتداول والاستهلاك والتراكم، باعتبارها الجوانب الرئيسة فيها، وهذا هو السبب الذى يجعل تأثيرات هذه الأزمة أكثر اتساعاً وشمولاً وعمقا إذا ما قورنت بغيرها من الأزمات، ففى هذه الأزمات تبرز كل الاختلالات فى التوازن، والعلاقات المتناقضة فى الدولة والاقتصاد الرأسمالي، وذلك على عكس الأزمة الوسيطة، التى تتميز بكونها أقل اتساعاً وشمولاً وعمقا، ولكنها مع ذلك تمس جوانب وفروع متعددة في الاقتصاد، وتحدث هذه الأزمات نتيجة لاختلالات وتناقضات جزئية في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي، ومن ثم فالأزمات الوسيطة لا يمكن أن تحمل طابعاً عالمياً على النحو الذي يميز الأزمات الدورية العالمية لفيض الإنتاج، حيث يمكن أن تنقل إلى خارج الدولة التى اندلعت فيها الأزمة متفرقة و منعزلةً، أما الأزمة الهيكلية، فتصيب غالبا مجالات معينة أو قطاعات كبيرة من الاقتصاد العالمي، أى أنها أزمة عالمية كالأزمة الدورية، منها على سبيل المثال، أزمات الغذاء، و الطاقة، و المواد الخام، وغيرها. وإذا كانت الأزمة الهيكلية تقتصر على قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد فإنه لابد أن يكون قطاعاً مهماً وأساسياً كمصادر الطاقة، أو صناعة الحديد والصلب، أو أزمة الغذاء وما إلى ذلك. فالأزمات في الفروع الصغيرة، ولو انها استمرت مدة طويلة، لا يمكن أن تصبح أزمات دورية، لأنها لا تمس جميع جوانب الاقتصاد الأخرى وقطاعاتها، وتشغل الأزمات الاقتصادية الهيكلية مكانة متميزة بين الأزمات الاقتصادية الملازمة للاقتصاد الرأسمالي، وقد تعرض الاقتصاد الرأسمالي إلى أزمات هيكلية خطيرة في مجال الطاقة والخامات، وعانى نقصاً في إنتاج الغذاء، وكان لأزمة الطاقة في العامين 1974 - 1975 تأثير كبير في الأزمة العالمية العامة التي حدثت خلال هذه الحقبة، والتي أعلنت عن قيام دورة جديدة من تراكم رأس المال، وبشرت بشكل جديد من أشكال الرأسمالية. الأزمة الدورية هى نتيجة مباشرة لخلل فى التوازن والتناسب بين العرض والطلب، وبين الإنتاج والاستهلاك، و بين إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج سلع الاستهلاك، و بين مختلف فروع الاقتصاد الوطني، وتدفع مخاطر تلك الأزمات الرأسماليين إلى محاولة الوصول لإيجاد وسائل تساعدهم في زيادة إنتاجية العمل، وخفض نفقات الإنتاج، و بمعنى آخر رفع معدلات الأرباح، وانقاذها من التدهور والهبوط، وإصلاح التوازنات المختلة التى أدت لبروز الأزمة، وتتم هذه العملية بالبحث المكثف عن أنواع جديدة من المنتجات، وعن تقنيات حديثة تستخدمها في الإنتاج، وعن أسواق جديدة ومستهلكين جدد، ففى منتصف القرن التاسع عشر، كانت السلع الرأسمالية والاستهلاكية محدودة الأنواع، والرأسمالية المتطورة نفسها كنمط إنتاج كانت محصورة فى بعض قطاعات الإنتاج، وفى بعض البلدان، ولك أن تفكر فى تاريخ تطور تليفون "جراهام بل" إلى التليفون المحمول الآن، أو أن تفكر فى عالم بلا حاسوبات وتليفزيونات وبوتاجازات و سيارات الخ، إلى عالم أصبح يعج بمثل هذه المنتوجات، وكيف تطورت المصانع و وسائل النقل التى تدار آلاتها بالبخار والفحم، إلى مصانع ووسائل نقل تدار آلاتها بالكهرباء أو البترول ومشتقاته، أو الغاز أو المفاعلات النووية، فقد تنوعت السلع إلى مئات الألوف، معمرة وغير معمرة، و فى طرازات تتجاوز الملايين، وغطى نمط الإنتاج الرأسمالى كل قطاعات الإنتاج تقريبا، وهيمن فى كل بلاد العالم فيما عدا بعض الجيوب، وكل هذا خلال قرن و نصف من الزمان، و لا شك أن كل هذا التنوع المذهل كان نتيجة للوقوع فى الأزمات والخروج منها، وتعد الحلول المؤقتة أو الجذرية التي تتوصل إليها المنشئات الرأسمالية، هى الأساس لتجديد رأس المال الثابت، و رفع إنتاجية العمل، و توسيع الإنتاج، وتوسيع سوق الاستهلاك، و في هذا المعنى نفسه تعد الأزمة نفسها مرحلة تأسيسية للدورة الاقتصادية، أي المرحلة التي تحدد، إلى درجة كبيرة، مسار التطور اللاحق، والملامح الرئيسة للدورة التالية، وطبيعة تجديد رأس المال الثابت. يمر التطور الاقتصادي بمراحل من النهوض ومن الكساد، تسمى بالدورات الاقتصادية. وهي ظاهرة ملازمة للنشاط الاقتصادي عموما، ولكن مظاهر الدورات الاقتصادية أصبحت أكثر تعقيداً منذ ظهور الثورة الصناعية في انجلترا، وأصبحت ظاهرة تلازم النظام الرأسمالى باعتباره إنتاج سلعى من أجل التبادل بوجه عام، و هى العلامة المميزة التي تميز تطور الاقتصاد الرأسمالي بحسب مراحل الدورة الاقتصادية، فالكساد و محاولة تجاوزه، هو الدافع وراء التطور الرأسمالى، فالاقتصاد يصيبه الجمود لأعوام طويلة، فتتعطل القوى المنتجة، ويتم تبديد كميات كبيرة من السلع بسبب الكساد، وانخفاض الأسعار، وعدم القدرة على التصريف، ثم تنشط حركة الإنتاج وتبادل السلع شيئاً فشيئاً، وتتسارع تدريجياً، ثم تتحول إلى قفزات تشمل الصناعة، والتجارة، والإقراض، والمضاربة، وتبدأ بعدها بالتباطؤ والانحدار إلى هاوية الركود مجددا. والدورة الاقتصادية الرأسمالية هي مرحلة من الزمن تبدأ مع بداية أزمة وتنتهي مع بداية أزمة أخرى، مروراً بأربع مراحل أساسية هي: كساد ثم انتعاش ثم نهوض، يعقبه ركود، وهكذا تتوالى الحركة الدورية لترسم طريق التطور الرأسمالي. والمرحلة الرئيسة فيها هي أزمة فيض الإنتاج، فكل أزمة تكمل الدورة السابقة لها، وتؤدي التناقضات المتراكمة في مسيرة تلك الدورة السابقة إلى الانفجار، معبدة الطريق لتوسع الإنتاج في دورة جديدة تنتهي إلى أزمة تالية. وعلى هذا فالدورة تبلغ ذروتها عندما تبدأ الأزمة التالية في دورة جديدة، وهي ما يسمى أزمة فيض الإنتاج. تبدأ الأزمة الدورية في الاقتصاد الرأسمالي عندما تظهر فجوة بين إنتاج السلع واستهلاكها. التى تحدث نتيجة عملية التداول السلعي البسيط، وانفصال البيع عن الشراء نتيجة لظهور النقود. وقد أدت سيطرة رأس المال، والطابع الاجتماعي للإنتاج، في ظل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إلى إمكان حدوث تباعد حقيقي بين شراء السلعة و بيعها كان من نتائجه فيض الإنتاج الذي ترافقه عادة إفلاسات كبيرة في المنشئات الصناعية والتجارية. فالمنشئات عندما تفقد القدرة على تحويل مخزونها من السلع إلى نقد، تتوقف عن دفع ديونها، ويصاب أصحابها وأصحاب المصارف والمضاربون بالرعب، ويبدأ سباق محموم وراء النقد، فيطالب الدائنون بوفاء ديونهم أو خدمتها. ويتسابق المودعون إلى سحب أموالهم من المصارف وصناديق الضمان والإقراض فتضطر بعض المصارف إلى التوقف عن الدفع، وقد تعلن إفلاسها، ويتقلص عرض رأس المال الإقراضي، ويرتفع معدل الفائدة على القروض، وكلما ازداد فائض الإنتاج الخفي وضوحاً، حدث تقلص في الإنتاج فيعمد من أفلس من الرأسماليين إلى إغلاق منشئاتهم، وتلجأ بعض المنشئات إلى تقليص أعمالها وخفض إنتاجها، وإلغاء الورديات الإضافية، أو تقليص أيام العمل الأسبوعية أو ساعات العمل، وإلغاء العقود أوالتباطوء فى تنفيذها، وقد تغلق بعض فروعها وتقلل من أنواع المنتجات التي تنتجها. ولاشك في أن درجة تقلص الإنتاج تتباين في مختلف فروعه، فيكون هبوطه كبيراً عادةً في الفروع التي تصنع وسائل الإنتاج، عنه فى الفروع التى تنتج سلع الاستهلاك. ومع تراجع الإنتاج وانخفاض كمياته، يقل حجم النقل وتتراجع الأعمال التجارية، وتنكمش التجارة الخارجية، و تنحفض أسعار السلع، وتكون عواقب ذلك وخيمة جداً في المنشئات الصغيرة والمتوسطة، فتقف عاجزة أمام المنشئات الكبيرة التي تملك إمكانات أفضل لمواجهة الأزمة، وقد تنتشر البطالة التامة والبطالة الجزئية انتشاراً واسعاً وسريعاً، مع هبوط في مستوى الأجور، فيزداد بؤس الطبقة العاملة ومعاناتها، في حين تتعرض كميات كبيرة من السلع والقدرات إلى التلف والإبادة. وعند بدء الانتقال من مرحلة الكساد إلى المرحلة التي تليها، يتوقف الإنتاج عن التراجع، ولكنه يترجح حول مستوى الأزمة المنخفض، ويتسارع امتصاص الاحتياطات السلعية، ويتوقف هبوط الأسعار، فتستقر عند المستوى الذي بلغته في نهاية مرحلة الأزمة، ولا تحدث انهيارات جديدة ذات شأن في الأسواق، ولكن التجارة تبقى ضعيفة، بطيئة الحركة. ويؤدي تقليص الإنتاج وتراجعه في هذه الأثناء إلى انخفاض مخزون السلع فتبدأ الأسواق بالتحسن شيئاً فشيئاً وينشط تصريف السلع فيها، وتتحسن أوضاع المؤسسات المالية فيقل طلبها على القروض، وتتحسن درجة الثقة بالوضع الاقتصادي فيستأنف المدخرون إيداع أموالهم في البنوك، ويقود ذلك إلى انخفاض معدلات الفائدة على القروض في السوق. وهذا يعني أن مرحلة الركود هي مرحلة تكيف الاقتصاد القومى مع ظروف الأزمة واستعداده للانتعاش الاقتصادي. بعد ذلك يبدأ الانتقال تدريجياً، من مرحلة الكساد والركود إلى المرحلة التالية من الدورة وهي مرحلة الانتعاش، ففي هذه المرحلة يبدأ خط الإنتاج والتجارة بالصعود ويقترب الإنتاج حجماً وكميّةً من المستوى الذي كان عليه عشية الأزمة، ثم يتجاوزه، وهذا يعني بدء الانتقال إلى المرحلة التالية من الدورة وهي النهوض، ولهذه المرحلة سمات معاكسة تماماً لسمات مرحلة الأزمة ومنها: تزايد الإنتاج لمواجهة تزايد الطلب الفعال، وارتفاع أسعار السلع لزيادة الطلب عليها، وتزايد الطلب على قوة العمل، وانخفاض عدد العاطلين عن العمل مع ارتفاع في معدلات الأجور. تندلع الأزمات بناء على أسباب عميقة وجوهرية، ولكن طابع حركتها وأنماطها ترتبط كذلك بأسباب سطحية وثانوية منها: الهلع الذي يصيب رجال الأعمال وأخطاؤهم في تقويم أحوال السوق، والعوامل المؤثرة في النقد وسياسات الحكومات، وغير ذلك. مما قد يحدث تغيراً كبيراً في ظروف العمل والإنتاج، ويساعد على إدخال تغييرات معينة على مسار الدورة، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، فالاقتصاد الرأسمالي يكرر، دورياً «إنتاج الفجوة» بين العرض والطلب الفعالين، وكلما كانت الفجوة كبيرة، كانت الأزمة أشد، وهي تخرج عن إرادة الأفراد المنعزلين، ولكن الدراسة المتأنية لأحوال السوق تفسح المجال لاتخاذ إجراءات وقائية منها إيقاف نمو الإنتاج في وقت مبكر بالاستناد إلى دلائل معينة، مما يقلص حجم هبوط الإنتاج في أثناء الأزمة. فيغدو منحنى الدورة أكثر سلاسة، ويبدو أن هذا ما تفعله الشركات الرأسمالية الكبرى بما لديها من إمكانيات عالية فى الإدارة والموارد، فالتحكم بهبوط الإنتاج أو التخفيف من آثاره واستمراره لا يتم بلا ثمن، وهو خفض معدلات النمو في مرحلة الانتعاش. ترتبط كل مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية ارتباطاً عضوياً بالمراحل الأخرى، ويعدّ الانتقال من الكساد و الركود ثم إلى الانتعاش فالنهوض حركة صاعدة ترتبط بتغير هيكل الإنتاج الاقتصادي لمواجهة الكساد من جهة، وبردود الفعل التي تبديها القوى الاقتصادية المختلفة من جهة ثانية. ففي مرحلتي الكساد والركود تنخفض أسعار السلع فيزداد الطلب عليها، وينخفض الإنتاج فيقل العرض، ويتكيف مع حجم الطلب، وهكذا يتم امتصاص فائض السلع في السوق، ومن جهة ثانية، تنخفض أسعار عناصر رأس المال الأساسي وأجور العمل فيزداد الحافز عند الرأسماليين لزيادة الاستثمارات، فيتجه التطور نحو الأعلى، ويزداد الطلب على السلع، وتميل الأسعار نحو الارتفاع، فيزداد المردود، وتنخفض أسعار عوامل الإنتاج، مما يؤدي إلى انخفاض التكاليف، ويميل الرأسماليون إلى زيادة نشاطهم فيتبدل اتجاه الحركة الهابط نحو الصعود، ويبدأ التحول من الكساد والركود إلى الانتعاش والنهوض. أما الانتقال من الانتعاش والنهوض إلى الكساد والركود فيتم باتجاه معاكس تماماً. ففي مرحلة النهوض الاقتصادي يزداد الإنتاج، ويفيض عن حاجة السوق فيصبح العرض أكبر من الطلب، وعندما يبلغ الفارق بينهما حداً معيناً تتجه الأسعار نحو الانخفاض، فيقل مردود المؤسسات، في حين يزداد الطلب على عوامل الإنتاج، فترتفع أسعارها في السوق، ويؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف، وتدني الطلب الفعال مما يقود إلى كساد السلع، ويندفع أصحاب رأس المال إلى تقليص إنتاجهم من جديد فيدخل الاقتصاد الوطني في مرحلة جديدة من الركود والأزمة. وهكذا تتناوب مراحل الدورات الاقتصادية. وتختلف مدة كل مرحلة من المراحل تبعاً لاختلاف شروطها بين بلد وآخر أو من وقت إلى آخر. ولكن هناك سمة عامة ملازمة لتطور الدورة هي أن مرحلة الأزمة والركود أطول من مرحلة الانتعاش والنهوض عادة، ولما كان طول الدورة قد قصر، وازداد معدل ترددها، فإن الشعور بالأزمة أصبح هو السمة السائدة فى العقود الثلاثة الأخيرة، فنحن نخرج من أزمة لندخل فى أزمة أخرى، دون أن يسمح لنا بالتقاط الأنفاس، وربما يكون هذا هو السبب فى تداخل وتزامن الأعراض المتناقضة لمراحل الدورةالمختلفة، مثلما هو حادث فى أزمة الركود التضخمى. "لم يتمكن آدم سميث وديفيد ريكاردو من كشف تناقضات الاقتصاد الرأسمالي العميقة وفهمها التي تظهر في أوضح صورها بالأزمات الاقتصادية الدورية العامة. فقد أكد ريكاردو أن الإنتاج الرأسمالي يتمتع بمقدرة على التوسع لا حد لها، مادامت زيادة الإنتاج تؤدي آلياً إلى زيادة الاستهلاك، ولهذا فلا مكان لفيض الإنتاج العام. وبناء على هذه النظرية لا يمكن حدوث غير توقف عفوي في تصريف بعض السلع ناشئ عن عدم تناسق جزئي في توزيع العمل الاجتماعي بين فروع الإنتاج، وإن القضاء على عدم التناسق هذا حتمي بفعل ميكانيكية المزاحمة. ولكن سيسموندي توصل إلى كشف بعض التناقضات التي تعترض الاقتصاد الرأسمالي، وإن لم يتمكن من تقويم طبيعتها تقويماً دقيقاً. وضع سيسموندي نظرية حول الأزمات الاقتصادية أضحت فيما بعد أساساً قامت عليه مجموعة من النظريات الأخرى. فهو يُرجع الأزمة إلى الاستهلاك الضعيف، أو إلى عدم إشباعه. وقد استند سيسموندي إلى بعض أفكار آدم سميث الأساسية، واستنتج، أن على الإنتاج أن يتوافق مع الاستهلاك، وأن الإنتاج يتحدد بالدخل، ورأى أن الأزمة نتيجة لاختلال هذا التناسب، أي نتيجة للإفراط في الإنتاج الذي يسبق الاستهلاك، وأن أساس الأزمة يكمن خارج الإنتاج، وخاصة عندما يتجلى في التناقض بين الإنتاج والاستهلاك. وأوضح سيسموندي أن الإنتاج يتحدد بالدخل، وأنه هو الهدف الوحيد لتراكم الإنتاج، لذلك يجب على الإنتاج أن يلائم الاستهلاك. وأكد أن تطور الرأسمالية يؤدي إلى إفلاس المنتج الصغير، وإلى تفاقم أوضاع العمال المأجورين، وقد أكد أيضاً أن توسيع الإنتاج، يصطدم بحدود لا يستطيع التغلب عليها، لأن تضاؤل استهلاك الجماهير، سيقلل من إمكان تصريف الإنتاج، ويقلل من إمكان تحقيق أرباح أصحاب رأس المال، وقد حاولت هذه النظرية فيما يبدو أن تعطي تفسيراً ظاهرياً صحيحاً للأزمة، ولكنها لم تبحث في أسباب تدني الأجور ولا في أسباب سوء توزيع الدخل الذي يقود إلى نقص الاستهلاك الذي يؤدي بدوره إلى حدوث الأزمة. و يفسر ماركس الأزمات الاقتصادية بالتناقضات الرئيسة في الاقتصاد الرأسمالي التي تتسبب في حدوث الأزمات الدورية العامة. وأكدت الماركسية على أن السبب الرئيس في حدوث الأزمة هو وجود تناقض في الإنتاج الرأسمالي، أي التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج" . "ولم تنفِ النظرية الماركسية وجود تناقض بين الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الرأسمالي، بل حاولت أن تضع هذا التناقض في موقعه المناسب في تفسير الأزمة الدورية، وترى النظرية الماركسية أن تحليل التناقضات العميقة الملازمة لجوهر أسلوب الإنتاج الرأسمالي، يظهر كيف يتم الانتقال الجدلى من إمكان حدوث الأزمات إلى واقعها، إلى حتمية الأزمات في ظل الرأسمالية، ويفسر كينز الأزمات الاقتصادية بعدم كفاية الطلب، ويؤكد على أن سبب الأزمة يكمن في القوانين النفسية التي لا تتبدل ومنها «قانون ميل الناس إلى التوفير». وهكذا يربط كينز السبب الرئيس للأزمة بخصائص طبيعة الإنسان التي لا تتبدل، وفوضى الروح الإنسانية، بدلاً من ربطها بخصائص الاقتصاد الرأسمالي النوعية. ويوضح كينز أن مجموع استهلاك المجتمع يتأخر دائماً عن نمو مجموع الدخل الحقيقي، نتيجة خصائص الأفراد النفسية، ويطالب الدولة بالتدخل لحل قضية استخدام أكبر عدد ممكن من اليد العاملة (نظرية الاستخدام الكامل)، حتى ولو بجعلهم يحفرون الخنادق ليردموها مرة أخرى، لأن ما سوف يحصلون عليه مقابل ذلك العمل الخالى من الفائدة، من أجور سوف يدفعهم لشراء السلع الراكدة، وهو يعتقد أن معالجة الأزمات الاقتصادية لا يتم إلا بتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية تدخلاً فعالاً، عن طريق تنظيم مقدار الاستهلاك العام والتوظيفات، باستعمال عدد من الأدوات من بينها السياسة الضريبية ورفع معدل الحسم، وغير ذلك" . ظهرت نظريات أخرى لتفسير الأزمات الرأسمالية مثل "نظرية عجز الاستهلاك" و الفكرة الجوهرية الكامنة في قلب النظرية هي أن الرأسمالية تفتقر إلى أي آلية داخلية لتوليد طلب كلي كاف لشراء العرض الكلي المتزايد من السلع. و ما تطرحه هذه النظرية في أبسط أشكالها هو التالي: لأن الأجر المدفوع للعمال أقل من قيمة ما ينتجونه، فإنه لهذا السبب تنشأ فجوة بين الطلب والعرض في نظام اقتصادي يتوسع. أما في أكثر أشكالها تعقيدا فإن النظرية تقول أن الندرة الدورية لفرص الاستثمار تؤدي إلى وجود فترات من الطلب الكلي غير المناسب.." . أما نظرية "تقلص الأرباح" فتقول أن زيادة قوة العمال تؤدى إلى هبوط حاد وعام في الأرباح في كل المجتمعات الرأسمالية الصناعية، .. و أن زيادة أجور العمال تؤدى إلى هبوط الربحية الرأسمالية،.. و أن قدرة العمال على زيادة أجورهم وعلى كسب إصلاحات اجتماعية واسعة وعلى عرقلة محاولات الشركات الرأسمالية لإعادة تنظيم عملية العمل، كانوا أسبابا رئيسية وراء اندلاع أزمة السبعينيات. فمن وجهة نظرهم، أدت نضالات العمال إلى تناقص معدل نمو إنتاجية العمل، وإلى زيادة تكلفة السيطرة الرأسمالية على العمال، وكذلك إلى زيادة "الأجر الاجتماعي" (أي مدفوعات الرفاهة الاجتماعية)، وكل هذه أمور أدت إلى تقلص وانخفاض أرباح الشركات . و تذهب نظرية المنافسة الزائدة إلى أن المنافسة الزائدة بين رؤوس الأموال الجديدة نسبيا والقديمة نسبيا تؤدى إلى انخفاض معمم وطويل الأجل في الربحية في مجمل العالم الرأسمالي الصناعي. فقد أجبر التنافس الرأسماليين على البحث بشكل دائم عن طرق جديدة وأكثر كفاءة للإنتاج. و رؤوس الأموال الأكثر جدة ، في أفضل وضع لاتباع أحدث الطرق في الإنتاج، حيث أن الاستثمار الرأسمالي الثابت لديهم قليلا أو منعدما. من هنا،فهم قادرين على تخفيض التكاليف والأسعار وزيادة الأرباح بالمقارنة برؤوس الأموال الأقدم ، التي ليست قادرة على التخلص من استثماراتها الثابتة القديمة إلى حين يتم استهلاكها اقتصاديا. و النظرية ترفض الفكرة القائلة أن ميكنة متزايدة للإنتاج تؤدي إلى تناقص الأرباح بالنسبة لكل رؤوس الأموال. مع التأكيد على أن الرأسماليين يختارون تقنيات جديدة من أجل أن يخفضوا تكلفة الوحدة ويزيدوا الأرباح في آن واحد، وإن رؤوس الأموال الأقدم، عندما تواجهها الأسعار المنخفضة التي تفرضها رؤوس الأموال الأحدث والأكثر كفاءة على السوق، تعاني من أرباح أقل وطاقة زائدة. وتصبح الأرباح المنخفضة والطاقة الزائدة ظاهرة عامة في مجمل الاقتصاد الرأسمالي العالمي في الفترات التي تحتدم فيها المنافسة العالمية وتنتج مرحلة طويلة من الركود الاقتصادي، و أنه أيّما كان معدل التزايد في الربحية ، كان قصير الأجل وهزيل لأنه لم يكن هناك، وفقا إهلاك كاف لرأس المال الأقدم والأقل كفاءة من خلال إفلاسات واسعة النطاق. وعلى عكس النظريات الأخرى للأزمة الرأسمالية، فإن نظرية هبوط معدل الربح لا ترى في العوامل العارضة أو الصدفية، مثل عدم التوازن بين العرض والطلب(عجز الاستهلاك)، أو زيادة الأجور/ انخفاض الجهود(تقلص الأرباح)، أو تزايد المنافسة، أسبابا لانخفاض الأرباح. على العكس، ينتج انخفاض الأرباح فى نظرية ميل معدل الربح للهبوط عن الآليات الأكثر أساسية وضرورية في الرأسمالية. لكن على الرغم من أن آليات الرأسمالية تخلق لا محالة أزمات الربحية والتراكم، فإن هذا لا يعني حدوث انهيار تلقائي في الرأسمالية. فالرأسمالية يمكنها أن تستعيد حيويتها وتعيش مراحل جديدة من النمو طويل الأجل إذا حدثت زيادة حادة في معدل الربح. وهذا يمكن أن يتحقق فقط إن حدثت زيادة هائلة في معدل الاستغلال، أو تدمير واسع النطاق للرأسماليين معدومي الكفاءة، أو كان هناك توسعا كبيرا في نطاق الاقتصاد الرأسمالي العالمي. والمعنى العملي لهذا هو: إما نجاح أصحاب الأعمال في تخفيض الأجور وإعادة تنظيم علاقات العمل لمصلحتهم، أو قيام الدولة بتخفيض إنفاق الرفاهة الاجتماعية، أو حدوث موجة من الإفلاسات والاندماجات والاستحواذات، أو حدوث توسع جغرافي في الإنتاج الرأسمالي. وكل هذا يعني أن مفهوم "الرأسمالية المنظمة" – حيث تؤدي سياسات الدولة إلى زيادة مستويات معيشة الطبقة العاملة وأرباح الرأسماليين في نفس الوقت – هو مفهوم طوباوي غير قابل للتحقيق. والحقيقة أن اجتماع العوامل الأربعة المذكورة سابقا أدى إلى انتعاش معدلات الأرباح في مجمل العالم الرأسمالي – وبالذات في الولايات المتحدة – منذ مطلع الثمانينيات. إذ أن تعميم "نظام الإنتاج الأكثر كفاءة" في كل من الصناعة والخدمات أدى إلى زيادة حادة في إنتاجية العمل، أي في معدل الاستغلال. ثم أن تتالي موجات من الإفلاسات والاندماجات والاستحواذات (المصدر الأساسي لنمو القطاع المالي) قد أدى إلى تخريد رؤوس الأموال الأكثر قدما والأقل كفاءة. وفي نفس الوقت تم تخفيض الطاقة الإنتاجية في بعض الصناعات، وتحول الاستثمار إلى فروع جديدة من الإنتاج. كذلك أدت عولمة عملية الإنتاج إلى زيادة حدود الاقتصاد العالمي، مما سمح بتحويل الصناعات كثيفة العمل إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة في الجنوب. وعلى مدى العقود القليلة الأخيرة، أدى صعود السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة إلى المضي قدما بشكل منهجي في عملية إعادة هيكلة رأس المال وفقا للاتجاهات المشروحة سابقا. فقد ضمن تحرير أسواق رأس المال والعمل، ممزوجا بسياسة مالية مكافحة للتضخم، أن المشروعات الرأسمالية استجابت لارتفاع الأرباح بمواصلة الاستثمار في بناء مصانع وشراء آلات جديدة (بالذات الحواسب الآلية والآلات الإلكترونية ونظم التخزين)، وبمواصلة إعادة تنظيم علاقات العمل وفقا لـ"نظام الإنتاج الأكثر كفاءة". وقد أدى تحرير رأس المال إلى تحفيز نمو عولمة الإنتاج العابر للقوميات، بينما أدى تحرير أسواق العمل (تخفيض إنفاق الرفاهة الاجتماعية، الخ) إلى زيادة التنافس بين العمال والمساهمة في ركود أو انخفاض الأجور الحقيقية." .
#سامح_سعيد_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محطات فى تطور الرأسمالية
-
أزمة فيض الإنتاج وصمود الرأسمالية
-
النظام العالمي والإمبراطورية الغامضة
-
التبعية وأوهام التحرر منها
-
تنمية اقتصادية لصالح من
-
معوقات العمل الجماعى العام
-
الأناركية والدارونية
-
استبيان رأى عن اللاسلطوية
-
المول وثقافة الاستهلاك
-
تقدم علمى تأخر فكرى (9) السببية بين العقل الخرافى والعقل ا
...
-
تقدم علمى .. تأخر فكرى(8) احتقار العلم وتقديس الخرافة
-
تقدم علمى تأخر فكرى(7) عدم اليقين
-
تقدم علمى ..تأخر فكرى(6) هل نحن حقا مجرد موجات
-
تقدم علمى تأخر فكرى (5) أوهام تستند على أوهام
-
تقدم علمى ..تأخر فكرى (4) الدجل بعلم الفلك
-
تقدم علمى .. تأخر فكرى (4) أسلمة ومسحنة وهودنة العلم
-
تقدم علمى تأخر فكرى .. (3) أنيس منصور ومصطفى محمود
-
تقدم علمى ..تأخر فكرى (2)جهل مع فيض المعرفة اللامتناهى
-
تقدم علمى.. تأخر فكرى (1)إستخدام العلم لإثبات الخرافة
-
رحلة الكون عبر الزمان(32) جهاز الاشارات الثانى أو اللغة أو ا
...
المزيد.....
-
حماس تعلق على حوار الفصائل الفلسطينية في القاهرة
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي بوجدة يخلد الذكرى 39 الشهيد أمي
...
-
سفينة صواريخ إسرائيلية تعترض مسيّرة في المجال البحري قبالة س
...
-
م.م.ن.ص// قافلة تضامنية مع معركة المعطلين بتاونات في يومها
...
-
تغيب عن الاحتفال بتحرير بلغراد.. سفير بريطانيا لدى صربيا يقل
...
-
«كاثرين» ليست وحدها.. الخط الملاحي «وان» يعمل دوريًا بين مصر
...
-
الشرطة الألمانية تعتقل عديد المتظاهرين خلال مسيرة داعمة لفلس
...
-
-تسميته تخلق الكثير من الارتباطات-.. آخر -متحف لينين- في أور
...
-
صوفيا ملك// تجديد معاهدة الحماية على قواعد جديدة... كيف يمكن
...
-
الشعبية: تصاعد المجازر الصهيونية بغزة ولبنان يتطلب انتفاضة ع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|